صحيفة المثقف

محمد العباسي: القضية الفلسطينية بين الحقيقة والآمال

محمد العباسيمنذ السبعينيات من القرن الماضي، وأنا في عمر المراهقة، في المدرسة، وجيلنا يعايش الأسى ومرارة الأحداث حول ما كانت تصلنا من الأخبار المرعبة ومدى معاناة أحبتنا في أرض المقدس.. ولم نزل حينها أيضاً نعايش ونحاول التأقلم مع تراكمات وقائع ومصائب تدور رحى أحداثها في وطننا العربي من أدناه لإلى أقصاه بسبب تداعيات ما بعد الحربين العالميتين الأولى والثانية (الممتدتين الأثر) ونتائج تنفيذ خطط التقسيم التي جعلت منا دويلات مشتتة وهشة في كافة المستعمرات السابقة التابعة للدول الغربية الباغية.. ورغم أننا من جيل كان يعبد (إن صح القول) قامة الرئيس "جمال عبدالناصر" وخطاباته العصماء رغم الهزائم المتتالية و التكالب الغربي ضد أكبر وأهم الدول العربية تارة بسبب تأميم قناة السويس، وتارات أخرى بسبب محاولاتنا الفاشلة في تحرير شبر من فلسطين المُغتصبة.

بل أن جل مصائبنا بدأت بعد الحرب العالمية الأولى وسيطرة بريطانيا وفرنسا وإيطاليا وغيرها من القوى الاستعمارية على الشام ومصر وليبيا والجزائر وغيرها من دول العالم العربي بعد دحض الدولة العثمانية وكأننا مجرد غنائم للحرب، بل وكأننا أوطان بلا مواطنين، وصحاري قاحلة غير مأهولة، فحكمونا وأحكموا علينا الخناق ونهبوا وعاثوا وارتكبوا المجازر بلا حسيب ولا رقيب.. ورغم أن بعض أصحاب النخوات قاوموا الاستعمار هنا وهناك، غير أن القوى الامبريالية بجبروتها وقوتها نجحت في دحض المقاومة في الجزائر وليبيا ومصر لفترات طويلة ودفعت تلك الأمم أثمانا غالية من دماء أبنائها قبل أن ترى بعض من بصيص النور والخلاص، ربما ليس قبل انتهاء ويلات الحرب العالمية الثانية التي امتدت رحاها من قلب أوروبا نحو المستعمرات العربية.

فالقول بأن العرب خذلوا القضية الفلسطينية بلا وضع حال العرب أنفسهم حينها في الميزان يُعتبر ظلماً مجحفاً.. فكيف لأمم ضعيفة ومتهالكة ولم تذق طعم الحريات المستحقة بعد، وبعد سنوات من الاستعمار الغاشم والصراع والانهزام والعناء أن يكون لها دوراً فاعلاً في التصدي للصهيونية المدعومة من بريطانيا وفرنسا ومن بعدهم القوة الأعظم المتمثلة في الولايات المتحدة، كيف لها أن تتحرك نحو فلسطين؟

ولا ننسى أن أغلب الدول العربية أصابتها ابتلاءات جديدة متمثلة في الثورات والانقلابات، التي قضت على رموز الزعماء والملوك السلاطين تحت شعارات الحرية والحياة الكريمة للوطن والمواطنين، لتجثم على صدورنا ولعقود ممتدة دكتاتوريات (عسكرية) ظالمة بقوة السلاح والقهر والنهب والمجازر والمعاقل وشتى صنوف العذاب.. مختصر الكلام هنا، أن الوطن العربي لم يهدأ ولم يرى الراحة في ظل حصولها على الاستقلال من تلك الدول الاستعمارية المتتالية التي تواكبت عليها، ولا من بعد الثورات التحريرية التي وضعنا عليها كل آمالنا

وفي خضم انتقالنا من ويلات إلى ويلات، ومن معارك موجهة نحو القوى المهيمنة علينا من خارج أوطننا، ثم نحو القوى المهيمنة علينا من أبناء جلدتنا، كانت فلسطين تدفع الثمن هناك دون أن تجد من ينجدها قبل استفحال الأوضاع.. وأي محاولة لنجدة فلسطين باتت أكثر تعقيداً مع التوغل الصهيوني المسنود وبكل معاني الكلمة من ذات الدول الاستعمارية العظمى، حيث باتت فلسطين هي ملاذهم الأخير "للانتقام" من تحرر الدول العربية الأخرى من جهة، ومنفذهم الأخير للتخلص من اليهود المكروهين أصلاً في دولهم وإبعادهم قدر المستطاع عن مفاصل الدول الأوروبية نحو أرض بعيدة!!

