صحيفة المثقف

مجدي إبراهيم: الذاتية الخاصَّة للقرآن.. دعائم تأصيل التفسير الإشاري

مجدي ابراهيمتقوم الذاتية القرآنية على أركان ودعائم مثل: (1) الحضور (2) الفهم (3) الحَلاوة (4) وحدة القصد (5) الإيحاء (6) العقل البصيري (7) العقل والإيمان في القرآن (8) تحويل النفس (9) التجلي. ويضاف إلى هذا كله: أصول الثقافة الثوريّة في القرآن، وعلاقة اللغة بالقرآن وكيف تجيئ القيم فاعلة وحيوية في القرآن الكريم. هذه كلها بحوث تجلي الخاصّة الذاتية في القرآن وتثبت أمام العقل المتدبر أصولها وأسسها. غير أن التفسير الإشاري يقوم على خصائص ومعالم هى التي أطلقنا عليها اسم "الذاتية الخاصّة للقرآن"؛ فلن يتأصّل التفسير الإشاري عندنا ما لم تسبقه دعائم مركزية يعرفها المُفسّر الذي يقتدر على هذا النوع من التفسير, وتقوم فيه أولاً قياماً فعليّاً ثم يتحقق بالذاتية الخاصّة للقرآن، تستند على أركان مشروطة.

هذه الأركان هى موضوع هذا العنوان؛ إذ كانت بمثابة المنهجيّة التي يعتمد عليها بالأصالة التفسير الإشاري اعتماداً كلياً؛ لا لشيء إلا لأنها الدعامات والركائز الأساسية لهذا التفسير على وجه الخصوص؛ ولكونها كذلك؛ فلقد جاءت تأصيلاً للتفسير الإشاري. وبما أن العلاقة أعمق ما تكون بين هذا التفسير من جهة، والخاصّة الذاتية من جهة ثانية؛ فإنها من جهة ثالثة تعدُّ أوثق صلة وأقوى رابطة فيما بينها، حينما تنطبق بالكلية على شخص المفسّر نفسه، يوليها العناية البالغة ولا يعرفها فقط مُجَرَّدُ معرفة من الخارج وكفى، ولكنه يطبقها على نفسه أولاً؛ ليمضي فاعلاً نشطاً مقبلاً على مثل هذا العمل العظيم.

وعليه؛ فشرط القدوم على التفسير الإشاري كما أقدم عليه صُلحاء العارفين: أن يكون صاحبه متحققاً في نفسه بالخاصّة الذاتية للقرآن، ولا يكتفي منها فقط بالاستشراف الذي يلمُّ بجوانبها وأركانها إلماماً برَّانيّاً في غير تحقيق ولا تجريب.

إذا نحن أردنا تسليط الضوء على مفهوم التأصيل حقيقةً، فلتجدر الإشارة بدايةً، حسبَ ما نتصوّر، فيما يَخُص موضوعنا، إلى أن قلة الاكتراث بالقرآن تَعدُّ إسرافاً في الضمير الديني ليس له نظير؛ فالقرآنُ الكريم باعتباره ذكراً مفروضٌ أن نحْيَاهُ ونتخلّق به ونعيشه تجربة في حروفه وكلماته وفي إشاراته وموحياته، فكما كان القرآنُ الأصلَ والمصدرَ لمنطلقات شيوخ الصَّدْر الأول في الإسلام على التعميم، فينبغي أن يكون كذلك هو الأصل والمصدر لمنطلقات الفكر والعمل لدى من يقرأه على وعي وبصيرة في كل جيل. وتلك هى طلاقة النَّص القرآني في أبسط معانيها، تماماً كما هى بداهة التأصيل في معروف العقل ومعروف الوعي ومعروف الضمير: الرجوع بوعي المسلم إلى القرآن؛ فمن لم يعرف القرآن ويتدبَّر أسراره ويقيم علاقة روحيّة معه، لا يَطْرُق باب التذوق لأسراره أبداً لا من قريب ولا من بعيد. وكذلك في حال التجريب معه وممارسته والانفعال به؛ فالأمر ـ من ثمَّ ـ لم يكن معرفة نظرية خارجة وكفى، ولكنه معاملة باطنة تستشعر ما في القرآن من حيوية وحياة وتوجُّه؛ ليكون الإنسان هو نفسه القرآن من ناحية التّخَلق.

