صحيفة المثقف

(شلونك انت؟).. مهداة الى المعلم، أمل الوطن في يومه

محمد حسين النجمكان المعلم اساس البناء الاجتماعي للوطن، وهي الحقيقة التي يعرفها اعداء الوطن وتناساها غباءا او عمدا الفاسدون . كرامة الوطن من كرامته، ففي اليوم الذي كان المعلم جزءا من الطبقة الوسطى، ويوم كان ابناء المجتمع يرفعون رؤوسهم عاليا املا بان تطال قامة المعلم السامقة، استطاع المجتمع ان يصل الى ذرى المجد ويضع اقدامه على طريق التقدم .

ولاجل اسقاط شموخ المعلم وقيادته لمجتمعه كان يجب اسقاط كرامته، وليس اكثر مهانة للمعلم من ان يشعر بالضعة والهوان ازاء من ينبغي ان يقودهم . وكان الحرمان اساس هذه الضعة والهوان .

خلال تسعينيات القرن الماضي كان الحصار الاقتصادي اكثر الوسائل فتكا بمفاصل المجتمع حين استطاع الاطاحة بأهم ما يمكن ان يبني المجتمع وهو القيم الاخلاقية . فإزاء انتشار قيم الفهلوة والخداع والرياء والغش والسرقة والتحايل والمحسوبية والوساطة، بات ابناء المجتمع يشعرون ببؤس ما تعلموا من قيم، بل وصار حق الحياة ،الذي هددته ظروف الحصار، المبرر لكل ما يسلكه الفرد من اساليب، كان يوما ما يدعوها بالقذرة . .

لم يكن حال المعلم بأفضل من بقية ابناء مجتمعه، بل وجدناه ينزل من مهابته وعليائه ليخوض مع الخائضين، وكان لابد ان يترك ما تعلمه من قيم وراء ظهره، وكان لابد ان تنتقل هذه المسالك الى ميدان عمله . وهكذا بدئنا نشهد صعود قطعان من المتخرجين من المدارس لايملكون من القيم ولا من العلم، كونهم صعدوا بالاساليب القذرة التي فرضتها ظروف الحصار التي كرست قيما بديلة ليس من السهولة قلعها واستئصالها ما لم تتم معالجتها باساليب علمية قادرة على ان تعيد الى المجتمع والى المعلم قيمه وتقاليده المفقودة .

يحضرني هنا احد الامثلة التي تم من خلالها اسقاط هيبة المعلم وعلو شانه بين ابناء مجتمعه .

في عهد النظام السابق، وحين انحدر المستوى المعيشي للمعلم الى الحد الادنى، كان يصعب عليه ان يؤمّن مستلزمات عيشه، فضلا عن اجور سفر من تنسب للتعليم في  مناطق الارياف والمناطق النائية . وعلى الرغم من ان بقايا ما يحمله ابناء المجتمع من تقدير للمعلم ودوره، بالاضافة الى الحاجة الاجتماعية للتعليم دفعت  الكثير من ميسوري تلك المناطق واعيانها الى النظر بعين العطف والشفقة على المعلم فبدات بتامين اجور سفره الى مناطقهم من خلال جمع التبرعات، الا انها كانت جرحا غائرا في قلب المعلم الذي صار بين نارين، نار هوان العوز والحاجة التي تضطره لان لايانف اخذ العطايا تلك وبين نار الدكتاتورية التي تمنعه ان يصرخ ثارا لكرامته، وقد استطاع احد اولئك المعلمين ان يعبر بصدق عن هذه المعاناة من خلال خطابه الموجه للمعلم، قصيدة يقول فيها:

شلونك انته

ادري بيك تموت سكته

وادري بيه رويتبك بين الرواتب صار نكته

جم درس عمدن تركته؟ وجم قلم تلميذ بكته؟

صار عنوانك حرامي مو معلم مجتمع وانته قدوته

انتهت قم للمعلم وفه التبجيل وانجل بحضرته

انتهت من كامو الوادم يلموله كروته .

هذا الواقع المريع الذي مر به المعلم كان ينبغي ان تتم معالجته اذا مااردنا للمجتمع ان ينبني على اسس اخلاقية ترى بالعلم قيمة اسمى من كثير من القيم المادية والتي يمكن ان تعيده الى طريق التقدم والرقي . وعلى الرغم من بعض بوادر الانفراج والتطور بالمستوى المعيشي للمعلم بعد التغيير اسوة بباقي موظفي الدولة، الا ان الاكتفاء بتحسين رواتب المعلمين لايكفي بحد ذاته علاجا للامراض التي استشرت بمفاصل التعليم ليس اقلها التباين الكبير بين المدخولات التي جعلت المتمسكين بالاساليب (القذرة) اعلى شانا منه نتيجة لانتشار الفساد في مفاصل الدولة، بالاضافة الى غياب المعالجات الاقتصادية العلمية القادرة على حمايته من اهتزاز مستواه ذاك امام آفة التضخم، فالمعلم الذي كان احد عناصر الطبقة الوسطى، وصاحب التاثير الاجتماعي على مر التاريخ، انحدر الى مستوى الطبقة الفقيرة، وصار يزجي وقته في البحث عن اعادة التوازن الى متطلبات حياته المعيشية تاركا تواصله العلمي، بل والبعض ممن انحدر يوما لضعفه وعاد الى رشده صار نادما على تركه ماكان يمتاز به من امتيازات الاساليب القذرة والتي دفعت قطاع منهم الى العودة اليها .

