صحيفة المثقف

مجدي إبراهيم: نداءُ القلم

مجدي ابراهيمجميلٌ أن يكون لك قلمُ حر، تكتب ما تريد في الوقت الذي تريد، ولا عليك أبداً فيما يقال حولك أو فيما يُقالُ فيك؛ لأنك في تلك الساعة التي تضع فيها قلمك على الأوراق، تستجيب "لنداء القلم" فتؤدي الرسالة، صادقاً ومخلصاً ومؤمناً بما تفعل، ليست لك غاية فيما تريد أن تؤديه إلا ابتغاء وجه الله والوطن، من حيث إنك تؤدي ما عليك من أمانة الكلمة التي جعلك الله عليها شاهداً ولها مؤديّاً.

وجميلٌ كذلك أن تجد في نفسك رغبة عارمة في أن يكون كلك لله: لفظك وفعلك، وفكرك وقولك، وضميرك وعملك، تنأى بنفسك عن تُرَّهات الأنداد والقرناء: أنداد السوُء وقرناء المنافسة على الزائل في هذه الدنيا. جميلٌ أن تكون لك مثل هذه الطلاقة الروحانيّة في كشف "القيمة"، والدفاع عنها، والطرْق الدائم على فاعليتها، والإيمان بدوامها واستمرارها، رغم ما تراه أمامك من جحود ونكران، ومن تغيير يفرضه تطور وتحديث ليس لنا لمقاومته سبيل.

جميلٌ أن تقول ما يمليه عليك ضميرك، وتحتسب كل ما قلته أو تقوله لله، وفي سبيل الله، فإذا نجحت كنت بالله مُوفّقاً، وإذا أخفقت وفشلت كنت مع الله صابراً؛ لعلمك أن الله لا يضيع أجر المحسنين، ومن ورائك بذل المجهود، لا رقيب ولا حسيب عليك إلا ضميرك بين يدي الله. جميلٌ أن ترى الواغش البشري من أولئك المتطفلين المتسلطين ينتهزون الفرص فيصعدون على أكتاف الآخرين، ووسيلتهم التي لا يعرفون لهم وسيلة سواها هى التملق والزلفى والنفاق والتطبيل، إنما هى وسيلة يجيدونها ويصوِّبون سهامهم ضاربة إليها في الصميم, ثم تنأى بنفسك عن كل هذا، وأكثر من هذا؛ ليكون لك عصمة الرقابة الباطنة التي تعصمك من الغفلة عن النجاح بغير تعب، والصلاح بغير جهاد، والوصول بغير ضريبة مفروضة من بذل المجهود. جميلٌ منك أن تسعي وأن تطلب معالي الأمور بعزة النفس، ولا تذلُّ لمخلوق - كائناً من كان - ولا تطأطئ الرأس لإنسان مهما وُجِدتْ فيه جبروت الأناسي؛ لأنه صلوات ربي وسلامه عليه قال:"اطلبوا الأشياء بعز الأنفس؛ فإن الأمور تجري بالمقادير"؛ فهذا - يا صاح - جبروت الطغيان الخاوي من الامتلاء، هو فراغُ في هواء، لا مضمون فيه ولا مفهوم، خواءُ غير قابل للاحتواء!

جميلٌ منك أن تكون في كل ما تراه دالاً على الحياة الجادة الصادقة طالباً، ومجدَّاً فيما تطلب، رامياً إلى أن تصبر على أعمالك وأقوالك، وأن تتقي بصبرك أفاعيل العجزة المُفلسين. جميلٌ منك كل هذا، وأكثر من هذا؛ فمن نعماء الله علينا نحن البشر الضعفاء أنه قدَّر لنا في هذه الحياة ما يمكن أن نسير عليه ونسلكه، ولا نسلك غيره من طرائق سواه. ولولا أنه سبحانه رفق بنا وبصَّرنا بالحقائق التي يجب أن نكون عليها، ويجب أن نلازمها وتلازمنا، وبيَّن لنا ما هو حق وما هو باطل وألهم العقول أن تعتقد في مبادئ هى من جنس ما فرض ومن نوع ما أوجب، لكانت الإنسانية في كل زمن وفي كل عصر غاية في السقوط والحيرة والضلال، فريسة لطمع الأهواء وفتك الشهوات.

