صحيفة المثقف

مجدي إبراهيم: تاج العروس

مجدي ابراهيملازلنا مع المصنفات العطائية نستوحي منها آثار الفكرة الرئيسية التي قام عليها مذهبه في التصوف ورسختها قيم الإصلاح الديني ممثلة في العبودية لله الأحد؛ فكان من بين مؤلفات ابن عطاء الله كتابه:"تاج العروس، الحاوي لتهذيب النفوس"؛ وهو يبدأ بالتوبة ويحكي من نوادر الأولياء فيها ما من شأنه أن يقوي النفوس على فضيلة الجهاد. ولعل هذا الكتاب شرح لعبارة الإمام أبي الحسن الشاذلي: "أولياء الله عرائس، والعرائس لا يَراها المجرمون"؛ فإنّ العروس لا تجلى على فاجر، ولو طلبت رؤية العروس، كما يقول ابن عطاء، لتركت الفجور، ولو تركت الفجور لرأيت الأولياء، والأولياء كثيرون لا ينقص عددهم ولا مددهم ولو نقص واحد منهم لنقص نور النبوة.

على معنى أن الأولياء حملة هذا "النور" النبوي؛ لأنهم حملة لميراث النَّبوة على الحقيقة؛ فإذا نقص عددهم ومددهم أختل نظام الميراث النبوي، ونقص من ثمَّ النور الذي ينير للسالكين دروب الحياة الروحية؛ لأن الولي يحمل قبساً من نور النبي ص، ما في ذلك شك، ولا على هذا خلاف: الولي ينطلق ويسير على مَدْرجة النبوة، والنور الذي يضيء له طريق الهداية هو نور النبوة؛ فمتى نقص نور الولاية كان معناه النقص في نور النبوة، وهو ممّا لا يجوز؛ فعلى هذا الفهم ينبغي أن تحمل عبارة ابن عطاء الله.

ثم إن الكتاب عبارة عن مناجاة العبد على سبيل التقريع والتوبيخ طلباً لاستثارة الهمّة في أن تكون مناجاته لله وحده دون سواه، وعبوديته تتوجه لله وحده لا يرضى بديلاً عن ذلك ولو قيد أنملة، إن المسلم من أسلم نفسه إلى الله، وانخلع من حوله وقوته.

وهمَّة العارفين على الدوام في تصحيح الأحوال. أربعة تعين العبد على جلاء القلب: كثرة الذكر، ولزوم الصمت، والخلوة، وقلة المطعم والمشرب. هذه الأربعة هى قواطع الطريق كما بينهما أقطاب التصوف السني من قبل؛ المكي والغزالي خاصّة، حتى أن ابن عربي لما كتب حلية الأبدال ذكر كيفية وصول الأبدال إلى ما وصلوا إليه؛ فقال بالأربعة التي ذكرها أبو طالب المكي في قوت القلوب ويعني بها، الجوع والسهر والعزلة والصمت.

يبدأ ابن عطاء الله كتابة "تاج العروس" بالحديث عن التوبة؛ ليعرج على المعرفة، فالتوحيد، فالمحبة، فالإيمان، وكلها من المقامات العزيزة للأولياء، يستوحيها من كلام أبي الحسن الشاذلي في مرائيه، ولنذكر نص ابن عطاء أولاً هنا، ثم نتحدث عن توظيفه لمرائي شيخه الشاذلي؛ فهو هنا في تاج العروس يقول:" ... فمن عرف الله صَغَرَ لديه كل شيء، ومن أحب الله هان عليه (حُبّ) كل شيء، ومن وجد الله لم يشرك به شيئاً، ومن آمن بالله أمن من كل شيء، ومن أسلم لله قَلَّ ما يعصيه، وإن عَصَاهُ اعتذر إليه، وإن اعتذر إليه قبل عذره". يا من عاش وما عاش ـ هكذا يقول ابن عطاء ـ  تخرج من الدنيا وما ذُقت ألذ شيء فيها: مناجاة الحق سبحانه ومخاطبته لك". ويا للحسرة التي تتغشى قول ابن عطاء على من فاتته ـ كسلاً أو غفلة ـ حلاوة تلك المناجاة !

