صحيفة المثقف

عربة عشتار (2)

سردار محمد سعيدأيتها العيون تأكلين الأرض، سخرت موجاً كالجبال، يناطح الغمام، سيّان في عتوهما، والليل داج.

موج فوقه موج تحته موج لاأول له ولا آخر، لا عاصم اليوم منه، دعي معاولك ولا تعثي ببناء الله، ليس الزرع والضرع مذنب، ولا النسل، دعيك من عزف أنشودة القهر، أيفنى الخلق ببأسك.

وكيف يؤخذ وازر بوزر آخر؟

 وكيف يدنو ذكر من أنثى في هذا الخضم؟

 ظننت أن مصابيح التاريخ انطفأت.

لا مصابيح في السماء واختفى السكون والهدوء، هديرٌ يقرع طبول الفناء.

 والعيون تلد العيون.

العربة تتفادى نزوات الموج في تقلّبه، إرتفاعاً، وانخفاضاً........ كأنما يقودها سائس ماهر.

لو كنتُ على اليابسة لكنت من المغرقين.

ما قولكم بطاغية عتا وبغا وعلا في الأرض، ويرقد هانئاً لا يمسه سوء.

ثمة سفينة مذهلٌ كبر حجمها لكنها وسط طغيان الماء بدت كرمثة.

إهتزت صفائح القاع ففارالتنوروطغت السيول غامرة الحي والجماد،

إنحل عقد السماء وفصد شريان الغمام.

ليس البشر وحده يحلو له الطغيان بل مالايعقل أيضاً فثمة جبال أخفت براكينها وثمة بحار خنس موجها وثمة غيوم رقدت صواعقها.

حامت العربة حول السفينة،

تأملتها وسألت نفسي كم هي كمية الخشب التي بنيت به؟

لاشك أن غابة بأكملها اجتثت.

ومئات من العمال المهرة استغرقوا سنيناً في بنائها.

لو لم تكن في مرمى نظري لقلت محض خرافة.

لمحت جذع شجرة طاف يعلو ويهبط كأنغام على وتر الموج، فاقتربت منه

 - يا جذع كأني أعرفك وأعرف جذورك التي تأبى مغادرتك.

- ولكنك لم تذق ثمري، ولم تسمع نشيج ورقي، وظلمت تفاحي الذي صبغت به خدود المحبين، وكنت أحوج الناس إليه.

- ظلام السماء سينقشع وتزيح خمارها، ستسقر جذورك في طين الأرض، تفرع أغصانك تزهر براعمك، تثمرين تفاحاً فيتزاحم البشر.

 - كم سعى الموج ليبتلعني وخاب سعيه فكنت أعلم أن البشر بانتظاري بلهفة..

كانت السماء مظلمة لاينفذ منها ضوء وتغشّت بغيم أسود،

ولمّا أزيح عن وجه السماء الظلام وسكن الرعد وطمست عيون البرق فتحت الأرض أفواهها وبدأت تبلع الماء وقيل يا أرض ابلعي ماءك وياسماء اقلعي، وغلقت أفواه الغيوم.

أُ ُطلق الغراب فلم يجد موضع قدم فعاد خائباً.

أين ستُذهب هذه السيول؟

برد غضبها وسكن فورانها فغدت كالمرايا واقتصرت على السريان بوداعة بين الضفاف.

راح السمك يتقافز بحرية ولا يخشى الطيورالكاسرة، الحائمة بعد تخلصها من أسر جيوش الموج.

إحتبست الغيوم، والماء إختفى.

ولم ترجع حمامة أطلقت، وجدت مثوى.

ونبتت شجرة التفاح وأثمرت.

إنشغلوا جميعاً بقطف التفاح البشر والسمك والطير.

هبط من السفينة ثلة من الأطفال تقودهم إمرأة فقدت مسحة الجمال جراء الخوف والوحدة ومستقبل مجهول لهذه الأرض، قضي على حياة بأكملها بجريرة عدد يسير من العتاة والظالمين.