ولنذكر قول السيدة عائشة، رضى الله عنها، عن الرسول، صلوات الله عليه، حين وَصَفَتْهُ بقولها أنْ: "كان خُلُقه القرآن"؛ ليتبيَّن لنا، من بعدُ، أن كلمات الله كانت تتحوّل في شخص الرسول، صلوات الله عليه، إلى "عمل" بمقدار ما كانت تتحوّل لدى أكثر المقبلين على الله من المخلصين إلى فعل يُسْلَك، وإلى حياة تُعَاش، وإلى سلوك ينفعل بباطن تلك الحياة.

على أن دراسةُ كلام الحق جَلَّ شأنه فضلٌ من الله تعالى، يؤتيهُ الله من يشاء، حين يشاء من عباده، ولا يَدّعيه مُجَرَّد ادّعَاء فهماً ولا ممارسة كل من هَبَّ ودَبَّ. ولا بدّ ممَّا ليس منه بُدٌ: توافر عنصر الاصطفاء لهذه المهمة الجليلة.

وليس يمكن لغير من اختصهم الله بفضله أن يخوضوا فيه، فأنت تستطيع أن تكون عالماً في أي ميدان تختاره، تستطيع أن تكون متكلماً أو فيلسوفاً أو نحويّاً أو أدبياً أو ما شئت أن تكون إذا توَفَّرْت لذلك، وكان لديك استعدادُ ملائم، ثم خَصَصْتَ هذا الاستعداد بعنايتك. أمّا أن تكون مستنبطاً للإشارة المقصودة من العبارة القرآنية، فهذه خصوصية فريدة لا بدّ أن يسبقها اجتباء إلهي.

ومن هنا؛ ظهر ما يُسمى بالتفسير الإشاري للقرآن الكريم، قامتْ به على مرِّ العصور طائفة من أتقياء المسلمين، وهو من النُّدرة بمكان بحيث نَخُصُّ منهم بعض أئمة صوفية الإسلام على التحديد، يقوم على استنباط الإشارة من العبارة، ولسوف نتحدّث بالإشارة عنه تباعاً لاكتشاف ما نسميه من جانبنا بــ "الذاتية الخَاصَّة للقرآن"، تجيء كدعائم وقوائم ومرتكزات يقوم عليها، مع تحديد عناصر هذه الخَاصَّة الذاتية وأركانها التأسيسية؛ كونها دعائم تأصيلية للتفسير الإشاري، عَسَانَا نقف على منطلقاتها الحَساسة في العقل والشعور، على وعي وبصيرة بالقرآن، لكأنما التفسير الإشاري قائمٌ على تلك الذاتية الخاصَّة منذ البداية، ومؤسسٌ على أركانها، ولكأنما كانت هذه الذاتية الخَاصَّة بمثابة الأصل الذي ينطلق منها فيُسْتَبْصر مقوماتها المنهجية وأسسها التأصيلية والتذوقيّة.

