صحيفة المثقف

الدوغماتية.. مرض حكّام العراق

قاسم حسين صالحتعدّ (الدوغماتية) احد أهم واخطر اسباب الأزمات السياسية والاجتماعية في العراق والعالم العربي.ومع ذلك فان السياسيين والاعلاميين يتعاملون معها كتعامل من ينشغل بوصف اعراض المرض ولا يلتفت الى تشخيص سبب العلّة..التي نكشفها لكم الآن.

تعني (الدوغماتيةDogmatism): الجمود العقائدي، الجزمية الفكرية، القطعية، العقيدية..غير ان اكثرها تداولا هو اصطلاح الجمود الفكري.ولقد انشغل الفلاسفة بتحديد مضمونها، فمنهم من وصفها بانها طريقة منغلقة للتفكير، يمكن ان تصاحب اية ايديولوجية بصرف النظر عن محتواها ما اذا كانت دينية او علمانية.ومنهم من وصفها بانها تنظيم معرفي مغلق نسبيا خاص بمعتقدات ولامعتقدات الشخص بخصوص الحقائق والوقائع والسلطة المطلقة، فيما حددها آخرون بعدم قدرة الفرد على تغيير افعاله او اتجاهاته حتى لو تطلّب الموقف ذلك، وحددها آخرون بأقوال مطلقة من غير سند او برهان، وصنفها آخرون بانها صفة الأفراد الذين يسعون الى فرض آرائهم بالسلطة، او بالنفوذ، وانتهى آخرون الى انها الاعتقاد الجازم واليقين المطلق المستند الى مباديء تقليدية راسخة دون البحث عن وجه الحق في التسليم بها.

ولأن الجمود الفكري (الدوغماتية) يعدّ من وجهة نظر علماء النفس والاجتماع السبب الرئيس للخلافات السياسية التي غالبا ما تنتهي بحروب، وأنه (مرض) خالقي الأزمات من القادة السياسيين، فقد ظهرت حوله نظريات اشهرها نظرية روكيتش التي تناولها في كتابه (العقل المنفتح والعقل المنغلق).وعلى وفق هذه النظرية فأن الافراد منفتحي العقول (غير الدوغماتيين، غير االمتطرفين)، هم الذين يقبلون التخلّي عن بعض معتقداتهم اذا ما اقتنعوا بخطئها، ويقبلون الافكار الجديدة اذا ساندتها ادلة قوية. اما الافراد منغلقي العقول (الدوغماتيون، المتطرفون) فهم الذين يرفضون الافكار الجديدة مهما كانت قوة الادلة التي تساندها، ويتشبثون بمعتقداتهم القديمة حتى ان ثبت خطؤها.

وعلى وفق نظرية التصنيف الاجتماعي فان الناس ينزعون الى تصنيف عالمهم الاجتماعي الى صنفين " نحن " (أو الجماعة الخاصة بالفرد) و"هم" (أو الجماعة الاخرى). وانهم يتحيزون لجماعتهم ويبالغون ويعظّمون ايجابياتها ويغمضون اعينهم عن سلبياتها، فيما يعمدون الى تضخيم سلبيات الجماعة الاخرى وغضّ الطرف عن ايجابياتها، وهذا ما كنّا نحتنا له مصطلحا جديدا بعلم النفس بأسم (الحول العقلي)، واثبتنا ان حكّام العراق..حولان في السياسة.

لقد توصلت الدراسات السيكولوجية الى ان الدوغماتي( الجامد فكريا) لا يسمع الا نفسه ولا يرى غيره ولا يتقبل الرأي الاخر، وليس هذا بسبب عدم كفايته الشخصية وانما بسبب شعوره بأنه منبوذ من قبل الآخرين، وهذا ما حدث لقادة احزاب الأسلام السياسي في العراق في انتخابات 2018 التي عزف عن المشاركة فيها اكثر من 80% من الناخبين العراقيين.

ولك ان تراقب حكّام العراق تجد أن اغلبهم يسارع الى رفض أي دليل او مناقشة تتعارض مع معتقداتهم، وينظرون الى الامور الجدلية على انها ابيض واسود فقط، وغير قادرين على التخلي عن ارائهم حتى لو بدا لهم خطؤها، بعكس صاحب الفكر المنفتح الذي يتشوق لمعرفة الجديد سواء كان موافقا لما يرى ام مخالفا له.

والمفارقة ان صاحب الفكر المنغلق لا يشعرك بأنه شخص عقلاني منطقي، كقول من كانت امور العراقيين بيده بأن العلمانية كفر وزندقة، لأنه متخندق مع نفسه ومتبرمج على معتقدات ومفاهيم جاهزة وقطعية..يحفظها عن ظهر قلب، دون ادنى اعتبار لمشاعر الآخرين، سيما اذا كان الشعب متنوع المكونات والمعتقدات كالشعب العراقي الذي يحتاج الى حاكم منفتح عقليا.

والدوغماتية تفضي الى التعصّب وتعمل على تشكيل شخصية بمواصفات معينة، اوضحها..صلابة الرأي التي لا تسمح له بأن يتزحزح عنه، والميل الى التسلط والعدوان الذي يسقطه على الجماعات او الاشياء التي يتعصب ضدها.وسيكولوجيا، يجد المتعصبون في احقادهم على الاخرين تفسيرا مبررا عن دوافعهم ورغباتهم المكبوته بما فيها الانتقام، ويعدون التسامح مع الخصوم ضعفا او جبنا، ولك ان تتذكر ما حدث بين عامي (2006 و2008) التي راح ضحيتها الآف الأبرياء من العراقيين بسبب دوغمايتهم.

وللتاريخ، كانت الدوغماتية هي التي اسقطت (الأخوان) في مصر، وهي التي ادخلت في نفق مظلم فريقي الصراع في اليمن (الحكومة والحوثيون) اللذين تفاوضا في الكويت (نيسان-ايار 2016) والى الآن(2021) ما تفقا!. والمفارقة ان الدوغماتية كانت هي السبب في بقاء سياسيين عراقيين في السلطة سبعة عشر عاما برغم انهم افشل وافسد من حكم العراق في تاريخه السياسي، بأن نجحوا في ايصال معظم العراقيين من ذوي الاصابع البنفسجية الى ان يكونوا في دوجماتيتهم مثل حصان العربة..لا يرون الا الذي امامهم، حتى اذا كان في حساباتهم احتمال ان يكون طريقهم الى..المقبرة!.

*

أ. د. قاسم حسين صالح

مؤسس ورئيس الجمعية النفسية العراقية

 

 

 

في المثقف اليوم

في نصوص اليوم