أي عقاب هذا؟

الآن وقد رست السفينة على السفح ووجدت الأقدام أرضاً تمشي عليها دون أن تنغمس في الطين، فإن حياة جديدة بدأت وعصراً لاح.

لايدوم إلا بصناعة حضارة جديدة وبناء عالم إنساني بديل.

لحظت طيراً أصفر اللون مخطط بالسواد على رأسه تاج ريشي يتبختر به، حام حول العربة منبهراً

لا شك أن الهلع والخوف في أثناء الطوفان لم يتح لهم مجالاً للتفكيربالعمل أوالإبداع ولاحتى ممارسة الحب.

اليوم بعد أن هدأ غضب السماء وظهرت الأشجار وبرزت الوهاد توافر الإنتباذ القصي عن الأعين.

عربة بلا خيول تنساب بلا ارتجاج، ثم ما لبث الطيرأن استقرعلى حافة العربة دون وجل.

نطق كما البشر قال:

- خذني معك رفيقاً فلن تخيب وسآتيك بأخبار غائبة عنك.   

- أراك تعلمت منطق البشر؟

- من سماعي ثرثرة راكبي السفينة.

- سترافقني على أن لا تسألني عمّا ليس لك به علم.

وأول ما سأل: هل يمكنني قول شيء؟

- قل بلا تقعر ولا لف أو دوران

- إذا لم أقل صدقاً فلك نبذي ونسياني

- قل

- هولاء الصبية

- ما بالهم

- ألا تشعرأنهم البذرة التي ستنفلق عن حضارة.

تلمسنا الطريق الذي سلكوا وتعقبناهم دون أن يشعروا بنا

ومن خلف وهدة راقبنا مايفعلون

فتنبهتُ إلى ما لم يكن بحسباني، ياصديقي الهدهد:

لن يموت التاريخ وعيون البشر مشرعة النظرللآتي منة..

يد تمتد توزع على الصبية المتحلقين أقلام قصب،

هذه الأقلام أعرفها، وهذه اليد ذات الوشم.

إنها يد راحيل

ولغرابة ما سمع الهدهد تفرق ريش تاجه وبدأ يغني

- أيها الأرض أعيدي لنا المسرة بعد حزن، نايات القصب ستصدح، وأقلام القصب ستكتب والعقول ستفكر ويعم الحب والفرح والتأمل.

تملكتني الجرأة لكي أنفض عباءة التخفي، لا داعي لها، لا شك أن راحيل ستُسر بمقدمي.

- كنت بانتظارك.

- بصفتي.................؟؟؟؟

- بالصفة التي ترغب شريطة أن تعيها و تؤمن بها.

- هذه الأقلام أليست لنا وقضيت وقتاً بتشذيبها.

- بلى، ولكن بناء حياة جديدة أولى، فُني عالم وعالم آخر لكي يشب ويتشبع آدمية ويتحضر بحاجة للقلم، للعلم والعمل.

- ما الذي أستطيع فعله؟

- الكثير

 - أعلّم الذكور وأنت تعلّمين الإناث.

 - هذا أول الإنكسار، أتريد بناء جداريفصل الذكورة عن الأنوثة...ياللخذلان دعهم يتعلمون ويعملون ويتحابون، أهذا نكوص إلى آراء ما قبل الطوفان؟

 لا يا..يا..يا زميلي العتيد، دعهم يتعلمون معاً يفهمان معاً ماالذكورة وماعليها وما الأنوثة وماعليها، الذكورة لا تؤنّث والأنوثة لا تذّكر.يفهمان أنهم طرف المعادلة الإنسانية.المجتمع الذي لا يفقه هذه المعادلة مجتمع أعور.

الحب كالنصيف العفيف، نظيف، ولكنه قد يسقط عند أول همسة.

الذكرسلّم الأنثى وليس حفرتها وهي سلمة وليست حفرته

كلٌ للآخر أريكة ومسند ومخدة وسرير.

