صحيفة المثقف

محمد بنيعيش: التفاعل النبوي مع بدء الوحي بين مقتضيات التجريد الغيبي والتجسيد

محمد بنيعيشأولا: التفاعل مع الوحي والملك دليل واقعية العوالم

إن أطوار بدء الوحي ووقائعه مع التأمل والاستغراق في استخلاص العبر من هذه الفترة المفصلية من حياة الرسول سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم الروحية قد تعد أهم وأعظم نقطة ومحطة في تاريخ النبوة وبدء الرسالة وتحقيق التواصل المباشر بين عالم الشهادة وعالم الغيب في سيرته ومسيرته (ص) .

يقول العلامة الشهيد محمد سعيد رمضان البوطي رحمه الله تعالى في هذه المسألة: " لقد فوجئ محمد عليه الصلاة والسلام وهو في غار حراء بجبريل أمامه يراه بعينه وهو يقول له: اقرأ.حتى يتبين أن ظاهرة الوحي ليست أمرا ذاتيا داخليا مرده إلى حديث النفس المجرد، وإنما هي استقبال وتلق لحقيقة خارجية لا علاقة لها بالنفس وداخل الذات ...ضم الملك إياه ثم إرساله ثلاث مرات قائلا في كل مرة اقرأ، يعتبر تأكيدا لهذا التلقي الخارجي ومبالغة في نفي ما قد يتصور من أن الأمر لا يعدو كونه خيالا داخليا فقط"[1].

بل إنه الواقع الناصع والحقيقة المباشرة، لا هي قابلة للتأويل والتحويل ولا هي منصاعة للتزيل والتبديل، وهذا ما قد يعرف عند العارفين بحق اليقين كأعلى درجات التحقيق المعرفي وشهوده.

فعلاقة النبي (ص) بالغيب هي جد معقدة وليست بالسهولة التي قد يتصورها البعض من مجرد تلق وإلقاء، وإنما هي قد كانت دائما في تفاعل روحي من التيار العالي، أو إن شئنا التقريب مع التحفظ في الوصف، عبارة عن كيمياء روحية تسري فيها ضغوطات وتفجيرات وتحولات عنصرية وذاتية قد تشمل الروح والجسد معا، وهو مما لم يتحقق بمجرد اللقاء الأول فقط وإنما بقي مستمرا ولو بعد تتابع الوحي وحميه.

في حين أن الذاتية والتصرف الشخصي للنبي (ص) قد كان معزولا عن هذا المشهد وافتعال الأحوال، وإنما هي مفروضة عليه من الحضرة الإلهية القدسية بجلالها وجمالها، وبحكم المقام، حتى يبقى العبد عبدا والرب ربا، وأنه مهما ترقى هذا العبد في التقرب إلى حضرة ربه إلا وازداد عبودية وهيبة وخشية في تناسق مع المحبة والأنس والرضا.

حتى إن مسألة استظهار الوحي لم تكن بالنسبة إلى النبي (ص) لتتم بسهولة مع أنه عليه قد أنزل، وذلك لأن العملية لم تكن لديه مجرد التسجيل في الحافظة والاستعراض في المخيلة وإنما هي انتقاش وتثبيت جوهري في أعماق أعماق سويداء قلبه (ص) .

وبهذا ورد الحديث "عن ابن عباس في قوله تعالى(لا تحرك به لسانك لتعجل به)قال: كان رسول الله (ص) يعالج من التنزيل شدة وكان مما يحرك شفتيه، فقال ابن عباس: فأنا أحركهما لكم كما كان رسول الله (ص) يحركهما، وقال سعيد: أنا أحركهما كما رأيت ابن عباس يحركهما، فحرك شفتيه فأنزل الله تعالى: ( لَا تُحَرِّكْ بِهِ لِسَانَكَ لِتَعْجَلَ بِهِ (16) إِنَّ عَلَيْنَا جَمْعَهُ وَقُرْآَنَهُ (17) فَإِذَا قَرَأْنَاهُ فَاتَّبِعْ قُرْآَنَهُ (18) ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنَا بَيَانَهُ (19)) قال: جمعه لك في صدرك وتقرأه (فإذا قرأناه فاتبع قرآنه) قال: فاستمع له وأنصت (ثم إن علينا بيانه) ثم إن علينا أن تقرأه، فكان رسول الله (ص) بعد ذلك إذا أتاه جبريل استمع، فإذا انطلق جبريل قرأه النبي (ص) كما قرأه"[2].

