صحيفة المثقف

حيدر عبد الرضا: دراسة في الأعمال الشعرية الكاملة للشاعر حسين عبد اللطيف (1)

حيدر عبدالرضاديوان قصائد (نار القطرب) إنموذجا.. المستعار البوهيمي بين معابد الدال وأفعال المرجع المؤسطر.. الفصل الثاني ـ المبحث (1)

توطئة:

أن فعل القراءة في احياز دلالات قصائد ديوان (نار القطرب) تقودنا نحو تلك الممارسة الشعرية التي تكفلتها الذات الراوية للشاعر، حيث تبدأ في حدود إجرائية صورية مؤسطرة في مجالات تشكل الملفوظ القصدي عبر وسائل حميمة وشاقة في تحميل موقعية أفعال النص بتعاملات إدائية خاصة بدليل ذلك المحمول المقارب بـ (المستعار البوهيمي) وهو يتلفظ وجوده القناعي بوسائط مؤولة من الاستعدادات الاسلوبية المتخيلة من أفق إنتاج الدلالة الشعرية المتعالقة ما بين حقيقة الدال الشعري وممارساته النواتية في مرجعية المؤسطر من تأويلات الخطاب الشعري الخاص والعام الكامن في مؤشرات القصيدة.

ـ المتشكل النصي وشيفرات الرؤية الإحالية

قد لا أزعم لنفسي أن قراءتنا المبحثية في مجموعة الأعمال الشعرية الكاملة للشاعر الكبير حسين عبد اللطيف، قد تفي بكل ما في ثريا تجربة هذا الشاعر الفذ، ولكننا حاولنا تقديم في كتابنا هذا مجموعة دراسات تدعمها رؤية الناقد في استنطاق النصوص على النحو الذي يجعل من قراءتنا محض آليات نسبية في مقاربة هذا المنجز الكبير للشاعر.تحدثنا في مباحث الفصل الأول عن بعض من النماذج الشعرية في ديوان (على الطرقات أرقب المارة) ولأننا لم نتناول كل قصائد هذا الديوان، فلعلنا سوف نعاود دراسة البعض الباقي منها في ضوء ضرورة إجرائية خاصة.وتبعا لهذا نفتتح في مباحث هذه القراءة ما تتوافر عليه قصائد ديوان (نار القطرب) لنرى بمعنى من الدقة والعناية، ما المجال الاسلوبي والإجرائي الذي تتصدر فيه تجربة هذا الديوان الشعري من تعاملات دوالية أخذت لذاتها في قرار النص ذلك الشكل من (التشكل النصي) المقارب إلى الاستفادة والاستثمار من مرجعية الأفكار والمداليل المؤسطرة في مشهد المعبد البوذي القصدي من معادلات الشاعر الكيفية:

(1)

نفق البوذي

قرب الماء

وقع الخارق

في الخان...التمّ الشحاذون...

دقائق خمس

سألوا المولى

فتدلّت...

من أغصان الليل الشمس . / ص65  قصيدة: أناشيد من الأوبنشياد سفينا سيفاترا

إن ماهية الوعي بجدلية الشكل الأحوالي في مقاطع قصيدة الشاعر، تفضي بنا إلى مراجعة ذلك الأفق المرجعي من شيفرات الموضوعة الشعرية لديه، احتسابا لحدود انطباعها الطقسي والخاص بالعبادة البوذية، ولكن قصيدة الشاعر لم تفسح لذاتها التواصل في مكونات ذلك المنسك الوثني، بل إنها أخذت في توصيف أحوال رؤيتها الموضوعية في ذلك الطقس جاعلة من مؤثثاته، سياقا كاشفا في محددات إضائية خاصة. وذلك ما تتحدد به جملة (نفق البوذي) وجملة (قرب الماء) أن العملية الدلالية في مشهد هذه الجملتان جاءتنا ملمحا لوصف مفردات حصيلة بيئية ـ سكونية، مصدرها ذلك الباعث في دال (البوذي) أو ذلك الدال المتمثل بواصلة (الماء) في القرب أو البعد السكوني من قيمة (الدال المتحول ـ المنفذ لعلاقة الأداء) وصولا بحقيقة خطى (وقع الخارق) بعدا رمزيا جعل يتبنى في حركيته الأحوالية ذلك الظرف المكاني المضمر من رؤية الحال والاظهار في موجه المرسل إليه (في الخان ... التمّ الشحاذون..) وبهذا الأمر تتبين لنا عناصر المكان دون ملحقاته التحيينية، شحذا منا إلى التقاط ما تجود به تفاصيل البوح الرقمي من القصيدة العنقودية،  من سكونية خارقة في بث واصلاتها الدلالية (سألوا المولى .. فتدلّت ... من أغصان الليل الشمس) وتنتهي بنية الأسطر الأولى بهذا الحال المنقطع وجوديا، لتتضح من وراءه تلك الروح الطقوسية الخاصة في محاكاة أفق الخوارق البوذية، وما تقتضيه من إيهامية في بث مقصودية الواقعة الموصوفة.

