صحيفة المثقف

السماوة.. فصل آخر لصداقات الأمكنة (2)

جمال العتابي

أهلها يشربون الماء من الرميثة.. والسينما فيها اسواق للحجية!

يشرق وجه السماوة في الليل، مثل فوانيس عرس بليلة عيد، نجوب شوارعها وأسواقها، تستقبلنا الوجوه بنوايا طيبة، الزاد والملح، إرث جميل تتناقله الاجيال، الحيطان المتلاصقة في البيوت، تختصر الحلول، وتجعل المناجاة والتراتيل صلاة واحدة.

تلك السنة الواحدة لم أصدّق أن تنتهي فصولها بهذه السرعة، من الصعب أن ألمّ بأطرافها، أخصب من أرصدها، وإنما أعرض لبعض ملامحها، من خلال علاقات حميمة، دامت وإتصلت عبر مساحة ضيقة من الزمن، وإن تباعدنا، ظل الصفاء والصدق يجمع أسبابنا وشظايانا.

ضفاف انهار السماوة كانت تستقبل الموج تلو الموج، من أقوام وأسر ملكية تولت عروش الحضارات، كما لو كانت معاقل حصينة لا ينالها الأعداء، منها انطلق گلگامش يبحث عن عشبة الخلود، والسماء تحرسها آنانا آلهة المدينة، هنا سجّل التاريخ أهم موضوع إنساني في قصص الملاحم والبطولات، في صحرائها دُفن الشاعر السموأل، وقيل أن المتنبي تعلّم الفصاحة والبلاغة فيها، ذكرها ياقوت الحموي في معجمه للبلدان، انها أرض مستوية لا حجر فيها لذا سميت بالسماوة.

توصف انها مدينة المتناقضات، ظمأى للماء، على الرغم من أن الفرات يمرّ جذلاً على سعته، يشطرها إلى نصفين، (شرقي وغربي)، فمن أي المنابع يرتوي أهلها؟ ما دامت المياه تأتيهم ملحاً أجاجا، بعد أن يودع النهر مبازل مزارع (الشلب)، مثقلاً بالرواسب والطمى، يذهب ليرتمي بعد رحيل مضنٍ في شط العرب، على النهر شيّدَ مجلس الاعمار أول جسر معلق في العراق، إفتتحه خليل كنّة الوزير في العهد الملكي يوم 8 شباط عام 1957، إختطفته مخالب دول العدوان عام 91، وأحالته إلى ركام، وما تزال دعامات الجسر وأوتاده محمّلة بالأسى والدماء.

فرات السماوة لا يسقي العطاشى، لا مفرّ للمدينة سوى الرميثة شمالها، لكي لا يتيبس ريقها، إمتد لها الماء مدراراً عبر الأنابيب، كان الفرات فيما مضى هنا، للمشاحيف وللصياد، للعيون السود، للصبايا، والصبابات التي تسهر لتالي الليل، للأراجيح، وأصوات المغنين إلى الفجر، للمحبين يغرقون الليل شدواً، للعباءات، وللعيون من خلفها، وللغاوين في سحرها، لرشيقات الخطى، للفساتين كلون الزهر، للعطر الذي يفعم أنفاسنا، لشارع القشلة الذي تعصف بأشجاره الضحكات والشهقات، هل قرأنا أو سمعنا عن شارع خجول، يستفزه الأذى، يلهث للمطر الشتوي، يخجل أن تهجره الطيور، فيطبق عينيه على رفيف حلم ويصمت.

تعاودني الرغبة صباح كل يوم ان أسرع الخطى بدءاً من سكننا القريب من سكة القطار ومدرسة الرشيد في الحي الشرقي، أعبر المعلق نحو شارع القشلة بإتجاه ثانوية السماوة وهي مثل ريحانة في نهاية الشارع، تدثرها الظلال، تحميها من حر القيظ وغزو الريح، مزهوة برائدها المربي الجليل عبد الله حسون الاحمر، ونخبة من المدرسين، حسين الغرّة، لطيف، إسماعيل، جليل أبو سكينة، شمخي جبر، حنون، عباس جبارة، التشكيلي الخطاط المدهش، ذكرى الثاني المتوسط فيها، تمر كغيمة صيف توقظني بين الحين والحين، كنا مجموعة من الطلبة حمزةعلي، الشاطر بيننا، (الصيدلي) فيما بعد، على منافسة دائمة مع جاسم، الذي نال بعثة الى إنكلتره بعد تخرجه من الإعدادية، امتدت صداقتي بحمزه السباع لهذا اليوم، محمد حنش (والده المقاول الوحيد الذي إختص بتبليط شوارع المدينة) ، محمد حسين السيد نور، صادق السيد طالب، علي جياد، حارث الدهان، والده حميد من أغنياء المدينة، إلى جانب شخصية أخرى من بيت الإمامي الذي شيد سينما السماوة، (أعتقد سمّاها سينما الشعب)، وعائلة الإمامي، هجرت مدينة عانه وإستقرت في السماوة، عُرفَ بهذا اللقب، لأن والده أو جدّه، كان إماماً لجامع القشلة، السينما كانت عنوان خصوبة لوطن أجمل، قبل أن يغيبها الإعصار، كانت ملتقى فتوتنا، قبل ان تتحول الأرض أمامها إلى مرتعٍ للذباب والهوام، موقع السينما الان صار أسواقاً بإسم (أسواق الحجية)..... يتبع

 

جمال العتابي

 

 

جمال العتابي

 

في المثقف اليوم

في نصوص اليوم