لنستمع الى شاعرنا المعلم في خطابه لزميله:

شلونك انته

ادري ماميّت ضميرك بس غصب بيدك خنكته

جي رفض يحترمك السافل قبل وانت احترمته

صار تاجر واحتقر ذات المعلم وانته سكته

وقلمك (ابغمده) انتحر جي ماشهرته

ادري ماميت ضميرك، بس مثل قلمك كسرته

ليس اقسى من ان تكون بين خيارين افضلهما مر، وليس اقسى من صورة ذاك المعلم الذي  سعى جاهدا ليؤمن لقمة عيش ابنائه بكل شرف ولم يجد الا ان يمتنع عن اطعام نفسه توفيرا لاطفاله فذهب شهيد شرفه وعزة نفسه .وهل اقسى على المرء من ان لايجد قوت عياله؟ باع المعلم، ابان الحصار، كل مايملك ثم باع كثير منهم شرفه الوظيفي والعلمي لاجل تامين لقمة عيشه:

شلونك انته

الله يعينك ع الوكت صعبه خبزته

وادري بيك تفكر بسعر الطحين ولا درس يمكن شرحته

وحته اعرفك، حته اعز كتبك عليك

برخص بعته .

هذا ماانتهى اليه حال المعلم في مخطط مدروس اتقن العدو وضعه واجاد اغبياء المجتمع تنفيذه، واستمر الفاسدون على انتهاجه كي لا يكون شاهدا على فسادهم وكشف عوراتهم . في مقابل هذا تجد بعضا من سقطة المجتمع من يحاول النيل من المعلم بترديد غبي لتبريرات غبية يحاول الفاسدون ترويجها لديمومة فسادهم . ان اكثر ما يغيظ الفاسدين ان يرتفع شان المعلم ويعود الى مكانته قائدا لمجتمعه، فالفاسدون يعلمون تماما بالتاريخ المشرف الذي سجله المعلم طيلة تاريخه قبل ان تدور عليه الدوائر، لنستمع الى شاعرنا:

واول المطلوب منك

من تموت تموت سكته

واكف يموت النخل، وعروكه ماتنكر تربته

مو جنت عنوان كل جيل اليمر وانته شمعته

جم عهد بايد هدمته، وجم حكم كامل رفضته

لقد تمت تصفية مهمة المعلم لكي لاتقوم للمجتمع قائمة، ولازال في مجتمعنا، وجلهم من استفاد من فترة الانهيار القيمي، من يحاول تكريس هذه التصفية كي يستمر مستفيدا من فرص الانهيار والسقوط والذي يجد في ارتقاء منزلة المعلم تهديدا لمكاسبه وفساده .انه مسعى لتكريس قيم الوضاعة التي جعلت من الوضيع سيدا :

اشمعنه من تاجر وضيع تموت سكته

وتخدم الدلال والدجال وتعيش بخدمته

المعلم مو معلم من تجر ياخة قميصه

اكبال تلميذه سمل دلاله وتلوث بدلته

المعلم آية من آيات وجدان الزمان

ولا نبي ماجل مهنته

نعم انه المعلم الذي يحاول الرعاع ان يسئ الى قدره يعينهم في ذلك المطبلون من جهلة الامة، والسذج الذين لايجدون في مطالبات المعلم بالعيش الكريم الا مطمع مادي متناسين تلك الدعوة السامية التي اطلقها ابو ذر الغفاري: عجبي من من لا يجد قوت يومه ولا يرفع السيف بوجه ظالميه . وبمستوى عقليات اغبياء الامة لابد ان ابا ذر كان ماديا قبيحا مثله مثل اساتذة الجامعات ومعلمي المدارس حين دافعوا عن عيشهم الكفاف .

واخيرا يطلقها شاعرنا، وهو آنئذ يعيش في جور الدكتاتورية، دعوته للثورة بوجه ظالميه:

شكك الثوب الحقير الذلك او بيدك لبسته

وفصل من (الله واكبر) من علم مدرستك الثوبك ركعته .

واذا كان للمجتمع من امل بالعودة الى قيمه الاصيلة وبنائه الراسخ فعليه ان يعيد النظر بالكثير مما يحمل من مساوئ النظر الى دور المعلم الذي عمل النظام السابق ويعمل النظام الحالي على ترسيخها متحججا بصعوبة الظروف والازمة المالية للتستر على اجندته التي اوصلت الوطن الى هذا المستوى بفسادهم وسوء ادارتهم للحكم . ان الذي يحاول النيل من المعلم، ويتباكى حسرة على عدم وصول وطنه الى مستوى الاوطان الاخرى عليه ان يتذكر بان انهيار اليابان في عام 1945 واستسلامها كان يمكن ان يكون ابديا لولا وجود من عرف قيمة المعلم، فما يشاع عن امبراطور اليابان حين اشر سبب تقدم اليابان ووصولها الى ماوصلت اليه اشار الى المعلم، وقال: لقد منحنا المعلم راتب الوزير وسلطة القاضي وهيبة الامبراطور . وا ن مجتمعا يبخل على معلمه ببعض هذه مصيره مزبلة التاريخ، وهو ماوصلنا اليه.

 

د. محمد حسين النجم

الجامعة المستنصرية

 

في المثقف اليوم

في نصوص اليوم