ألا .. فليرحم الله عبداً عَرَفَ قَدْرَ نَفْسَهُ. والله تعالى عَلَّم الإنسان كيف، وبما، يعرف قدر نفسه فيتعامل من ثمَّ مع الحياة والأحياء بمعرفة هذا "القدر" الكامن في أغوار النفس وأعماق الضمير. فنحن أحرارٌ بمعرفة ما وقر في ذوات نفوسنا، ونحن أحرار بمقدار ما يتسنَّى لنا قهر النفوس على "يقين" الإيمان بالله.

ومن هاهنا؛ تنشأ "الرسالة" في ضمير الكاتب: أن يكون حراً، وأن يكون قادراً على توظيف "الحرية" لنفسه قبل الآخرين توظيفاً أميناً يجعلنا نحن القارئين من بعده على اعتقاد لا شك فيه، بما يُدوِّن من مقبول الآراء، وبما يقول، وإنيِّ لأعني بالحرية هنا تلك "الطلاقة الروحانية" التي تتسع، ولا تنقبض، للقيام بتبعات الرسالة؛ تبعةً، تبعةً، لا ردَّةً فيها ولا نكوصاً، ولا خنوع فيها ولا استسلاماً للطوارئ والغيَر الخارجية.

للمنفلوطي - رحمهُ الله - عبارة قالها في "النظرات"، تصوِّر هذا المعنى أيَّما تصوير، وتسبح في فلكه، وتدعو لأن تجيء تبعة الكاتب مرهونة بما تقف عليه نفس الكاتب من حرية وتحرُّر عن العلائق والقواطع والأغيار .. فماذا قال ..؟

قال:" الكاتب كالمُصوِّر: كلاهما ناقل، وكلاهما حَاكٍ، إلا أن الأول ينقل مشاعر النفس إلى النفس. والثاني ينقل مشاعر الحس إلى الحس، وكما أن ميزان الفضل في التصوير أن تكون الصورة والأصل كالشيء الواحد، كذلك ميزان الفضل في الكتابة أن يكون المكتوب في الطِّرْس خَيَالَ المكنون في النفس .. " (أ . هـ).

فعلى سِنِّ اليراع تجيء مكنونات النفس "قيماً علوية" في طريق التغيير؛ لتكون إصلاحاً لبني الإنسان. مصدر هذا القيم مما لاشك فيه هو "الوعي" : الوعي المأخوذ من فاعلية التجربة الحيويّة مع الأشياء والأحداث والعلاقات، ومن قبل ذلك "الوعي" المأخوذ من فاعلية التجربة الروحيّة مع الله - سبحانه وتعالى - فتجاربنا مع الله أوفر، وأكمل، وأصدق، وأدعى لأن تجيء أقلامنا مستقيمة بغير انحراف أو اعوجاج على طريق الصواب؛ ففي كل إنسان جزءُ من هذا الوعي، وله أن يطمره وله أن يظهره، فلئن كان هو وعياً خاصَّاً في جوهره تحكمه فاعلية التجربة مع الله؛ فهو مع ذلك ليس مقطوع الصلة بالإدراك الإنساني العام، تماماً كما لا نستطيع قطع الصلة بين الإنسان ومداركه العقليّة.

الوعي كالعقل: قاسمٌ مشتركٌ لا يخلو منه حظ الإنسان؛ فإذا كان العقل قاسماً مشتركاً بين جميع الناس؛ فأحرى بالوعي أن يكون على هذا الوصف. وعليه؛ فأحرى بالكاتب الذي يخاطب جمهور القراء أن يكون موصوفاً بهذا الوعي قبل أن يكتب بقلمه حرفاً واحداً. للكلمات مباني تؤدي إلى معاني، وللمعاني مستويات، هذه المستويات قوة مضمرة باطنة لا يكشفها إلا قلم التحليل توفيقاً من عند الله، سواء كانت هذه الكلمات ممَّا يجري فيه القول في مجال الفكر والحياة أو في مجال العقيدة والدين.

