صحيفة المثقف

نورالدين حنيف: في المُتخيّل السياسي الاتِّكالي

نور الدين حنيفالتّشيّؤ لا يفيد الوجود، لأنه لا يعني سوى التحيّز في المكان. أمّا  الحضور الحقيقي فهو ذاك النّسغ التواصلي الجاري بين المُخاطِب والمُخاطَب  في المشهد السياسي. وهو النسغ التواصلي الجدير بتحويل الأغلبية الصامتة إلى أغلبية فاعلة بصوتٍ فعلي وحقيقي ومالك للقرار.

لنتصوّر مشهداً تواصلياً يضمّ خطيباً سياسيا مسؤولاً، يخطب في الجماهير المحتشدة أمامه. ولنتصوّر صيحته التاريخية فيهم وهو يرفع عقيرته قائلا (لِنتّحد جميعا من أجل كرامة المُواطن). هل كان هذا الخطيب السياسي يعي ما يقول؟ وهل كان يبني في وعيه - إن كان واعياً باللحظة – حجمَ التحدّي المنطوق في الخطبة؟ وهل كان يدركُ حجم الجماهير المحتشدة أمامه لا على مستوى العدد الذي يفرض الرهبة، ولكن على مستوى امتدادات هذه الجماهير في أبعادها الإنسانية؟

أظن أن مقولة الكذب هنا واردة ومؤسِّسة للعلاقة في تجلّيها الممكن والكائن. على اعتبار أن هذا المُخاطَب في نظر الخطيبِ مجرّد حضور مُتخيّل، غير مرئيّ ولو بدا مُتشيِّئاً أمام ناظريه.

ومادام الأمر مُسطّرا على هذه الشاكلة، فسيبقى الحال مكذوباً تؤطّره مرجعية ضاغطة تستفيد من هيولى الجماعة، ومن تأثير الميديا، وبالدرجة الأولى تستفيد من الحالة النفسية التي آل فيها الجمهور إلى نهايات اليأس والعبثية واللاجدوى. وهي نهاياتٌ أصبحت عناوين واضحة لهذا الموسوم بالرأي العام الذي كان ومازال في منظور علم الاجتماع، ظاهرة حضورية قابلة للقياس، انطلاقاً من وزنها الاجتماعي المؤثّر.

و مادام الراي العامّ حاضرا، سواء على مستوى التشيّؤ أو على مستوى الفعل الضاغط (على النخبة السياسية) فإن الأمر لا يعدو أن يكون عبوراً في التاريخ. لأن الأصل في القيمة هو الصدق، والأصل في التاريخ هو احتضان اللحظات القويّة البانية للإنسان في مشروعه الكوني والحضاري. وما تبقّى فهو النشاز العابر الذي ملأ ويملأ اللحظات العابرة بالصراخ الخاوي الآيلِ إلى قدر التبخّر.

من هنا، هرولة الجماعات الضاغطة إلى تشكيل العلاقة السياسية تشكيلا مستعجلا مبنيا على استثمار اللحظة الراهنة استثمارا عقلانيا ماكراً، يقوم على استنزاف كل ممكنات القيم الإيجابية البانية، واستبدالها بالقيم الزائفة والهدّامة، والتي يتم طبخها في مختبرات البراغماتية وتقديمها في أطباق حداثية مُسيلة للعاب ومثيرة للجاذبية ومُضمِرة للقدرة التمويهية الخارقة في ثقافة الإقناع.

فهل نستطيع هنا في هذا السياق الاِتّكالي، أن نبنيَ صورة للمواطن القادر على استيعاب المشهد السياسي في أبعاده كلِّها؟ وهل نستطيع أن نبنيَ ذلك المواطن القادر على تجاوز لعبة الكذب السياسي والتموقف منها إيجابيا؟ ثمّ من تكون هذه (النون) الجمعية الثاوية في فعليْ (نستطيع ونبني)؟ هل هي تلكم النون الزئبقية التي يترجمها الضمير الفرنسي الغامض (on) والذي من سماته الدلالية إلقاء المسؤولية على المجهول لا على المتعيّن؟ وهل هذه النون الجمعية الهيولانية قادرة على تحويل الكذب السياسي إلى صدق سياسي يرد المياه إلى مجاريها والأشياء إلى نصابها؟ وهل هي (نون) قبل هذا وذاك قابلة للقياس، وبالتالي قابلة للقبض؟...