فرواية ابن عباس هاته تؤكد على أن الحال قد استمر مع النبي (ص) هكذا إلى فترة طويلة، خاصة وأن ابن عباس رضي الله عنه لم يلتحق به (ص) ولم يحضر مجالسه إلا بعد الهجرة لصغر سنه وارتباطه بأبيه العباس رضي الله عنهما إلى حين فتح مكة.

كل هذا الحال يعني أن مسألة الوحي قد كان يطبعها عنصر الواقعية والتحقيق الملموس، وأنه ليس من السهل التواصل مع العالم الآخر من دون تحول كيميائي وانتقال جوهري وعرضي من صورة إلى أخرى أو من هيئة إلى غيرها .

في حين، نرى أن المسألة بهذا الشكل قد تسد الأبواب والمنافذ أمام كل متطفل أو مزايد على عالم الغيب وحرماته بمجرد الآراء والأهواء، كما أن المنفذ الوحيد لاختراق العوالم قد لا يتم حتما إلا عبر مركبة قوية وذات دفع طاقي من التيار العالي، وليست تلك إلا مركبة أو مقام النبي والرسول لا غير، والتي ستكون بالضرورة هي الضامنة لسلوك الصراط المستقيم والمحجة البيضاء التي ليلها كنهارها لا يزيغ عنها إلا هالك.

كما أن كل مدعي للمعرفة عن المغيبات والكشوفات وعوالم ما وراء الحس إذا لم تكن لديه قاعدة نبوية ومدخل من بابها فدعواه مجرد دجل وشعوذة أو رمي في عماية، وأيضا فكل زاعم للمعرفة الغيبية ومتجرئ على الخوض فيما وراء المرئي لم يقاس نصيبا من المعاناة والمشقة المعبر عنها في المصطلح الإسلامي بالمجاهدة والرياضة والمراقبة والمحاسبة فإن معرفته تلك لا يعول عليها وليست بالصحيحة أو الثابتة .

وبهذا فمسالة بدء الوحي عند النبي (ص) قد مثلت الحلقة المفصلية للتحقيق المعرفي وضبطه والحسم في صدق مصدره، كما أنها ستؤسس لكل المعارف الإنسانية الجادة والنافعة والتي لا يتم اكتشافها والتوصل إلى جوهرها إلا بعد الجهد والتفاعل والتجربة والتحولات الكيميائية والفيزيائية والنفسية...

وهذه المعاناة ليست مجرد حادثة آنية وإنما هي ذات حضور مستمر راسخ في الوجدان والوعي، فمن جهة هناك الوحي الذي عبر عنه القرآن الكريم بقوله تعال: (إِنَّا سَنُلْقِي عَلَيْكَ قَوْلًا ثَقِيلًا)[3] وهي الصفة الملازمة له إلى آخر كلمة أو حرف منه.وبقدر ثقل الجواهر تكون قيمتها أعلى وأعظم، ويكون صاحبها أغنى وأكرم، والكلام على قدر المتكلم والحامل له على قيمة المحمول، تماما كما سبق وذكرنا في مرقى: "فجر النور ومبادئ الخصوصية من السيرة النبوية" عبارة خالد بن الوليد رضي الله عنه حينما قال: "هو رسول الله والرسول على قدر المرسل".

ونظرا لمقام المحبوبية والرضا والأنس الذي حظي به رسول الله (ص) فإن ثقل الوحي هذا لم يزده إلا شوقا وذوقا وأخلاقا وعمقا معرفيا ما بعده من عمق، قد قابله بالشكر المطلق لله تعالى وتحقيق العبودية له والاعتراف الكلي بمنته تعالى عليه (ص) .

فهو (ص) بالرغم من مقاساته والأحوال التي كانت تعتريه عند نزول الوحي إلا أنه قد أصبح منجذبا نحوه لا يستطيع الاستغناء عنه أو الوصال بدونه ولو لحظة، لأنه صار هو قوت وجوده ومصدر صحوه ومحور سعادته (ص) .

وهذا التعلق لم يقتصر عليه (ص) وإنما قد تعدى إلى أصحابه وأصبح مصدر حياتهم ومنار طريقهم ومحور سعادتهم، إذ أنهم لما توفي (ص) واختار الرفيق الأعلى أنكروا أنفسهم وادلهمت عليهم الدنيا وأظلمت حتى وقعوا في معاناة كآبة الوجود وسدت عليهم أبواب الاتصال من كل جانب، ليس لأنه (ص) توفي فقط ولكن كما تذكر الروايات ومعبراتها لأن الوحي قد انقطع بغيابه ظاهرا عن شهودهم، فقد كانت أم أيمن رضي الله عنها تبكي بعد وفاة رسول الله صلى الله عليه وسلم، وكانت تعلل ذلك بأنها تبكي لأن الوحي قد انقطع من السماء. وفي رواية أحمد قال أنس: لما كان اليوم الذي قدم فيه رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ المدينة أضاء منها كل شيء، فلما كان اليوم الذي مات فيه أظلم منها كل شيء، وقال: ما نفضنا عن رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ الأيدي حتى أنكرنا قلوبنا.

