صحيفة المثقف

يسري عبد الغني: رجل ضد الظلم.. سيدي أحمد الدردير

يسري عبد الغنيالمقاوم الأزهري والفقيه المالكي

في عام 1200 هـ، انتشر الظلم والتعدي في ربوع مصر، مما ألجأ أصحاب المظالم والحقوق لشيوخ الأزهر لما يتمتعون به من ثقل في المجتمع المصري، ولما يتميزون به من الجهر بالحق وعدم خشية أحد مهما كانت مكانته. ومن هؤلاء العلماء الأزهريين الشيخ العلامة والفقيه المالكي الكبير أحمد الدردير.

يقول الجبرتي في تاريخه: وفي صبيحة يوم الجمعة ثارت جماعة من أهالي الحسينية بسبب ما حصل في أمسه من حسين بك، وحضروا إلى الجامع الأزهر ومعهم طبول، والتف عليهم جماعة كثيرة من أوباش العامة والجعيدية وبأيديهم نبابيت ومساوق.

وذهبوا إلى الشيخ الدردير فوافقهم وساعدهم بالكلام وقال لهم: “أنا معكم”. فخرجوا من نواحي الجامع وقفلوا أبوابه وطلع منهم طائفة على أعلى المنارات يصيحون ويضربون بالطبول، وانتشروا بالأسواق في حالة منكرة وأغلقوا الحوانيت. وقال لهم الشيخ الدردير: “في غد نجمع أهالي الأطراف والحارات وبولاق ومصر القديمة وأركب معكم وننهب بيوتهم كما ينهبون بيوتنا ونموت شهداء أو ينصرنا الله عليهم!”.

فلما كان بعد المغرب حضر سليم أغا مستحفظان ، ومحمد كتخدا ارنؤد الجلفي كتخدا إبراهيم بك، وجلسوا في الغورية، ثم ذهبوا إلى الشيخ الدردير وتكلموا معه، وخافوا من تضاعف الحال وقالوا للشيخ: “اكتب لنا قائمة بالمنهوبات ونأتي بها من محل ما تكون!”. واتفقوا على ذلك وقرأوا الفاتحة وانصرفوا.

وركب الشيخ في صبحها إلى إبراهيم بك وأرسل إلى حسين بك فأحضره بالمجلس وكلمه في ذلك فقال في الجواب: “كلنا نهابون، أنت تنهب، ومراد بك ينهب، وأنا أنهب كذلك”. وانفض المجلس وبردت القضية.

وفي عقبها بأيام قليلة حضر من ناحية قبلي سفينة وبها تمر وسمن وخلافه، فأرسل سليمان بك الأغا وأخذ ما فيها جميعه وادعى أن له عند أولاد وافي مالًا منكسرًا، ولم يكن ذلك لأولاد وافي وإنما هو لجماعة يتسببون فيه من مجاوري الصعايدة وغيرهم، فتعصب مجاورو الصعايدة وأبطلوا دروس المدرسين، وركب الشيخ الدردير والشيخ العروسي والشيخ محمد المصيلحي وآخرون، وذهبوا إلى بيت إبراهيم بك وتكلموا معه بحضرة سليمان بك كلامًا كثيرًا مفحمًا.

فاحتج سليمان بك بأن: “ذلك متاع أولاد وافي وأنا أخذته بقيمته من أصل مالي عندهم”. فقالوا: “هذا لم يكن لهم وإنما هؤلاء أربابه، ناس فقراء، فإن كان لك عند أولاد وافي شيء فخذه منهم”. فردّ بعضه وذهب بعضه.

وفيه [منتصف جمادى الثانية عام 1200 هـ] اجتمع الناس بطنطا لعمل مولد أحمد البدوي، المعتاد المعروف بمولد الشرنبابلية، وحضر كاشف الغربية والمنوفية على جاري العادة، وكاشف الغربية من طرف إبراهيم بك الوالي المولى أمير الحاج، فحصل منه عسف وجعل على كل جمل يباع في سوق المولد نصف ريال فرانسة، فأغار أعوان الكاشف على بعض الأشراف وأخذوا جمالهم.

وكان ذلك في آخر أيام المولد، فذهبوا إلى الشيخ الدردير، وكان هناك بقصد الزيارة، وشكوا إليه ما حل بهم، فأمر الشيخ بعض اتباعه بالذهاب إليه، فامتنع الجماعة من مخاطبة ذلك الكاشف، فركب الشيخ بنفسه وتبعه جماعة كثيرة من العامة. فلما وصل إلى خيمة كتخدا الكاشف دعاه فحضر إليه والشيخ راكب على بغلته، فكلمه ووبخه وقال له: “أنتم ما تخافون من الله”.

