صحيفة المثقف

أقلام فكرية

البنية اللغوية في موازاة الواقع

هل تراجعت اللغة كنسق نظامي مستقل في تعبيرها عن الوجود؟، وهل أصبحت جوهرا محايدا في فلسفة اللغة وتيارات فلاسفة التاويلية والتفكيكية والتحليلية المنطقية في تعبيرها عن المعنى الدال وتراجعت مهمة التواصل المجتمعي الى مرتبة ثانوية في خلق اللغة عوالمها الموازية لعالم الواقع الحقيقي لا تقاطعه ولا تحتدم معه بصراع ولا تتناغم معه كتكوين متموضع تجديدي؟ هل تنازلت اللغة عن مهمتها في تحقيقها الإدراك الشيئي القائم على مطابقة الدال اللغوي مع المدلول الشيئي مطابقة تامة تجعل من المدركات الشيئية بديهيات معرفية لا تقبل التشكيك بها، بعدما إكتسبت تلك الاشياء البداهة الحدسية الموجودية في مطابقة الدلالة اللغوية مع وجودها الشيئي زمكانيا.؟

فلسفة اللغة أدخلت مبحث اللغة في دوامة من المتناقضات التي إعتبرها فلاسفة اللغة وعلوم اللسانيات وفلاسفة مبدأ التحول اللغوي علي يد كل من فريجة ودي سوسير، وفلاسفة اللغة، ونظرية القراءة الجديدة وحفريات النص في تقصّي البحث عن فائض المعنى اللغوي . المعنى غير المكتشف في ثنايا تداولية اللغة بمثابة محاولة عملية إنقاذ فاشلة لمباحث الفلسفة من تقليديتها الخاوية المفرغة من مرحلة الاحتضار والموت البطيء التي كانت تعانيه طيلة قرون طويلة في دورانها المتمركز حول الانسان والمعرفة والوجود والطبيعة والعلاقات البينية بين تلك المباحث وغيرها.. ما اقصده هنا هو تشخيص الاعتلال والمرض لا يعني إمكانية الشفاء منه كما حاولته تيارات ومدارس فلسفة اللغة والتحويل اللغوي وفشلت.

الحقيقة التي لا يمكن القفز من فوقها أن التيارات الفلسفية التي عمّت وسادت اوربا وامريكا بعد أفول نجم البنيوية التي رافقت بكل إمكاناتها طروحات مرحلة ما بعد الحداثة، لم تحقق الطموح الذي كانت تتوخاه من عملية التحول اللغوي وإعتماد علوم اللسانيات وفلسفة اللغة وما يتفرع عنها في محاولة إدخال فلسفة اللغة في كل مبحث فلسفي أو مبحث معرفي حتى وصل الحد تجاوز إدخال الفلسفة بعلوم الفيزياء الى إدخالها في علوم الرياضيات وباقي العلوم الطبيعية التي تمتلك خصائصها النوعية التي تقاطع منطق الفلسفة تماما. ليس في إختلاف شكلية التعبير اللغوي بين الفلسفة التي تعتمد اللغة الابجدية الصوتية، وبين العلوم الطبيعية التي يكون تعبيرها اللغوي هو علامات ورموز ما يسمى بالمعادلات الرياضية . إنما الإختلاف أبعد من ذلك حول إهتمامات ما يشغل التفكير العلمي في تقاطعه مع ما يشغل مباحث الفلسفة. ولو نحن إستقصينا في جردة سريعة الإخفاقات التي رافقت فلسفة اللغة وعلوم اللسانيات ولم تنجز اليسير مما كان يمّثل طموحا مرتجى صدر عنها وأعلنت هي عنه، فلا البنيوية ولا التاويلية ولا حتى نهايات الوجودية الحديثة، ولا التفكيكية، ولا العدمية ولا التحليلية المنطقية الانجليزية جميعهم منفردين ولا حتى متداخلين لم يتمكنوا من إسعاف بعضهم البعض ولا إستطاعوا إنجاز ما كانوا يأملونه من توظيفات فلسفة اللغة وعلوم اللغة واللسانيات بما لا يمكن حصره من مباحث وقضايا كانت فلسفة اللغة على الدوام توازيها ولا تتقاطع أو تتداخل معها حينما كانت غارقة في مثالية إعتماد مركزية اللغة هي الحل السحري لمشاكل وقضايا تاريخ الفلسفة المستعصية أو الميئوس منها..

أغلب المطلعين على مباحث فلسفة اللغة يدركون جيدا أن المبدأ العام في المنطق النظري الذي طرحته فلسفة اللغة وعلوم اللسانيات كان في تمام المقبولية والإقرار بحقيقة أن معنى اللغة أضاع على مباحث الفلسفة الوصول الى مثابات إرتكاز تجديدية لم تتحقق عبر تاريخها الطويل وبقيت مباحث الفلسفة التقليدية تراوح مكانها إجترارا تقليديا لا معنى حقيقي له بات مركونا بالظل في غياب توافر ملء الفراغ التجديدي له. وقالوا مشكلة الفلسفة اولا واخيرا مشكلة تعبير اللغة في تضليلها العقل وخيانتها المعنى.

فلسفة اللغة حديثا شطرت مباحث الفلسفة شطرين: الاول أن مباحث فلسفة اللغة هي ليست الابحار العميق في تقليب صفحات تتوخى تصحيح نحو اللغة وقواعدها التركيبية لإعطاء كمال المعنى باللغة المجردة عن كل قصدية قبلية سابقة تروم وصولها.

والثاني وجدوا في مباحث فلسفة اللغة أنها لم تكن غاية بذاتها بل وسيلة تصحيح مسارات مباحث الفلسفة الغارقة في مستنقعات الإعادة والتكرار في مواضيع تتوزعها مباحث الوجود ومباحث الابستمولوجيا والمعارف، ومباحث القيم الاخلاقية الاكسيولوجيا.

لذا نجد أول من تنبّه تحاشي هذا المنزلق الخطير هم فلاسفة البنيوية التي ركنت مباحث فلسفة اللغة جانبا بعد أن كانت ألسبّاقة الاولى في فتحها فضاءات فلسفة اللغة والمعنى على مصاريعها، كما وركنت البنيوية مباحث الفلسفة التقليدية ثانيا لتقوم بطرق أبواب مباحث فلسفية جديدة لم تكن ذات إهتمام عند الفلاسفة طيلة قرون، كما نجد ذلك عند فوكو والتوسير ولاكان ودي سوسير وليفي شتراوس وباشلار وهكذا في اشتغالهم على مباحث فلسفية لا علاقة ترابطية تداخلية لها مع مركزية فلسفة وعلوم اللغة.

أبدأ بسؤال: هل فلسفة اللغة أغنت مباحث الفلسفة القديمة والحديثة التي جاءت بها؟ أم عملت على تشتيت إهتمامات الفلسفة في السير وراء تجريدات من الاشتغال على بنية اللغة كنصوص تتداولها الفلسفة بما هي لغة تشكيل علاماتي يتكوّن من نحو وقواعد وصرف خاصة باللغة شكلا ومحتوى؟ أم أن فلسفة اللغة فتحت أبوابا بحثية فلسفية كانت موصدة ولم تحقق المرجو المطلوب منها حيث أضحى تراشق تهم خيانة اللغة وبراءة الفكر في أولويات مداخل مباحث الفلسفة اللغوية التي أصبحت في متراكمها الكمّي والنوعي متاهات من التجريد الذي جعل من اللغة إنفصالا تاما عن كل ما هو جدير بالإهتمام في الحياة والانسان والعقل ناهيك عن العلم بكل تجليّاته.

هنا ربما يساء الفهم أننا نطالب أن تكون مباحث فلسفة اللغة وعلوم اللسانيات ايديولوجيات تعبوية ملتزمة قضايا الانسان في حياته اليومية.من هذه النقطة الاخيرة نستعير كلمات بول ريكور في إدانة إنفصال اللغة عن الواقع الميداني، والمفارقة الغريبة هي أن بول ريكور هو الآخركان يسبح في مغطس تضليل الفلسفة بإسم الإحتماء خلف فلسفة اللغة في تاويليته. في الهورمنطيقا لكنه ربما أراد ترقيع الفتق الفاصل بين فلسفة اللغة والفلسفة ; كسردية منطقية بما أطلق عليه التاويلية أو الهورمنطيقا التي لم تغادر محكومية الإنقياد وراء فلسفة اللغة لها بمعزل تام عن قضايا الواقع والحياة في مباحث الفلسفة التقليدية.

أمام حقيقة الاصطدام أن فلسفة اللغة أصبحت إنفصالا تاما عن التزامها التعبير عن الواقع الخارجي الحياتي للانسان، وصف بول ريكور فيلسوف التاويلية إدانته الفلسفة البنيوية التي خرج من تحت عباءتها قائلا ما معناه التفكير البنيوي النسقي في البنيوية كان يتخّبط في نمطيّة كليّة من التفكير في عالم اللغة الداخلي الذي يتخّطى جميع الاشتراطات المنهجية الذي ينشدها عالم الانسان الخارجي، عليه لم تعد اللغة بعدها توسيطا بين العقل والاشياء بل البحث عن تشكيل بنية عالم لغوي منفرد خاص باللغة وحدها.

بهذه النظرة رفض بول ريكور الفكرة الأساسية التي كان دافع فينجشتين عنها بإلحاح حينما كان أحد اعضاء فلسفة تحليلية اكسفورد في وجوب التعامل مع اللغة بوصفها صورة حياتية تنمو وتتطور من خلال طبيعتها المجتمعية، وفي وجوب جريان ينابيع اللغة مع دفق الحياة في سيرورتها الدائمية. وكأنما كانت هذه الدعوة من فينجشتين هي تكفير عن ذنب إرتكبه وخرجت معالجته من بين يديه. وحتى ريكور رغم إدانته الصحيحة للبنيوية فهو عجز عن إعطاء بديل عنها.

بول ريكور في الهورمنطيقا سبق جميع التيارات الفلسفية السابقة عليه في رفضه إتجاهين فلسفيين رئيسيين أحدهما متمثلا بالفلسفة التي كانت تنادي في إصلاح معنى اللغة تمهيدا لإصلاح قضايا الفلسفة عامة في وضعها على سكة معالجتها قضايا فلسفية تكون فيها اللغة ليست بنية نسقية في تنظيم نفسها باستقلالية تامة عن عالم الانسان الخارجي والحياة والإتجاه الثاني أن اللغة كبنية نسقية تبني نفسها بنفسها كي لا تكون سلوكا نفسيا ولا نزوعا فطريا يسكن الفرد يتطور ذاتيا بمعزل أن يكون للمجتمع دورا تكامليا معه.، فأصبحت فلسفة اللغة لا علاقة لها مع وجوب معالجة قضايا إنسانية هي خارج تشكيل إستقلالية بناء نسق لغوي من التجريد لا يمكن تطبيقه ولو جزئيا على ضروب معرفية سوى ما جرى على مستوى نقد الادب كما فعل رولان بارت، وغيره من المتاثرين بتفكيكية جاك دريدا ممن وجدوا في معالم التفكيكية وبعض موروثات البنيوية إمكانية أن تكون منهاجا تطبيقيا تجديديا في ضروب مناهج النقد الادبي...

ربما يبدو مصادرة فكرية قولنا كان سعي بول ريكور تاسيس بنية لغوية هي إكتفاء لغوي ذاتي يقوم على إعتماد تطورات اللغة في مجمل التناقضات والاختلافات والفروقات القائمة داخل النظام اللغوي المستقل عن العالم الخارجي.. النسق اللغوي المكتفي ذاتيا الذي إخترعه ريكور ودريدا بفارق ليس جوهريا، هو خلق نسق لغوي إغترابي تعسّفي داخل نظام اللغة ما جعل الفلسفة الغربية تدور في مناخات البحث عن التجديد الذي قفلته مباحث فلسفة اللغة الخالية من مضمونية شكل اللغة بما هي قواعد نحوية فقط.

البنيوية واللغة

رغم أن البنيوية اشّرت وظيفة اللغة في فلسفة العقل ونظرية المعنى، أن وظيفة اللغة لم تعد تلك الوسيلة المعرفية لفهم الواقع والتعبير عن مشكلاته، وخرجت اللغة أن تكون وسيطا علائقيا بين الأفكار والاشياء. نجد بول ريكور شنّ هجوما على البنيوية من حيث أنها تعاملت مع اللغة خارج منطق اللغة في التعبير المستقل عن ذاتيتها.

فالبنيوية لم تحاول مسك تلابيب الواقع الخارجي وتوظيف نظرية المعنى في جعل علاقة اللغة بالواقع علاقة جدلية مثمرة وليست منفصمة كما أرادت البنيوية وريكور ذلك. البنيوية منذ بدايات دي سوسير عام 1905 لم تعمل على ترسيخ حيوية اللغة في ربطها بالواقع كما تبنّى فينجشتين هذا الطرح لاحقا قبيل وفاته، وكان تحذيره من انزلاق الفلسفة نحو انشاء بنيّة كليّة تجعل من اللغة اكتفاءا ذاتيا لا يؤثر بالواقع الخارجي ولا يتأثر به ويكون خطرا لم تتم معالجته. ما عدا إلتماعات متناثرة تبنّاها جورج مور في دعوته من داخل الفلسفة المنطقية التحليلية الانجليزية الى أن يكون أصلاح قضايا الفلسفة إنما يكون في إصلاح نظام اللغة التي إنحرفت الفلسفة عموما به ودعا مور الى أهمية اللغة العادية المجتمعية في تطوير الفلسفة من جهة وتطوير مباحثها من جهة أخرى.هذه الدعوة ذهبت أدراج الرياح في إصرار كلا من بيرتراند رسل أن تكون مباحث فلسفة اللغة تقوم على الرياضيات والمنطق حسب وصّية فريجة نصا وأقنع راسل فينجشتين بذلك ايضا. وكان لوايتهيد عالم الرياضيات الانكليزي دورا هاما في دعمه بيرتراند رسل واشتراكهما معا في تاليف كتابهما( مباديء لرياضيات العامة).

وإهتمام راسل بمبحث الرياضيات بشكل استثنائي يوازي لابل يفوق إهتماماته الفلسفية والمنطقية ما جعله يتنقل في مؤلفاته من مبحث لآخرفي تنويعة بدت لبعض المهتمين بالفلسفة متناقضات. والى جانب ذلك برزت مدرستي التوليدية اللغوية الفطرية لدى نعوم جومسكي، وأخرى مناوئة لها أطلقت على نفسها فلسفة السلوك اللغوي روادها ودعاتها هم الفلاسفة الاميركان ابرزهم سكينر حصرا نأتي على ذكرهم لاحقا.

