صحيفة المثقف

مكتبة (رفيك لتيف)!!! في الرفاعي

جمال العتابيالزمن الذي قطعناه في السنة الأولى من الدراسة المتوسطة، بالرغم من قصره، منحنا فرصاً لإختبار قدراتنا في تحمّل المسؤولية بعيداً عن سلطة البيت، كان زمناً منفعلاً بالأحداث والصراعات السياسية الساذجة، بكل تناقضاتها وإرتطاماتها القاتلة.

كانت (مكتبة الشعب) في الرفاعي لصاحبها لطيف مگطوف، إحدى الأماكن التي ميّزت حقبة بذاتها، ولدت فيها أول دفقة معرفية إستأثرت بإهتمامنا نحن الطلبة الذين بدأنا نتلمس طريقنا في التعبير عن ذواتنا بوعي بسيط.

الدراسة وحدها أول الإستجابات التي غزت رؤوسنا أول الأمر، لكن ليس من السهل أن لا تأبه بالغمغمات العابرة مع خطى البنات، وفرح التمتمات الخجلى، مع وميض  النظرات.

رغباتنا تلتقي عند لطيف، وتصير المكتبة ملتقانا، ومائدة العالم البهيج، نقطف عليها النهار، مكاناً تتوهج فيه المعرفة، أثّر بأحاسيسنا ووعينا، وإكتشاف المنابع الأولى للفكر اليساري، المكتبة، أو المنتدى تحولت إلى نافذة تمر من خلالها الأنوار،  وصاحبها لطيف،  ذاك العامل البسيط المناضل، يستقبل روّاده بلهفة، قلبه مشرع يهفو للقادمين، كان لطيف يمثل عهداً لم يمنحه القدرة على مغادرة يقينه الأول، وإستمر يحمل سنواته الأربعين، كما يحمل آلامه، وهو يعيش كفاف يومه من دخل شحيح لا ينهض بأعباء إختياراته، حين يقف إزاء كل جبريات الحياة، ويواجه إمتحاناتها ومعضلاتها.

فجأة تتغير ملامح وجه لطيف بشاربين أسودين غليظين، يجد أن فيهما حاجة إلى معين جديد يقرّب صورته الى وجه ستالين وتقاطيع وجهه الصارمة الحادة، لم تكن روح لطيف وأعماقه تؤهلاه للإنسجام مع هذا (الكاركتر)، الجديد،  إذ تنتشر على وجهه ظلال من الكآبة والحزن، مثلما تتلبد في عينيه الصغيرتين، فضلاً عن شحوب الوجه ، وضآلة الجسم، كلها تكفي أن تجلد هذا الوهم وتبعده عن مخيلة لطيف.

كانت الكتب متاحة للجميع، والمكتبة أصبحت جزءاً من حركة أو فصلاً من تاريخ، لايبيح الحق لمتابع أن يشطب على جانب منه، وهي مثل غابة أسرار، تستقبل الكتب الجديدة، وجوهاً وعناوين تثير التساؤل، صور للحى وشوارب غليظة تخطف براءتنا، تغري بالتطلع والإكتشاف، لكن البدايات تظل معلّقة بتلك المجلدات من الكتب، المفتاح للدخول إلى دائرة طرح الأسئلة، مع نوع من الإلفة والتعاطف الكامنة في أعماق اللاوعي، ماركس، إنجلز، لينين، ستالين، ماوتسي تونغ، ديمتروف، بليخانوف، لابد ان نلبي الدعوات الخفية للعيون، وهكذا بدت الكتب مفتوحة أمام الأنظار : رأس المال، مختارات لينين، ماالعمل، الدولة والثورة، المسيرة الكبرى، الأمميات الثلاث، روايات ديستوفسكي، ومكسيم غوركي، وتشيخوف، المترجمة في دار اليقظة بالشام، وعشرات أخرى من الكتب والمجلات، صارت كقنوات إيصال تحمل في طياتها روح الزمن الماضي، ومعطيات الآتي. صمتها يرين على خلفية كنا ننقب خلالها عن حافز مثير لإقتناص أسرار ذلك الزمن.

وفق معايير ذلك العصر كانت تلك الكتب في الصدارة من حيث الإقبال والقبول، وكان لطيف يقف متباهياً في عرضها، كما يتباهى جيل من أبناء المدينة أخذهم الهوى السياسي نحو إقتنائها، وعرضها في مكتباتهم الخاصة، هل يوازي هذا الإقبال إقبالاً آخر على القراءة أكاد أشك في ذلك!!

علينا أن ننصت للطيف حين يتحدث، شعره الأسود المنسدل على جبهته يترك أثره الغامض على مسامع أصدقائه، تظل سيجارته مشتعلة، تتوهج جمرتها في ضوء المصباح المتدلي من سقف المكتبة، لم يكن المكان مسترخياً، مستغرقاً بالسكون، إنما تقطعه حركة عربات الخيول والحمير المحملة بالخضار والمواد المنزلية، ويتلفع السوق بدخان كثيف متصاعد من مطاعم مجاورة.

كما علينا أن نصدّق رواياته، وهو قادر ان ينسج من آماله وأوهامه حكايات خارقة، يتمتع بأفق فسيح متسع الخيال، يجعل منه سارداً ماهراً للقصص المشحونة باللمحات الدرامية، والعاطفة، والمفاجآت، والإنفعالات، وحالات التوتر، وهي لا تخلو من براءة وعفوية، تبدو مشوّقة على أقل تقدير، لان بعض فصولها غير قابلة للتصديق.

ننتظر لطيف بشوق، حين تطول رحلته إلى بغداد، لتجهيز مكتبته بآخرالإصدارات، إلا ان رحلته الأخيرة حملت لنا الكثير من المفاجآت، إذ ترافقت مع زيارة (أنستاس ميكويان) رئيس الجمهوريات السوفيتية الإشتراكية إلى بغداد في شتاء عام 1959، كنا غارقين بالصمت، مصغين بإنتباه ولهفة لرواية لطيف:

كنت بين اليقظة والمنام، وانا وسط أمواج هادرة من الجموع، تصل بهتافها إلى السماء (يا ميكويان أهلاً بيك، شعب العراق يحييك)، كانت السيارة التي تقلّه مع الزعيم تواجه صعوبة بالغة في التقدم نحو شارع الرشيد، وتكاد الجموع تحمل السيارة على الأكتاف، وهي تقايض هتافها وحماسها بتلويحات من يد الرئيس الضيف.

يواصل لطيف الحكاية، وفي عينيه بريق من الفرح، وإستحوذت عليه نشوة اللقاء:

شعرت أن الأفق ينشق أمامي، والأرض تتحرك تحت أقدامي، كنت غير مكترث للعواقب، وأنا أشقّ طريقي مثل النصل نحو سيارة الزعيم، إلى الجهة اليمنى منها، حيث يطلّ ميكويان، نقرتُ على الزجاج مرتين، إنفرجت أسارير الضيف، وإبتسم لي، كلّمته بلهجة خفيضة مشوبة بالرجاء، كان وجهه يفيض رقةً ببياض، رفع يده ملوحاً لي : هلو رفيك لتيف! تلك لحظة سحرية إمتلكت حواسّي، ميكويان يعرف أوصافي!! وإسمي كذلك! كيف؟ أظن أن القلب هو الذي يرى!!

 

جمال العتّابي

 

 

في المثقف اليوم

في نصوص اليوم