فلئن كان هذا النص ليس من كلام ابن عطاء ولكنه من كلام أبي الحسن الشاذلي وَرَدَ في رواية ذكرها الأول في "لطائف المنن" إلا أنه يوظفها هنا في "تاج العروس" توظيفاً مختلفاً عن مَسَاقها هناك في لطائف المنن؛ فلكل مساق حالته، ولكلٍ معطاه، وليس هو من قبيل التكرار لمجرد التكرار الذي يخلو من دلالة توجُّيهيَّة.

ولنذكر الرواية كما جاءت في "لطائف المنن" ثم نوالى التعقيب عليها. فممَّا رواه أبو العباس أن قال:"كنتُ مع الشيخ أبي الحسن بالقيروان، وكان شهر رمضان وكانت ليلة جمعة، وكانت ليلة سبع وعشرين، فذهب الشيخ إلى الجامع وذهبت معه، فلمَّا أنْ دَخَلَ الجامع وأحرم، رأيت الأولياء يتساقطون عليه، كما يتساقط الذباب على العسل، فلما أصبحنا وخرجنا من الجامع قال الشيخ أبو الحسن: ما كانت البارحة إلا ليلة عظيمة، وكانت ليلة القدر ورأيت الرسول؛ صلى الله عليه وسلم، وهو يقول: "يا عَليِّ ..! طهِّر ثيابك من الدنس، تحظى بمدد الله في كل نفس". قلت: يا رسول الله، وما ثيابي؟!

قال: "اعلم أن الله قد خَلَعَ عَليك خمس خلع: (1) خلعة المحبّة. (2) وخلعة المعرفة. (3) وخلعة التوحيد. (4) وخلعة الإيمان. (5) وخلعة الإسلام؛ فمن أحَبَّ الله هَانَ عليه كل شيء. ومن عَرَفَ الله صَغَرَ لديه كل شيء. ومن وَحَّدَ الله لم يشرك به شيئاً. ومن آمن بالله أمن من كل شيء. ومن أسلم بالله قلما يعصيه، وإنْ عَصَاهُ اعتذر إليه، وإنْ اعتذر إليه، عَذَره".

ففهمتُ حينئذ معنى قوله عز وجل: "وَثيَابُكَ فَطَهِّر" سورة المدثر: آية (4).

لا جَرَمَ كانت هذه الإشارات؛ فضلاً عن كونها مكاشفات وبوارق روحانية: مرائي تومض في لحظات الفتوح قلما تتاح إلا لأهل الشهود حقيقة؛ فهى من جانب آخر مَواجيد حق عالية وأحاديث قلوب مع الله سارية؛ هدفها تعليمي في المقام الأول يتوخى التوعية الروحية، ولكن بطريق آخر غير الطرق المعروفة للتعليم والمألوفة للتوعية.

الوعي هنا طريقُ للترقية عُرُوجَاً صاعداً إلى الملأ الأعلى، الوعي طريق البصيرة التي لا تخطيء الطريق، أو إنْ شئت قلت: هو نفسه طريق الذوق والشهود ومعايشة الحياة الدينية من العمق الجوَّانيِّ لا من المظهر البرَّانيِّ.

يوظّف ابن عطاء هذه المرائي الكشفية توظيفاً يخدم البعد التَّوَجُّيهي للطريق يقوم على وحدة المقصد ليستلهمه ويستقصيه. فقد لا حظنا من قبل أن الرواية وردت هنا في سياق مختلف عن سياق الرواية هناك؛ ففي حين ترد في "تاج العروس"، لتدعم سياق ابن عطاء الله حول النهي عن إسلام القلب خَاصَّة لا لله بل إلى النفس ممّا لا ينبغي أن يكون مطلب حق ولا مقصد طالب؛ وبالتالي انقطاع الطالب بما عَسَاه يطلب حين يُسْلم قلبه إلى نفسه لا إلى الله: انقطاعه عن الله تعالى؛ ترد هنا في "لطائف المنن" باعتبارها من موروثات الإمام الشاذلي ومكاشفاته ومرائيه بإطلاق.

فالتوظيف مع تعدد السياقات لمرْويَّات الشاذلي ورُآه لدى ابن عطاء يختلف من حال إلى آخر، ومن إشارة إلى أخرى، ومن لفتة يُرَادُ من ورائها شيء إلى مغزى يقصد من ورائه شيء آخر، يرد ذلك كله على حسب الوجوه المتناولة، وعلى مقدار المعالجة للفكرة المُرادة، وتلك ـ فيما نرى ـ مزية وخصوصية في كلام السادة الشاذلية: توظيف المرائي الشهودية في خدمة التعليم والمعرفة كيما تنضبط بها مقاصد الطريق.