الوعي واللغة

طرح الباحث اللغوي عبد القادر البار تساؤلا هاما على صعيد إشكالية اللغة مع الفلسفة. قائلا: أين يوجد معنى اللغة؟ هل يوجد في أذهان البشر؟ أم يوجد في العالم الخارجي المشترك بينهم؟ وهل يمكن للمعنى أن يتكون وينمو خارج المكونات التقليدية الخاصة بما لا يمكن تجاوزه بسهولة ؟

نجد في محاولة مقاربة فتح هذه المسالك الفلسفية أن نبدا بالوعي كمفردة مفتاحية للدخول في معترك تلك الاسئلة المتداخلة...فالوعي يمكننا تصنيفه الحذر أنه حلقة في بايولوجيا منظومة العقل الادراكية ليست لها ميزة فيزيائية غير تجريدية كما هو حال الفكر واللغة. والوعي الذي أصبح له فلسفة خاصة به. الوعي الذاتي أي تعبير ذهن الانسان عن مدركاته إنما يمتلك معان مستمدة من الاحساسات يمكن أن تكون إضافة نوعية تثري المعنى اللغوي في تعبيره.

في أغلب الاحيان لا يطابق معنى الذهن معنى الموجود المادي في واقعه الاستقلالي، كون جوهر الذهن هوإنطباعات عشوائية خارجية وليس جوهر الذهن افكارا إكتسبت كامل اليقينية، فهل نلجأ الى تفعيل دور الوعي أن يكون وسطا بين المدرك المادي ومعنى التعبير اللغوي عنه؟ الوعي يتداخل تخارجا بينه وبين ما يمتلكه الذهن من معنى لم يأخذ حيّز التنفيذ الإفصاحي لغويا له، لذا يكون الوعي توسيط بين الذهن في نقله الانطباعات المؤقتة، والمعنى الدلالي اللغوي عن الشيء المقصود. والوعي كما أشرنا هو خصيصة إدراكية ذاتية منفردة، بمعنى حينما نقول الوعي الجمعي أو الوعي المجتمعي فهذا لا يتحقق على صعيد التفكير التجريدي المنفرد بل يتحقق على صعيد التوافق غير المعلن لمجموعة من الناس في التعبير عن قضية أو عن موضوع يجمعون عليه سواء أكان ماديا أو غير مادي معين. وما يدركه الذهن من معنى هو إدراكات إنطباعية لتداعيات تفارقه بسهولة. ألذهن ليس مستودعا لتخزين الانطباعات ولا حتى الافكار. والوعي لا يعمل في فراغ ولا يعّبر عن معنى غير قصدي يمكن التأكد منه.الذهن ليس ذاكرة من جهة، ولا هي عقل تفكيري ينوب عن العقل من جهة ثانية، واخيرا الذهن ليس مستودعا لتخزين الافكار فيه.

الوعي هو معنى لغوي وحلقة غير منظورة في منظومة العقل الإدراكية، هذه المنظومة الادراكية بعضها بايولوجي عضوي وظيفي مثل الحواس والجهاز العصبي ومحتويات تكوين الدماغ، وبعضها الآخر له مناطق عصبية مسؤولة عنه في القشرة الإمامية للدماغ، وهي في حقيقتها الإفصاحية بالدلالة إنما هي تعبيرات من الفهم الادراكي التجريدي مثل الاحساسات، الاحاسيس، الذهن، الذاكرة، المخيلة، الوعي، الادراك، الفكر، واللغة. والوعي لا يكون تعبيرا أفصاحيا ذاتيا عن اشياء خارجية مادية فقط وإنما الوعي يكون إستجابة إدراكية داخلية أيضا في التعبير عن النفس والعواطف والضمير والاخلاق والسلوك وغيرها.

الوعي الفلسفي

الوعي مصطلح فلسفي تجريدي – بيولوجي غامض الولادة، والخوض في معتركه لا يسلم صاحبه من الأخطاء لكن مع هذا فالدراسات والابحاث الفلسفية العديدة بدأت التركيز على بسط الوعي كمبحث فلسفي يستحق الإهتمام الإستثنائي به. خاصة بعدما تراجعت مباحث الفلسفة امام انبثاق فلسفة اللغة والتحول اللغوي.

ومنذ منتصف القرن العشرين حينما أصبحت فلسفة اللغة هي الفلسفة الاولى، نشأ الاهتمام الملتبس حول الوعي الفلسفي، وأكثر الفلاسفة إهتماما بالوعي هم الفلاسفة الاميركان المعاصرين يتقدمهم جون سيرل وريتشارد رورتي وسيلارز وكواين يسبقهم الانجليزي جلبرت رايل فيلسوف العقل 1900- 1976 الذي انكر ان يكون هناك شيء اسمه العقل...حين وجدوا في فلسفة العقل واللغة، الارضية المناسبة للاهتمام بدراسة الوعي من الناحية الفلسفية إذ لم يروا مناسبا طغيان التحول اللغوي على مباحث الفلسفة في هيمنة الفلاسفة الفرنسيين على المشهد الفلسفي اوربيا ويبقى الفلاسفة الاميركان متفرجين، فعمدوا الى إستعارة مفهوم الوعي من عميد البراجماتية الامريكية وليم جيمس عالم النفس وفيلسوف الذرائعية الذي لخّص فهمه الوعي:

- اولا الوعي يقوم على أساس أنه ليس جوهرا مستقلا بل هو وظيفة.

نزع صفة الجوهر عن الوعي في إعتباره وظيفة فقط لا يقلل من أهميته أنه حلقة إدراكية غير فيزيائية تعبر عن جوهر العقل الذي ليس هو ماهية مفكرة فقط، لذا فالوعي يستمد جوهره من العقل بإعتباره وظيفة ملحقة لا غنى للعقل عنها. فالوعي إفصاح ادراكي وسيلته التعبيرية الفكر واللغة.

رب تساؤل يقول مالفرق بين وظائف العقل والوعي والذهن والذاكرة، وهل بمكنة وإستطاعة الوعي الإنابة عن العقل بالوظيفة الإدراكية؟ لكي نجيب:

- الوعي لا يقوم بمهمة العقل التفكيرية بل هو الوسيلة لتلك الخاصيّة العقلية..

- الوعي إستجابة ناقلة لردود أفعال العقل، وكذلك وظيفة ناقلة لإنطباعات الذهن الى العقل.

- يشترك العقل والوعي بوسيلة الفكر واللغة في الافصاح التعبيري عن مدركاتهما.

- ما يدركه العقل يدركه الوعي بالضرورة، بفارق العقل جوهر كليّ والوعي جوهر وظيفي جزئي حلقة في منظومة العقل الادراكية.

الصفة الثانية للوعي حسب وليم جيمس أن الوعي تجربة صرفة لا يمكن تجزئتها الى أفكار واشياء، والوعي ليس تجربة عقلية ولا طبيعية . وتعقيبنا عليه هو:

الوعي تجربة صرفة يمكن تجزئتها الى أفكار إدراكية لاشياء بإعتباره حلقة تابعة لمنظومة العقل الإدراكية. كل حلقة في منظومة العقل الادراكية هي جزء يمّثل نفسه بدلالة مرجعية العقل له، لكنه لا ينوب عن العقل في دلالة الادراك الكامل عن الاشياء منفردا والتعبير اللغوي عنها..

الوعي هو فكر وإحساس عن شيء شأنه شأن ووظيفة كل حلقة إدراكية مرجعيتها العقل. وليم جيمس كونه عالم نفس وفيلسوف اراد أن يجعل الوعي إنطباعا نفسيا حين يصفه ليس تجربة عقلية ولا هو تجربة طبيعية.

لا يمكن الحكم على الوعي انه ليس تجربة عقلية ولا طبيعية وهو حلقة توسيط ادراكية للعقل للاشياء.الوعي تجربة عقلية في مرجعية العقل له وليس هناك وعي يريد الافصاح عن ذاتيته من غير وصاية العقل عليه. في ذلك تعجيز وظائف العقل.

نعت وليم جيمس الوعي انه ليس تجربة عقلية ولا طبيعية في تعبير خاطيء بوضوح، فالوعي يستمد سمته العقلية من جوهر العقل الادراكي التفكيري الذي يرتبط به الوعي، ولا يمكن أن يكون للعقل مخرجات معرفية يصدرها العقل عن شيء لا يكون الوعي ناقلا لها بمعزل عن وعي العقل لمدركاته هذا محال.

قول وليم جيمس الوعي ليس تجربة طبيعية غير صحيحة، فالطبيعة وكل ما يدركه العقل يجري وفق تراتيبية نظامية طبيعية للعقل والوعي جزءا من تفكير العقل التجريدي، وليس طارئا منفصلا عنه .. والوعي هو إدراك متعال على الطبيعة وليس ناتجا عنها.كما هو شأن العقل بعلاقته بالطبيعة هو جزء منها متعال بذكائه المعرفي الخصائصي المعروف عنها.. في امتلاكه وعي الذات والموضوع معا، امتلاكه اللغة، امتلاكه الخيال، احساسه بالزمن.

اذا إعتبرنا مع وليم جيمس الوعي ليس تجربة طبيعية بمعنى ليس تجربة فطرية مرتبطة بفطرية العقل الادراكي يحوزها الانسان كجزء من تكوين العقل في وظيفته غير الفيزيائية كون الوعي تجريد لغوي يحتوي الفكر التجريدي بينما العقل تجريد ناتج عن منظومة عضوية بايولوجية هي جزء من تكوين جسم الانسان تسمى العقل الوظيفي العضوي الدماغ ومحتوياته من المخ، المخيخ، النخاع الشوكي، ومنظومة شبكة الاعصاب الناقلة والمستلمة للاحساسات والمثيرات...لا يشترط أن يكون ما هو طبيعي جزءا من الطبيعة غير منقاد لها وهو ما ينطبق على الوعي كونه حلقة إستدلالية معرفية تطال كل موجود في الطبيعة ولا تكون جزءا منها متموضعة فيها..

الوعي واللغة

تعتبر الكتابة في أبسط تعبير لها هي عملية تدوين الافكار اللغوية من حالة المشافهة المنطوقة صوتيا لسانيا الى حالة التدوين الكتابي المقروء أو المنظور الصامت. ويعتبر إختراع الكتابة طفرة نوعية في اللغة ترقى الى مستوى إختراع الانسان لغة الكلام. ويرى "غودي "أن الكتابة هي إرتقاء الى شكل جديد من أشكال التقنيّات الفكرية وبالتالي الى شكل جديد من العقلية ".بهذا المعنى تكون الكتابة هي الخروج من الخاص الى الفضاء العام بأن لغة الكتابة تصبح من حصة المجموع اولا، وتصبح الافكار المكتوبة تدوينا عابرا للتاريخ باقيا على مر الاجيال من غير إندثار بخلاف لغة الكلام الشفاهي التي تندثر في فترة زمنية محدودة.ونستطيع القول أن اللغة أوالكلام الشفاهي هو كل ما لا نتمكن من حفظه تاريخيا زمانيا الا بوسيلتي التدوين الكتابي أو التسجيل الآلي للغة المشافهة صورة وصوت. بخلاف اللغة المكتوبة التي تعتمد تدوين تفكير العقل لها.

نتساءل الآن هل توجد لغة في ما وراء المدلول الشيئي.؟

هناك ظاهرة يصفها علماء اللغة بمصطلح ما "فوق لغوية" وهي إمتلاك بعض الشعوب تجربة تقنية لغوية من دون تعلم مسّبق لقواعد ونظام نحو تلك اللغة، فمثلا عندنا في لغتنا العربية نجد الشعراء العرب نظموا الشعر موزونا مقفى بضوابط بحور الشعر قبل وضع العبقري الخليل بن احمد الفراهيدي المتوفي سنة 170 هجرية نظام العروض الشعري. أي بعد مضي قرون طويلة على تداول العرب الشعر الجاهلي وهم لا يعرفون ما معنى بحور الشعر بل كانوا يفهمون الشعر بالسليقة كلاما له ضوابط تميّزه عن النثر. كما يذهب علماء اللغة المحدثين "عدم وجود علم لغة الا اذا كان هناك علم ماوراء لغوي، اي عندما يكون لدينا لغة ماورائية ما وراء اللغة هي لتمثيل لغة اخرى تكون هي اللغة الموضوع " ومعنى ذلك إن فنون اللغة(الشعر والنثر) تنشا قبل علوم وضوابط ونحو اللغة. أي كما ذكرنا لا يشترط الابداع في اللغة أن يقوم على مدى إتقان قواعد تلك اللغة، لكنما برأينا نجد هذا الحكم نسبيا بالنسبة للغات منها اللغة العربية. حين قام الخليل بن احمد الفراهيدي في القرن الثاني الهجري بتنقيط المصحف الكريم المكتوب في وضعه علامات الحركات في ملازمتها الحروف كصوت لغوي الكسرة، الضمة، الفتحة، السكون، والشدّة والتنوين لم يكن أحدا من عرب ذاك الزمان يلحن في لفظ المفردات العربية و لا يعرف بالفطرة المتوارثة الفرق بين المرفوع، والمنصوب، والمجرور، والفرق بين الاسم والفعل والحرف وما يتفرع عنها في صياغة الجمل والعبارات. هذه الظاهرة هي مايسمى فوق اللغة. اي في القدرة على التعامل الفطري باللغة قبل معرفة ضوابطها النحوية وخصائصها المميزة لها.

فينجشتين والوضعية المنطقية

في الوقت الذي ذهب فيه فينجشتين في الوضعية المنطقية مجموعة فيّنا، التي جرى تعديلها لاحقا فلسفيا في التحليلية المنطقية الانجليزية بزعامة بيرتراند راسل، وجورج مور، وايتهيد، فلاسفة جامعة اكسفورد والتي إنضم لها كل من كارناب، وفينجشتين الذي كان استاذا للفلسفة في جامعة كامبريدج.كان لفينجشتين رأيه الخاص في إعتباره اللغة منطق قوانينه قبلية مستقلة عن التجربة لكنها أيضا تحصيل حاصل أنها لا تعني شيئا. ولا تدل على شيء في التجربة. فما قوانين المنطق إلا قواعد نحوية تنّظم تنظيما ميّسرا بفضاءات التجربة الحسّية . وأضاف أن المنطق يتكوّن من قواعد تركيبية أي تنّظم تركيبا وهذه القواعد تستخرج من مباديء تم إخيارها بطريقة تحكميّة.