حقاً..! إنّ الإنسان في جميع الأحوال مُوَزَّع القوى بين مطالب الأرض ومطالب السماء، لا لشيء إلا لأنه إنسان؛ فليس هو بالروح الخالص ليكون إلى مطالب السماء وحدها منصرفاً، ولا هو بالحيوان ليكون إلى مطالب الأرض وحدها محققاً، ولكنه إنسان، وإنسانيته تقضي إلا يكون مُسْرفاً في الجانب الذي يهبط به إلى طريق لا يرى فيه مقدار هاته الإنسانية على الصفة المثلى فكان بها إنساناً على الحقيقة لا على شيء آخر سواها.

فما من شريف هو شريف إلا أستحق من الشرف مكاناً يليق بالكرامة الآدمية الدائمة وهو بعيد عن مطالب الإنسانية "الخاصَّة" في كونه ذا طاقة روحية تُفْرز القيم الأخلاقية مع إفراز سائر القيم الوجودية السائدة على وجه الزمان كمالاً أو ما يقرب من الكمال، يحتذي الأمثلة العليا التي لا تتقيد بقيود الزمان والمكان، ولا تعرف النسبي المتغير، ولا المصلحة الشخصية أو المنفعة الخاصة.

وإنما الخصوصية المُرَادَة هنا هى تلك الخصوصية التي نطلقها على الإنسان من حيث هو إنسان وكفى، يشاركه في الإنسانية جميعُ الأناسيِّ الذين هم على شاكلته في الجوهر الطيب والمضمون الصالح والخلق الكريم. إنّ طلاقة القيم التي تجعل من الإنسان إنساناً لمرهونة بذلك الأمد الذي يُعَلق عليه الوجود الروحي في الطبيعة الآدمية، ويستقيم بمقتضاه؛ فلا خلاف - من ثمَّ - بين إنسان وإنسان مادامت في الإنسانية كلها مثل هذه السجايا التي تسعي دوماً إلى الكمال.

وعليه؛ فلا يمكن أن تكون قيم العدل والحق والسلام والمساواة والإخاء والتعاون والمحبة سائدة، عاملة، فعالة، في المجتمعات والشعوب بغير أن نَفْقَهَ مثل ذلك "الوجود الروحاني" الذي يولدها؛ فتنبثق منه بالضرورة، وتتفجَّر ينابيعها الكبرى عنه بمقدار استطاعتنا نحن على التوليد والتفجير والانبثاق، أو بمقدار استطاعتنا على أن نغترف من هذا الخضَم الواسع الكبير ما نشاؤه.

فإذا عُدْنا على ما بدأناه؛ قلنا إن أقلامنا ينبغي أن تقاس بمدى مداركها لهذه الزاوية النورانية وإلا جاءت أقلاماً لا تكتب ولا تدري ماذا تكتب، لكأنما تحجَّر المداد في أجوافها، فلا تريد أن تكتب. وهل تكتب الأقلام على الحقيقة حقاً إلا بمدد من قوة الروح والمعرفة مطواع سيَّال؟ لكن الله - جلَّت قدرة الله فيما قدَّر- لم يشأ أن يجعل لنا أقلاماً مدادها سيَّال وأفكارها غَضَّة لينة مطواعة تجرى مع المداد بمقدار ما يجرى المدادُ صدقاً بين أيدي الكاتبين!

لا مناصَّ للقلم الذي يريد أن يفعل شيئاً في هذه الدنيا إلا أن يجيء كل ما يخطه من كلمات وعياً مصقولاً من أعلى، هو من جوفه هو لا من أجواف آخرين.