إن القطع مع الثقافة الاتّكالية هو أول خطوة للإجابة على هذه الأسئلة الشائكة والمُحرجة. وهي الثقافة التي تُحيل على انهزامية اتّكالية تُسنِد الفعل إلى المجهول، وتًسند كذلك مسؤولية الحلّ والخروج من الأزمة إلى المجهول. ولنضرب على ذلك مثالاً لموقف المواطن الذي يفتح نافذته كل صباح على بركة الماء الآسنة أمام بيته. والتي تسبّب فيها الإهمال  قبل أن تتسبّب فيها زخّات المطر. وانظر أيها القارئ كيف يتعامل صاحبنا مع هذا المشهد وهو يقول في اتّكالية واضحة (سيتمّ ردم الحفرة وتعبيد الطريق)... إذن، من سيردم؟ ومن سيعبّد الطريق؟ إنها النون الجمعية الفاتكة بروح المبادرة. وإنها النون التّكالية القامعة لتحرير الإرادة. وفي المقابل، أذكر مشهداً آخر، جديرا بالذكر والشهادة. ويتعلق الأمر بمواطن نكرة، يتطوع إلى ردم حفرة في الطريق كي تتمكن السيارة من العبور بسلام. وكان هذا المواطن يُعيد الكرّة كلما اتّسع شعاع الحفرة، وعادت إلى تغوّلها أكثر بفعل عبور السيارة اليومي. وكان المواطن لا يتعب من الترميم فيما تتعب المارّة وتتأفّف في سلبية تكتفي بالشتم والسباب في وجه المجهول. أما صاحبنا، فكان يشتغل في صمت تطوّعي جميل.

الفرق بين المشهدين هو أن المواطن المتطوّع قلّص إيمانه بنون الجمع وحاول أن يخرج عن سلطانها إلى حقيقة الأنا البانية لجزء من مشروع المواطنة المنتصرة على الأنا، عبر إيمانه بقدرة الوجه الآخر للأنا القادر على التغيير، ولو بدا التغيير متقزّما أمام تغوّل العبث.

إنّ شأن الذات المفردة التي تؤمن بقوتها رغم هيمنة ثقافة الاتّكالية، تشبه ذلك الحجر الصغير الذي نرمي به على صفحة النهر الراكد. والسؤال هو: ماذا يستطيع هذا الحجر الصغير والمغمور أن يقضم من جبروت النهر؟ والجوابُ يكمن في تضافر الحجر إلى الحجر (قال ابن المعتز: لا تَحقِرَنَّ صَغيرَةً   \\  إِنَّ الجِبالَ مِنَ الحَصى) وبالتالي فإن الحجر الأول سيرسم على صفحة النهر دوائر صغرى تكبر وتتّسع، وكلما ألقمْنا النهر حجرا تمّ إحراجه، و بالتالي تغيّر شكله وتزعزعت طمأنينته البليدة. إن الإشارة هنا واضحة في استعارة الماء والحجر، إذ سرعان ما سيفهم النهر المستكين إلى سلطانه  الراكد أن هناك حضورا آخر يزعج استكانته واسترخاءه لقدر الركود... وسيقول في قرارة نفسه: أنا لستُ وحدي في هذا الكون. هناك من يقدر على قضّ مضجعي مهما صغر شأنه.

تمثل هذه الاستعارة المائية صلب الموضوع، إذ تُعلّمنا كيف نعالج بها الموقف. حتى ولو بدتْ استعارة يتيمة لا تمتلك في فعلها الخبرة السياسية المناسبة. ولكنها تمتلكها في ذاتها باعتبارها نسقا من التفكير الإيجابي والقابل للتطور من الحالة الأدبية الشبيهة بالأقراص المُهدّئة، إلى ثقافة الانخراط التي تفتك بقيم السلب والعبث إذا ما تمّ تبنِّيها ونشرها وتعميمها.