فكانت حينئذ خسارتهم مضاعفة تجمع بين غياب وانقطاع الواسطة وبين توقف خطاب الوصال الذي يربطهم على صفة ممتازة جدا بالموسوط، والذي قد كان يمثل ويحقق ذلك الشعور القوي بالقرب من الله تعالى قربا مباشرا عن طريق الوحي الذي كان ينزل منجما ومتتاليا فيجدد قلوبهم ويرويها إرواء بأمطار نورانية حديثة العهد بربها.

ثانيا: ثقل الرسالة والمعاناة الشاملة دليل تحقيق العالمية

والمعاناة الأخرى التي ستضاف إلى الأولى بالنسبة إليه صلى الله عليه وسلم كثمن لهذا الاختصاص والاصطفاء هو ما سيعبر له به ورقة بن نوفل عن القانون العام اللازم لكل أولي العزم من الرسل بقوله: "هذا الناموس الذي نزل الله على موسى، ليتني فيها جذعا، ليتني أكون حيا إذ يخرجك قومك، فقال (ص): "أو مخرجي هم؟"قال: نعم ! لم يأت رجل قط بمثل ما جئت به إلا عودي، وإن يدركني يومك أنصرك نصرا مؤزرا ..."[4].

وهذا الإخبار المسبق فيه قبض وبسط، إذ القبض هو من طبيعة البشر حينما يتوقع الأسوأ في المستقبل بما يحمل من آلام ومضايقات غير محددة توقيتا ونوعا وقوة، وبالتالي فقد تسبب له توجسا وخيفة وقلقا و ربما أرقا، خاصة وأن المعاداة هنا ليست مجرد خصومة عابرة أو صراع متبادل ومحدود، وإنما هو أصعب وأخطر من ذلك وأشرس، ألا هو الطرد من المجموعة وسلب الهوية الوطنية عنوة والإلقاء به في المجهول وتعريضه للهلاك المحقق.أي أنه سيتعرض لمعاناة فوق معاناة ومعاداة تصب في معاداة، حتى قد يكون التصور، بحسب المقياس البشري العادي، هو أنه إذا طردني قومي وبنو جلدتي وعشيرتي فغيرهم سيكونون أكثر شرا وسوء وعداوة، وخاصة إذا جاء التحريض من الأولين ووافق هوى الآخرين.

هذا الشعور هو ما قد عبر عنه الرسول (ص) لما ذهب إلى الطائف حينما ضايقه قومه وحاصروه فقابله طرد أسوأ من الطرد الأول وحصار أضيق من المتوقع فخرج منه هذا الدعاء الحزين على أرقى صورة وأبلغ وصف للاضطرار وفناء الحبيب في حب حبيبه وثقته به وهو قوله (ص): " اللهم إليك أشكو ضعف قوتي، وقلة حيلتي، وهواني على الناس، يا أرحم الراحمين، إلى من تكلني، إلى عدو يتجهمني، أو إلى قريب ملكته أمري، إن لم يكن بك علي غضب فلا أبالي، غير أن عافيتك أوسع لي، أعوذ بنور وجهك الذي أشرقت له الظلمات، وصلح عليه أمر الدنيا والآخرة، أن تنزل بي غضبك، أو يحل علي سخطك، لك العتبى حتى ترضى، ولا حول ولا قوة إلا بك"[5].

إن أول مظهر للرسالة المحمدية قد تميز بالعالمية وبعد الامتداد الجامع بين آفاق الأرض والسماء "وما أرسلناك إلا رحمة للعالمين " والتي ستكون على صور مختلفة ومتناقضة من حيث الرفض والقبول على التوازي، وذلك في تواصل وتنافر بين عالم الإنس والجن أو الشياطين، إما الاستجابة أو المحاربة لهذا الأمر، وهذا له ارتباط بشكل المحن والنعم التي ستتناوب على مظاهر حياة الرسول (ص) قد كان من نتائجها هذا الدعاء السابق.