1ـ بنية شعرنة الدال في مرآة الفعل المراوي:

وتنقسم المكانية في معلنات القسم اللاحق من النص المرقم بما يوفر للنص في ذاته، ذلك المستوى من مسوغ تقانة (العلامة المراوية) زمنا استعاريا ـ في تقويم التوظيف الإيهامي في مرسلات الذات الشاعرة.

في أحلام الفقراء...

سطعت مرآةٌ...

وتساقط خبزٌ،  / ص65 ص66

أن العلاقة الكافية في مشهد هذه الفواعل الشعرية، تتلخص في كونها دلالات خفية، فيما تتأنسق منها محاور الأحوال في صورة ملفوظية ذات متداولة دوالية مؤملة بروح الانفراج المرادف من المعنى، أي بمعنى ما أكثر محسوبية ودقة، نقول أن جملة (أحلام الفقراء) هي الذروة الضالة من مساحة زمن (أمنية ـ حلم: مفارقة ـ جوع ـ ضياع = الفقراء ـ المرآة = وسيلة منظور إليه) أي القابلية الذواتية المعكوسة في رحم المرآة، هي حقيقة تنم عن ما في داخل دال (الفقراء) من لهفة رغبوية في الطعام والشراب، لذا وجدنا حالة الفعل المراوي في صور الفقراء، تحقق لهم محض أطياف من رؤى(وتساقط خبز؟) بدلالة أخذت تنسحب في عموميتها إلى حالة خاصة من عبر موجه جهة(شعراء= فقراء) اقترانا لها بذلك التشظي في تداعيات زمن الصورة الكلية من المتحول الأقصى من ذات الشاعر القولية:

كان الخبز: جرائد

وقصائد

يحيا

فيها

الله./ ص66

وما يعنيه بهذه الدوال الشاعر، هو ذلك المتمنى بمرموز(الخبز) وإحالته إلى حالة قصدية في زمن الأحداث المرجعية، وبهذا الأمر تنبسط أحلام الفقراء لتكون صورة ذلك الشاعر وهو يوصف حضوره الزمني في المرآة على هيئة مزدوجة من رؤى الفقراء في الذات المراوية نفسها.

2ـ تشوفات الحال في تراكيب الأنا الظلية:

وإذا كان الشاعر قد احاطنا في المقاطع المرقمة من قصيدته (أناشد من الأوبنشياد سفينا سيفاترا) تلك المقاصد من رؤى المكان والظرف (الطقوسي = المراوي) فهنا في هذه المشهدية الأخيرة من النص يدفعنا الشاعر نحو تشوفات الحال بالاستفادة من العلامة الظلية، وإذا كان الدال الفاعل في النص هو علامة ظلية إلى ذلك الكائن المفارق، فما دور المحدد المجسم من ذلك المشار إليه؟:

وأنا مركوزٌ في نقطة

يتجمهر حولي الناس

لم يأتِ القافز

فوق الظلّ....