أقول؛ لا مناصَّ للقلم الذي يريد أن يفعل شيئاَ ذا إرادة إلا أن يثق بذاته، وبوعيه، وبالمصدر الذي استمد منه هذا الوعي مثل هذه الثقة العصماء، وأن يكون رقيباً على نفسه مثل هذه الرقابة الرشيدة، واللحوحة، في توخِّي الرشد والهداية والتميُّز بحيث يجيءُ الأمر فيها موكولاً على اليقظة الدائمة والتنبـُّه الموصول. كيف؟!

فَرِّغ نفسك من عوائق السِّوَي، وحاذر مجانبة الأغيار، وتوجه إلى الله بالكلية، وتأمل من بعدُ قوله تعالى:"إن الذين اتقوا إذا مسَّهم طائفٌ من الشيطان تذكروا فإذا هم مُبْصِرون"؛ فماذا أنت واجد؟ تجد هاهنا مصدر الوعي الملهم. وهاهنا مركز اليقظة الدائمة وموطن التنبـُّه الموصول. ها هنا بحق "عبقرية التدين الرشيد" ومنبعها؛ لكأنما الجانب الغامض (= الباطن) في الإنسان هو موطن العبقرية فيه، لكن بأي معنى من المعاني يحتمله هذا "الغموض"؟ لا شك إننا هنا لا نعني عدم الوضوح، ولا نعني قلة الإدراك للأشياء، ولا نعني غياب الحقائق والمفاهيم؛ فكل هذا وغيره يعني لدينا الغموض الذي يقود الإنسان إلى الخلط والاضطراب، وأباطيل الخَطْل الغارق في الجهالة العمياء.

إننا نعني بالجانب الغامض هو كل ما هو "باطن" في الإنسان، مستتر غير ظاهر، خفيُّ غائر في الأعماق التي لا تُرى، ثم - إنه من بعد ذلك - مشروط بشروطه التي تتولاه وترعاه وترقبه في كل حال. وعلى هذا الجانب الغامض العميق تربو عبقرية التدين وتزيد، بمقدار ما تزداد في الإنسان وتربو أغواره الداخلية، عمقاً وغموضاً واستتاراً غير مكشوف لكل إنسان، ولا لأي إنسان. ومن ها هنا كانت عبقريته. ومن ها هنا, جاء صنيعه الخارق للعادة يعتادها الناس مِمَّن يعملون ويحسنون أو لا يحسنون.

وعبقرية التَّديُّن جزءٌ لا يتجزأ من عبقرية التَّوجه نحو الغيب المجهول، الأصل فيها "الانتباه" اليقظ، والتركيز المفرط والإخلاص الشديد للرؤية يراها الرائي حين يرى؛ فينزوي في رؤياه مدركاً لأغوار ما يرى في باطنه وخفاياه، فلا يتزحزح قيد أنملة عَمَّا كان قد أدركه، ولو لاقى في سبيله المنون.

ومن أجل هذا؛ لا نستغرب أوصاف العلماء الغربيين للعبقرية حين وصفوها بحق بـ "الانتباه" وشدّة التيقظ؛ لكأنهم جندوا أنفسهم للبحث في مزايا النوابغ والعظماء، فلم يجدوا وصفاً للعبقرية أدق ولا أصوب غير "اليقظة والانتباه". غير أننا نبحث في تراثنا المهجور!؛ ذلك الذي أصبح اليوم مهجوراً بحكم الإهمال؛ فنجد اليقظة ضد الغفلة، والغفلة إنما هى سَهْمٌ من سهام الشيطان، توجب الاستعاذة بالله، بل هى في قانون الأولياء والعارفين ذنبٌ كبيرٌ يستلزم "التوبة"، ويقتضي الإنابة والرجوع فوراً وبغير تباطؤ أو تسويف. فقد كان رواد العارفين وأقطابهم يتوبون عن الغفلات؛ لأنها في نظرهم من الكبائر، ولما كانت كل كبيرة من الكبائر تمليها غفلة عن الحق يرمي بها الشيطان أو ترمي بها النفس في بواطن صاحبها، صارت بالضرورة حجاباً عن الحق ضد اليقظة والتنبه، أي ضد الانتباه. والمحجوبون عن الله بالغفلات كثيرون، والموصولون بغير حجاب هم المتنَبِّهون المتيقظون لا لشيء إلا لأنهم هم المتقون.