التحليل النقدي والتعقيب

- كل ما هو قبلي معرفي تجريدي مستقل عن التجربة الإدراكية لا معنى له ولا يعبّر عن مدرك حقيقي مادي ولا عن موضوع خيالي.

- أصحاب الوضعية المنطقية الجدد من الانكليز وجدوا إمكانية التحدّث عن اللغة بوسيلة إستخدام لغة ثانية أطلقوا عليها "لغة اللغة" والتفلسف ما هو إلا شرح معنى لغوي بمعنى لغوي آخر. لغة شارحة بعدية للغة قبلية سابقة عليها في ملاحقة فائض المعنى.

- اللغة هي إحساس نسقي منّظم لا علاقة له بالإدراك الشيئي حسب فلسفة اللغة ونظرية المعنى، وإحساس اللغة يكون إحساسا زائفا حينما لا يكون تعبيرا لمعنى واضح الدلالة حسب المناطقة.

- بحسب المناطقة الجدد لا فرق بين زيف الإحساسات حينما تكون تعبيرا لغويا لا معنى له. ولا يمكن التحقق من صدقيته، لذا يبقى الإحساس موضع شك.

- العديد من المباحث المفاهيمية لا ينطبق عليها المنهج التجريبي النقدي الذي تنادي به الوضعية الجديدة. فكل شيء بمفهوم العلم هو موضع شك، يتطلب تبيان جوانب الإدانة فيه وتصويب أخطائه.

كارناب وربط اللغة بالعلم

يميز رودولف كارناب 1891- 1970 بين عدة وظائف للغة إما أن تدل على معنى أو تعبّر عن رغبات وعواطف. ومن واجب الفلسفة حسب المنطقية الوضعية الانجليزية أن تحصر نفسها في تحليل لغة العلم باستخدام المناهج المنطقية التي أساسها الرياضيات، وما عدا هذه المهام فاللغة تبقى مبحثا له اكثر من مدلول وخارج ميدان مباحث الطبيعة. وأدان كارناب فلاسفة اللغة الذين يضعون قيودا على الإستعمالات اللغوية، بدل الإهتمام بتجديد الشروط التي تطابق اللغة معناها.

تعقيب تحليلي

- هذه المهام للغة التي لخصّها كارناب لا تقول جديدا ما عدا ما يجب أن تقوم الفلسفة على تحليل لغة العلم بمنطق الرياضيات كما اسّس له فريجة وتبّناه بيرتراندراسل مع وايتهيد ومن قبله دي سوسير. فليس سهلا أن تكون الفلسفة تابعة للعلم بمجرد أنها تمتلك منطقا منهجيا تحليليا للعلم. وهذا لا ينفي بل يؤكد حقيقة تاريخ الفلسفة انها لم تكن تابعة للعلم تقتفي آثاره بل كانت توازيه على الدوام وتتداخل معه في نطاق ضّيق.

- العلوم الطبيعية قاطبة وليس فقط العلوم الانسانية تقوم على مبدأ إستقلالية منطق تجريدي إشاري علاماتي من المعادلات الرياضية لا يخضع الى نقد لغوي عادي سردي كما يجري في لغة نقد سرديات الادب والايديولوجيا وعلم الاجتماع والاديان التي أطلقت عليها ما بعد الحداثة السرديات الكبرى..

- أدان ريشنباغ وهو من فلاسفة الوضعية توّجه كارناب وأشياعه قائلا: أنهم يخطئون حين يحاولون البحث عن يقين مطلق، حيث ليس هناك من بديل، وإنما مجرد إحتمال. ومّيز ريشنباغ بين التحقق التكنولوجي في عصر ما، والتحقق الفيزيائي الذي لا يتعارض مع قوانين الطبيعة،.

- إنتهى كارناب في أخريات تطوره الفلسفي الفكري الى أنه يجب التوّصل الى تعريفات دقيقة للمفاهيم الاساسية التي يستخدمها العلم في إطار لغة صورية منطقية تماما.

- كما إنتهى جورج مور على العكس من لغة المنطق ضرورة العودة الى لغة الناس العاديين الجارية المتحاورة معتبرا ذلك الشرط الاساسي للتحليل العلمي الصحيح. وربط التحليل الفلسفي بكل من الإدراك العام أو الإدراك الفطري.

***

علي محمد اليوسف

 

هابرماس والفعل التواصلي

يقصد (يورغن هابرماس) بالتواصل، جعل الشيء مشتركاً، أي الانتقال من الحالة الفردية إلى الحالة الجماعية عبر الفعل. وقد أصبح هذا المفهوم من المفاهيم المركزية المتداولة في الفلسفة المعاصرة. اذ لم يعد الاهتمام بالتواصل منحصرا في المجال التداولي المرتبط بتبادل المعلومات وتقنيات تبليغها وايصالها، بل أصبح يشكل نظرية علمية وفلسفية مستقلة بذاتها. وتعد مرجعية (هابرماس) الفلسفية دليلا على هذا التحول. انها مرجعية استفادت من نظريات العلوم الاجتماعية التي كانت سباقة الى التمهيد لذلك التحول عندما ركزت على أن الأنا أو الهوية الذاتية هي حصيلة تفاعل رمزي مع الآخرين.

يعتقد (هابرماس) ان الفكر ما بعد الميتافيزيقي هو مفتاح الانعطاف نحو الاهتمام باللغة والتواصل، كما أن التحول من فلسفة المعرفة الى فلسفة التواصل ينطوي على تجاوز لفلسفة الذات والوعي بمختلف اشكالها ووجوهها رغبة في بناء فلسفة تواصلية، تعد اللغة أحد مكوناتها الاساسية؛ وفي هذا السياق كان اهتمام (هابرماس) بالتداولية ونظريات الأفعال اللغوية. وبالتالي يتجه (هابرماس)، تحديداً في اهتماماته الأخيرة في نظرية فعل التواصل إلى فلسفة اللغة، وذلك بهدف إثراء المساحة المعرفية للنظرية النقدية، حيث يدعو إلى ضرورة التحرر بما يدعوه بفلسفة الوعي، وهي تلك التي ترى العلاقة بين اللغة والعقل كعلاقة الذات بالموضوع. وبالتالي فإن اهتمام (هابرماس) بالمعنى والحقيقة لا يخرج عن نزوعه نحو تحديد جديد لمفهوم العقل، يتخلى عن ادعاءات الفكر الميتافيزيقي، ويُبرز أهمية الجانب التكاملي للخطاب الجدلي البرهاني، فالعقل يمتلك قدرة هائلة على التبرير ومُراجعة أساسياته وأحكامه.

كما ويسعى إلى إخراج العقلانية الأداتية إلى الأنوار العقلانية التواصلية، وهذا لا يكون إلا عن طريق تأطير العقل بمقاييس العقلنة التي ترتكز على الحجة والبرهان الأقوى والأفضل، والاعتراف المتبادل بين المشاركين في النشاط التواصلي إنه عقل تواصلي يتجاوز الذات ليكون نسيجاً من الذوات المتواصلة التي تتجاوز ذاتيتها. وتتمثل دعواه في إمكانية الإفلات من العقلانية الوظيفية التي تمارس التقنية، والتي أطبقت سيطرتها على الاقتصاد، وتحكّمت بيروقراطيتها في الدولة، لكي يعود الاقتصاد والدولة وضيفتها الطبيعية، إذ لا يمكن أن يؤدي الاقتصاد والدولة مهامها إلا باعتبارهما نسقين متداخلين، فلا يجوز من هذا المنطلق أن يحتكر السوق وحدة مهمة لإعادة التوازن. وأراد (هابرماس) تغيير الوضع القائم على السيطرة تقديم البديل الممكن للعقلانية الأداتية التي أحكمت قبضتها على الإنسان، لقد قام بإعادة التأسيس النظرية النقدية على ما يسميه العقلانية التواصلية المرتبطة بعملية التنشئة الاجتماعية التي لا تتحقق إلا بواسطة التوافق والتفاهم.

العقلانية الأداتية في نظر (هابرماس) وبعض أقطاب النظرية النقدية تمثل السيطرة، وتستلزم المستوى الشكلي في الإجراءات، لأن عرضها الأساسي عملي ونفعي، وهذا لا يخدم في نهاية الأمر سوى مشروع السيطرة لأنها أضعفت أواصر العلاقات الاجتماعية. وقد حدد (هابرماس) العقلانية بقوله: إنَّ ما نسميه العقلانية هو أولاً الاستعداد الذي نبرهن عليه ذوات قادرة على الكلام والعمل وعلى اكتساب وتطبيق معرفة قابلة للخطأ. أما العقل الأداتي أو العقلانية التقنية فهو من المصطلحات الأساسية والجوهرية في قضايا النظرية النقدية، فقد ظهر في كتابات (هوركهايمر)، تحديداً في كتابه عن (جدل التنوير)، وظهر كذلك مع (ماركيز) من خلال مؤلفه (الإنسان ذو البعد الواحد)، وهو –أي العقل الأداتي- منطق التفكير وأسلوب في رؤية العالم. ولقد استطاع (هابرماس) أن يستخلص السمات العامة للعقل الأداتي من حيث هو استراتيجية للاختزال والنظرة التماثلية للواقع وعدم اهتمامه بالخصوصية.

وبحسب (هابرماس)، فأن العقلانية الأداتية قد اختزنت دلالة السيطرة والهيمنة، وهذا ما دفعه إلى إيجاد بديل، لأن العقلانية الأداتية رسخت عقيدة الذات بقدرتها على توفير السعادة الموهومة التي جعلت الفرد تابع لإرادة الآلة، حيث نقلت الإنسان من الذات المفكرة إلى الذات المدركة حسياً، وفي هذا المجال تمدنا الملاحظة العلمية باليقين وتتراجع الوظائف التلقائية للفكر. فهي نوع من التفكير من خلاله يستبعد القرارات الأخلاقية والسياسية، وهو بذلك عقل سيء، عقل ناظم لأفعال الإنسان في إطار إنجاز غاية عملية محددة. هو نتاج انشطار واغتصاب أي نتاج سيرورة اجتماعية، فقد وصفها (أدورنو وهوركهايمر وفوكو) بأنها سيرورة الذاتية بوصفها تتجاوز قواها وتتشيأ. لذلك فهي أداة للسيطرة والهيمنة، كونها رسّخت عقيدة الذات من خلال توفير السعادة الوهمية التي جعلت الفرد تابع للآلة، لذلك شدّد على وظيفة التفاعل والحوار كبديل، ولقد أراد أن يعيد تشكل النظرية عن طريق إعادة بناء العقلانية الاجتماعية، فقدم ما أُطلق عليه بـ(العقلانية التواصلية) في مقابل (العقلانية الأداتية)، لذلك وجد (هابرماس) في الفعل التواصلي الوسيلة القادرة على الخروج من الانحراف والسقوط في التطرف. على ضرورة الأخذ بعين الاعتبار إنّ (هابرماس) لا يتجاوز العقلانية الأداتية بإلغائها نهائياً، لأن هدفه هو ربط تصورات العقل الخاصة بالتصور والتواصل في إطار النظري للبحث.

ويعتقد أن التفاعلية الأداتية، والتي يعتبرها سمة من سمات الفكر ما بعد الميتافيزيقي؛ قد تجاوزت الطبيعة، لتحاول أن تهيمن على الإنسان بعوالمه الذاتية الخاصة وتجاربه مع الآخرين، والتي تهدف إلى التفاهم بشكلٍ رئيس، لا إلى الربح والنجاح والسيطرة، لذلك يؤكد ضرورة تصحيح المسار باتجاه التواصل بين الذوات الفاعلة، أو ما يُعرف بـ(النقاش التداولي)، والذي يهدف إلى فهم السلوكيات المتحصلة بين أفراد المجتمع.

والفعل عنده يقع على صورتين، الفعل الاستراتيجي الذي يتصف بالغائية، في حين يرمي فعل التواصل للوصول إلى الفهم. وإن الفعل التواصلي قد وُلد في الأساس للخروج من هيمنة العقل الأداتي، والذي يقوم على تنشيط التواصل وتمكين قيمة الإنسان في المجتمع وقد وجد فيه، أي العقل التواصلي، الوسيلة القادرة على إنقاذها –أي الحداثة-من الانحراف والسقوط في التطرق والتعصب الأعمى الذي مردّه عند الأوربيين هو عدم الثقة بالقادمين الجدد والأصل في ذلك يعود إلى انعدام الثقة بالذات، وانعدام الثقة هذا يرجع إلى التجارب التي مرَّ بها الأوربيين مع أنفسهم.

***

د. حيدر عبد السادة جودة

باشلار فيلسوف فرنسي معاصر توفيقي على صعيد تفكيره الفلسفي المتأخر المختلف عن بداياته الفلسفية العلمية في مؤلفاته الاولى، يسعى باشلار في مؤلفه (جدلية الزمن) الوصول الى دمج (الذات، النفس، الزمان) بتوليفة منطقية فلسفية واحدة يحاول فيها تطويع كل ما يمكننا تصوره واستذكاره نفسيا ويكون صالحا لادراك العقل له بما يلغي الحدود الفاصلة بين الذات والنفس والزمان أنطولوجيا - ميتافيزيقيا..

وحين يصبح الزمان عند باشلار موضعة ادراكية للذات معّبرة عن تجلياتها النفسية الرومانسية المحدودة بحدود مواضيعها المدركة، يكون حينها الزمان أصبح خارج مطلقه الميتافيزيقي ليكون مدركا محدودا ونسبيا يتمثّله العقل، وقتها ايضا لا نجد أدنى غرابة في إعتبار باشلار تأملات النفس حول ما يطلق عليه حتمية إندثار الانسان بالموت، التي عادة ما تنفر النفس من مواجهة هذه الحقيقة البايولوجية المرعبة من هول الصدمة عليها، كما ينفر الجواد من رؤيته جثة حصان فارق الحياة مطروحا ارضا على حد توصيف باشلار.

باشلار يتقبّل فكرة أن ينفصل الانسان عن ذاته خارج وعيه لذاته وموضوعه معا، لكنه من غير المتاح أمامه تقبله تصّور أن الزمن الافتراضي يقوده نحو حتمية الإندثار العدمي بإفنائه البايولوجي كاملا جسدا ونفسا وعقلا وروحا. الانسان يفنى بحتمية الموت بايولوجيا وليس كما هو التصور السائد الانسان يفنى الانسان ويموت نتيجة وصوله زمنيا عمر الشيخوخة.

