صحيفة المثقف

بسّام البزّاز: أسلوب المنهج / أليخو كارپنييه.. من روايات الدكتاتور

صدرت عن دار "سرد" ترجمة رواية الكوبي أليخو كاربنتييه" "أسلوب المنهج".

تظهر هذه الرواية، في الإشارات العربية القليلة التي كتبت عنها، تحت عنوان «أسباب الدولة». ولا شكّ أنّها ترجمة حرفيّة للعنوان الذي وضعه فرانسيس پارتردج Frances Partridge لترجمته الإنكليزيّة: Reasons of State

فكّرتُ، وأنا أطالع بعض ما كتب حول الرواية ومحتواها، أن أعنونها «مصلحة الدولة العليا»، جريا على عباراتٍ درجنا على سماعها من قبيل «مقتضيات المصلحة العامة» و«متطلبات الأمن القومي»...ثمّ ما لبث رأيي أن استقرّ على «أسلوب المنهج»، وهو ترجمة حرفيّة للعنوان الأصليRecurso del método ، ثمّ لأنّ هذه الترجمة تلبّي ما أراده المؤلف من تناظر وتواز بين عنوان روايته وعنوان كتاب الفيلسوف الفرنسي ديكارت «خطاب المنهج» Discours de la méthode الذي منه استلهم روحها:

Discours de la méthode

Recurso del método

وما أبعد ما "خطط" ديكارت عمّا "اختطّ" الدكتاتور.

في ثنايا الرواية يشير الدكتاتور إلى مفهومه عن "المنهج" بعد قضائه على محاولة انقلابيّة قام بها أحد جنرالاته:

«إنّ عليه مطاردة الجنرال هوڤمان في تلك المسالك، محاصرته، تطويقه، عزله ثمّ وضعه على جدار دير أو كنيسة أو مقبرة وقتله. «أطلقوا النار!». ما من سبيل آخر. إنّها قواعد اللعبة. إنّه أسلوب المنهج».

  صحيح أنّ كارپنتييه يقدّم لكلّ واحد من فصول روايته بفقرة مأخوذة من أدبيات ديكارت، تلخّص فحوى ذلك الفصل، لكنّ الفرق بين فقرة ديكارت الموجزة والحدث الذي تلخصه هو أنّ الفيلسوف يضع القاعدة ويداه في الماء البارد، بينما يظهر تطبيقها ساخنا ملتهبا مسوّما بالحديد والدم والنار. فهو الواقع. والتطبيق. والتبرير. والحجة. واقعُ الفرد وتطبيقُ الواحد وتبريرُ الأفق الضيّق وحجّة الرأس المربّع.

وهكذا تسير الرواية، بين "خطاب" ديكارتي و "أسلوب" دكتاتوري.

بين منهجmethod  وريجيمregime .

بين علميّة methodology وتجريبيّة empiricism

لترينا في النهاية عواقبَ التجريب والتطبيق:

«توقّفوا وتأمّلوا هذه الفوضى»

فـ «المنهج» في هذه الرواية هو «الدولة». «الدولة» بمعنى الـ System أو الـ Regime، الدولة التي لها «أسلوب»، هو، في الواقع، «منهج» ثابت مضطرد.

ولأنّ الدكتاتورية واحدة في كلّ مكان، لم يضع كارپنتييه لدولتها مكانا على الخريطة ولا لعُهدتها زمانا على الروزنامة. مكانٌ عام ورمزي: أمريكا اللاتينية. وزمان نخمّنه تخمينا ونستنتجه استنتاجا. أمّا اسم الدولة المزعومة فهو "الجمهورية" مرّة و"البلد" مرّة أخرى و"هنا" مرّة ثالثة. أمّا اسم الدكتاتور فهو منصبه: المستشار الأوّل. حيّ الله دكتاتور:

«تماثيل حضرتك ستستقر في أعماق البحر؛ سيصبغها الملح بالخضرة، وسيحيط بها المرجان، وتغطيها الرمال. وسيعثر عليها، في العام 2500 أو 3000 رفشُ كاسحة، ليعيدها إلى دائرة الضوء. وسيتساءل الناس وقتها: ومن كان ذلك الرجل؟". وقد لا يجدوا من يردّ على سؤالهم. هذا ما حث للمنحوتات الرومانية الكثيرة التي تشاهدها في المتاحف: لا يُعرف عنّها إلا أنّها لمجالد أو خطيب أو قائد. أمّا الأسماء فقد ضاعت. أمّا في حالة حضرتك فسيقولون: "تمثال نصفي. تمثال  دكتاتور. وما أكثر من مرّ منهم على نصف الكرة الجنوبي هذا، وما أكثر من سيمرّ، حتى لا تعود الأسماء تهمّ في شيء»

فالقصة خيالية لكنّها محتملة الوقوع.