نعم! للقرآن الكريم خَاصّة ذاتية مُحققة، لم يقف عليها إلا الموهوبون من طلاب الحقائق العليا، ومريدي الثقة بطوالع الملكوت، أعني الحاضرون دوماً مع الله عبادةً وتبتلاً. هذه الذاتية الخاصّة للقرآن تقدحُ فيمن يتعامل مع القرآن ببصيرة مطموسة: يَتَعَبَّدُونَهُ باللفظ ولا يعرفون إيحاءاته ولا دلالاته ولا معانيه، ويقيدون الفهم من جانبهم، فيقفون على الظاهر من الألفاظ وكفى، ويعزلون اللفظ عن الدلالة، وعن المعنى، وعن الإيحاء، ولا يكتفون بتلك العزلة الواصبة من جانبهم بل يعزلون القرآن كله عن رُوحه العام: إنْ في آياته وإنْ في سوره، وإنْ في مجمله على الصورة الكلية. ومن أجل ذلك؛ فاهتمامنا في هنا سيَنْصَبُّ تحديداً في هذه الدراسة وما يتفرّع عنها وما يصدر عن جزئياتها وتفاصيلها، لا على التفسير الإشاري نفسه كونه بارزاً ومقرّراً لدى صوفية الإسلام، ولكن على الذاتية الخَاصَّة للقرآن بوصفها تشكل دعائم تأصيل التفسير الإشاري.

على أن القشيري (ت 465 هـ ـ 1072م) يُجمل ذلك في مقدّمة تفسيره الإشاري أو يُفَصِّله على نحو من الأنحاء؛ ليُصَوِّر لنا كيف يكون التفسير عامة والتفسير الإشاري منه على وجه الخصوص؛ فإجمال ما تقدَّم مذكوراً عن الزَّرْكشِي والسيوطي والحارث بن أسد المحاسبي إنما هو عند القشيري إشارة. حيث يقول: "إنّ الله أكرم الأصفياء من عباده بفهم ما أودعه من لطائف أسراره وأنواره لاستبصار ما ضَمَّنَه من دقيق إشاراته وخفيِّ رموزه، بمَا لوَّح لأسرارهم من مكنونات، فوقفوا بما خُصّوا به من أنوار الغيب على ما أستتر عن أغيارهم، ثم نطقوا على مراتبهم وأقدارهم: الحق سبحانه وتعالى يُلْهمَهُم بما به يكرمهم، فهم به ناطقون، وعن لطائفه مخبرون، وإليه يشيرون، وعنه يُفْصحُون، والحكم إليه في جميع ما يأتون به ويَذَرُون".

ويَتَبَيَّن من ذلك: أن التفسير عامة، والإشاري منه خاصَّة، إنما هو تفسيرٌ إلهاميٌ من فضل الله وتوفيقه، واصطفائه واختصاصه لمن شاء له من عبيده، لا بقدرة منهم أو حيلة أو اكتساب، ولا اقتدار من جانبهم على هذا الفضل أو ذاك التوفيق، ولكنه توفيق موهوب واختصاص من عند الله وكفى، لا يُقال في حقه سوى ذلك. وهو مع ذلك كله، لا يخلو من دراسة وبحث وتنقيب في طريقة فهم القشيري في استعمال دراسة أصول الكلمات (etymology) للوصول إلى استخلاص معنى روحي لها ودلالة باطنة، وكذلك كيفية استعمال الشعر المعبِّر عن الحبِّ العذريِّ للإفصاح عن تجارب الحبّ الإلهي.

غير أن هذا اللون من التفسير الذي يتكلم عنه القشيري يَفْتَرَقُ عن سائر ألوان التفسير الأخرى، تماماً كما يفترق التفسير في مجمله عن سائر ألوان الفكر الإسلامي؛ لشرط عنصر الاصطفاء من قبيل الله تعالى؛ فلئن كان أصل الوقوف على معاني القرآن التَّدبُّر والتفكر، وهذا صحيح؛ فلا قيمة لهذا الأصل مُطلقاً بغير الشرط الذي أجمع عليه العلماء بالقرآن:

شَرَطَ "الذَّرْكَشيّ" في "البرهان في علوم القرآن"، والقشيري في "لطائف الإشارات"، والسيوطي في "الإتقان في علوم القرآن" منقولاً عن الإمام أبي طالب الطبري، والمحاسبي في "العقل وفهم القرآن"، وصدر الدين القونوي في "إعجاز البيان في تأويل أمّ القرآن"؛ شرطوا شروطاً قاسية ليس فينا في الغالب مَنْ لا يخلو من وجودها فيه بوجه من الوجوه، وذلك لنُدرة من لا توجد فيه، ولكن ليس معنى وجودها فينا أن يتخلى المرء عن فضيلة الجهاد والتَّصْفيَة، مُدَّعياً شدّة هذه الشروط وقسوتها، وقلة حظه بالمرة في تطبيق أضدادها بالوقوف على الجوانب الإيجابية المتسعة، فيروح فيعزف بالجملة عن مواجهة الذات الإنسانية بالقرآن على ما شرطوه.

شَرَطوا فيما يُشْبه الإجماع: أن الخطاب الإلهي لا يفهمه ذُو بدعة، ولا مَنْ هو مُصرٌّ على ذنب، ولا مُحبّ لدنيا، ولا مَنْ كانت في قلبه ذرة من كبر أو هوى، ولا من يكون غير متحقق الإيمان أو ضعيف التحقيق أو يكون مُقلداً في نظره، معتمداً على قول مُفَسّر ليس عنده من العلم سوى علم الظاهر أو يكون راجعاً إلى معقوله النظري؛ (أي راجعاً إلى الدعوى الفكرية والعقلية)؛ فهذه كلها حُجُب وموانع عائقة عن فهم معاني الوحي حقيقةً، حاجبةً عن أسرار العلم من غيب المعرفة.

فمن كانت في نفسه صفة من تلك الصفات لا يَدَّعي مُطلقاً فهم الخطاب الإلهي، ولا ينبغي له، وليس بملزم لأحد أن يأخذ عنه في قولٍ أو في دلالة؛ لأنه إذْ ذاكَ سيكون محجوباً بهذه الحجب الكثيفة المانعة ما لم يجاهد نفسه، ويتصفى.

ومن هنا؛ يتجلى معنى التفسير الإشاري الذي يفترق عن سائر ألوان التفسير الأخرى، والذي قَدْمَهُ صوفية الإسلام عامة، والإمام القشيري بصفة خاصّة، ويضافُ إليه من قبل ذلك ما كتبه الإمام السُّلمي في "حقائق التنزيل". وكذلك استعمال اللغة الرمزية في تفسير الأمثال القرآنية والظواهر الطبيعية واللمعات الإنسانية التي ورد ذكرها في القرآن الكريم. ناهيك عن محاولة فهم: كيف ينتقل الصوفي المُفسّر من سياق قرآني لا علاقة له بالتصوف إلى كلمة أو عبارة لها صبغة روحية يتمكن من خلالها من التعبير عن تجاربه الروحية العميقة والفرديّة.

قَدَّمَ الصوفية منهجاً جديداً لفهم القرآن يقوم على الذوق الشعوري أسموه "الاستنباط القرآني"؛ (والاستنباط هنا: "استبطان"، واستخراج من الخفايا، وليس هو الاستنباط العقلي بحال)؛ ومعناه: أن يُردِّد الصوفي القرآن مستغرقاً فيه حتى تنفتح له المعاني الإلهية، ثم ينتقل إلى معاناة العبارة، يخلو بنفسه مع ربه بين مقامات يتردد فيها وأحوال يعانيها، حتى تنقدح المعرفة الإلهية فيه، أو تُلقى فيه إلقاءً؛ فيتذوقها.

لاحظ قوله تعالى: "لعَلِمَهُ الَّذِينَ يَسْتَنْبِطُوَنَهُ"؛ أي لعلمه الذين يجاهدون أنفسهم في فهمه ومذاكرته واستحضار رؤيته للخلق والكون والعالم والإنسان، لا الذين يهملونه أو يهجرونه أو يقرؤونه على الغفلة والسَّهَيَان.

(وللحديث بقيّة)

 

بقلم: د. مجدي إبراهيم

 

في المثقف اليوم

في نصوص اليوم