موقع الأمم المتحدة في شأن القضية الفلسطينية يلخص القضية في السطور التالية: "بعد النظر في بدائل أخرى، اقترحت الأمم المتحدة من خلال قرارها 181 (أ) لعام 1947 إلى إنهاء الانتداب البريطاني وتقسيم فلسطين إلى دولتين مستقلتين، واحدة عربية فلسطينية، والأخرى يهودية، مع تدويل القدس.  وقامت دولة واحدة بالإعلان عن استقلالها كدولة إسرائيل، وفي حربها عام 1948 مع الدول العربية المجاورة توسعت هذه الدولة لتشمل على 77 في المائة من أراضي فلسطين، بما في ذلك الجزء الأكبر من القدس. وكنتيجة لذلك، فر أكثر من نصف السكان العرب الفلسطينيين أو طردوا.  وسيطرت الأردن ومصر على بقية الأراضي التي حددها القرار 181 للدولة العربية.  وفي حرب 1967، احتلت إسرائيل هذه الأراضي التي ضمت (قطاع غزة والضفة الغربية) بما فيها القدس الشرقية، حيث ضمتها إسرائيل لاحقاً.  وقد أسفرت الحرب عن هجرة ثانية للفلسطينيين تقدر بحوالي نصف مليون شخص.  وقد وضع مجلس الأمن في قراره 242 مبادئ السلام العادل والدائم، بما في ذلك الانسحاب الإسرائيلي من الأراضي المحتلة في الصراع، والتوصل إلى تسوية عادلة لمشكلة اللاجئين، وإنهاء جميع الادعاءات أو حالات القتال.  وأعقبت الأعمال العدائية لعام 1973 قرار مجلس الأمن 338 الذي دعا فيه، في جملة أمور، إلى إجراء مفاوضات سلام بين الأطراف المعنية  . وفي عام 1974، أكدت الجمعية العامة من جديد على حقوق الشعب الفلسطيني غير القابلة للتصرف في تقرير المصير والاستقلال الوطني والسيادة والعودة.  وفي السنة التالية، أنشأت الجمعية العامة اللجنة المعنية بممارسة الشعب الفلسطيني لحقوقه غير القابلة للتصرف، ومنحت منظمة التحرير الفلسطينية مركز المراقب في الجمعية وفي مؤتمرات الأمم المتحدة".

والشاهد من الملخص الأممي أعلاه أن فلسطين ضاعت منا تحت مرأى ومسمع هيئة الأمم المتحدة التي خذلتنا بكل إجحاف وانتقصت من حقوق الشعب العربي الفلسطيني بكل مكوناته دون أدنى مواربة، بل بصمت معظم أعضائه من الدول المكونة لهذه الهيئة وبحكم تحكم الدول الخمسة المتمتعة بحق النقض (الفيتو) المشئوم في الوقوف بلا حياء ضد أصحاب الحق.  وقد نشرت في مقالات سابقة انتقادات لدور الأمم المتحدة وما يسمى حق النقض الذي يتحكم بشكل ظالم وغير ديمقراطي بحقوق الأمم الأخرى جمعاء كلما لم تتفق مع أهواء ورغبات وسياسات هذه الدول المتحكمة بمصائر العالم.. وطالبت ولا أزال أكرر المطالبة بأن تتفق دول العالم على نبذ هذا الوضع المخزي والمهين ورفض هيمنة بعض الدول على قرارات العالم كله، لكن لا حياة لمن ننادي!!

ومن عمق التشاؤم الذي بات واقعاً طالما لم نزل نعيش في خضم مآسينا المتتالية وطالما لم تنقطع في أوطاننا بلاوينا وويلاتنا وصراعاتنا وتشرذمنا، أن ختمت في مجموعتي الشعرية "مناجاة" في شأن القضية الفلسطينية ومصائبنا العربية بقصيدة عنونتها "وداعاً":

"وداعاً"

فلسطين

نقول "وداعاً"

فحقٌ علينا قولُ الوداعْ

 

تمنينا سنيناً أن تعودي إلينا

لكنه أمرٌ ليس بمستطاعْ

 

قد عقدنا الأماني

أقمنا الديار

زرعنا بيادر ورد وثمارْ

في الخيال

وأقمنا القلاعْ

 

فإذا بنا كأطفالٍ جياعْ

 

نبحثُ عن عونٍ

نبحثُ عن دفءٍ

عن يدٍ.. تمتد إلينا

قبل الضياع

***

د. محمد العباسي - أكاديمي بحريني

 

 

في المثقف اليوم

في نصوص اليوم