والحكاية مصنوعة لكنّها ملء العين والواقع

لأنّ التاريخ القريب أرانا ما يشبهها تماما وقدّم لنا منها النموذج والمثال.

وهكذا هي القصّة: حقٌّ أو باطلٌ مصنوعٌ على غِرار حقّ.

يقول الدارسون إنّ شخصية المستشار هنا خليط من شخصيات فُلان الفُلاني في كوبا وعِلان العِلاني في المكسيك أو كولومبيا. لذلك فهي خيال مبنيٌ على واقع، ووهمٌ مبنيٌ على حقيقة.

يرسم كارپنتييه للمستشار صورة الدكتاتور "المثقّف" المتفرنس المتنوّر الذي يصادق أكاديميا وشاعرا وأديبا هناك، والذي يزور، حين يكون هناك، المتاحف ويحضر عروض الأوبرا ويزيّن قصره باللوحات. والذي يشيدّ هنا مبنى الكابتول على غرار ما ينهض منه في حواضر العالم وعواصمه.

ويرسمه خطيبا مفوّها ديماغوجيا سلاحه الكلام واسطوانته هي الحديث عن:

«حرية. إخلاص. استقلال. سيادة. كرامة وطنية. مبادئ مقدسة. حقوق مشروعة. وعي مجتمعي. ولاء لتقاليدنا. مهمّة تاريخيّة. مسؤولياتنا تجاه الوطن»

 لكنّه، على "ثقافته"، دكتاتورٌ فاسدٌ مفسدٌ يتلقى "الكومشنات" عن طريق سكرتيره، ويتغاضى عمّا يبتدعه المحيطون به من مشاريع وهمية يكسبون منها السّحت الحرام، وعمّا تعقده ابنته من صداقات، وما يبرمه ولده، سفيره في واشنطون، من صفقات.

أمّا وحشية الدكتاتور فتظهر في قمعه لأيّة معارضة وإخماده لأيّة ثورة، وإن كلّف القمعُ أرواحا وصوامعَ وكنائس وقديسين.

يفعل كلّ شيء للبقاء على كرسيه: يحوك المؤامرات ويرسم المسرحيات: انتخابات مزوّرة ومواقف مؤثرة وابتزاز ومساومات وشراء ذمم. لأنّه يعرف أنه من دون الكرسي لا يساوي شيئا:

«إن نزعتِ الصليبَ عنّي فماذا سيتبقى منّي؟ من سأكون؟»

  وكما ينتهي كلّ دكتاتور فقد انتهى هو مطرودا مطاردا بعد أن رفع عرّابوه وصانعوه أيديَهم عنه:

«الشيءُ الوحيد الذي يمكنني عمله هو أن أمنحك لجوءاً في قنصليتنا. هناك ستكون حضرتك في حماية رجالنا من المارينز. وقد حصلتُ على موافقة حكومتي»... «في تلك اللحظة أدركتُ بأني خُدعت: «وأنا الذي كنتُ دائما على علاقة جيدة بكم...وما أكثر ما قدمتُ لكم من خدمات!» ابتسم الآخر، من وراء نظاراته، وقال: «ومن دوننا...كيف كنتَ ستظلّ كلّ هذا الوقت في الحكم؟ أمّا الخدمات فسيقدمها لنا سواك...»  

ارحلْ

ارحلْ

مطرودا ثم لاجئا ثمّ ميتا في منفاه سائرا على آثار أمثاله:

إنّه لا يريد أن تكون نهايته كنهاية الطاغية روساس، الذي مات ميتة غامضة، منسيا – نسيته حتّى ابنته. ولا يريد أن يكون مثل پورفيريو دياث، زعيم المكسيك، الذي مات وهو حيّ، فكان يطوف بجثته، ببدلته وقفازيه وقبعته المهيبة، في جادات (البوا)، بين مشمّع أسود، كثياب الحداد تقريبا، في عربة تجرها خيول، تفصح طريقة سيرها عن خطوات موزونة بطيئة لمواكب جنائزيّة قادمة

لقد خانه جنرالاته وخانه سكرتيره وتخلّت عن دعمه القوة العظمى التي كانت تسنده.

خيانة من كلّ جهة وطرف.