هكذا تعلموا دوماً من أسرار القرآن؛ إذْ يصعد الكتاب العزيز في طراز رفيع وعال من المعاني يجبُّ بآية واحدة من سورة الأعراف (201) كل ما كتبه الغربيون في معنى العبقرية من حيث كونها يقظة وتنبُّه ولا تزيد، وعبقرية التدين الرشيد على وجه الخصوص تضمُّها الآية الكريمة:"إنَّ الَّذِيِنَ اتَّقُوا إذا مَسَّهُمْ طَائِفٌ مِنَ الشَّيْطَانِ تَذَكروُا فإذا هُمْ مُبْصِرُون"؛ إنها قمة العبقرية يضفيها القرآن على المتقين. فلتلحظ أولاً "التقوى" بمثابة الأصل الأصيل الذي يشترط توافره لاستقبال البصيرة الواعية وحدة الانتباه العنيف. ولتلحظ ثانياً رمز الغفلة وهو مسُّ الشيطان أو طائف منه، ثم تلاحظ ثالثاً "فعل التذكرة"؛ وهى الحركة الفجائية التي يحكمها الأصل الأصيل تنطلق منه فلا تعود إلا بالبصيرة؛ لكأنها القنطرة التي يتمُّ خلالها العبور حقيقةً من الأصل والمصدر إلى قمة العبقرية (البصيرة) لكن هذه الحركة ليست حركة ذهنية وكفى، بمقدار ما هى حركة كيان واع بكل ما يملك من إمكانيات وقدرات، هى حركة إنسان بكليته الإدراكية، حتى إذا ما كانت ها هنا غفلة أعقبها عند المتقين تذكرة. والتذكرة أولى مراحل الانتباه اليقظ الفعال في الحركة الفجائية التي تقاوم جذبة الغفلة من فورها؛ إذْ لا يكتمل التنبُّه إلا بالبصيرة.

ثم تأتي الملاحظة الأخيرة في كلمة (مُبْصِرُون) ليكتمل الانتباه ويرشد إلى أن الرؤية هنا ليست رؤية بصرية عيانية، رؤية مُقلة وجارحة؛ بمقدار ما هى رؤية قلبية وازعها الأوحد فيما يبدو من سياق الآية ذاتيٌ خاص يقصرها النسق الإلهي على طراز خاص هم أولئك الذين اتقوا، لا كل إنسان ولا أي إنسان، وإنما هو إنسان خاص متفرِّد بأصل مشروط بالتقوى. والتقوى أمرُ باطن لا يطلع عليه لأنها علاقة خاصة مخصوصة بين العبد وخالقه، فهى بحق ذلك الجزء الغامض غير المكشوف لكل إنسان ولا لأي إنسان.

أي نعم ! هى السريرة الباطنة التي تحكم عمل العلاقة بين العبد والرب. وعلى هذا الغموض المستتر المبطون تقوم عبقرية التديُّن في كل قوة روحيّة تتصل بأسباب السماء، ولا شرط لقيامها في البداية غير إماتة الجانب المظلم في الإنسان، جانب الغفلة وما يتولد عنه من عوائق أخلاقية بغيضة وآفات شهوانية شرهة ورذائل حيوانية خسيسة، وعلائق من الأمراض والخبائث يضج تحت وطئتها الإنسان ويَسْوَدُّ بها وجه المجتمع - ظاهره وباطنه - في عصور ندعوها بعصور التقدم والاستنارة مجازاً لا حقيقة.