ولم يكشف وجهي الحراس . / ص66

قد تستفيد هذه الأحوال من الدوال ، من حيز الاشارات المختزلة، حيث يتعمق مكنون الطاقة المتماهية في قناع النص، بما يوفر لها حالة من المطابقة في الدلالة الفيضية من العدم في مقابل محمول تلك الذات التي هي كينونة متمحورة في غيابها الملموس، لذا فهي مرئية من ناحية حضورها العضوي، إلا إنها مغيبة في غيرية ذلك المكنون من الأسطر (لم يأت القافز ـ فوق الظل ...) وهنا الاداة التابعة للمحذوف ما يمهد لنا الظن بأن الذات في حالها مفصولة عن وجودها العيني، بذا ظلت ظلا(ولم يكشف وجهي الحراس) يعيدنا الشاعر حسين عبد اللطيف إلى اسقاطات الوعي الكينوني من رماد المجسم الجسدي، الذي هو بلا وجود أصلا، سوى ذلك المظهر الهلامي المنسي من وجه ووجوه الشاعر في ذاكرة الظل والظلال.

ـ الملفوظ النواتي  بين الإمكان الوجودي وشعرية الفعل الكوني.

إن قابلية المتابعة في شعر(حسين عبد اللطيف)هي الحصيلة الفاتحة من (إرادة الفعل) نحو تكوين الصورة الإطارية للذات الواصفة في الأقنعة الغائبة من مصاحبات المعنى الخلوصي المتكامل في زمن النص..أي أود الأشارة هنا إلى مجموعة قصائد (نار القطرب) التي هي عبارة عن مجملات دلالية تأويلية تستعين ممارساتها في خطاب التجزأ واللاحاق بما يوفر للمعنى مشاهدات نصفية من إكتمال التفاصيل المحققة في مبعوث المرسل الشعري.بهذا المضي من هذه التوطئة المبحثية القصيرة، نقرأ قصيدة (منطقة) لنستنتج من حدوثاتها الاحوالية، ذلك الخيط الرابط بفكرة ذلك الإيحاء بالرجل البوذي تشكيلا ورؤية ودليلا:

جسدي سرج

أسري في الليل عليه

لأزور

بلاد الله

وأبحث

عن نقطة

في أرضِ ما . / ص67

أن آليات العنونة (منطقة) تشكل في ذاتها ذلك الحيز المتصل ما بين (أنا ـ جسدي ـ نقطة ـ سكون ـ حركة) وهذه الجملة من الأوضاع تجيبنا على محتوى تجربة النص الذي راح يعاين لذاته، ومنذ جملة (جسدي سرج) ذلك الاقتران الفعلي في جملة الطواف الوجودي (أسري في الليل عليه) لتشتغل هذه الصلة الإلتحامية بدورها نحو دال (أزور) لتكون استجابة مرتبطة من غائية الحركة والتواصل إلى (بلاد الله) إذ يتحول اداة العطف على فعل المعطوف(أبحث) لتشكل جانبا متجليا للكشف عن غائية الوسيلة المتممة والملخصة في (عن نقطة .. في أرض ما) وعلى هذا النحو من التصديرات الدوالية، نفهم بأن للشاعر تصوراته المرتقبة بحساسية أفعال نصه، وذلك إبتداءا بالعتبة اللاحقة من السطر القادم (يتوحّد فيها الكون) ومن هنا سوف نتعامل مع حالات الأنا الواصفة في مقاطع النص، على أنها إسهاما فاعلا من حصيلة (الوجودـ العدم ـ اليقين ـ الكينونة) وحتى بلوغا بهذه المقاطع من النص:

يقع الفعل: فتأتي الحركة

ويكون سكون الموت . / 67

قد يتسع مثل هذا التصور من الرؤية الشعرية بالاشارة نحو اماد خاصة من سرانية الحركة الازلية أو البرزخية التي تتحملها مقترحات المعطى المؤول(الوجود: فعل = حركة: سكون ـ الموت = عتبة برزخية من اللامتناهي) ولكننا عندما نواصل الاطلاع على باقي الاسطر في المتن النصي، تواجهنا مجددا حكاية ذلك البوذي في واصلة محورية حميمة وملفتة في كوامن قصديتها:

بوذياً ... أدخل عاصمة النار

أفني جسدي

للجمر: تضاريس الأعضاء

وللفقراء الأسمال . / ص67

بهذا الشكل البوهيمي ينعطف بنا الشاعر نحو بعدا صوفيا، في التمظهر الدلالي، مما يجعل قراءتنا للدوال تنحو منحى يكتنز لذاته ذلك المعطى الاحتمالي رمزيا وفضائيا إزاء مبررات إنتاج الجملة الروحية من المقطع: (بوذياً ... أدخل عاصمة النار) تنتج مفردة (البوذي) تلك المساحة الخاصة التي تتكفل بمثالية الحركة نحو الخلاص من أعباء الوجود، أو أنه بمعنى آخر، ذلك المتسلح بخلفية الفعل الروحاني المضاد لوهج الاحتراق، أو لربما يقصد من خلال وارد الجملة اللاحقة (أفني جسدي للجمر) كعادة طقوسية في العبادة الوثنية نستخلص منها معنى التطهر أو التزكية في سبيل جملة (وللفقراء الأسمال) فعلى الرغم من ما للجملة من محققات ضمنية في وظيفة التدليل، إلا أنها تكشف عن حالها المعروف في حيز خاص من الانجاز المدلولي:

في ماء المرآةْ

رحي

وسقوط الظل: على القاع

فليجرِ النهرَ...

... ليجرِ النهرَ ...

ليجرِ

وليبحث

عن نقطةْ

في أرضِ ما

يتوحّد فيها الكون. / ص68 .ص69

أن طبيعة الدوال من التكرار والحذف والتأخير والتقديم، وهو ما يتراءى لنا في جملة (في ماء المرآة .. روحي) أن الدلالة المرآتية ها هنا تقدم لذاتها رسما سيميائيا صار يجسد المراحل العمرية من ذاكرة الذات، فيما تبقى هذه الذات بمثابة المتمحور الروحي الذي هو بمرونة المثول الظلي الشفيف في قاع العمر الزمني في حياة الشاعر(فليجر النهر... ليجر النهر...ليجر) أن المضاعفة التكرارية في جملة (فليجر النهر ...) هي في ذلك المستوى المتماهي من حقيقة الوجود للذات وواقع عدمها التعددي في المرمز، غير أنها تتواصل في لازمة جاءت بصيغة تأثيرية وكأن مراد الشاعر منها الخلوص من صورتها الوهمية، افتراضا لها بذلك البحث عن(وليبحث عن نقطة ... في أرض ما) إذ تتنازع في دواخل الذات، ذلك التعلق بحياة أخرى أكثر طهرا ونقاوة من ملحقات حياة ذلك البوذي،  الذي أختار لنفسه الخلود في جحيم النار، طلبا أوتماهيا مع الأرواح الخالدة في المعتقد الوثني، لذا فهو يواصل بحثه في نهر الحياة عن ذاته الأخرى، امتدادا نحو ذلك الكون اليوتوبي العميق:

يستيقظ أطفال في العشب

يتوقّد قنديل البيت

لهب يتلولب فوق الأشجار

شجر يتهجّد...

ريح الشرق تصلّي

وحصاةْ

تتمطّى

في ماء المرآةْ . / ص68

ـ تعليق القراءة:

لا شك أن تجربة قصائد ديوان (نار القطرب) ذات مكابدات ذاتية وجودية خاصة، فهي من جهة ما تشكل دلالات الاحساس بالضياع والتيه الكوني للذات نفسها ..ومن خلال دراسة مباحثنا لهذه النماذج من الشعر في هذا المنجز، وجدنا الذات الراوية في محاولة منها إلى تأسيس ذلك الكون المغاير في الذاكرة والحلم والحاضر والغائب من مقترحات الأداء الاستقدامي بالأشياء والحالات نحو ذلك الفضاء الاستجابي من سلطة المستعار البوهيمي المتراوح بين معابد الدال التماثلي وأفعال أفق المؤسطر المرجعي.

 

في المثقف اليوم

في نصوص اليوم