حتّى أنتَ يا پروتس

حتّى أنتِ يا أوفيليا.

أوفيليا ابنته، التي طردته من بيته الباريسي، وودعته مع "شلّتها" بنشيد ساخر:

«إن لم يعجبك أصدقائي، فاحمل حقائبكَ واذهب إلى (الكريلون) أو إلى (الريتز). هناك لديهم غرف فاخرة. رووم سيرڤيس وأجواء ممتازة»

العجوز الأحمق ذاهب إلى الحرب

انظر إليه، انظر، انظر

العجوز الأحمق ذاهب إلى الحرب

ولن يعود!...

بل لقد انتظرت بفارغ الصبر أن يلفظ أنفاسه الأخيرة لتخفّ إلى كرنفال يعده أصدقاؤها.

أمّا وصيّته فقد نفّذتها "بالحرف"، حين لم تضع على قبره حفنة التراب، تراب الوطن الطاهر المقدس التي أمر بها، بل جاءت له بحفنة من ترابٍ أخذته من حديقة (لكسمبورغ) الباريسية.

***

لطالما قُرنت هذه الرواية بأخريين من تلك التي عُرفت بـ "روايات الدكتاتور": "خريف البطريارك" لغابرييل غارثيا ماركيث و "أنا الأعلى" لروا باستوس. فخلافا لروايات الدكتاتور الكلاسيكية – "فاكوندو" لسارمينتو و"باندريس الطاغية" لبايّه إنكلان و"السيد الرئيس" لأستورياس، فإنّ هذه الروايات، الأقرب عهدا من تلك، عالجت شخصيّة الدكتاتور من الداخل. تأملتْ نفسيّته وأصدرت عليه حكما ذاتيا لا موضوعيا.

أمّا اللغة التي كتبت بها الرواية فهي التي تعرف بالباروكيّة الأمريكية اللاتينيّةbarroquismo americano. لغة معقدة متكلفة مجددة مصطنعة تكثر من الوصف ومن الإشارات الثقافية والرموز المتصلة بشعوب وبلدان متحضرة ومتأخرة. إنّها لغة "التجديد والتغيير" التي تظهر حين ينوء الفنّ بفراغ لا تستطيع اللغة الكلاسيكية المعهودة ملأه.

***

أمّا أليخو كارپنتييه (1904-1980) فهو واحد من أبرز أدباء كوبا وكتّابها. ولد في لوزان بسويسرا لأبٍ فرنسي وأم من أصل روسي. في أحضان تلك الأسرة الأوربيّة نشأ، ومن ينابيع الثقافة الأوربية نهل. اهتمّ بالموسيقى وبالنحت. ودرس الهندسة المعمارية ثمّ الصحافة وعمل فيها وفي الإذاعة، ومنها انطلق إلى الكتابة الأدبيّة، بعد أن ترأس تحرير العديد من المجلات الأدبيّة. أقام في فنزويلا سنوات طويلة، وفي باريس سنوات أطول، فضلا عن زيارت تطول وتقصر إلى العديد من بلدان العالم. تأثّر بأفكار الشيوعية وهو في العشرينات من عمره وسجن بسبب تلك الميول والأفكار ونفی. عاد إلى كوبا من فنزويلا بعد انتصار الثورة في كوبا وتولّى مسؤوليّة دار النشر الوطنية الكوبية. ثمّ عين وزيرا مفوضا في السفارة الكوبية بباريس. سار إنتاجه الأدبي جنبا إلى جنب مع عمله الوظيفي، فأصدر رواية "مملكة هذا العالم" عام (1949) ورواية "الخطوات الضائعة" عام (1953) ومجموعة "حرب الزمن" القصصية عام (1958) ورواية "عصر التنوير" عام (1962). في عام 1974 صدرت له روايتان هما "كونشيرتو باروكو" و "أسلوب المنهج".

عرف كارپنتييه بلغته المنمّقة الصعبة التي تهتمّ بالصناعة اللفظية والوصف وتزخر بالإشارات الثقافية والفلكلوريّة والفنية. وصف بأنّه الكاتب اللاتيني الأكثر ولعا بالرسم والنحت. أمّا هو فقد وصف نفسه بأنّه "مزيج أوربيّ- أمريكي، عابرٌ للثقافات، ومفترقُ طريق لاتيني يشعّ بالصور نحو ضفتي الأطلسي بعفويّة وطلاقة".

 

 د. بسّام البزّاز

 

 

في المثقف اليوم

في نصوص اليوم