ولا صلاح للإنسان ولا للمجتمع إلا في هذا الموات، أعني موات الجانب المظلم بغفلاته وَسَهَوَاته المتعمدة ونكوصه عن الطريق. وقد تسألني: وما علاقة الموت بالعبقرية؟! فأجيبك بأن الموت بهذا المعنى هو أرقى درجات الوعي والعبقرية فيما لو صدق صاحبه وترقى من موت صادق إلى حياة حقيقية؛ إذْ لما كانت العبقرية يقظة وانتباهاً كان الموت بهذا المعنى أيضاً هو التعبير المباشر لأوصاف العبقرية الحقة والصادقة؛ فإن درجة الانتباه الشديد ليست تتأتى إلا بالموت (موات الغفلات وإحياء اليقظات).

صدقت نظرات القدماء وتأملاتهم حين قال أحدهم, وهو أفلاطون:" الدنيا حُلم، والآخرة يقظة، والمتوسط بينهما الموت، والناس في الدنيا كأضغاث أحلام".

ولماذا نَذْهًب بعيداً؟ ألم يقل سيّد الخلق صلى الله عليه وسلم:" الناس نيام فإذا ماتوا انتبهوا"؛ انتبهوا من ماذا؟!

من غفلاتهم وسباتهم وعبوديتهم للأغيار، ولكل ما يعبدون من غير الله. انتبهوا على الحقيقة التي تغافلوا عنها أو تجاهلوها حتى إذا ما ماتوا تيقظوا انتباهاً ليصطدموا بحق ما عرفوا، وبحقيقةٍ لم تلابسهم ولم تخالط ذواتهم من قبل. وصدق قول الله تبارك وتعالى: "فبَصَرَكَ اليوم حديد".

علينا أن نعبئ من تلك القيم العلوية حياتنا بدلاً من قراءة الأفكار الهدَّامة التي لا تجدي نفعاً من قريب أو من بعيد. وكما نقرأ القرآن بترتيل وتنغيم علينا أن نقرأه لا على الغفلة والخداع بل على حضور التقوى والإخلاص فيه لله، بمعنى أن نقرأه بوعي وفاعلية حيَّة وداخلية بدلاً من التسابق على تكرار آياته والانتهاء منها كما لو كانت مهمة عاجلة تقتضي الإنجاز! ثم ماذا؟ ثم ننسى فلا نذكر إننا بحاجة مَاسَّة إلى تصحيح التوحيد.

*   *   *

لا شيء يبقى من معدن الذات غير أن تعلم أنها لا يمكن أن تقدّم للإنسانية خيراً ليس هو فيها، ولا أن تعطي عطاءً وهى محرومة منه، لاشك أن الإحساس الداخلي بالعطاء الإنساني يجعل من الفرد قوة قوية قادرة تلازمه في كل حين؛ لأنه إحساس ناشئ عن تشبُّع الروح بالوعي السرمدي واتصالها بمصدر هذا الوعي، وهو كذلك إحساسُ ناشئ عن إنكار للأنانية والذاتية، وإدراك للطلاقة الروحيّة في الحالة التي ينتصر فيها الفرد الفذ على نفسه، ويَفْقَهُ أن الانتصار على النفس قوة من أقوى قوى النفس لا يتيسر مأتاها لكل إنسان ولا لأي إنسان في كافة الأحوال.

لأهل الله من كمَّـل العارفين أقوالٌ في معرفة الذات والوقوف على أسرارها بغير إحصاء. ومن جملة هذه الأسرار أنهم عرفوا ذواتهم من اعتبارات كثيرة، ومن وجهات في التفرُّد والامتياز لا يحصيها هذا المقام ولا مقام غيره، لا نخال أننا نعزلها عن الحياة الشعورية ومناشط التقدير الآدمي. كانت لهم مُبدعات حول ما يسمونه "بقوة الهمة" وهى طاقة فاعلة، عاملة، محركة لوعي الإنسان، ومشكِّلة لفاعلية هذا الوعي في سائر مناحي الحياة. فالهمَّة المجموعة على أمور يُرَاد لها أنْ تؤدَّى؛ إذا هى لم تتجمَّع خيوطها خيطاً خيطاً بحيث تكوِّن لُحْمة الحياة الشعورية الباطنة وسداها، فقلَّ أن تجدي نفعاً ذا بال.