وفي أثناء كلام الشيخ لكتخدا الكاشف هجم على الكتخدا رجل من عامة الناس وضربه بنبوت، فلما عاين خدامه ضرب سيدهم هجموا على العامة بنبابيتهم وعصيهم، وقبضوا على السيد أحمد الصافي تابع الشيخ وضربوه عدة نبابيت. وهاجت الناس على بعضهم ووقع النهب في الخيم وفي البلد ونهبت عدة دكاكين. وأسرع الشيخ في الرجوع إلى محله وراق الحال بعد ذلك.

وركب كاشف المنوفية وهو من جماعة إبراهيم بك الكبير، وحضر إلى كاشف الغربية وأخذه وحضر به إلى الشيخ وأخذوا بخاطره وصالحوه ونادوا بالأمان. وانفض المولد ورجع الناس إلى أوطانهم وكذلك الشيخ الدردير، فلما استقر بمنزله حضر إليه إبراهيم بك الوالي وأخذ بخاطره أيضًا وكذلك إبراهيم بك الكبير وكتخدا الجاويشية .

معلومات عن الشيخ:

1- عاش الشيخ أحمد الدردير، في القرن الثامن عشر الميلادي، وولد بقرية بني عدي التي تسكنها قبيلة بني عدي القرشية في أسيوط بصعيد مصر سنة 1127 هـ/1715 م.

2- وينتهي نسب الشيخ الدردير إلى الصحابي عمر بن الخطاب، وقد تلقب بـ(الدردير)؛ لأن قبيلة من العرب نزلت ببني عدي، وكان كبيرهم رجل من أهل العلم والفضل يدعى الدردير، فلُقِّبَ الشيخ أحمد به تفاؤلا.

3- كان "الدردير" أحد أهم الفقهاء والأصوليين من أهل السنة والجماعة، فهو إمام صوفي وعالم أصولي ومرجع في الفقه المالكي وأحد أبرز مجتهديه في العصر الحديث.

4- للشيخ "الدردير" عشرات المؤلفات التي صارت مراجع فقهية كبرى وعقائدية، منها "شرح مختصر خليل"، الذي أضحى عمدة في الفقه المالكي، و"أقرب المسالك لمذهب الإمام مالك" و"الشرح الصغير" و"نظم الخريدة السَّنِيَّة في العقيدة السُّنيَّة"، في علم التوحيد على مذهب الأشاعرة و"شرحٌ على آداب البحث والتأليف"، و"شرحٌ على الشمائل المحمدية" وغيرها العديد من المؤلفات الكبري وغير التقليدية.

5- أدى الميراث العلمي للإمام لأن يلقبه العلماء بمالك الصغير، و"شيخ أهل الإسلام" وذلك لتفوقه النادر التكرار في الفقه والعلوم العقلية والنقلية.

6- اختار أبناء الصعيد بالأزهر الشريف الشيخ الدردير ناظرًا على «وَقْفِ الصعايدة» في عصره وشيخًا لـ«رواق الصعايدة» بالأزهر، وهو ما يعد اعترافا بإمامته وعلمه.

7- من أشهر مواقفه المشهودة التي تواتر الخبر بها موقفه مع أحد الولاة العثمانيين، الذي أراد فور تعيينه أن يكون الأزهر هو أول مكان يزوره حتى يستميل المشايخ لعلمه بقدرتهم على تحريك ثورة الجماهير في أي وقت شاءوا وعند حدوث أول مظلمة، فلمَّا دخل ورأى الإمام الدردير جالسًا مادًّا قدميه في الجامع الأزهر وهو يقرأ وردَهُ من القرآن غضب؛ لأنه لم يقم لاستقباله والترحيب به، فأرسل إليه الوالي صرة نقود مع أحد عبيده فرفض الشيخ الدردير قبولها، وقال للعبد: «قل لسيدك من مدَّ رجليه فلا يمكن له أن يَمُدَّ يديه» فكان الشيخ قدوة في عدم الخضوع لحاكم.

8- مرض الشيخ ولزم الفراش مدة حتى توفي يوم 6 ربيع الأول سنة 1201 هـ، الموافق 27 ديسمبر سنة 1786م وقد صُلي عليه بالجامع الأزهر بمشهد عظيم حافل، ودفن بزاويته التي أنشأها بجوار ضريح يحيى بن عقب، وهو مسجد الآن.

9- سمي شارع الدرديري بمنطقة الدرب الأحمر بالقاهرة القديمة تبركا بمقام الإمام الراحل، وللشيخ أثر كبير في نفوس أهل الشارع، فهم يتبركون به ليل نهار ويسيرون على منهجه الأزهري الصوفي الوسطي .

 

بقلم: د. يسري عبد الغني

 

 

في المثقف اليوم

في نصوص اليوم