وحسبك فيما جاء على لسان أبي الحسن من رؤيته لرسول الله ـ صلوات الله وسلامه عليه ـ وتعليمه إيَّاه الخلع الخمس (المعرفة والمحبة والتوحيد والإيمان والإسلام) التي خلعها الله عليه والتي رمز لها النبي ص بالثياب أمراً بالتطهير، لكنه ليس تطهيراً للظاهر كما هو الحال في الثوب يخلع مع دنس الوساخة ويلبس مع نظافة التطهير؛ بل تطهير للباطن من دنس القلوب لتحل فيها الخلع الخمسة. فالمقاربة بين الثياب والقلب مقاربة شديدة الرمزية لكنها ليست رمزية غارقة في غيبة الدلالة بل الإشارة فيها دالة كل الدلالة على المقصود. ومن هنا كانت دلالتها تعليمية ذات توجه في الطريق؛ فكما أن الثياب بحاجة إلى الطهارة من الدنس كيما ينظف بها الظاهر المرئي فكذلك القلب بحاجة أيضاً إلى الطهارة كيما ينظف بها الباطن الخفي. وقد سمَّاها "خلع" لقوة المشابهة بين ظاهر ما يُلبس من الثياب وباطن ما يستقر في أعماق القلوب؛ فالمعرفة والمحبة والتوحيد والإيمان والإسلام خلع الباطن التي يتطهر الباطن بمقتضاها فيحظى القلب بمدد الله في كل نَفَسِ؛ فكما تتطهر الثياب التي هي عمارة مطارح الشهود الحسي ـ وينبغي لها ـ  فكذلك القلوب أولى بالتطهر وأجب لها؛ لأنها عمارة مطارح الشهود الروحي (الإلهي).

نأتي إلى كتاب "تاج العروس"؛ لنرى أسلوب الكاتب فيه يتميز بمزية الرشاقة التي لا تقترب من الخفة الطائشة ولكنها رشاقة الفهم عن الله تستوحيه في دلالة العبارة؛ إذْ العبارة فيه ربما كانت ـ مع من يقرأها قراءة سطحية ـ موجهة إلى عامة الناس، لكنها مع ذلك لا تخلو ـ مع التعمق ومعاودة النظر وحرارة الانفعال ـ من النكت الصوفية واللمح الدالة على الطريق كون الشرع فيه يحتل المكانة العظمى من حيث تأسيس الحقيقة على الدراية التامة بالشريعة؛ ونظراً لأن ابن عطاء يريد أن يكون كلامه موجهاً إلى كل الناس فهو يمزج في هذا الكتاب بين خصوصية التصوف وعمومية الشريعة في أدب راق وعبارة ذوقية صادرة عن غزارة المعنى وفيض الوجدان؛ وليس هذا بالشيء القليل.

أسلوب الكتاب "تاج العروس" أسلوب أدبي رائق جذاب وصافي ومؤثر، يجذب القلوب إلى روضة العرفان جذباً، ويُعرف بطريقته المؤثرة كما عُرف عن طريقة ابن عطاء الله في الكتابة: امتزاج المقولة بالوعي الروحي والتجربة المعاشة، وفيضان "الحالة" فيضاً بإزاء الخطاب كونه تحقيقاً لا مجرد كلام يلفظه اللسان من خارج فلا يمس القلوب.

تنطلق الكلمة من فورها إلى القلب بالمباشرة؛ لأنها خارجة عن القلب مباشرة؛ لتستقر فاعلة بين شغافه جامعة لطواياه، وتهدف إلى العمل قصداً وتنزع إلى التسليك رويداً رويداً بمؤثرية الحق في كل حال، واستجابة الروح وتغذيتها بغذاء الأنوار.

وفحوى هذا الكتاب يرتكز على النصيحة الكبيرة والموعظة الصافية الجليلة كما سمعها المؤلف من أستاذه أبي العباس المرسي يقول: " والله .. ما رأيت العز إلاّ في رفع الهمّة عن الخلق"؛ وفي الطبقات الكبرى للشعراني قول المرسي:" ولقد رأيت يوماً كلباً ومعي شيء من الخبر فوضعته بين يديه فلم يلتفت له، فقربته من فيه، فلم يلتفت إليه، فإذا علىَّ يُقال: أف لمن يكون الكلب أزهد منه !".