عبارة باشلار التي تحمل الكثير من الملابسات في إمكانية الانسان الانفصال عن ذاته، حيث لا يمكن أن تكون حقيقة مقبولة إلا في حال توفر اكثرمن إشتراطين لا يتوفران إلا في حال جعل وعي الذات وعيا ميتافيزيقيا لا تحده انطولوجيا الوجود الادراكي واقعيا وهو محال للاستحالات الادراكية التالية:

- أن يتوقف العقل عن وعيه لذاته.

- أن يتوقف العقل عن التفكير التجريدي بموضوع مادي أو خيالي.

- أن يتوقف العقل عبر منظومته الحسيّة الادراكية في وعي الوجود من حوله..

إن محاولة باشلار نقل الانسان من حتمية زمانية إندثاره بالموت الى واقعية التعامل مع الزمان كمحتوى تذكري لمخزون ماضي زمني رومانسي تحتويه الذاكرة إبتهاجا بالحياة التي لا نجدها في حاضرنا ولا في مستقبلنا بل في ماضينا فقط. حتى جمالية المكان القديم التي نتذوق استذكاراتها نفسيا بكل نشوة وغبطة وانتعاش رومانسي لذيذ إنما السبب في ذلك هو العودة للماضي كتاريخ بدلالة وقائعه المتموضعة فيه وليس العودة الى زمن ماض جديد نتعرف عليه لاول مرة تخلقه الرغبة النفسية الرومانسية في الاستذكار لحوادث الماضي.

عبر إستذكارات المخيّلة في عبورها حاجز الحاضر المقلق المرعب نحو الماضي البهيج المريح نفسيا. هنا ربما أستبق الامور القول أن العودة الاستذكارية نحو الماضي هي عودة (تاريخية) استذكارية وليست عودة (زمانية) بمعنى الذاكرة أو المخيلة الاستذكارية لا تخلق لها زمنا ماضيا آخر خاص بها بدلا من زمن الماضي كتحقيب تاريخي لازمني تعيد الذاكرة استذكاره وليس زمانا ماضيا مجردا عن ملازمته مدركاتنا الواقعية والخيالية..

الانسان أمام هذه الحالة في جعل ماهو مادي يتداخل مع ماهو ميتافيزيقي يدركهما العقل معا في تداخلهما إنما يكون دافعها هو إرادة النفس الهروب الى أمام في محاولة خروج الانسان على حتمية مسار الزمان الانحداري الهابط به نحو الاندثار النهائي العدمي بالموت، في محاولة الخلاص في إبتداع زمانا إستذكاريا تجريديا ليس مطلقا في وحدته الوجودية التي تختلط فيها الالام والاحزان في تذويبها بمصهر التفاؤل والامل بالسعادة الخادعة نفسيا. لذا يطلق باشلار على هذه الحالة النفسية التي تحاول النفس تطويع مسار التاريخ المتّعثر الى ما اسماه "سلسلة القطوعات الزمانية" حسب تعبيره.

وفي حقيقتها هي قطوعات استذكارية نفسية لا علاقة إرتجاعية لها في ملازمة الزمان الحاضر لها نحو إستذكار زمنا ماضيا بحوادثه ووقائعه وليس رغبة إكتشاف الزمان الماضي كزمن خالص هذا محال. هو غير الزمان الماضي الذي يحتوي تاريخية وقائع وأحداث جرت فيه فأصبحت جزءا من تاريخ ماض ثابت مدوّن زمانيا.. الزمن كمفهوم هو مطلق تجريدي لا يقبل القطوعات الطارئة عليه مهما كان مصدرها. نسبية الزمان المثبوتة علميا لا تلزمنا الذهاب الى ان الماضي زمان نسبي. الماضي تحقيب ارضي وقائعي تاريخي وقتي لا يحده الزمان.

فالزمان لا يعود الى الوراء في مطلق التجريد كماهية غير مدركة بل يعود الى الوراء (الماضي) كتحقيب تاريخي يحتوي وقائعه واحداثه بدلالة الماضي كتحقيب غير زمني وغير تابع لزمن متغير يقوده بل التاريخ يحتاج زمنا مجردا تسترشد به الذاكرة كتاريخ مدوّن ثابت في الماضي كوقائع.

قطوعات الزمان يقر باشلار أنها في حقيقتها قطوعات زمانية حادة تدخل على سيرورة الحياة فتملأها بالحزن والالم، ولن تكون بالضرورة إستجابة لما ترغب النفس تحقيقه من أحلام اليقظة السعيدة، الحقيقة الزمانية التي يدركها باشلار تعني لنا أن القطوعات الزمانية المتعاقبة بخلاف باشلار لا تخضع لارادة الانسان كما ولا تتحكم بها رغائب النفس التي تحاول نزع التفاؤل الرومانسي البهيج من براثن سلسلة قطوعات الزمان الحاضر المؤلمة على الدوام في اتجاهها صوب المستقبل الذي هو النهاية الحتمية بالموت والاندثار... حين نغادر الزمن كمفهوم ميتافيزيقي مطلق ازلي – في حقيقته العلمية حسب نظرية انشتاين زمن نسبي - لا يدرك مجردا إلا بدلالة حركة مكانية لأجسام يحتويها عندها يمكننا التسليم أن الزمان تسوده قطوعات هي في منطق علم الفيزياء عارية عن الصحة تماما. فالزمن لا يقبل القسمة على نفسه وغير قابل للتجزئة. والزمان التجريدي المنفصل عن موضوعاته المكانية الادراكية لن يكون مدركا لمحدودية العقل في قابلية إدراكه زمنا مجردا عن ملازمة أشيائه والتعريف بها. الشيء الأهم أن الزمان على الارض وفي الكون يمتلك خاصيّة ماهوية واحدة هي أنه وحدة من جوهر أزلي مطلق كونيا وعابر للنسبية الارضية، يحكمنا نحن والطبيعة ولا نقوى على إدراكه ومعرفته الا بدلالة غيره من حركة أجسام أو مواد تداخله في انفصالية ماهوية عن مدركاته.

الحقيقة التي لا تحتاج نقاش ان الزمن وحدة من الكلية التي لا تقبل القسمة على نفسها. ولا يوجد ازمان متعددة مثل زمن نفسي واخرمكاني واخر تاريخي وآخر رومانسي وآخر تراجيدي وهكذا. بمعنى تقلبات النفس شعوريا ليست زمانية.

ولتوضيح معنى التداخل بين المكان والزمان إدراكيا وليس جدليا في إنفصالية بينهما غير منظورة وغير مدركة حسّيا وعقليا هو بسبب ماهية كل جزء صغير في الطبيعة وصولا الى ماهية أكبر شيء موجود فيها يمتلك خصائصه الهوياتية وصفاته التي لا تتجانس مع ماهية وجوهر الزمان الثابتة وتتقاطع معها، لذا يكون الادراك الزمكاني للاشياء وموجودات العالم الخارجي لا تعني أبدا أن الزمان تموضع في مدركات المكان وغادر ماهيته الخصائصية الفريدة المستقلة عن موضوع إدراكها. كل زمان لا يكون محدودا افتراضا الا بمحدودية مكان يلازمه. اما الزمان كمفهوم ميتافيزيقي فهو مطلق حدسي ندركه بدلالة المكان لكن من المحال حد الزمان لا تجريديا ولا تموضعيا في الاشياء المدركة مكانا.

وأن المكان كحيّز إحتوائي يكسب الزمان لجانبه دونما التضحية ببعض خصائصه بشيء لصالح الزمان معادلة يقبلها العقل. إستكمال الزمان لإمكانية إدراك المكان تكون في وحدة غير تجانسية وفي إنفصالية ماهوية مختلفة لا تقبل الدمج والتذويت لاحدهما في الاخر. والزمان يبقى في كل الاحوال وجميع الادراكات جوهرا موحدا غير منقسم على نفسه ولا يقبل القسمة بمدرك مادي لا يجانسه ماهويا ولا يتقّبل التجزئة والقطوعات الطارئة خارجيا عليه.

باشلار يدرك تماما أن حقائق الحياة الكبرى الميتافيزيقية لا تستطيع إرادة الانسان التلاعب بها وتوجيهها. فسلسلة القطوعات الزمانية الافتراضية فلسفيا التي حاولها باشلار لا توقف خاصّية مطلقية الزمان الافتراضية غير المدركة، بالتدفق والجريان الحركي الدائم الى أمام، فالزمن لا يتراجع الى الوراء وعندما نقول رجعنا الى الزمن الماضي فإننا نعبّربذلك ضمنيا أننا رجعنا كتفكير مجرد عن زمانيته هي التي رجعت للوراء الى ما ندعوه العودة الى الزمن الماضي الذي هو في حقيقته الجوهرية تاريخا ثابتا وليس زمنا متحركا تجريدا يمتلك خصائصه الذاتية له المطلقة التي لا يمكن لإدراك مكاني أو حتى تاريخي مصادرتها، الزمن قانون فيزيائي يحكم الانسان والطبيعة والكوني. كما أن الزمن لا يلغي الإندثار الحتمي الزائل للانسان كما هو في حقيقته لا يلغي حوادث التاريخ.

الزمان في مقايستنا له بمعيارية ما تدركه وترغبه النفس هي في حقيقتها قطوعات في تفكير ومخيّلة الانسان الاستذكارية ولا تمت بصلة حقيقية في ملازمة الزمان لها كوسيلة إدراكية تعود للزمن الحاضر الذي تعيشه تلك المخيلة الاستذكارية. ليس هناك من قطوعات حادة توقف الزمن بما تحمله من أحزان وآلام لا نرغب إستذكارها وهي بمجملها حالات من تداعيات نفسية لا علاقة للزمن في توليدها حين اصبحت ندركها احداثا ماضية. الزمان لا يقود النفس في رغائبها فهو خارج وصايتها عليه. حضور الزمان المدرك بدلالة حركة مكانية من قبلنا هو حضور إدراكي زمني محايد .

استذاكارات النفس المرحة البهيجة التي يحاول باشلار إستحضارها في مواجهة حتمية (العدم) المأساوي الزماني، إنما هي في حقيقتها محاولة إيقاف الزمان في قطوعات ثابتة تقريبا هي محطات إستذكارات النفس أيامها السعيدة بالحياة. الزمان لا يتوقف في محطات إستراحة يرغبها قطار النفس. اذا افترضنا إجراء نوعية العلاقة الفيزيائية التي تحكم مسيرة الزمان واستذكارات النفس لوجدناها ليست علاقة متوازية ولا علاقة متقاطعة بل سنجدها علاقة متعاكسة بالاتجاه. فالنفس التي تريد استذكار تاريخ الماضي الجميل تسير للوراء بينما تبقى مسيرة الزمان تعاكس النفس في استمرارية التقدم الى امام متجاوزة الحاضر نحو المستقبل، بالحقيقة تتجاوز الماضي نحو المستقبل. ولا يعني هذا ان الزمان يقود الانسان الى حتفه بالموت والاندثار فالزمن لا يمتلك مثل هذه القدرة. الزمن محكوم بقوانين ازلية لا يدركها العقل الانساني ولا يمتلك الزمان نفسه التصرف بها أو الخروج عليها. الزمن جوهر أزلي مخلوق غير خالق. الانسان يموت ويفنى بيولوجيا عضويا وليس زمنيا.

وهذه القطوعات الزمانية ليست حقيقية بقدر ماهي إستيهامات تخييلية مستمدة من الذاكرة استجابة لارادة النفس لا علاقة لها في تعاقب سريان الزمان نحو المستقبل كمطلق غير مدرك. الذاكرة أو المخيلة تستطيع العودة الى الماضي ليس كزمن تجريدي بل كتاريخ مدون بوقائعه وأحداثه، أما أن يتاح للذاكرة أو المخيلة إدراك الزمن كماهية مطلقة تجريدية فهو محال. فالزمن وحدة واحدة من الماهية الخصائصية النوعية الفريدة المطلقة التي لا تقبل التجزئة ولا تتقبل التقسيم على صعيد التجريد الميتافيزيقي ولا على صعيد تموضعها الادراكي في المكان.. يبقى الزمان إدراكا دلاليا للمكان لكنه لا يصبح جزءا منه.

ولكي يتمكن الانسان بوعيه الادراكي المحدود إحداث سلسلة قطوعات زمانية متعاقبة في الزمن يتوجب عليه إمتلاكه زمنا آخر يجانس مطلق الزمان الارضي والكوني في المشابهة التطابقية التامة مع (الماهية) الزمانية الثابتة وهو ما يتعذر تحققه استحالة. وهذا مصداق مقولة ارسطو الشهيرة (لا يمكننا حد الزمان بزمان).الزمان ماهية ثابتة لا تتغير ولا تتكرر فهو وحدة ادراك واحدة.

الزمان وحدة مطلقة من التواصل الدائم الذي لا يتقبّل الطاريء عليه لا في القطوعات المادية ولا في المداخلة الإدراكية التي ترغبها النفس....وما يحدث معنا من قطوعات نحسبها زمانية مجردة زمانا إنما هي في حقيقتها قطوعات في تفكير الذاكرة والذهن في الاستذكار للحوادث والوقائع كتاريخ حصل في زمن ماض، وليس زمانا نبحث عن ذكرياتنا فيه في زمن ماض نعود له لنجده حيّا ينبض بالحيوية والاستقبال الحار لنا.. الزمان الماضي في حقيقته تاريخا تدوينيا ثابتا يداخله مطلق الزمان غير الثابت.

باشلار يربط ما تتمناه النفس من الراحة التي بمقدورها إيقاف سلسلة الزمان الحركية التعاقبية، في نفس الوقت التي تجعل من الحياة جديرة بالمعنى والقيمة على حساب تحييد الزمن الذي يقود الانسان نحو حتمية الإندثار العدمي.

ربما تصدمنا الحقيقة قولي أن لا ذنب للزمان في المضي بنا عبر سنوات العمر كي يوصلنا محطة الموت والاندثارالبيولوجي ويعود الى حال سبيله، فحينما نموت نحن ويبقى الزمان حيّا لا يموت ربما وخالدا فهو جوهر ازلي يحكمنا بحتمية إفنائنا بلغزه الذي لا ندركه ولا نعرفه. الحقيقة أن الزمن في هذه الحال يكون (مسيّرا لا مخيّرا) حسب تعبير فلاسفة المنطق العربي – الاسلامي الاشاعرة بالضد من المعتزلة. كثيرا ما تعبّر أفكار باشلار في المرحلة المتأخرة من حياته الى ما يطلق عليه هو "احلام اليقظة" الرومانسية التي يحكمها الشعور في عودة الإستذكار الخيالي لكل ما ترتاح له النفس بعيدا عن حتمية الفناء المستقبلية التي يسوقنا اليها الزمان صاغرين مرغمين. الحقيقة التي هي اكبر من افناء الزمن لحياة الانسان، تلك هي الزمن بريء من تهمة قيادة الزمن لافنائنا. الانسان على الصعيد الفرد يموت بايولوجيا وليس زمانيا.