إن أفضل فهم لموقف هذه الاستعارة السياسية هو استحضار نقيضها، هذا الأخير هو ما يضيء دلالة الأولى ويرسم حدودها الممكنة. وهذا التخريج قمينٌ بتسليط  الضوء على فعالية الموقف ونجاعته بدل الاستسلام إلى الاتّكالية العقيمة. ولننظر إلى النقيض من زاوية الثقافة الشعبية. ولنستحضر المثل الشعبي الذي أراه دستورا واضحا للعاجزين (دِيرْ رّاسكْ وسطْ الرْيُوسْ ؤُ عيّطْ آ قطّاعْ الرْيُوس) ويفيد باللغة العربية (ضعْ رأسك بين الرؤوس ونادِ على السيّاف)... وهنا يتبدّى الرأي العام مستعدّا لتسليم رأسه لسيّافٍ سياسي كاذب، لا يقنع في جسد المواطن باليد أو أي جارحة أخرى قابلة للزراعة الطبية، ويستهدف فيه  الرأس باعتباره العضو الحيوي الحامل لمسؤولية الحياة والحركة تباعا. من هنا عبثية الموقف الاتّكالي في الذات العربية عامّة.

كما أن الاستعارة الشعبية تفضح الموقف السلبي من خلال قدرته على التعميم وتوزيع دمه حتى لا تُنعتَ جهةٌ بالإدانَة (دِيرْ رّاسكْ وسطْ الرْيُوسْ) حيث تتشابه الرؤوس وتتشعب وتتشابك وتضيع في هذا التشعب إمكانية التعيين وبالتالي إمكانية الإدانة... والنتيجةُ ضياع قضية المواطن وتسجيلها في حكم المجهول.

يمكن قراءة هذه الثنائية داخل نظرية الفراغ التي لا تقف عند حدود البياض السلمي المُحايد. بحيث يكون الفراغ سديماً لا يؤثّر في بناء العلاقة السياسية بين أطراف المشهد. وإنما هي نظرية تسير في اتجاه بناء حالة من الفوضى القاضية بتخريج نتائج مُعدّة مُسبقاً ومُفكّر فيها قبلاً. وهي الحالة السديمية العامرة بالعيّنات القابلة لشغل المساحات المتروكة والمهجورة والمتخلّى عنها من طرف أصحابها الشرعيية. والعيّناتُ هنا جاهزةٌ لأنها كانتْ مُعدّة ومُهيّأة ومفبركة لمثل هذه الحالات الفارغة، انطلاقاً من دراسة لوبية لاحتمالات ممكنة وأخرى عصيّة الإمكان، ولكنّها في منظور الجماعة الضاغطة تصبح ممكنة مادامت وسائل تمكينها لا تراعي القيمة الإنسانية في سموها الإنساني، وإنما تراعي فقط قدرتها على ملء الفراغ لاستجلاب المصلحة القريبة والذاتية قبل كل شيء وقبل أيّ اعتبار.

والغريب في الأمر، أنّ هذه العيّنات أو هذه البدائل غالبا ما تكون مقولات شاذّة، تصدم المشهد السياسي في صميمه، وتقلب تنظيره رأسا على عقب. ولكنها مقولات تمتلك القدرة على التلبّس والقدرة على الإقناع والحِجاج. ومثال ذلك انتشار ظاهرة السياسيين الذين لا يملكون الحدّ الأدنى من التعليم الذي يؤهّلهم لاعتلاء المناصب المسؤولة والحسّاسة. ودليل المقولة في شرعنةِ هذا الاعتلاء هو حق المواطن في اقتحام المشهد السياسي وفق معايير موضوعية تفرزها الصناديق واختيارات المُنتَخِبين... وبالتالي يصبح المُحاجج لهذا الفلتان في حيص بيص من أمره لأنه يصيرُ في حجاجه إلى نتيجة مُفارقة هي إقصاء هذا المواطن من الدخول في اللعبة السياسية بمعيار غير موضوعي هو افتقار هذا المواطن للحد الأدنى من التعلم أو من الشهادة أو من الثقافة... فمن أعطى هذا المحتجّ وصاية الإقصاء وحرمان الآخر من القضم من الكعكة السياسية مثل غيره من القاضمين؟...

 

نورالدين حنيف

 

 

في المثقف اليوم

في نصوص اليوم