- يبدو أن زرع عشتار بدأ يمرع، أهو تحد لجلجامش؟

- بلى، وتحد لكل ذكوري لا يدرك أن الأنثى ليست ضعيفة بل رقيقة، كقدح الخزف الذي يحتسي به قهوته وشفيفة ككأس خمرته أوزجاجة النافذة، وناصعة كصفحة المرآة إذا خدشت تنكسر. 

 7

إنتبذت إحدى الصبيات فاتخذت مكاناً لا يشرف عليه مخلوق فصاحت، هرعنا نحوها فلربما حدث لها مكروه، فأشارت لعشب نبت للتو وانبثقت من بين أوراقه الغضة زهرة بيضاء.

- فألا خير هذان.قالت راحيل.

سألتها

- الأول هو الزهرة فما الآخر؟

- لقد داهم الصبيّة وجع في أسفل بطنها.

قلت:كفى فهمت.

تواريت عن أنظارهم لقضاء حاجة خلف دوحة عظيمة الجذع صمدت بوجه طغيان الموج ولم تورق بعد، فانتبهت بذعر إلى انشقاقها وكأن باباً فتحت فظهر من جوفها شبح غريب الشكل، وبرغم التجاعيد التي امتلأ بها وجهه بدا كالأرض الطينية إذ غادرتها المياه ولفحتها الشمس فتشققت، علت فمه ابتسامة لولاها لدام هلعي وترويعي وفزعي

قال بصوت جهْوري صاف: ما أسعد عشتار بتلاميذها وهم يعيدون بناء الحضارة - أدخل هنا بلا خوف.

دخلت وجلاً فغلّق الشق، فأجلسني جنبه وأخرج بيمينه كتاباً

- خذ هذا الكتاب هديّة لراحيل ففيه من العلم مالم يُعرف

 وسرعان ما أخرج بيسراه مرآة معدنية صغيرة وجعل يمسحها بكمّيه

- أنظر في صفحتها الناصعة

رأيت ساحلاً فيه قلة من الرجال وأضعاف مضاعفة من النساء يلبسن من غريب اللباس وخليعه

- أرى أن الإناث أضعاف الذكور

- وهذه صورة لما سيحل بكم إذا لم يتدارك فالقضاء على الذكور المواليد همّ أحد الطغاة خوفاً من أن أحدهم سيزيحه عن عرشه كما أخبره المنجمون.

ستتفهم راحيل مشهد الغانيات في المرآة الذي أرانيه الشبح، ولو كانت هناء زميلتنا في معهد الفنون علمت بهذا لفقدت عقلها الذي لا يستوعب رؤيتي لعشرات الغانيات اللواتي يُمنّين النفس بذكر.

 لكن راحيل وإن كانت دونهن جمالا ً وفتنة وإغراء فإنها تفوقهن عقلاً.

طلبت الإلتحاق بالصبية فهم أولى أعطاني حصاتين لأطرقها ببعض ليفتح شق الجذع إذا قررت يوماً العودة، وقبيل توديعي أكد على الكتاب هدية راحيل وودّعني.

 وجدت راحيل قلقة هي والصبية يفتشون في الجوارباحثين عن أثر يدلهم علي.

وهنا تأكد لي مدى حب راحيل وصدقه.

لثقتي براحيل لم أخف ِ عنها ما حدث.

الكتاب الذي أؤتمنت على وصوله إلى راحيل فرحت به راحيل وراحت تعيد ما فيه مراراً.

سنابك خيل قادمة نحونا

- أسرع بالصبية الذكور وأركبهم العربة..أسرع فالجند قادمون لينالوا منهم........ أسرع، أسرع ولا تخف علي ّ فقد تعلمت من كتاب الشبح ما سيدهشكم.

وصاح صائح من البعد

فرعون أيها الجبار آن الأوان فأين المفر؟

هذا هو العام الموعود ومَن على يديه زوال عرشك.

سيولد رجل الرب.

حمّال ألوية ، قتّال طاغية، نحّار راغية.