أذكر هنا ـ رحمك الله ـ قوله تعالى:"وَلِلَّهِ الْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَلَكِنَّ الْمُنَافِقِينَ لَا يَعْلَمُونَ" (سورة المنافقون: جزء من آية 8). فمن العز الذي أعز الله به المؤمن، رفع همته إلى مولاه وثقته به دون سواه؛ واستح من الله بعد أن يكون كساكَ حُلة الإيمان، وَزَيَّنك بزينة العرفان، أن تستولي عليك الغفلة والنسيان حتى تميل إلى الأكوان، أو تطلب من غيره وجود الإحسان. وقبيح بالمؤمن أن ينزل حاجته بغير مولاه، مع علمه بوحدانيته وانفراده بربوبيته".

إنه ليقين بالله فوق ما تتصوره العقول المحدودة؛ يقين قاطع كما لو كان يُحَس ويشاهد في المنظور المحسوس يرجع الفضل فيه إلى إسقاط التدبير: جوهر العبودية.

فمن يتحقق بالعبودية ـ كما يهدف الكتاب ـ يرى أن المدبر على الحقيقة هو الله، وأن الخلق إلى جانبه كالهباء في الهواء إنْ فتشتهم لم تجدهم شيئاً، فيما يقول أبو الحسن الشاذلي، وأن العزة لله ولرسوله وللمؤمنين، وأن الذين يدبرون فيجعلون من عقولهم آلهة يعبدونها لتحاكم بمقرراتها ومقولاتها مقررات الله وكلامه هم المنافقون الذين لا يعلمون.

على هذا المجرى يجري ابن عطاء الله في تاج العروس، مجرى العظة والنصيحة بالتقريع أحياناً واستثارة الهمة للاستزادة في التعلق بالله وحده لا التشبث بشيء سواه؛ فالعارف لا دنيا له ولا آخرة؛ لأن دنياه لآخرته، وآخرته لربه، ثم ينتهي الكتاب بمناجاة الحق سبحانه لعبده على لسان هواتف الحقائق في شأن التدبير والرزق، وهى الفكرة التي يقوم عليها في المطلق مذهب ابن عطاء الله السكندري، بل مذهب المدرسة الشاذلية على التعميم، أعني إسقاط التدبير مع الله تعالى.

فمثلاً يعمد في فصل من فصول الكتاب إلى ذكر بعض من هذه المناجاة قاصداً إسقاط التدبير حيث يقول: "أيُّها العبد: من كان لك بتدبيره قبل الإيجاد فلا تشاركه في المراد. ومن عَوَّدّك حسن النظر منه إليك فلا تقابله بالعناد. عودتك حسن النظر مني لك، فعِّودني إسقاط التدبير منك معي. أشكاً بعد وجود التجربة، وحيرة بعد وجود البيان، وضلالاً بعد وضوح الهُدى؟ وقد سلمت لي قيامي بمملكتي، وأنت مملكتي، فلا تنازع ربوبيتي، ولا تضادد بتدبيرك مع أُلوهيتي. متى أحوجتك إليك حتى تحتال عليك؟! متى وكلت شيئاً من مملكتي لغيري حتى أكل ذلك إليك، متى خاب من كنت له مدبراً، ومتى خَذَل من كنت له ناصراً؟!".

هكذا يجري حديث ابن عطاء في "تاج العروس"، أدباً مع الله يحوي تهذيب النفوس أو الدفع إلى تهذيبها ببلاغة الأداء وجمال العبارة حتى وإنْ يكن يغلب عليه طابع التقريع الوعظي والاستثارة الشعورية ونبرة الخطابة المؤثرة على وجدان العوام؛ غير أنه من جانب آخر يهدف من وراء هذه اللغة الشاعرة إلى تدعيم فكرته الأساسية: إسقاط التدبير مع الله؛ إذْ المدبر في تلك المملكة هو صاحبها، هو الله, ولا شيء غيره؛ فمضادة تدبيره بتدبير العقول المحدودة شك بعد وجود التجربة وحيرة كما قال بعد وجود البيان.

