صحيفة المثقف

مجدي إبراهيم: كيف نعرف؟

مجدي ابراهيمسؤالٌ يطرحه الفيلسوف كما يطرحه كل معنىّ بكشف الحقائق المغيّبة المجهولة، ويقوم في دائرة البحث العلمي بمقدار ما يقوم في دائرة العقيدة والدين، ويُجاب عليه على مستوى العقل كما يجاب عليه على مستوى الضمائر والبصائر، ويتصل بالموضوع المعروف كما يتصل بالموضوع المجهول، وتحدّد وسائله بإزاء موضوعه؛ إذ يحكم الموضوع وسيلته ويسير في مقتضاها باحثاً ومنقباً؛ ليصل إلى بغيته بعد إحكام الوسيلة في إطار موضوعه المفروض، لكن مكمن الخطأ هو الخلط بين الوسائل بغير النظر إلى طبيعة الموضوع المبحوث.

كيف نعرف؟

أتبدأ معرفة الله من باطن النفس أم من خارجها؟ نفس السؤال عن الإيمان: أيكون عن قناعة باطنة جُوّانيّة أم يُفرض عليك من خارج؟ لمَ تتحقق معرفة الله لهم، ولا تتحقق لي مثلاً مع علمي بوسائل كان اتّخذها من تحققت لهم المعرفة، ولكنها حجبت عني؟

وإذا كان العلم وحده لا يكفي فلماذا تجيء الجهالة بالله فينا إلى هذا الحدّ مع إنّا نحُبُّه؟ وإنْ كنا مُقَصّرين في حقوقه غير إنّا على قدر الطاقة نرعاه؟ من أين حصّل الفقراء على تلك المعرفة؟ أبالمجهود المكتسب أم بالمواهب اللّدنيّة؟

ثم هل ييأس المرء من جهله بتلك المعرفة ووراؤها رُوح الله، والنقل يقرّر في النص المكنون إنه لا ييأس من روح الله إلاّ القوم الكافرون؟

ليس أقسى على المرء من أن يرى جهوده تذهب أدراج الرياح، وبخاصّة فيما لو كانت تلك الجهود عملاً دائماً لا يعوّل عليه من واقع عكر أسود، ومن أناسِ لا يقدّرون للعمل قيمة ولا قانوناً.

هنالك يكون العزاء كل العزاء في العُقبى، ولا يكون أبداً في هذه العاجلة الدّنيّة، والعزاء ليس ضعفاً ولا هو بالهروب من واقع كدِر، ولكنه أمل متجدّد مع الإيمان بالله، لو لم يكن مقياسُ الخلق من الآدمي مُقدّماً على كل مقياس سواه، فماذا عَسَاهَا ستكون عليه الحال؟

السؤال الفلسفي الأزلي هو نفسه السؤال الديني .. لماذا خُلقت؟ قد تخفق الفلسفة في الإجابة على هذا السؤال، في حين يجيبك الدين إجابة وافية تامة شافية كعادة الدين في الإجابة على أسئلة المجهول. لكن الفلسفة سرعان ما تقدّم لك تصورات ربما تقبلها على ديدن القناعة العقليّة لكنها لا تشفي لك غُلّة وجدانيّة. على مستوى النظر إنْ هى إلا محاولات مشكورة لرجال الفلسفة من الأسر الكريمة لكنها مع ذلك محاولات ناقصة؛ لأنها تخاطب جانباً واحداً في الإنسان هو الجانب العقلي، وتهمل سائر الجوانب التي تتطلع إليها بشغف أشواق النفس الإنسانيّة.

قُلْ لي بربّك: ما الذي قدّمته الفلسفة شافياً كافياً في مسائل المصير؟ لا شئ، سوى مجرّد محاولات باردة قائمة على تصورات أصحابها فيما يتصل بخلود النفس وجوهريتها وما شَابَه هذا وذاك ممّا تزداد بقراءته جدلاً ولا تزداد يقيناً.

وفي المقابل تجد الدين يقول لك في صراحة بالغة إنّ الغاية من الخَلْق الإنساني هى معرفة الله! هكذا بهذه البساطة وبهذا القطع الحازم في الإجابة على السؤال.

معرفة الله .. كيف هذا؟ أقول لك:

عندما قال الحق تعالى :"وما خَلَقْتُ الجنّ والإنس إلاّ ليعبدون"؛ إذْ ذَاَكَ قال ابن عباس أعرف الناس بتأويل القرآن، معناها : إلاّ ليعرفون.

وعليه؛ فغاية الخلق المعرفة، وقد يقرّر الفلاسفة مثل ما يقرّره لك الدين، ربما، لكن وسيلة هذه المعرفة بين الدين والفلسفة هى محل خلاف؛ لأنك ما دمت قلت (معرفة) فقد أخَذتَ من الإنسان أسمى جزء فيه، وعطفته على الله، فيصبح هذا الإنسان عارفاً، لكنه حين يكون عارفاً لا يكون عارفاً من تلقاء نفسه؛ بل عارفُ هو بالله.

أمّا في المجال الفلسفي؛ فإنَّ هذه المعرفة مقصورة على العقل الإنساني وحده، مستقلاً كل الاستقلال عن المصدر الذي يتلقى عنه الإنسان، وهو مصدر العرفان.

مصدرُ العرفان في حقل الفلسفة هو العقل الإنساني مجرّداً عن لواحقه الشعوريّة. ومصدر العرفان في الدين، وخصوصاً الأديان الكتابيّة، هو الله تعالى يُغذي طاقات العقل الإنساني بشتى المعارف وشتى العلوم كلما فتحت طاقة من طاقات المعرفة فتحت معها طاقة أخرى، وهكذا بغير انقطاع.