فورقة بن نوفل هنا لم يكن سوى نقطة البداية لنشر الإسلام، عبر العالم المعتقِد والمتدين من قبل، وتحقيق الميثاق الذي أخذه الله تعالى على كل نبي بعثه قبله، ومعه أمته أو أتباعه ضرورة، بالإيمان به والتصديق والنصرة له على من خالفه "وأخذ عليهم أن يؤدوا ذلك إلى كل من آمن بهم وصدقهم فأدوا من ذلك ما كان عليهم من الحق فيه، يقول الله تعالى لمحمد صلى الله عليه وآله وسلم (وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ النَّبِيِّينَ لَمَا آَتَيْتُكُمْ مِنْ كِتَابٍ وَحِكْمَةٍ ثُمَّ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مُصَدِّقٌ لِمَا مَعَكُمْ لَتُؤْمِنُنَّ بِهِ وَلَتَنْصُرُنَّهُ قَالَ أَأَقْرَرْتُمْ وَأَخَذْتُمْ عَلَى ذَلِكُمْ إِصْرِي ) أي ثقل ما حملتكم من عهدي . (قَالُوا أَقْرَرْنَا قَالَ فَاشْهَدُوا وَأَنَا مَعَكُمْ مِنَ الشَّاهِدِينَ) فأخذ الله ميثاق النبيين جميعا بالتصديق له والنصر له ممن خالفه، وأدوا ذلك إلى من آمن بهم وصدقهم من أهل هذين الكتابين"[6].

وهذا ما يفسر لنا قوة الترقب التي كانت سائدة آنذاك لدى أهل الكتاب من اليهود والنصارى لبعثة خاتم الأنبياء والمرسلين سيدنا محمد (ص) ، وذلك من خلال إقامة المراصد عبر الجزيرة العربية، وخاصة في نواحي الحجاز وطريق الشام كما كان الحال مع الراهب بحيرى.

لكن حظ ورقة قد كان الأوفر، لأنه وصل إلى العين مباشرة فرأى فيضها وارتوى منها وتحقق بوصالها، كما قد أصبح لزاما عليه الإخبار بها لكل من هو في عهدة الميثاق المأخوذ على الأنبياء من قبل، وخاصة أتباع موسى وعيسى عليهما السلام، بحيث قد جاْء الحديث حاصرا ومخصصا:

" وَالَّذِي نَفْسُ مُحَمَّدٍ بِيَدِهِ لاَ يَسْمَعُ بِي أَحَدٌ مِنْ هذِهِ الأُمَّةِ يَهُودِيٌّ وَلاَ نَصْرَانِيٌّ، ثُمَّ يَمُوتُ وَلَمْ يُؤْمِنْ بِالَّذِي أُرْسِلْتُ بِهِ، إِلاَّ كَانَ مِنْ أَصْحَابِ النَّارِ"[7].

فكان ورقة أول من سمع ورأى فآمن ومن كان معه في مقام الرصد من النصارى، كنسطاس الرومي فيما يذكر بعض الرواة للسيرة نجد له هذا التشخيص الأدبي من طه حسين للحوار بين الرجلين حول تباشير البعثة وهما في مركز الإشعاع: "ثم قطع نسطاس الصمت قائلا: إنه الفجر يا ورقة .قال ورقة: نعم، إنه الفجر يا نسطاس ! و الفجر الصادق هذه المرة، فقد طالما كذبتنا نجوم الليل.قال نسطاس: فقد أخذ الليل ينجلي .قال ورقة: ولكنه ينجلي في بطء شديد.قال نسطاس: وقد آن لي أن أرحل بالخبر إلى أصحابنا قبل أن تشرق الشمس .قال ورقة: أو قبل أن يرتفع الضحى .قال نسطاس: بل قبل أن تشرق الشمس فالخير في البكور، وكان شاعركم يحب الغدو مع الطير، فلنكن عربا ونحن نودع أرض العرب"[8].

 

الدكتور محمد بنيعيش

كلية الآداب والعلوم الإنسانية وجدة المغرب

.......................

[1] الدكتور محمد سعيد رمضان البوطي: فقه السيرة دار الفكر ط8ص85

[2]

[3] سورة المزمل آية 5

[4] رواه البخاري، كتاب بدء الوحيا

[5] رواه الطبراني في معجمه الكبير، وأصحاب السير

[6] ابن هشام: سيرة النبي (ص) دار الفكر ج 1ص252

[7] رواه مسلم

[8] طه حسين: إسلاميات، على هامش السيرة منشورات دار الآداب العربية بيروت ج3ص457

 

في المثقف اليوم

في نصوص اليوم