أما العقل البشري؛ فغايته أن يتدبَّر مثل هذا التدبير الإلهي: عقل العارف في الدنيا مرهون بآخرته؛ لأن آخرته كما قال لربه، كما كانت دنيا لآخرته لا لأجل الدنيا.

إذا قيل ـ من هذه الجهة ـ إن الصوفية فقدوا عقولهم وصاروا مجانين، كان هذا القول صحيحاً؛ فالتشابه كبير جداً بين أن تستغرق في الله وبين أن تفقد عقلك، ولأن عقولهم لا تدبر من أمر الدنيا شيئاً؛ بل تدبر أن تعقل تدبير الله لمملكته، والعارف شيء من مملكة الله فليس عليه أن يُشرك الله تدبيره لشأن مملكته.

مثل هذا التفويض الكلي الكامل التام الشامل لا يدع عقلاً يدبر أمر الدنيا ولا حتى أمر الآخرة؛ إذْ العارف لا دنيا له ولا آخرة؛ لأن دنياه لآخرته وآخرته لربه. أما الذين حفظ الله لهم العقول فردُّوا إلى بساط الشريعة، فهم "عقلاء المجانين"، كما كان ابن تيمِّية (ت 728هـ) يسميهم.

وفي فصل مناجاة الحق تعالى لعبده، يطلعنا ابن عطاء الله على تركيزه المباشر في لفتات عجيبة تتضمن تلك الفكرة التي تجوهر كتاباته كلها، وتعطي في مثل هذا التجوهر وعياً روحياً خاصاً بذائقة العارفين، بمقدار ما هو خاص كذلك بمعاناتهم وممارساتهم لتلك المعاناة؛ فما من كتاب إلاّ ويطرق عليها فيه الطرق المباشر أو غير المباشر بما تقتضيه المناسبة؛ فإسقاط التدبير ليس فكرة نظرية ولا مذهباً فلسفياً ولكنه استشعار حضوري يتناسب مع تطلعات الصوفي في الوقوف على كيفية الفهم عن الله مباشرة، والتسليم له في كل حال، والدخول إلى رحابه بذلة وخضوع وانكسار. " أيها العبد: الق سمعك وأنت شهيد، يأتك مني المزيد، وأصغ بسمعك فأنا لست عنك ببعيد, كنت بتدبيري لك قبل أن تكون لنفسك، فكن لنفسك بأن لا تكون لها, وتوليت رعايتها قبل ظهورك وأنا الآن على الرعاية لها .. أنا المنفرد بالخلق والتصوير، وأنا المنفرد بالحكم والتدبير، (كما) لم تشاركني في خلقي وتصويري، فلا تشاركني في حكمتي وحكمي وتدبيري .. أنا المدبر لمُلكي وليس لي فيه ظهير، وأنا المنفرد بحكمتي فلا احتاج إلى وزير".

هذه العبارات لم تكن تصويراً فنياً يكتفي بالدلالة الخارجة فوق سطح اللفظ، ولكنها عبارات دالة على فكرة إسقاط التدبير من أول وهلة فتصحيح التوحيد نفسه يقتضيها. ويَهُمُّنَا أن نُجلي الفكرة التي من أجلها وقفنا وقفات طويلة عند هذا الكتاب: "تاج العروس الحاوي لتهذيب النفوس"؛ أو غيره من المصنفات لابن عطاء، وهى هى الفكرة التي تبين غرضنا من عرض هذه الكتابات العطائية اطلاع القارئ أن "فكرة إسقاط التدبير"، لب تصوفه؛ لأنها هى مذهب المدرسة الشاذلية في التصوف وأساس قيام التصوف العملي في هذه المدرسة، أو إنْ شئت قلت: هى الدعامة الحقيقية لتصوف ينشرح معه القلب ويصفو فيه خاطر المجاهدين؛ هى الدعامة الروحية للذوق عند الصوفية؛ فليس بغريب أن يُسلط عليها نوابههم كل الأضواء: إسقاط التدبير مع الله وانفراد الله وحده بكل تدبير؛ ففي هذه المناجاة يأتي الافتقار إلى الله والتفويض له في مطلع المهمات التي ينبغي أن تغرس في ضمير المطلع على هذه الكتابات فلا يند عنها شيء مما يقوله كاتبها أو يستوحيه قارئ عابر في مصنفاته.