النفس والزمن

من البديهيات التي نتمنى القفز من فوقها عبثا هي أن الارادة الانسانية ورغائب النفس لا تؤثر بمسار الزمن في مطلقيته الحتمية الحركية المتجهة دوما نحو الامام المستقبلي الذي هو إقتراب لا إرادي نسلكه في السير نحو الفناء وليس الحصول على التجديد في الحياة السعيدة بوفرة المتعة واللذة التي تزودنا بها المخيلة في إستذكار حوادث الماضي.. ولا علاقة للزمن بذلك. هنا النفس هي التي تمر بتقلبات لا زمنية بل هي مظاهر للنفس.

الادراك النفسي العقلي يتوقف تماما أمام استحالة معرفة ماهية الزمن وكيفية إدراكها مجردة عن الحركة المادية للاشياء حتى لو تيّسر لنا ذلك على مستوى الصفات للزمان فقط. فصفات الزمان تعرف بدلالة غيره في مقدار حركة الاجسام فيه. والزمن وحدة قياس حركة الاجسام المادية داخله لكن الزمن ليس حركة مجرّدة نستطيع إدراكها لوحدها... الزمن ليس حركة بل هو دلالة حركية لجسم. .

لذا فالزمان الذي تنتابه القطوعات المتعاقبة وحتى القفزات النوعية فيه إنما هي في حقيقتها تمّثل إنعكاسات نتائجية هي حاصل تفاعل تخارج وجودنا مع مدركاتنا المادية في الطبيعة والعالم الخارجي التي نتعايش معها وليست حصيلة فاعلية إرادة إنسانية أو رغبة نفسية ينفذّها الزمان إستجابة لنا. الاستذكار ليس زمانيا بل الاستذكار هو بيولوجيا تقلبات النفس.

الزمان جوهر ماهوي محايد لا يحكمه الجدل الديالكتيكي بعلاقته بمدركاتنا الموجودية في عالمنا الطبيعي المادي. الزمان جوهر تكاملي مع المدرك المكاني وليس جدلا ديالكتيكيا معه. وحين نعتبر الزمان في تعسّف خاطيء أنه جدلي ديالكتيكي في تداخله الإدراكي مع الاشياء والنفس والذات وغيرها فهو بالمحصلة هراء لا قيمة له، هذا الخطأ يعني أننا نجعل من الزمان مدركا متموضعا بالذات مجردا يعيه العقل ويدركه تجريدا حتى من غير تعالقه بالمكان.

إدراكنا المكان لا يكون مجردا عن زمانيته الإدراكية كما نتوهم، لذا إعتبر كانط ما ندركه مكانا هو ما ندركه زمانا بنفس الوقت، ولا إنفكاك يحكم الإدراكين المكاني والزماني. وهو الشيء الصحيح فلا وجود لإدراك مكاني مجردا عن زمانيته الافتراضية غير المثبوتة. اقول الزمانية الافتراضية لاكثر من سبب اولا الزمن ماهية لاتدرك بالعقل. ثانيا الادراكات المكانية يرافقها بالحتم زمانانا هي ايضا مقولة عادة وليس مقولة تحقق فلسفي وعلمي ايضا.، كما لا وجود لإدراك زماني مجردا عن مكانيته في الموجودات والطبيعة من حولنا. ولا أسبقية تفريق بينهما. اذ لا تفريق بين ادراك المكان وزمانه.

في هذه النقطة أجد من الطريف الإشارة الى تقاطع برجسون مع مقولة كانط في الإدراك الزمكاني غير القابل للانفصال قوله إننا نوهم أنفسنا ويتوهم العلم معنا الوقوع بالخطأ أن إدراك المكان لا يلازمه بالضرورة إدراكا زمانيا فلا يوجد غير إدراك مكاني منفرد واحد مجردا عن زمانيته المزعومة. وما ندركه مكانا لا يوجد لدينا دليلا مقنعا أننا ندركه زمانا بذات الوقت.

الزمان في مساره الذي يبدو لنا مسارا مجرّدا من ماديته هو مسار متّعثر بمحتواه الوجودي المدرك ذاتيا، ما يجعله مستقلا متّحكما بنا لا نتحكم نحن به، رغم إعترافنا المسبق أن الزمان يتعامل مع المادة إدراكا محايدا وليس تداخلا تموضعيا ماديا أو غير مادي جدلي بها وكذا مع العديد من مسارات الحياة. علاقة الزمن بإدراك الاشياء هي علاقة ابستمولوجية.

ولتوضيح هذه النقطة نقول مثلما تموضع إدراك الذات للاشياء لا يفقدها إستقلاليتها الكينونية عن مدركاتها المادية والخيالية،كذلك يكون معنا نفس الشيء حينما يتموضع الزمان إدراكيا في العديد من الامكنة فهو أي الزمان يبقى محتفظا بإنفصالية مستقلة عن مدركاته ولا يخسر في موضعته شيئا من تلك الخصائص التي يمتاز بها وحده. التموضع الزماني في الاشياء هو إدراك لها وليس تداخل تموضعي إندماجي عضوي بها.

لذا تكون إنعكاسات النفس الواعية تماما هي التي تضفي على إستقلالية الزمان المحايدة الكثير من الأحكام التي تشرعنها النفس هي وتحاول فرضها علينا زمنيا. فمثلا الملل من طول وقت إنتظارنا لمجيء شخص ما في وقت محدد، ليست هي خاصّية زمانية سببية بل هي خاصية نفسية نستشعرها لا علاقة للزمان بها. تعبيرات النفس المتقلبة ليس سببها الزمن الذي تمر به ولا علاقة تربطها بالزمن خارج اولوية ارتباطها بالذات.

القلق النفسي وتبادل الادوار

نحن اذا ما أردنا العودة الى قراءة عنوان كتاب باشلار مصدرنا الذي نعتمده (جدلية الزمن) ندرك بلا عناء أن مصادرة عنونة الكتاب الخاطئة مقبول وارد بدليل أن الزمن جوهر في ماهيّة خاصة مطلقة منفردة لا يدخل بأي شكل من الاشكال في جدلية مع الانسان وموجودات الطبيعة، كون الجدل يحدث في تضاد يجمع نقيضين توحدهما مجانسة نوعية واحدة. وكانت لي مقالة سابقة عن هذه شرحت بها إستحالة دخول الزمان كمطلق تجريدي في جدل مادي مع أشياء تقاطعه المجانسة الماهوية..

عليه إعتاد باشلار معاملة ماهية الزمان ليس كتحقيب طبيعي أرضي بل كمطلق وجودي يدركه العقل في ماهيته (نفسيا) أي في إسقاط رغائب النفس المحدودة على مطلقية الزمان كخاصّية منفردة لا تحدّها أمكنة تخالفها تلك الماهية، الزمان جوهر يتسم بحقائق خصائصية ثابته هي: أنه لا يدرك لا بالماهية ولا بالصفات، الزمان سيرورة تعاقبية في مسارها قيادة الانسان من غير وعي به. الزمان لا يدرك من قبل العقل تجريديا. الزمان وسيلة ادراك المكان لا تتداخل معه جدليا بل يتعامل الزمان مع مدركات المكان بحيادية تكاملية إدراكية، والزمان لا يتموضع في مكان يصبح جزءا منه، ولا يفقد ايّا من صفاته الماهوية غير المدركة.

كل ما ذكرناه عن الزمان يسقطه باشلار في محاولته ترويج تحقق قيادة النفس للزمن في تلبييتها رغائب النفس ومكبوتاتها وأمنياتها ودوافعها الشعورية واللاشعورية الى ما يجعل الزمان يتحرك طواعية تحت وصاية النفس. وعن هذا المعنى يقول " بين الماضي الحي والمستقبل تنتشر منطقة من حياة ميتة"1. ويضيف "لا يكون الاسف والشعور بالخسارة شديدين في اي مكان اخر مثلما يكون حالهما هنا وعلى هذا النحو يكون الزمان حسّيا بالنسبة لنا"2، كما ويربط باشلار هذا الإسقاط التعويضي في الهروب من حتمية مسار الزمان نحو الاندثار والفناء في"ابتعادنا عن القلق النفسي الملازم لنا أن نصبح لا شيئا يذكر ويتهدم على هذا النحو عالم باسره، فمن منا لم يشعر بهذه الفكرة التي تدخل النفس كشفرة قاطعة" 3.

في فلسفة باشلار حول مفهومه جدلية الزمن يسمح لنفسه تبادل الادوار ما بين النفس والزمان في علاقة ترابط سببية، تاركا وراءه ثبات مطلق الزمان الفيزيائية وحيادية الزمان في مزامنته حركية وانفعالات النفس وما ينتابها من قلق مصيري وجودي ليس مبعثه الزمن. وليس بمقدور الزمان ايقاف ما يعتمل بالنفس أو إعاقة مسيرة الحياة الانسانية المؤلمة.

إن هذا القلق الانساني الوجودي الذي ينزل على النفس كشفرة قاطعة يحس بها الجميع كما يقول باشلار، يبقي التساؤل قائما وماذا بعد ذلك؟ مأزق الانسان الوجودي بالحياة ليس حله والخلاص منه رهين أرادة أو لا إرادة الزمن، فالزمن لا يقود الحياة بارادة ذاتية يمتلكها يعيها هو ذاتيا قصديا. بل الزمان كما ذكرت سابقا مسيّرا لا مخيّرا. رغم أن فناء الانسان الارضي بيولوجيا يقود الى خلود الزمان بما نجهله فيما بعد عنه.

***

علي محمد اليوسف /الموصل

.............................

هوامش: 1،2،3، جاستون باشلار، جدلية الزمن/ ت: خليل احمد خليل/ ص 50

وتجارب معاداة الحداثة.. مقاربة جذرية

العدمية هي فلسفة ترفض القيمة والإحساس بالوجود. لا وجود لحقيقة موضوعية أو قيمة أخلاقية أو كل شيء ولكن في الحياة. من الواضح أن هذا هو بمثابة رفض للمبادئ والوصايا الأساسية للمجتمع. يبدو أن المصطلح "عدمية" هو مصطلح لاتيني "nihil" والذي يعني "لاشيء". إنه مرتبط برؤية متشائمة للحياة، حيث لا وجود لها بكل معنى الكلمة أو الموضوع. انتشرت العدمية على يد رواية "الآباء والأطفال" التي ألفها إيفان تورغينييف في عام 1862. وقد أصبحت شخصية بازاروف، العدمي، رمزًا للفكر العدمي. وقد أثرت العدمية أيضًا على المفكرين مثل لودفيغ فيورباخ، وتشارلز داروين، وهنري بوكلي. هناك أشكال عديدة من العدمية، بما في ذلك: العدمية الوجودية: التأكيد على أن الوجود الإنساني ينبع من الإحساس والوجود. العدمية الأخلاقية: عدم وجود قيم أخلاقية للأهداف، يرفض فكرة "السعادة" و"السوء". العدمية المعرفية: ليس هناك إمكانية لمعرفة موضوعي وآمن. اما علاقة العدمية والفلسفة فلقد تم دراسة العدمية على نطاق واسع وناقشها فلاسفة مثل فريدريك نيتشه، الذين ارتبطوا بالعدمية بموت الله وأزمة القيم الغربية. استكشف مارتن هيدجر أيضًا العدمية في تفسيراته لفلسفة نيتشه. كما ارتبطت العدمية بحركات التمرد ضد النظام الاجتماعي والتقاليد. قد يكون بمثابة رد فعل على فقدان القيمة والتقليدية. ان العدمية هي فلسفة لا معنى لها ولا قيمة للوجود، وترفض أفكار الحقيقة الموضوعية والقيم الأخلاقية والحياة. هناك العديد من أشكال العدمية التي تم دراستها ومناقشتها على نطاق واسع من قبل الفلاسفة وعلماء الاجتماع.