ومعنى أن تكون الهمة مجموعة هو نفس المعنى الذي تكون به الهمة قوية مؤثرة فعالة، ولا تكون الهمة قوية ومؤثرة وفعالة إلا إذا هى عالجت بقوتها عوائق الحياة؛ لا أي حياة ولا كل حياة، ولكنها الحياة الكريمة يسلكها الإنسان ويعيشها ويحياها، فيُكرم بما يسلك ويعيش ويحيا. تلك هى الحياة القائمة على الإرادة كيما يتصدّى الإنسان بحياته القائمة على الإرادة لغوائل الفناء. فإذا لم تكن هنالك قوة إرادة فقلَّ أن تكون هاهنا حياة حقيقية، والذي يضمن وجود الحياة الحقيقية هو الذي يضمن في الوقت نفسه وجود الهمَّة مع وجود الإرادة؛ فلا يزال الكيان الآدمي محفوظاً بعصمة الرقابة على وجوده إذا قويت لديه الإرادة وارتفعت من ثم "الهمة". وقوة الإرادة أو ارتفاع الهمَّة ليست كلمة هينة بسيطة تلوكها الألسنة التي اعتادت أن تلوك الكلمات حتى تعدمها قيمتها وحيويتها، ولكنها عمل دائب وفعل متواصل ومجهود شاق لا يخلو من مغالبة وصراع مع الأهواء والآفات.

وفي الإرادة جزءٌ منها اكتساب، وجزءٌ منها توفيق. والثاني مترتب على الأول ضرورة:" إنَّ الله لا يغيِّر مًا بقوْمٍ حَتى يُغَيِّروُا مَا بأنْفُسِهِم". "وَاتَّقُوا الله وَيُعَلِمَكُم الله".

إنَّ حياتنا الإنسانية لا تتحرك إلى أعلى ولا تشي بالتفوق والامتياز على سائر الحيوات الأخرى إلا إذا تفوَّقت فينا الإرادة، وامتازت إرادتنا بالهمة القوية الفاعلة، أي ارتحلت تلك الإرادة وتفوقت في نفسها لتتصل بالهمة فتتعلق الهمة بالأعلى دون الأدنى، بالباقي دون الزائل، وبالوجود دون العدم. وكلما أدركت الهمة متعلقاتها فعرفت فيما عَسَاه تَصْرف هذا التعلق أبالأدنى أم بالأعلى؟ صار التوجه لديها ضرباً من الحياة تختاره على يقين الإيمان، ولا تختار سواه من حيوات.

وفي الحق أن أخلاقنا لا تنضبط إلا بهمَّة، وأقلامنا لا تتحرك إلا بهمَّة، وأفئدتنا لا تتصفى إلا بهمة، وألسنتنا لا تنطق بالحق إلا بهمة، ومطايانا لا تسير إلى غاياتها إلا بهمَّة. إن أقلامنا المهجورة لا تتحرك إلا بهمَّة تحتاج إلى تحريكها نحو قول الصدق ودعوة الحق وتوخي الصواب ونداء الحقيقة.

ومن عوائق عدم حركتها ذلك الخذلان الذي نجده دوماً في حياتنا بغير وضوح في الرؤية وبغير وضوح للسبيل. أقلامنا مهجورة تخط على الأوراق كلمات ضبابية ليس فيها روح ولا حياة، والسبب الذي يؤدي إلى كونها مهجورة أنها أقلام تضرب في واد غير ذي زرع، فكأنما لا ضربت ولا أحسَّ أحدُ بأنها تضرب على وتر حساس من ديدن المعرفة وهِجِّيرِ الإدراك.

 

د. مجدي إبراهيم

 

  

 

 

في المثقف اليوم

في نصوص اليوم