صحيفة المثقف

حيدر عبد الرضا: دراسة في مجموعة (في هذه الحديقة السوداء) للشاعر عبد الزهرة زكي

حيدر عبدالرضاقصيدة (أمّا وقد فتح نافذة) إنموذجا

النواة الشعرية واستقصائية الدال المتمحور في عين السواد

توطئة: أن القارىء إلى خطاب مجموعة قصائد (في هذه الحديقة السوداء) للشاعر عبد الزهرة زكي، قد يواجه ذلك الشكل النواتي من محتوى النص الشعري الذي تصاغ من خلاله جملة تراكيب متحولة في القيمة العلائقية والدلالية والبلاغية، عدة اتجاهات من الضرورة والإمكانية الزمانية والمكانية والملفوظية التي من شأنها التعامل مع موجهات دوال النص عبر مقصديات سرانية، وكأنها حديثا لمخطوطة من قاع عميق القرار، ولو تحدثنا من جهة هامة حول خصائص هذه النصوص لوجدنا من خلالها ذلك النسق المزاح في مؤشراته التكوينية والتوالدية والاستعارية، مما جعلنا نتعامل وإيها من ناحية قصدية متحفظة في الإجراء والمعاينة القرائية المؤولة في الأحوال النصية.عندما أتاح لي عن طريق دار شهريار للطباعة والنشر إقتناء هذه المختارات من شعر عبد الزهرة زكي، تم لي التعرف على محتوى آليات وتشكيلات وخطابية هذه النصوص، لذا أثرت لنفسي تناول كل قصيدة على حد من الحدود الأولية والمعيارية في مقاربة كل قصيدة من قصائد هذه المجموعة.في الواقع أقول أثارتني بادىء ذي بدء ما تحمله قصيدة (أمّا وقد فتح نافذة) ليس لأنها في أول تصديرات نسق المجموعة، لا أبدا؟ولكن لكونها من الموجهات البنائية والأسلوبية الملفتة في وظيفة تكوينها، والتي تعد إضافة متماسكة في شعرية استقصاء ما هو مسكوت عنه في الأواصر الثيمية من مختزلات الموضوعة المحفزة في مدار ملفوظها الباعث على التأويل والتحول في كيفيات الأحوال والعوامل النصية المكثفة في وسائل واصلاتها الدلالية.

ـ المسلمة العنوانية وآهلية خواص البنية الشعرية.

أن المهمة الأحداثية في مسار الإفصاح الشعري عبر مفتتح القصيدة يحملنابالمعنى إلى ذلك المحدد الثيمي في جملة العنونة (أمّا وقد فتح نافذة) لنستخلص من وراءه حجم مرجحات تلك العلاقة الدلالية المفترضة ما بين هيئات المحقق أو اللامحقق أو ذلك الاقتران بالفعل أو اللافعل أو اليقين أو اللايقين، فيما تلعب العلاقة العنوانية على قيمة ظرفية قد لا تكون مشروطة بالصيغة الفعلية من الحال، بقدر ما تسهم في بلورة ذلك الحاصل المتحقق بالفاعل القصدي من أفق كفاءة الدال نفسه:

لم يكن يدري لماذا كان عليه أن يفتحَ النافذةَ على الليل

وكانت مغلقةً منذ قرون. / ص5

أن سياقية الأسطر الشعرية الأولى من النص، تفتح لذاتها قابلية تصورية خاصة قادمة من معطى الحال المتعالق (لم يكن يدري) فيما تجتمع المنظومة الدوالية في صيغة الاستفسار المحاك بطريقة تتردد في منطوقها الحلمي ثمة إيقاعات متصلة ما بين العلامة وقطع الملفوظ الأحوالي: (لماذا كان عليه أن يفتح النافذة على الليل) يمكننا تأمل وتجزيء حركية الجملة على النحو الذي يشعرنا من جهة ما بأن المقصود الأحوالي من جملة (لماذا كان عليه) هو بمثابة الأداء الخياري في منحى من القيمة الاستفسارية في التمثيل وبالتوجه التفاضلي، إي بمعنى ما هنا تكمن أولية رافضة وجازمة بعملية فتح تلك النافذة، لأن سلطة الآخر في النص جاءتنا محمولا بصوت المشار الآنوي كوحدة مرسلة نحو فعل منفذ غير حاضر، ذلك جزما بدلالة (كان عليه )وحتى لو افترضنا بأن الذات الفاعلة هي ما راح يؤشر لذاتها ذلك المرسل بالغائب من الحال التصوري.وعلى هذا النحو تظل علامة الغائب بالحاضر، كمحاولة في ترهين مهيمنة الزمن المهمل من خلف النافذة أو المتحول من خلف النافذة قدما، إلا أننا نعاين في الوقت ذاته بأن دال (النافذة) ودال (الليل) هما في دائرة التمثل الرمزي الذي من شأنه اعتبار عملية فتح تلك النافذة بما يعادل زمن حلول ذلك الليل القاهر والذي قد يمتد في توصيفه إلى درجة طوالع الشر والشرور، نظرا إلى ما صار مؤكدا من جملة(كانت مغلقة منذ قرون)أي أن الكيفية التي تم بها تجميد ذلك الزمن الظلمائي منذ غياهب الزمن الحقيقي، ما يعادل ذلك الاحتمال بمهجورية ذلك الآخر ومنذ منطقة المقترح التأويلي في العنونة والذي غدا في حالة مشتغلا بفعل الاستعادة المقصودة من الذات الراوية:

أمّا وقد فتحَ النافذة

فقد ظَل يحدَق بالليلِ،

ولم يرَ الظلام.

بمعنى ما أن مستوى الفتح جاء بصيغة الاثبات والترتيب الإقراري المرهون في صحة الحقيقة الفعلية من الذات، إذ أنه ظل متماهيا مع دلالات مراقبة الليل في الطرف المنفرد من عزلته الذاتية، غير أن ما تحمله جملة (ولم ير الظلام) ما يحفز التأويل في النظر إلى حيثيات هذه الصورة النافية من زمن الدلالة المفترضة، بما راح يوسع من ظنية ذلك التعدد في أوجه المساءلة حول ذلك الليل.فالشاعر غدا(يحدق بالليل) غير أنه في فعل ذاته المحتمل (لم ير الظلام) وهنا ما يفسر ثنائية (الليل ـ الظلام ) بخاصية وصفية مغايرة، ذلك لأن عنصر دال الليل هو طبيعة انعكاسية كونية متحولة، إلا أن الظلام قد يعرب عن ذاته بذلك الحضور العمائي الكوني الملتبس على مرئية الذات الناظرة، ويمكننا أيضا وضع حساسية التلقي في حالة التفاعل بين الباث والمستقبل على محامل أوجه خاصة من التأويل.

1ـ استثارة التمظهر الشعري بالمرموز الاستجابي:

قد يكون الشاعر أحيانا في نصه ممن يميل إلى استظهار قابلية متحولة في أداة الوظيفة الشعرية المستنكرة بمزيد من روح القناع اللفظوي الذي من شأنه الغور في شرعية فرض اللغة المزاحة عن مواضعها الدالة بطرائق مستوعبة.فعندما نتعامل مع أوجه الأسطر القادمة من النص، تتبين لنا ثمة لغة إيهامية في تصوير واقع أحوالي قد لا يمت إلى مصادر العلامة والرمز أو حتى الإحالة إلى شيء من الانخراط في تكوين دلالة المعنى القصدي:

كان طيرٌ ما زالَ محلقاً كلّ تلك القرون.

وكانت أمامه، في الظلامِ، قطراتُ مطرٍ تيبست،

فظلّت نائمةً معلقةً في الفراغ.

 

من هنا لعلنا نعاين سلطة العلائق المرمزة، وكأنها تكشف عن كينونة أحوالية في أزل الآزال أو كأنها إعادة للتكوين الوجودي ضمن رؤية ميتافيزيقية أختص بها الشاعر لوحده؟ إلا أننا عندما نتعامل مع دال (طير) أو (محلق) أو(القرون) تتضح لنا حقيقة الذات المقيمة في إلتباس دوامة الأزمنة (في الظلام، قطرات مطر تيبست) الذات تروي هنا عن أحوال إقامتها في ذلك الفصل اليبابي من حكاية (الماقبل، المابعد) بدليل أنها بقية (نائمة معلقة في الفراغ) أن مستوى شيفرات المرمز هنا لا تنفك وهي تلاحق وجودها داخل تلك الفصول الحياتية من كوميديا الظلام.فهي تستنطق أحوالها وتنطوي معلقة عبر فواصل مشهدها من النافذة التي تشكل بدورها ذلك المعادل العلامي الذي يشير بدوره إلى ذات الراوي الشعري.إذا فالراوي في النص هنا هو ذلك الشبح الذي يستسقي لنفسه (قطرات مطر تيبست)وعلى هذا النحو تظل قطرات المطر بمثابة الدلالة اليبابية التي تسعى إلى تعميق مدى الاحساس بشحوبية وجفاف وهوان تلك الفصول من الحياة الآنوية:

وكان ثمةَ مصباحٌ يُطفأ

حينما قطرةُ دمٍ جاءت من الظلامِ عبرَ النافذةِ المشرعة،

فسقطت على قميصهِ. / ص6

تتواصل آلية الخطاب بالحكي نحو سياق تتلخص منه، جملة الدوال لتستأثر لذاتها ذلك النوع القريب من السرد السريالي، بل أنها فعلا قصيدة سريالية في مشروع خاص من رسم المعنى التقاطعي بأداة اللون والخط وتعرجات الوصول إلى غاية دلالية مجسدة.ولكننا عندما ننظر إلى طبيعة جمل (ثمة مصباح يطفأ ـ حينما قطرة دم جاءت من الظلام عبر النافذة المشرعة) قد تتبين لنا عدة دلالات شهودية ما، تتلخص في كون المصباح الذي هو أداة للإنارة عادة، لاينفك في غياب عن وظيفته المعتادة، وهذا الأمر بدوره ما يجسد حالة الظلام المطبقة في المكان تماما.أما ما يخص جملة(حينما قطرة دم جاءت من الظلام عبر النافذة المشرعة) ما يدل على أن ثمة حالة استنزاف موجودة(فسقطت على قميصه)بالمقابل أيضا هناك ما توحي به النافذة المشرعة على حالة تعاضدية مع ما كان من قبل(لم يكن يدري لماذا كان عليه أن يفتح النافذة) الشاعر في كل هذا وذاك كان يسعى إلى خلاصة صورية شعرية تحكمها الملامح وليس الوجوه، الأصداء وليس الأصوات، الظلال لا الأجساد، وربما القصيدة هي من خصائصها أنها متحصنة رغم أفول الخفاء الذي هي عليه، لتدخلنا إلى مراحل الرؤية والرؤيا، وصولا إلى تسخير معادلات الموضوعة الشعرية إلى أقصى مجالات التشكيل الدوالي المبهم.

2ـ قصيدة الرؤيا بين الممكن الامكاني والطاقة التصويرية:

أن القابلية الاحتوائية في مستوى بنيات ارتباط القصيدة في العلاقة التشكيلية، لربما هي مرحلة متعددة في نتائجها الدلالية وهيئاتها المركزة في صنيع الطاقة الحسية المتلاحمة ومحققات فواعل النص، وعلى وفق هذه المدخلية من قراءتنا للقصيدة، أود القول بأن قصيدة الشاعر موضع بحثنا، تمتلك في ذاتها غواية التأويل في المعنى، ناهيك عن سلطة ذلك المعادل في محامل موضوعة المرسل النصي وما يحتمله من مضامين مركزة في دليلها الإحالي:

قطرةُ دمٍ كان بالكاد قد رآها،

جاء بها هواءٌ كان غريباً وليس كالهواء.

كان ينظرُ إلى القطرة،

وكانت القطرةُ تكبرُ على القميص،

وكان يشمّ في الهواءِ، عبر النافذةِ، رائحةً للدم. / ص6

من هنا قد يكتسب الدال الشعري هوية المخصوص النواتي في الموصوف التشكيلي، وصولا إلى مستويات ممكنة من الصوغ البنائي وسلامة العلاقة المتفاعلة التي تتلخص في جملة (قطرة دم بالكاد قد رآها) وجملة اللاحق أيضا (جاء بها هواء كان غريبا) أن الدقة الصياغية في عوالم شعرية عبد الزهرة زكي الموسومة بـ (قصيدة الرؤية) بمثابة معالجة الحال الذواتي بجرعات تشكيلية ذات نفحة رثائية خاصة بحكاية الأوطان التي سلبت ونزفت ذواتها في الظلمات القادمة من جراء تلك النافذة التي بقية مشرعة نهبا لموجات سموم الرياح والأمطار المتحجرة بآثار نحر الذوات، فيما تبقى روائح الدم والجثث عائمة في بياض المعادل عن الوطن والمتمثل بـ (القطرة تكبر على القميص)أو (عبر النافذة، رائحة للدم).

ـ تعليق القراءة:

لاشك أن آليات قصيدة (أمّا وقد فتح النافذة) هي بمثابة منظومة دوالية ذات حساسية تشكيلية ـ تبئيرية، أخذت من خلالها دوال المتن النصي عمقا في تحولات الروح الدلالية المتحفزة نحو زمن القلق وظلام الاغتراب وليل الوحشة، وهي تواجه مصير ذاتها ووطنها في حدود معبرة من هذه الجمل الأخيرة من القصيدة:

وظلت العينان مفتوحتَين على وسعِهما

فيما كان خلفَ النافذة ليلٌ،

وكان ليلاً أحمرَ. / ص7

هكذا تنتهي دوال القصيدة بوسائط ممعنة بتلك الأسئلة النواتية المتصلة بدائرة المعنى القصدي المؤول، لتقودنا نحو علامات استقصائية متمحورة على نبوءة الذات في استشعاراتها الإيحائية المدعومة بالسؤال الشعري نحو ماهية ذلك الظلام الملطخ بدماء الأصوات والأصداء والأعمار والمصائر والقمصان الملوثة ببقع الدماء المنحورة في الظلمات الدامية.

 

حيدر عبد الرضا

 

 

 

 

 

 

في المثقف اليوم

في نصوص اليوم