في استكشافه المُحفّز للعلاقة بين الحداثة والحداثة والعدمية، يُواجه شين ويلر إحدى المُشكلات المحورية في الفكر الجدلي الغربي: وجود مسارين مُتناقضين إلى اللامكان. يُمكن أن تكون العدمية حالة من الانغماس المفرط في العالم أو الانفصال المُفرط عنه. في نقد الحداثة، تُمثّل العدمية الآلية المُختلّة والوحشية التي تُجبر قيم التنوير للعقل والتقدم على بلوغ حدود مُرعبة، وهي الجبار الذي يُهيئ الوحل أولًا، ثم يُواصل الضغط بلا هوادة لإنتاج التقنيات البدئية لحروب القرن العشرين ومحرقة الهولوكوست، مُستبدلًا في النهاية المستنقع بالأرض القاحلة. ولكن هناك أيضًا عدمية الإنكار الدنيوي، والانفصال عن الحياة وقيمها الوضعية، والموقف الفلسفي والسياسي الذي ينطوي على رفض المُطلقات الأكيدة للقوة المُهيمنة. في ظل هذه الصيغة الثنائية، يكون العدمي مُطوّر عقارات وراهبًا في آنٍ واحد، ويتتبع ويلر تشوهات هذا المفهوم المُزدوج الجوانب وتطبيقاته وهو يشق طريقه عبر التاريخ كاختصارٍ مُهينٍ لأعداء المرء. تُقدم دراسة ويلر سردًا للاستحضارات الأوروبية المُختلفة للعدمية، بدءًا من أصولها اللاهوتية في منتصف القرن الثامن عشر وانتهاءً بدور العدمية في الفن والفلسفة ما بعد الحداثية. ويعود ويلر طوال الكتاب إلى نظريات فريدريك نيتشه، الذي يضعه "بلا شك أهم شخصية في تاريخ نشر مفهوم العدمية". يُشكِّل الفكر النيتشوي إنتاج دلالات عدمية مستقرة من خلال تصنيف كلٍّ من قمع أنظمة السلطة المُقيّمة ذاتيًا واستراتيجيات المقاومة ضدها على أنها عدمية. علاوة على ذلك، يُقسّم ويلر هذه الاستراتيجيات إلى أشكال "فاعلة" و"سلبية"، تطهيرٌ تمهيديٌّ وانكفاءٌ ذاتي. يدّعي ويلر أن نيتشه يُفضّل العدمية الفاعلة، المُتمثلة في القطيعة العنيفة التي شهدتها الثورة الفرنسية مع أساطير التقاليد، ويرى في تمسك المسيحية بالقيم الأخلاقية شكلاً متطرفاً من العدمية السلبية. وبالتالي، لا يقتصر الأمر على أن يتعاطى ويلر مع الخصوصية التاريخية للعدمية فحسب، بل أيضاً مع تناقضها العالمي الظاهر. وبالنظر إلى هذه المعايير، فليس من المُستغرب أن يُشدّد في بداية العمل على أنه "لا وجود للعدمية بحد ذاتها"، وأن يُصبح وصف نيتشه لها بأنها "أغرب الضيوف" لازمةً طوال تحليل ويلر. إذا كانت العدمية نقدًا للحداثة وتهمةً موجهةً إلى هؤلاء النقاد أنفسهم، فإن العدمية تشغل بالضرورة علاقةً غامضةً بالحداثة، التي يُعرّفها ويلر، بشكلٍ عام، بأنها الاستجابات الفلسفية والجمالية للحداثة. تُعرّف العدمية بهذا الشكل بأنها منافسٌ للحداثة وشكلٌ أو استراتيجيةٌ لها، ويتمثل التحدي المستمر لنهج ويلر في إثبات قدرة هذا المصطلح على الصمود أمام الضغوط الدلالية للمعنى نفسه ونقيضه. يبدأ ويلر باقتراح علاقة بين الحداثة الفلسفية والحداثة الجمالية، حيث تجد الأولى في الثانية أقوى الأدوات ضد عدمية الهيمنة. أما بالنسبة لنيتشه، فهي الفن الديونيسي، الذي تُذيب سيولته الذاتية التقييم الوضعي وتُعيد الحياة كعملية صيرورة مُفككة. بالنسبة لمارتن هيدجر، فإن شعر فريدريش هولدرلين هو الذي يُذكّر بقداسة الوجود لمجتمع نسيها، وبالنسبة لثيودور أدورنو، فإن كتابات فرانز كافكا وصمويل بيكيت، التي تُقوّض جمالياتهما في النفي اللغوي اليقينيات القمعية للاستبداد الذي تدعمه لغة القانون. وبطبيعة الحال، غالبًا ما يُرتبط هؤلاء الفلاسفة والفنانون أيضًا بالترويج للعدمية، عادةً من قِبل النقاد على اليمين السياسي، وبالتالي، كما يُشير العدمية النيتشوية، فإن معاداتهم للعدمية تُوصَم بالعدمية من قِبل العدميين الذين يسعون إلى معارضتهم. على سبيل المثال، فُسِّرت حملة نيتشه للتغلب على القيمة الأخلاقية والذاتية المُدرَكة لحداثة بيكيت المتأخرة على أنها إفناء للمعنى الموضوعي. ومع ذلك، في دائرة موبيوس هذه من الاتهامات، ما يتضح هو أن كلا جانبي العدمية يعتبران الجمالية تلعب دورًا محوريًا. من غير المستغرب أن ينحاز ويلر إلى الحداثيين. يُعدّ قسم "من فلوبير إلى دادا"، الذي يُمثّل الجسر الزمني بين نيتشه والحداثة الفلسفية والجمالية في منتصف القرن العشرين، الأقلّ إشراقًا بين فصوله، ولكن ما إن تتجاوز هذه الفترة حتى تستعيد تحليلاته قوتها الاستفزازية. في مناقشاته حول هيدجر، وألبير كامو، وموريس بلانشو، وبول سيلان، يُحدّد عمليةً تُصبح فيها استخداماتهم المختلفة للنفي، والتي تجعلهم عُرضةً لتهمة العدمية، غير مكتملة حتمًا. أي أن شيئًا ما ينجو دائمًا من النفي؛ فالعدمية نفسها تُنفي بقوتها الخاصة. ومرة أخرى، نصل إلى عتبةٍ غريبة، حيث يبقى ما يُفنى طيفيًا في حضور غيابه. يرى بلانشو أن العدمية عاجزة، ولذلك فإن العالم المنفي في كتابات كافكا يُفضي إلى تجاوز إله ميت، لا إلى فناء الإله نفسه، وهذا الإله الميت أقوى بكثير لأنه لا يُقتل مرة أخرى. في شعر بول سيلان، نجد هذا الشعور: "لا شيء كنا، نكون، سنبقى، مزدهرين: العدم، وردة لا أحد."  يُمثل هذا الإزهار في الفراغ تفاؤل، وفي بعض المعاني، أجندة سياسية، لأولئك الذين يجادلون بأن العدمية، كونها دائرة مغلقة، يجب دحرها من الداخل، وأن النفي يُوفر أرضًا خصبة بشكل غريب لظهور شيء لم يُتخيل بعد. يُذكرنا هذا بالموقف الرواقي لثورة كامو المُحكوم عليها بالفشل ضد العبث في "أسطورة سيزيف"، مع أن الرواقية، كما يُشير ويلر، قد انتُقدت أيضًا باعتبارها واحدة من أشهر الحركات العدمية في العالم.

 يُشدد ويلر على الطبيعة غير الغائية لهذا الشكل من العدمية كما يتجلى في الحداثة الجمالية. يُجسد بيكيت هذه الروح الأخلاقية لأنه رأى أن دور الكاتب هو التعمق في حصن اللغة للكشف عما يكمن وراءها، سواء كان ذلك شيئًا أم لا. هذا هو تمهيد الطريق للعدمية النشطة عند نيتشه، ويتتبع ويلر روحًا مماثلة مستمرة في المناورات الفلسفية والجمالية لما بعد الحداثة. في هذا القسم الأخير، ينظر ويلر في إمكانية التمييز بشكل قاطع بين ما بعد الحداثة والحداثة في علاقتهما بالعدمية، ويخلص، كما هو متوقع، إلى استحالة تحقيق تمييز "محكم" . ويجادل بأن ما بعد الحداثة تمتلك عدمية غريبة كسابقاتها، بل إن إحدى متع هذا الكتاب هي رؤية غموض جدلي مماثل يلاحق القرون. إن تخلي ما بعد الحداثة عما يسميه إرنستو لاكلو "أسطورة الأسس" لا ينتج شيئًا، بل انتشارًا لأشياء متعددة، ومع ذلك، فقد تم انتقاد هذا التبني للبنى الخطابية باعتباره تحطيمًا للعالم الموضوعي. بالنسبة لجاك دريدا، فإن العدمية هي إفناء الآخرية، ونظافة الفاشية، والتي يقاومها الأدب والدراسة التفكيكية للنصوص من خلال إنتاج مساحة تحافظ على الاختلاف. إن إنتاج مثل هذه المساحة يعني مستقبلاً وشيكاً قد يأتي ليحتلها، وهنا نرى صدى هيدجر، الذي كان يعتقد أن مجتمعه يعيش في فترة زمنية فاصلة بين رحيل مجموعة من الآلهة ووصول المجموعة التالية. تُسلَّط الأضواء على التشابكات الخانقة لمفهوم العدمية في القسم الأخير من الكتاب، حين يتساءل ويلر: "هل يُمكن إيجاد في ما بعد الحداثة الجمالية مخرجًا من عقدة الحداثة-الحداثة-العدمية؟". أحد سبل الهروب من هذه العقدة هو تفصيل "العدم"، وهي فكرة يُلمِّح إليها ويلر لكنه لا يُطوِّرها بشكل كبير. بمعنى آخر، هل "العدم" الوجودي الذي أعقب أهوال أوشفيتز هو نفسه "العدم" الأيديولوجي للعدمي الشهير تورغينيف، بازاروف؟ ستُبدَّد غرابة العدمية إلى حدٍّ ما لو وُجدت مفردات تُحدِّد فئات الفراغ المختلفة التي وجدت السياسات والفلسفات والجماليات المختلفة نفسها فيها. لا شك أن جزءًا من انزلاق العدم هو أنه يتحدى مثل هذه الخرائط، ونظراً لهذا التحدي المفاهيمي، يقدم ويلر دراسة ثاقبة بشكل ملحوظ لهذا الظل المتغير الشكل.  كيف يمكن من الناحية الفلسفية الانتصار على العدمية؟

***

د زهير الخويلدي - كاتب فلسفي

........................

المصدر:

شين ويلر، الحداثة والعدمية (باسينجستوك: بالجريف ماكميلان، 2011)

Shane Weller, Modernism and Nihilism (Basingstoke: Palgrave Macmillan, 2011.

الحياة وهم نعيشه مرغمين بوجودنا، ولكن الحقيقة ليست كذلك.. أين تكمن الحقيقة؟

الوهم هو الألم في هوية صامته لا تعبر عن نفسها إلا بما خزن في النفس وصار حقيقة لا يدانيها الشك، فالفرد حين يدخل عالم الوهم لا يستطيع أن يتخلص منه إطلاقًا، لأنه غلاف النفس من الداخل وضبابية لا رؤية أخرى فيها، فتعم الذاتية المطلقة بدل الموضوعية في رؤية الأشياء، والأمر أمر موضعة، لأنها لا توجد موضوعية، فقبولها يصبح حقيقة ووهم.

 ويرى الفلاسفة ومنهم " كيركجارد" أن الكائن البشري محكوم بالتوتر بين ما هو عليه وما يجب أن يُكونهُ، فهو يبحث في الوهم الخيال الذي يراه واقعي، لا يتنازل عنه، أو لا يستطيع رفضه، ربما هذا الوهم مقدس – الدين إنموذجًا – عند كل الديانات السماوية وغير السماوية، أو الفلسفات ذات الطابع الديني، أو وهم سياسي، أو وهم الشعور بالعظمة والقوة، أو الوهم بأنه يمتلك بتحقيق الوجود الذي لا ملامح له، لذا فإن الفرد لا يستطيع الفكاك منه بل بنفيٍ داخلي لقدرة الذات على الفعل، على أن تكون واقعية، حقيقية، ترى بعين أكثر موضوعية. إنه النموذج البدائي الذي نصادف موضوعاته لدى أفراد يعيشون بيننا في أيامنا هذه، في خيالاتهم وأحلامهم، هذياناتهم وضلالاتهم، هذه الصور النموذجية، وما يتصل بها، هي ما أطلق عليه اسم الأفكار البدائية، وكلما اشتدت حيوية هذه الأفكار اشتدت حدة المشاعر الناجمه عنها، فهي تنطبع وتؤثر فينا وتفتتنا، هذه الأفكار البدائية تستمد أصولها من النموذج البدائي الذي هو – بحد ذاته – شكل سابق الوجود، غير شعوري، وغير قابل للتمثيل، ويبدو جزءًا من بنية النفس الموروثة كما يراه " يونغ"

دخل الكثير من السياسيين في دوامة الوهم، ومن قاد دولته إلى الإنهيار معتقدًا بوهم النصر وتحقيق المكاسب والنجاحات. أما الوهم لدى الفصامي فهو وهم فلسفي، لأنه يتكلم فلسفة، وسماها أطباء النفس الفلسفة الكاذبة، فهو يعتقد بأن أفكاره تسرق، وإن المخابرات العالمية تطارده لأفكاره، حتى صاحب الشخصية البرانويه " برانويا العظمة " تسيطر عليه أوهام العظمة.

نتساءل ويتساءل معنا بعض العقلاء هل نحن نفكر فعلًا؟ إذا كنا كذلك فمن أين يداهمنا الوهم، وكيف يغلف تفكيرنا بضبابية معتمة لا رؤية فيها، رغم أننا نتحصن بما نؤمن به حتى وإن كان وهم من أوهام تاريخية – حفرية من حفريات الحضارات التي سادت ثم بادت وشكلت سلوكنا وطريقة تفكيرنا، فهي تراكم آثار الحضارات القديمة وغبارها، وما تبقى في النفس وخير من يعرف ذلك من درس انثربولوجيا الإنسان، والانثروبولوجيا الثقافية.

إن العوامل الذاتية تلعب الدور الأكبر وبالأخص الميول والاستعدادات الذاتية لكل فرد، تلعب دورًا يصعب تقييمه عندما يكون القصد تكوين مثل ذلك الحكم كما عبر عنه " سيجموند فرويد " في كتابه مستقبل وهم. ويضيف " فرويد " أن الناس يعيشون الحاضر عادة على نحو ساذج اذا جاز التعبير ويعجزون عن تقييم ما يحمله إليهم، فالحاضر لابد له من أن يكتسب بعض التراجع، أي أن يصبح ماضيًا حتى يمكنه أن يقدم بعض نقاط ارتكاز ليبني عليها حكم بصدد المستقبل.

وهم الحقيقة، وحقيقة الوهم!!

نعيشها كل لحظة في كل يوم ولا ندركها، وإن أدركنا بعض منها نهرب إلى موضوع آخر، بمعنى أدق نزيحها كما تعودنا في استخدام ميكانيزمات – الحيل – الدفاع، هروبًا منها لإننا لا نريد أن نكشف الوهم في داخلنا، فنتبجح بالنصر ونحن مهزومين، ونتبجح بالصحة ونحن مرضى، ومنها بدأت فكرة الذهاني " مريض العقل " حينما يرفض الاعتراف بأنه مجنون، ويتهم الطبيب الذي يعالجه بأنه هو المجنون. فهذا جزء من وهم الصحة، أو من يعتقد بالتدين الصحيح ولكن يكشف زيفه أول مواجهة بين الحق وشبيهه فيذهب إلى شبيه الحق بحيلة شرعية كما يسميها بعض المتدينين وهو ما نعنيه الوهم في النفس بين الحقيقة ونقيضها.