ومن هنا كان تقدير ابن عطاء الله في المدرسة الشاذلية، إنه جنّد كتبه كلها لخدمة الفكرة الأساسية التي تقوم عليها تصوف السادة الشاذلية كما عرفنا فيما تقدَّم، وكما سنعرف لاحقاً من عرضنا لأساس طريقتهم: هدفها ومبناها.

غير أننا لئن كنا نَعْمد إلى جلاء الفكرة (إسقاط التدبير) في مؤلفات ابن عطاء الله العلمية؛ لنأتي على مقطع أخير من هذا الكتاب يُعزز ما سبق أن ذكرناه من مناجاة التقريب؛ فلأننا واجدون هذه الفكرة تتوزع في مؤلفاته بحيث يمكن الحكم بالجزم على إنها هى التي كانت مسيطرة عليه كليةً، يستغرق فيها إلى ما لا نهاية، ولهذا تفسيره لدينا بكل تأكيد؛ إذْ العبودية وإسقاط التدبير وجهان لعملة واحدة؛ فمن قال بأدب العبودية يلزم عنه أن يقول بإسقاط التدبير. ومن نفي العبودية وأشرك الله في عبادته، قَدَّس غيره وعَبَدَ سواه ـ سواء شعر بذلك أم لم يشعر ـ يلزم أن ينفي إسقاط التدبير.

ويترتب على نفي إسقاط التدبير نفي العبودية ـ أدباً وممارسة ـ  ثم الاستغراق في هوى النفس أو تقديس العقل والمبالغة عمداً في العيّ الروحي الذي لا يسيغه إلا البلهاء من طلاب الدُّون في عالم الشهوات. تلك هى القاعدة التي يتأسس عليها تفسير هذا المذهب عندنا ويلزم عنها تفاصيل وجزيئات سنلاقيها مع التقدم كلما قطعاً شوطاً في فهم هذا الكتاب .. إنّ الله ليناجي العبد كيما يكون العبد في مُراد الله على الدوام، لن يختار إلا ما أختار الله له، يخرج عن اختياره وتدبيره إلى اختيار الله، ويُسلِّم له أمر اختياره كما سلم له أمر وجوده؛ فهو المدبر وهو الوكيل، وهو الكافي، وهو الكفيل، وهو الوهَّاب المعطاء، حتى إذا ما انشغل المرء بأمر نفسه لم يكن إذْ ذَاَكَ إلاّ ذليلاً صغيراً، يريد الله أن يرفعه ويرقيه ويعلى من شأنه في ساحات التفويض، ويريد هو أن ينحط ويتقزم ويصغر ويُستحقر ويتواضع !

لنستمع بإذن صاغية إلى كلمات ابن عطاء وهو يصوّر هذا المعنى:

" أيها العبد: نريد منك أن تريدنا، ولا تريد معنا. ونريد منك أن تختارنا ولا تختار معنا. ونرضى لك أن ترضانا ولا ترضى سوانا، وكما سلمت لي تدبيري في أرضي وسمائي، وانفرادي فيهما بحكمي وقضائي، سَلم وجودك لي فإنك لي، ولا تدبِّر معي فإنك معي، واتخذني وكيلاً وثق بي كفيلاً، أعطك عطاءً جزيلاً وأهبك فخراً جليلاً.

ويحك ..! إنّا أجللنا قدرك أن نشغلك بأمر نفسك، فلا تصغر قدرك .. يا من رفعناه .. يا من أعززناه .. ويحك ..!! أنت عندنا أجلّ من أن نشغلك بغيرنا .. لحضرتي خلقتك، وإليها خطبتك، وبجواذب عنايتي إليها جذبتك.

فإن اشتغلت بنفسك حَجَبَتْك ..

وإن اتبعك هواها طَرَدَتْك ..

وإن خرجت عنها قَرَّبَتْك ..

وإن تَوَدَّدت إليَّ بإعراضك عمَّا سواي أحببتك ..".