طفقت أحثهم على الإسراع تفادياً من الوقوع بأيدي الجند وركبنا العربة وراحت تعلو بنا فصرنا في مأمن منهم لكننا قلقنا على راحيل لبقائها وحيدة متصدية لجند الطاغية فحامت بنا العربة وهي واقفة بثبات وعزيمة في الميدان،

وقف الجند وهم يمتطون خيولهم المطهمة، ولمّا لاحظوا وقفتها كالأسد الهصور تضاحكوا فأخرجت من جيبها قصبة وكيساً صغيراً عرفنا أنه مملوء بحصى ناعم جمعته دون علمنا فازدادوا سخرية، وكل شطر أخذ جهة حولهم فهلعوا.

 تقدم أشجعهم نحوها وهو يهز بسيفه فوضعت القصبة بين شفتيها بهدوء وحملتّها بحصاة ونفختها فاندفعت الحصاة كقذيفة صوب جبهة الفرس فتعثر وسقط

لكن الفارس المهاجم لم يأبه فقام ونهض متجهاً صوب راحيل، ففزعنا للشر والسخط الذي بدا على سحنته، فأسرعت بالطواف حولها على ارتفاع منخفض، فقالت:

- إهبط أكثر..............خذ بيدي

فهبطت فتعلقت بالعربة وخوفاً من اقتراب الفارس عادت العربة بالإرتفاع فكانت راحيل كذيل تسحبه العربة وراءها وأمسكنا بيديها خشية السقوط، فأردفت

- قربوني منهم.

فاقتربنا، وإذا بها تنهال بقدميها على رأس جندي منهم فسقط متكوّراً على بعضه، فسارع بقية الجند بالهرب والعربة تطوف وراحيل معلقّة خلفها، فضحكوا لمشهد الجند وهم يلوذون فراراً كالجرذان.

وعاد الصائح يصيح

فأخذ فرعون يهذي، اضطرب وصرخ،

- إجمعوا لي القوابل كلهن:

آمركن بقتل كل وليد، أحدهم سيدعو لزوال ملكي.

فعاد الصوت مقهقهاً:

هذا الذي تنتظره بنو إسرائيل بعد أن سمتهم أبشع العذاب قتلت وأثكلت ويتمت.

بدأ الخوف يسري في أعضائه، دار ودار ودارحول نفسه ويداه تمتدان فوق رأسه تمسكان بتاجه الذهبي متشبثاً به.

إي رجل الله، أكرمك الله فحماك من الطاغية الجبار، أوحى الله إلى أمك أن تلقيك في اليم ووصل التابوت قصر فرعون، فتربيت فيه ثم افترقت عن آل فرعون.

ونصرت عبرانياً من أخوتك، قتلت فسعوا إلى قتلك.

لتهرب من مصر...

 8

جاء الهدهد مسرعا ًواستقرعلى كتفي

 - القوم يأتمرون لقتله.لتقلّه العربة سيعجزون من اللحاق بها.

- إركب.... تعجل.... سأتجه بك إلى مكان آمن لن يصلوه، تلقاء مدين عسى الله يهدينا سواء السبيل.

قال الأب الجليل:

- أراكن عدتن مسرعات اليوم على غيرعادتكن...... ما الأمر؟ وأنت يا بنية مالك مستبشرة؟

 - إنه هو يا أبي القوي الأمين، سقى لنا متدافعاً ومتزاحماً مع الرعاء.

 - وأين هو الآن؟

- تولى إلى الظل.

- ناديه

أقبلت تخلط بالجمال الحياء والخفر.

قالت:

- إن أبي يدعوك ليجزيك اجر ما سقيت لنا.

وكان الأمين حقاً، طبع النسيم الثوب على الجسد البض فبانت تفاصيله

ومن عفاف قال:

- كوني خلفي وأرشديني.

تبسم الهدهد وعلّق:  هذه سمة الأنبياء.

***

رواية

سردار محمد سعيد

 

 

في المثقف اليوم

في نصوص اليوم