كثير من أولئك المتدينين ممن يمارسون الشعائر الدينية في العلن ولديهم أعتقاد عميق بما يؤمنون ولكن الواقع يكشفهم، فضلا عن غطاء الوهم الذي لا ينجح في كبح هذه الرغبة في تحقيقها، أو ما تمارسه بعض النساء من وهم الشعور بالسطوة والقوة، ولكن يظهر زيف هذه القوة بسطوة الرغبة الجنسية الجامحة أمام مخلوق بشري ليس جدير بالاحترام، لا نقول غير أنها النفس في ما ترغب وهو وهم، وما تريد وهو وهم، وما تعتقد أنه حقيقة ولكنها وهم الحقيقة، ونقول هي النفس في صدقها مع نفسها، وفي توهمها مع نفسها والأمر سيان لأن النفس هي هي.. في الرغبة الأولى، وفي تأثير الوهم. وعند " جاك لاكان " الأب الرمزي هو القانون، أو الأب المقتول " الميت " حيث لا يمكن لأحد أن يحل مكانه إلا في حالات الأنظمة الديكتاتورية، حيث يصبح الحاكم هو القانون، والقانون " هو " يشرع القوانين على هواه، الأب الرمزي يشير إلى الفراغ أي إلى النقصان، أي عمل يملأ الفراغ يحيي الشعور بالذنب المرتبط بقتل الأب كما عبر عن ذلك " عدنان حب الله" وهذا هو لب الوهم بالأبوة ورمزيتها التي تحولت إلى مفهوم سياسي سلطوي، والأمر نفسه عند رجل الدين الذي يقود أتباعه إلى ما يعتمل بداخله من أوهام وخيالات واعية أو لاواعية، ويظهر لنا " عدنان حب الله" في وهم الأب المخيالي حد التقديس للأب وهذا ما يهمنا في مبحثنا حيث يحمل الأب المتخيل في طياته كل هذه الصفات التي تعود إلى الأب البدائي، صورة المنقذ القوي الرادع ضد فكرة الأله قبل التوحيد، أي رادع إله الزوابع، أو الأقدار، أو المعالج ضد الامراض، أو حتى قابض الأرواح التي ينقلها إلى عالم الخلود، يمكننا القول أننا نعيش الوهم منذ الخليقة وما بعدها في التحضر وفي عصر التطور التكنولوجي.

نعرض بعض الأمثلة القديمة عن الأوهام عن الروح لدى القبائل البدائية حيث يكون من المفترض أن الروح تخرج من المنافذ الطبيعية للجسم كما تعتقد بعض الأقوام البدائية، خصوصًا الفم والمنخرين " الانف " لذلك نرى قوم " سيليب " يربطون أنف المريض وسرته وقدميه بصنابير صيد السمك كي تعلق الروح بالصنارة عندما تهرب، ويرفض قوم تيوريك على بارام في بورنيو أن يفارقوا ومعهم حجارة تشبه الصنارة لأنها تربط الروح بالجسد وتمنع انفصال الروح عن المادة، وعندما يبدأ الساحر من البحر عمله، من المفترض أن تملأ الصنابير أصابعه ليتثبت بوساطتها من الروح البشرية عندما تطير بعيدًا ثم تلتقط أرواح الأعداء بالاضافة إلى أرواح الأصدقاء وعملًا بهذا المبدأ يعلق صيادوا الرؤوس في بورنيو صنابير خشبية بجانب جماجم أعدائهم المقتولين معتقدين أن هذا يعينهم في غزواتهم على التقاط رؤوس جديدة، كما ذكر هذا " جيمس فرايزر " في كتابه المهم الغصن الذهبي ويضيف " فرايزر" ومن وسائل الطبيب أو الساحر في " هايدي" عَظمَةٌ " عظم " مجوفة يحبس فيها الأرواح المغادرة ثم يعيدها إلى أصحابها، ومن أوهام الشعوب القديمة أيضًا كلما تثاءب الشخص بحضور الهندوس ينقفون بابهامهم معتقدين أن هذا يعيق خروج الروح من الفم المفتوح، وكذلك كما أعتاد قوم " الماركويسكان " أن يسدوا فم وأنف الشخص الذي يحتضر كي يحافظوا على حياته ويمنعوا روحه من التسرب، ومن أوهام الشعوب حيث يقوم قوم الـ " إيتوناما في أمريكا الجنوبية" بسد عيني وأنف المحتضر كي لا تخرج روحه وتأخذ معها أرواحًا أخرى، وكذلك يعمد أهالي نياس خوفًا من أن تقوم الأرواح الخفية بالتعرف على الجسد خلال النَّفَس – التنفس. هذه الأوهام في عادات الشعوب التي تناقلتها الأقوام وظلت مع ظهور الحضارة وتطور الإنسان وازدياد التعليم والتكنولوجيا إلا انها ما زالت عند  بعض الاقوام في مجتمعاتنا الشرقية المعاصرة مثل تأثير العطسه حينما ترى فيها، بأنها بشرى لتأكيد قول في حضرة الآخرين مثل ما يقولون هذه بـ شهادة، أو عندما يزحف الطفل وهو يمشي منذ سنوات، فإن هناك ضيوفًا سيقدمون إلى هذه الأسرة، أو حينما يحلم الكبير – الرجل أو المرأة بحلم يفسر على انه بادرة خير، أو شؤم. أو حينما يسافر أحد أفراد الأسرة يقذف بعض الماء خلفه إيمانًا بعودته سالمًا.. وهناك الكثير من الأوهام التي تم توارثها.

ولو استعرضنا رؤية " بول ريكور" التي ينقلها عن رؤية التحليل النفسي عند فرويد لوجدنا أن للأخلاق والدين جذعًا مشتركًا، العقدة الأبوية ذات الأصل الأوديبي وبهذا المعنى تكون نظرية الوهم عنوان زاوية في نظرية المثل وَتكُون ما يمكننا أن نسميه خيالي الأنا الأعلى، إنها مرحلة التنسيق المرتبطة بمرحلة التحريم. ويضيف " ريكور " أن مشكل الوهم إنه ذو علاقة بقراءة شيفرة رموز العلاقات الخفية بين الأعتقاد والرغبة. وينقل أيضًا من فرويد في كتابه مستقبل وهم: ما يميز الوهم أنه مشتق من غرائز الإنسان.. ونحن نسمي اعتقادًا أنه وهم عندما يكون إنجاز الرغبة عاملًا سائدًا من عوامل دافعيته، في حين أننا لا نأخذ بالحسبان علاقته بالواقع، شأنه تمامًا شأن الوهم الذي يرفض الواقعي أن يؤكده " كما يراه لاكان في سيمناره " فهذا التواطؤ بين تحديد محتوى الرغبة وتعذر التحقق يُكّون الوهم، والفارق بين الوهم والهذيان لم يعد عندئذ سوى فارق في الدرجة، النزاع مع الواقع مستتر في الوهم، ومكشوف في الهذيان. وفي نهاية القول نرى أن وجهة نظر فرويد هي أن للأفكار الدينية في الأزمة الغابرة أعظم نفوذ وأقوى تأثير على البشرية ونقول تبقى تشكل سلوك الكثير من الشعوب، فقراءة الطالع، وقراءة الكف، وقراءة الحظ والبخت هو السائد في حضارتنا اليوم، فأفضل مثل على ذلك أن معظم الرؤساء والملوك لديهم من هذه الشريحة يالتي تقوم بقراءة الطالع لمعرفة المستقبل ويدفع له الملايين لكي يعرف هل أنه سيبقى في الحكم أم هناك من يدبر له أمرًا في ليلٍ.

***

د. اسعد الامارة

 

هل هناك معنى للوجود الانساني ام انه بلا معنى؟ اذا كان هناك معنى لحياة الانسان فما الذي يعطي لحياته ذلك المعنى؟ بعض الوجوديين مثل سارتر تسائل ان كانت الحياة بطبيعها خالية من المعنى؟ اذا كان الامر هكذا كيف يمكن ان يعيش المرء ويجد القناعة في عالم خالي من المعنى؟ هذه هي الأسئلة الاساسية في الفلسفة الوجودية. هي أساسية لأن اسئلة المعنى واللامعنى هي "مخاوف اساسية" سائدة في كل مكان حسبما جاء في كتاب Tillich 1952 و Yalom,1980.

اما فكتور فرانك (1985) يزعم اننا مخلوقات نبحث فطريا عن المعنى، ويمكن القول ايضا اننا قلقون بالوجود وبرغبة متقدة لا تنطفيء، تدفعنا حاجة مستمرة لنعرف ونحاول ايجاد معنى لكل من العالمين الداخلي والخارجي اللذين نقيم فيهما. هذه الرغبة الملحّة للمعنى والتي عادة ما تكون واعية لكنها في أغلب الاحيان غير واعية هي ما تدفع الناس للبحث عن علاج نفسي. نعم، ظاهريا ان معاناتهم تنبثق من أعراض عصابية او ذهانية، الخسارة والندم، الإغتراب او صراعات العلاقات، قلق وجودي. ذلك يحفز المرء للبحث عن مساعدة نفسية، لكن وراء تلك الأعراض والمعاناة تختفي "الاسئلة الكبرى": "لماذا هناك الكثير من الشر والمعاناة في العالم؟"لماذا اعاني؟"، اذا كان هناك إله، كيف يسمح بهذه المعاناة؟ ما أهمية المعاناة الانسانية؟ نحن نرغب يائسين لإيجاد معنى لوجود يبدو عبثيا. في الحقيقة، يمكن القول وقد قيل من جانب علماء نفس بارزين مثل كارل جنك و اوتو رانك و فكتور فرانك و رولو ماي بان السبب الحقيقي لمعظم المعاناة الانسانية هو الإحساس العميق باللامعنى والعبثية.

فمثلا، فرانك (1985) الذي يرى ان الكائن البشري يمتلك رغبة فطرية للمعنى والتي، عندما تُحبط بشكل مزمن تؤدي الى "فراغ وجودي" او فراغ اللامعنى – وهو ينسب الإكتئاب اواليأس الى التجربة الذاتية لمعاناة اللامعنى (D=S-M)(1). في الحقيقة، بعض الدراسات أشارت الى الارتباط  بين المعنى والاخلاق طوال حياة المرء، بينما دراسات اخرى اشارت الى ان 68%من المرضى الخارجيين الذين يدخلون عيادات العلاج النفسي قالوا ان حاجتهم لزيادة معنى الحياة كانت حافزا هاما للبحث عن علاج. العبثية بوضوح هي السبب الرئيسي للدخول لعيادات العلاج النفسي. لكن هذا يطرح السؤال الكبير: هل يمكن للعلاج النفسي ان يجعل الحياة ذات معنى؟ هل يمكن معالجة اللامعنى نفسيا او تحسينه علاجيا؟ وكيف يمكن تحقيق ذلك؟

لاحظ عالِم النفس الوجودي الامريكي Rollo May(1909-1994) انه وجد ان العلاج المعاصر متعلق بالكامل بمشاكل بحث الفرد عن الاساطير. الاسطورة هي طريقة لخلق معنى في عالم بلا معنى. الأساطير هي قصص تعطي أهمية لوجودنا"(ص9-15). ويستمر ماي ليقول "ما اذا كان معنى الوجود هو فقط ما نضع في الحياة عبر صمودنا الفردي، كما اعتقد سارتر، او ما اذا كان هناك معنى نحتاج اكتشافه، كما ذكر كيركيجارد، النتيجة هي ذاتها: الأساطير هي طريقتنا في ايجاد هذا المعنى والأهمية "(ص15).

اللا اسطورة تعني اللا معنى. الاساطير بفضل ما تحتويه من معنى، تقدم ترياقا للظروف السامة للعبثية المتصورة. الميثولوجيا هي المحور المركزي في تحليلات يونغ Jung، وتهدف لصنع احساس ذو معنى في تجربة المريض وتضعها في منظور نموذجي أكبر كجزء من ظروف الانسان.

وكما يفهم جنك، الميثولوجيا تكشف ان تجربتنا، وبالذات معاناتنا، ليست فقط شخصية وانما ايضا متجاوزة او فوق شخصية. بما ان الاساطير تدمج الحقائق الأبدية المتعلقة بظروف الانسان المنبثقة من تاريخنا الجمعي المشترك، فهي تستطيع جعل الحياة أغنى واكثر هدفية وتساعد في تهدئة إحساسنا الوجودي بالوحدة والإغتراب.

***

حاتم حميد محسن

........................

الهوامش

(1) هذه المعادلة ترمز الى ان (اليأس Despair يساوي المعاناة S ناقص المعنى M) وتُنسب الى فكتور فرانك مؤسس Logotherapy العلاج بالمعنى، وتؤكد على أهمية ايجاد معنى في المعاناة لتخفيف وتهدئة اليأس.

 

يشير هنري برجسون في معرض علاقة الوعي بالذات والاشياء قائلا " اننا لا ننقطع عن التفكير في ذاتنا الا لكي نفكر بالاشياء. وكذلك فإن هجر الاشياء يعني حكما العودة الى ذاتنا"1 ويضيف " الفكر كوجود دائم هيولي زمني"2.

تفكير الذات تجريدا هو تفكيرها في جواهرها وفي الاشياء كينونة موجودية معا. اذ لا يعي الوعي التفكير بغياب موضوعه من الاشياء المادية أو من الموضوعات الخيالية، والتفكير الذاتي هو تفكير تعاقبي ضمن سيرورة دائمية لا إنقطاع فيها مطلقا. التفكير الذاتي بالاشياء هو ليس لإثبات الوجود الانطولوجي بالمغايرة الإدراكية...بل تفكير الذات بالاشياء هو تفكير قصدي يبغي المعرفة وليس الادراك الحسّي الشيئي فقط الذي هو واجب ما تقوم به الحواس. اما عن عبارة برجسون الفكر وجود دائم هيولي زمني فهي خاطئة تماما. الفكر سيرورة من التعاقب اللازمني. بمعنى الزمن يحتوي الفكر بحيادية تامة.

الأهم الذات لا تتكافأ مع مدركاتها من الاشياء المادية ولا مع المواضيع التي مصدرها الذاكرة الخيالية، ليس من حيث أن مدرك الذات الانسانية من الموضوعات والاشياء لا يمتلك قابلية الجدل مع الذات التي تدركه، بل ومن خلال إنعدام المجانسة النوعية الماهوية بين الذات كتجريد واع مع الاشياء كوجود مادي غير تجريدي مستقل في العالم الخارجي لا تربطهما مجانسة نوعية. وهذه الميزة عدم المجانسة النوعية تبطل الديالكتيك الذي يؤكد وحدة المجانسة النوعية في التضاد الذي يلغي احد طرفي التضاد في بقاء الاخر. فلا الفكر بمستطاعه الغاء الواقع ولا الواقع بمستطاعه الغاء الذات. ومن المحال دخولهما في جدل ديالكتيكي.

الخاصية الماهوية للذات هو الوعي الإدراكي التجريدي في معرفة الاشياء المادية والتعبير عنها بالفكر واللغة. في حين تبقى مدركات الذات موجودات مستقلة لا تمتلك قابلية التعبير عن نفسها حضوريا من دون ذات تدركها ويحتويها تعبير اللغة.ولا يتموضع الادراك الفكري اللغوي الذاتي بمدركاته الشيئية المادية والخيالية ويبقى تجريدا منفصلا عنها. موضعة الذات بمدركاتها استحالة عقلية. فالذات لا يمكن لها ان تكون جزءا من موضوعها المدرك.