في هذا النصّ تعبيرٌ دقيقٌ عن فكرة العبودية، الوجه الآخر لإسقاط التدبير، فيه من الإشراق والنور ما ليس تراه في غيره إلا على الندور؛ لكأنما جاء إسقاط التدبير إنشاءاً لمعنى عظيم  يتبطن العبودية، وليس هو بالإنشاء الفارغ من دلالة المعنى؛ لأنه لو كان بغير ذي معنى لما أستحق عناء البحث فيه، ولما أصاب من القلوب سويدائها؛ فأطربها، وأزاح عنها غشاوتها فَرَقَّتْ لمثل هاته الكلمات الحانية وخفقت، مثلما يخفق ـ لأول مرة ـ قلب العاشق لمطالعة وجه حبيب؛ فالعبودية على هذا طريقها التسليم والتفويض، والتجربة تؤكد أن الفرح كله في تدبير الله لنا برضاه والشقاء كله في تدبيرنا فيما لو لم نكن نحسن عبوديته ونترقب عليها مواطنها ومظانها، وأن العبودية الحقة في هذا التسليم وفي هذا التفويض.

كما تظهر في النصّ غيرة الله على عبده من حيث هو مخلوق أراده الله، ولكنه إذْ يريده، لا يريده صغيراً ذليلاً خسيس الهمة بل يريده عزيزاً شريفاً مجذوباً لجواذب العناية. وحين خَصَّه لعبادته، ولم يرده لغيره ولا لعبادة سواه؛ فالحق أغير على عبده من أن يكون مصروفاً لسواه عبادةً أو عملاً أو فكراً أو تصرفاً؛ فما كان لله، فالله أولى به، وأغير عليه. وما كان لغير الله؛ فلا يؤبَه له أو به، ولا يلتفت بالمطلق إليه.

النصُّ الذي بين أيدينا يذكرنا بما كان أبو حيان التوحيدي؛ الفيلسوف الأديب المعبر عن ثقافة النصف الثاني من القرن الرابع الهجري يرمي إليه في الإشارات الإلهية؛ وهو "المناغاة"، كما يطلق عليها التوحيدي. "المناغاة" بتعبير التوحيدي، هى "المناجاة" بتعبير ابن عطاء الله، لكن الأولى، فيها نظر مجرَّد. والثانية فيها تجريب مُحققَّ. والظاهر أن الأولى موجهة من الحق إلى العبد. والثانية من العبد إلى الحق، الحق يناغي العارف في حالات الصفاء كما تناغي الأم وليدها في حجرها، غير أن العبد يناجي الحق على ديدن الحاجة الدائمة الافتقار الذليل وهما لب لباب العبودية. المناجاة عبودية والمناغاة دلال.

ثم إنَ المناجاة تعبيرٌ ديني يخضع للتجربة ويصدق عليها، والمناغاة قد تحوطها الفكرة والنظرية ولا تعمل فيها التجربة ولا تستولي عليها؛ كما انسكبت من قلم التوحيدي على أقل تقدير. ولسوف نعود إلى المقارنة تباعاً بين ابن عطاء الله في هذه المناجاة وبين التوحيدي، لكننا هنا نثبت نصّ التوحيدي في الإمتاع والمؤانسة القائل: "إن الحق يُناغي العارف في رؤياه، للصفاء الذي يكون عليه في تلك الأحوال، فيزُّود منها ما تصيرُ به اليقظة مضاعفة، فهناك يرى العارف الغيب شهادة، والمستُور مكشوفاً، والمظنون مستيقناً".

النظرية هنا في هذه الأقوال واضحة بحيث يمكن ربطها مع كثير غيره ممن عرفوا بالتنظير الصوفي؛ فالتشابه واضح بين هذه التعبيرات وآراء ابن سينا العِرْفَانِيِّة:" العرفانُ مبتدئ من: تفريق ونفض، وترك ورفض، ممعن في جمع، هو جمع صفات الحق، للذات المريدة بالصدق، مُنتهٍ إلى الواحد، ثم وقوف ".

المناجاة للعابد والمناغاة للعارف.

وبعدٌ؛ فلا نريد التوسُّع في مثل هذه المقارنات التي قد تخرجنا عن موضوعنا؛ فقط أردنا لفت النظر إلى تشابه "مناجاة" ابن عطاء مع "مناغاة" التوحيدي، وإنْ اختلفت الرؤية باختلاف بواعث التفكير؛ مع أنهما رافدان معينان على "إثارة المعنى المدفون، وإنارة المراد المخزون"؛ كما يقول التوحيدي في موضوع آخر.

(وللحديث بقية)

 

بقلم: د. مجدي إبراهيم

 

 

في المثقف اليوم

في نصوص اليوم