ومدد الفتح لا ينقطع إذا كان المصدر هو الحكيم العليم :"وإنك لتلقّى القرآن من لدن حكيم عليم".

الاستقلال الفكري العقلي في الفلسفة لا يجور، ولا ينبغي له أن يجور، على خصوصيّة الدين وطبيعته كونه يسمح بالانتقال بالإنسان من حياة إلى حياة ويوجّه توجهاته الدنيوية ناحية الآخرة، مستقره الأخير.

والاقتصارُ على مثل هذا الاستقلال وحده عائقٌ للعقل البشري لفهم ملكات أعلى منه وأمضى، مهما حاول العقليون أن يقيّدوا طاقاته العقليّة بقيود من حديد نحو ما يفهمون منه ونحو ما يدركون. ما لا أدركه أنا بعقلي المحدود قد تدركه أنت بعقلك المتسع المفتوح الذي يقبل (الإحالة) ويأخذ بمعطياتها كلما توقف وقفات تُشبه العجز فيما هو أمامه مطروحاً من مسائل الغيب أو مسائل المصير.

وليس معنى عجزي عن الإدراك عن مسائل بعينها، إنها غير موجودة بل عجزي هو الذي صوّر لي سلفاً إنها معدومة؛ فلو كنت من القادرين على إدراكها لأصبح وجودها أسبق عندي من تصور العدم. عجز العقل عن الإدراك ليس معناه العدم، ولكن معناه إنّ ما لا أدركه بعقلي المحدود قد يدركه بباصرته غيري ويقتدر عليه.

هذا هو الإنصاف المطلوب في كل حال.

إنْ أردت التي لا لوم فيها : فلتبحث معي عن ملكة التعلّق: فيما عَسَاكَ توجهها؟ أفي شغل دائم لا ينقطع بعلم الأسباب، أم في شغل العلم بالله؟

فلئن كانت الثانية، فقد صارت بعيدة بعيدة بعد أن كانت قريبة قريبة. ولئن كانت الحالة الأولى؛ فلقد أورثت صدأً على وجه القلب؛ فكانت مانعاً كثيفاً من تجلي الحق فيه؛ فانقطع.

الغريب في الأمر، إنّ قبول مجلى تجلي الحق أو عدمه يرجع إلى القلب؛ فلو كان على القلب صدأٌ لم يعد يقبل جهة الحق .. لماذا؟ لأنه ببساطة شديدة كان قبل جهات غيرها فاستغرقته بالكليّة، أي قبل الاشتغال بالأسباب؛ فاستغرقت طاقة النور القلبي لديه بكليّتها؛ فحُجِب.

والاشتغال بالأسباب صدأُ قلبي .. بالتعبير القرآني البديع هو (الكنّ، والقفل، والعمى، والرّان). فإن قلت: فما بالُ العقل؟ ألم يُعْرَف الحق بالعقل؟

أقول لك : مدارك العقل محدودة بحدود ما يدرك من الأمور على جهات أربعة : جهة الجوهر، وجهة الطبع، وجهة الحالة، وجهة الهيئة. ولا يدرك العقل شيئاً لا توجد فيه هذه الأشياء.

وهذه الأشياء لا توجد في الله تعالى، فلا يعلمه العقل أصلاً من حيث هو ناظر وباحث؛ لأن نظر العقل من حيث برهانه الذي يستند إليه هو الحسّ أو الضرورة أو التجربة الحسيّة. وكلمة الضرورة تعني من حيث ما يُعلم لدى العقل بالضرورة، وهذا لا يكون إلاّ لوقائع عينيّة مشهودة.

يقدح الدليل العقلي في العلم بالله، ويعجب المرء حين يرى الفلاسفة المسلمين يقدّمون أدلة عقليّة على وجود الله. ألم يقرأوا حديث رسول الله، صلوات الله عليه : إنّ القلوب لتصدأ كما يصدأ الحديد … وفيه: إنّ جلاءها ذكر الله وتلاوة القرآن. ثم هل خلت أنظار الفلاسفة من قلوب تعقل، في أنفسها، عن الله دليله؟

أيحتاج وجود الله إلى دليل غيره؟

أتحتاج معرفة الله إلى دليل سواه؟ كيف وهو الحق الواضح بذاته، وهو الحجة على كل شيء.

الله هو الذي يبرهن على الوجود ولا يصح أن نتخذ من الوجود برهاناً على الله تماماً كما نقول إن النور يبرهن على النهار، ونعكس الآية لو قلنا إن النهار يبرهن على النور.

والله يقول في حديث قدسي :" أنا من يُستدل بي، أنا لا يستدل عليّ".

شَغَلَ الفلاسفة أنفسهم، وشغلونا من بعدهم، بحُجب الأدلة العقلية، ولم يتحققوا قيد أنملة إنّ معرفة الحق مُتجلاّه على الدوام بغير انقطاع لا يُتصوّر في حقها حجاب عنّا، غير أنّ مجلاها القلب الصافي عن لوثات التكدير، الخالي من ظلمة حُجُب الأسباب. وعلى الله وحده، توفيقه ورعايته، يكون جلاء القلوب حين تصدأ من كزازة الدنيا ومعاطب الأسباب.

 

بقلم : د. مجدي إبراهيم

 

في المثقف اليوم

في نصوص اليوم