الوعي الذاتي هو تجريد فكري يجسد موضوع إدراكه، والفكر خاصية الوعي التفكيري، ولا يمكن تصورنا وجود فكر لا يعيه الوعي بأية وسيلة وعلى أية صورة كانت. الذات لا يمكنها التحكم اللاارادي أنها بداية عملية تفكيرية. الذات ليست وجودا ماديا لكنها بالضرورة الادراكية هي ملكة تفكير عقلي تدرك نفسها كما تدرك المادي وغير المادي الواقعي والخيالي على السواء. ولا يتوقف تفكير العقل لحظة واحدة حتى اثناء النوم واللاشعور.. تداعيات الاحلام اثناء النوم هي تفكير لاشعوري لغوي صامت في غياب الزمن والعقل. بهذا المعنى يقول فرويد اللاشعور لازمني.

الذات لا يمكنها التخلي عن خاصّيتها الماهوية التي هي التفكير بالاشياء في الانفصال عنها لإدراك ذاتها مجردة عن الاشياء. علاقة الذات بالاشياء علاقة مغايرة موجودية بالإدراك وليست عملية تخارج ادراكي جدلي بينهما في تغييب احد الطرفين على حساب الظاهرة المستحدثة الجديدة. وفرضية برجسون التفكير المنكفيء نحو إدراك الذات جوّانيا لنفسها بمعزل عن الاشياء عملية لا يمكن حدوثها حتى في حال تفكير الذات تجريدا مستمدا صامتا في تمُثله موضوعات مخّيلة الذاكرة بالفكر وليس بتعبير اللغة الصائتة.

الفكر هو ملازمة دائمية تستوعب وعيها الاشياء أو المواضيع الخيالية وغير المادية في كل لحظات توفر الوعي الذاتي حضوريا. والفكر لا يكون موجودا متموضعا بالزمن، الفكر تجريد يدركه الوعي به في تعالقه مع موجود تفكيره الذي يعرف بدلالة الزمن الافتراضي المحايد، الوجود المادي للاشياء وليس للافكار يتعذر ادراكها من غير وجود لغة يحتويها الفكر ويكون حركة مادية لشيء داخل دلالة الزمن الافتراضية. اللغة مرجعية حضور كل شيء يدركه العقل. كل شيء مدرك كموضوع هو لغة بعدية على موجوديته المادية المستقلة..

افلوطين ومغادرة الذات للجسد

حين يتم التعبير عن أهمية تحرر الذات من سجن الجسد، ما يعني عودة الذات الى نفسها، الى حقيقة ذاتها خالصة هي محض افتراضية لا تتحقق.، لكن في كل أحوال تحرر الذات من عبودية الجسد لا تكون الذات خالصة عارية تماما من موضوعات الجسد الذي كانت الذات متموضعة فيها بتفكير شعوري مجرد قبل تحررها من ارتباطها بكل ما هو مدرك عقلي واقعي أو خيالي. الذات في تحررها لا تفقد خاصيّتها الماهوية انها ذات ادراكية لاشياء وموضوعات كل العالم الخارجي، وليست ذاتا تفكيرية مجردة تسيح في عوالم خيالية تتبادل الاجترار الاستبطاني الداخلي معها بصمت تعبيري لغوي.الخلاصة الذات هي موضوعها المغاير لها المنفصل عنها. وحين يعبّرهوسرل الذات والموضوع شيء واحد فهو تعبير خاطيء لأنه يلغي المغايرة الموجودية بين الذات وموضوعها.

الذات إدراك مادي جوهره متعيّن تفكيريا تجريديا باللغة، وليس لدينا ذاتا متحررة من الجسد تكون متحررة تماما بشكل لا يصدق أننا يمكننا أن نجوهر الذات كخاصّية يمكنها إدراك نفسها وتعالقها مع الاشياء المادية الى ذات خالصة تماما كجوهر خالص تدرك ذاتها بذاتها ولذاتها ايضا في استقلالية. الذات كينونة جسدية انثروبولوجية، ومفارقة الذات للجسد تفكير لا واقعي ولا صحيح. من المتعذر تصورنا ذاتا متحررة تدرك نفسها ذاتيا وتتعامل مع مواضيع إدراكها خياليا على أنها في تحررها من الجسد تحولت من ذات تدرك المادة الى ذات (روحية) تدرك ما وراء المادة كما فعل ذلك أفلوطين الفيلسوف الصوفي الهلنستي.

الحقيقة التي تتجاهلها الصوفية هي أن الذات في نشدانها الحلول مع الذات الالهية لا تدرك سوى ذاتها فقط ولا تدرك الذات الالهية. لافتقاد المجانسة الماهوية بينهما من جهة وإفتقاد النديّة المتكافئة مع الذات الالهية من جنبة اخرى.

حين يعبّر أفلوطين بنبرة صوفية تتلبسه العودة الى الذات المجردة عن كل محدودية إدراكية مادية متموضعة في التفكير بالاشياء قائلا " غالبا ما أجدني، وأنا أغادر جسدي عائدا الى نفسي، خارج كل الاشياء لكني أكون داخل أناي رائيا جمالا إلهيا أكثر إدهاشا، وكوني أصبحت شيئا مماثلا مع الالهي مستقرا فيه فوق كل موضوع فكري آخر"3.

ماسبق لي تقديمه حول فكرة تحولات الذات صوفيا قبل تثبيت رأي أفلوطين يغنينا عن التكرار لكن هذا لا يعفينا تثبيت التالي:

- الذات بوصفها ماهية إدراكية يحتويها الجسم هي نفسها الذات الادراكية المتحررة من الجسم نفسيا داخل الجسم أيضا لا خارجه ودليل هذا تعبير افلوطين حين أجدني أغادر جسدي عائدا الى نفسي..خلاص الذات من سجن الجسد داخليا لا يمنحها هوية روحية هي غيرها داخل الجسم. هذه غير واردة ولا متحققة ابدا. فالروح داخل الجسم هي الروح خارج الجسم ولا فرق بينهما. الذات ماهية ثابتة لا تتغير تبعا لإدراك موضوعاتها.

- الذات هوية ثابتة لا تتحول من خاصّية التفكير المادي كذات تدرك ذاتها والموجودات الى خاصّية هوياتية خارج ارتباطها بالجسم منزوعة المادة الادراكية والخيالية، إدراك الذات الانسانوية للذات الالهية بروحانية متعالية عن الطبيعي الفيزيائي للوجود البشري محال. الذات التي تدرك الوجود المادي وتعيشه هي الذات الروحية التي تدرك الذات الالهية افتراضيا في دخول الصوفي مرحلة اللاشعور.

الذات الاغترابية في قصدية تحرر الروحي عن الجسد في الصوفية هي الذات نفسها التي تريد القرب من الذات الالهية كتكامل جزئي يروم الاندماج الكلي في الماهية الكونية الازلية وهو محض وهم لا حقيقة له..الروح ليست متحققا إدراكيا للاشياء بل هي محض تجريد مفهومي فقط لا تمتلك برهان تحققها بغير وسائل تفكير الميتافيزيقا.

الوعي التواصلي والتعاقب

يؤكد جاستون باشلار في معرض محاججته النقاشية المتماهية مع برجسون " إقتران الفكرة (التواصل) بفكرة (التعاقب) هو إقتران مجاني لا برهان عليه. يتجاوز دائما وفي كل مجال الاختبار الطبيعي والنفساني على حد سواء"4.

في كل أشكال الوعي الادراكي تكون حقيقة الفكرهي تواصل تعاقبي مجاني، بمعنى التواصل هو الطبيعي الذي لا يحتاج البرهنة على صدقيته في خاصية التتابع. الوعي كما المحنا له سابقا هو سيرورة الفكر نحو هدف قصدي يرسمه الوعي والفكر في ملازمة من التواصل التعاقبي. الفكر هو مضمون الوعي الذي يأخذ شكل تعبير اللغة عن نفسه. ولا يمكن إعتبار الوعي الذاتي هو محطة إستراحة  يكون الفكر الملازم لها سيرورة فكرية مستقلة قائمة لوحدها. السيرورة الفكرية هي  المزامنة لكل أشكال الوعي. وليس من الممكن فرز التزامن في هذه السيرورة المتعالقة بينهما. زمن الفكر هو زمن الوعي الذي هو زمن إدراكي لكل موجود. وفي غياب الموجودية المادية للاشياء لا يبقى هناك وعيا فكريا يحققه تجريد اللغة والزمن.

ويثير باشلار إشكالية أخرى قوله " هل سينقذ المتواصل الزمني بتجريد الزمن كشكل قبلي؟ أن هذا المنهج والقول لباشلار يعني أننا على نحو ما نجوهر الزمن من تحت في فراغه وخلوّه خلافا للمنهج البرجسوني الذي يجوهر الزمان مع مرور الوقت من فوق في إمتلائه"5.

الزمان مطلق جوهري مجرد لا يدركه العقل لا بالصفات ولا بالماهية. وعبارة باشلار الزمن تجريد (قبلي) هي عبارة صحيحة تماما. جوهر الزمان كتجريد ماهوي سابق على جوهر الوجود كثبات مادي.

والزمان جوهر ممتليء لا ندرك إمتلائه ولا خلوّه. الزمان لا يكون خلوّا فارغا لا على صعيد التحقيب الزماني الارضي في إدراكنا موجودات الطبيعة بدلالة الزمان، ولا يكون الزمان فارغا خلوّا وهو يحتوي الكون اللانهائي ولا يحتويه الكون المادي، ولا يوجد قانون فيزيائي أرضي أو قانون فيزيائي على الصعيد الكوني لا يدخل فيه الزمان معادلة علمية لا قيمة لها في إلغاء تجريد الزمان منها.

الزمان جوهر ثابت (نسبي كونيا / مطلقا ارضيا) مخلوق لا يتعالق إمتلائه الافتراضي ولا خلوه بدلالة جوهرة غيره من الاشياء. لا يوجد هناك حتى على المستوى الميتافيزيقي إمتلاء زمني تحتاني يختلف أو يتكامل مع إختلاف إمتلاء زمني فوقاني. فيزائية الزمان لا تقبل التجزئة على صعيد ماهيته الجوهرية لكنه يقبل التجزئة الافتراضية على صعيد تحقيبنا الزمان ارضيا لتوفير إمكانية ادراكنا ومعرفتنا تغيّرات الطبيعة ورصد حركة سيرورة الاشياء في العالم الارضي المحيط بنا في معرفتنا الوقت وضبط تغيرات المناخ. المقصود هنا انه بدلالة حركة الكواكب في المجموعة الشمسية نحدد الوقت وليس الزمن تحقيبا ارضيا نعرف به الوقت بدءا من الثانية وليس انتهاءا بالفصول الاربعة.

الحقيقة التي تحكمنا هي أننا ندرك الموجودات مكانا بدلالة زمانيتها، في نفس وقت أننا ندرك محدودية الزمان كتحقيب تاريخي ماض وليس كمطلق زمني بدلالة إدراكنا المكان وموجودات الطبيعة والوجود زمكانيا مشتركا متداخلا.. التحقيب التاريخي لوقائع الماضي الزمن غير موجود، والموجود هو التحقيب التاريخي لوقائع من ماض لازمني في توقيت حدوثها.

الزمان والعدم

بضوء ما ذكرناه ربما يبرزامامنا تساؤل مالفرق بين الزمن والعدم في حالتي الفراغ وفي حالة الامتلاء التي قال بها باشلار؟ إجابتنا تتحدد بالتالي:

- الزمان يلتقي العدم في واحدية الامتلاء لكليهما، فلا زمن بلا إمتلاء وجودي يحتويه ولا عدم بلا إمتلاء وجودي يفنى فيه. الزمان يحتوي الوجود كاملا، والعدم يزامن الوجود ولا يحتويه.

- الزمان يحتوي الوجود بدلالة ادراكية لمعرفته من قبل الانسان، والعدم يلازم الوجود لافنائه بالموت. لذا من أفدح الأخطاء على صعيد الفلسفة أن نعتبر الزمن مكافئا (العدم) بعلاقتهما المتباينة بالوجود، فعلاقة الزمن بالوجود هي علاقة إدراك توكيدي ملازم للوجود،بينما يكون العدم لاشيء يمكننا الدلالة على أنه يمتلك أستقلالية موجودية خارج ملازمته الموجودات الحية لافنائه وليس لتوكيدهها الادراكي كموجودات. ومن الاخطاء الاكثر فداحة فلسفية ايضا هي إعتبارنا إمتلاء الزمان يشابه ويكافيء إمتلاء العدم. العدم لا يكون ممتلئا أبدا في جميع الحالات فهو اي العدم ليس فراغا متعيّنا بل هو اللاشيء. فالعدم ليس فراغا إحتوائيا ليمتليء. العدم وهم وجودي يدرك بدلالة إفنائه الاشياء والكائنات الحيّة في مقدمتها موت وفناء الانسان.

- الزمان والعدم كلاهما لا يلتقيان بخاصية أنهما لا يدركان كجوهرين متمايزين مختلفين بمعيارية الفراغ، ولا يمكن إدراكنا زمانا تحقيبيا ارضيا ولا كونيا فارغا بمعنى الزمان لا يتوسط إمتلائين، ونفس الشيء ينطبق على العدم في إستحالة توسيطه كفراغ لوجودين أحدهما سابق عليه والآخر لاحق عليه.

جدل المجانسة والاختلاف

عن جاستون باشلار ايضا قوله ما معناه لا يوجد جدل منطقي حقيقي على صعيد مباحث الميتافيزيقا، وهي عبارة ذكية صحيحة تماما لا تحتاج برهان تحققها. إذ نحن غالبا ما نوظف الجدل الإفتراضي على صعيد الفكر بدلالة المادة وهما لا يرتبطان بنوع من المجانسة النوعية. أبجدية التفكير المادي الجدلي أن الوجود يسبق الفكر الذي هو ناتج الوجود المستقل للاشياء المادية في العالم الخارجي. وعبارة باشلار أراد بها التنبيه أن الجدل الحقيقي إنما يكون على صعيد المادة في إمتلاك التضاد داخلها بالمجانسة النوعية الواحدة بين قطبي التضاد.أي جدل صراع تناقض الاضداد يتم داخل مجانسة نوعية تجمعهما معا. ومن المحال الساري خطأ القول ان الديالكتيك يكون بين الفكر كتجريد والواقع المادي. القانون الاول في الديالكتيك يقول (وحدة وصراع الاضداد). فما المقصود بوحدة طرفي الصراع؟ المقصود هو المجانسة النوعية التي تجمعهما على صعيد التضاد بينهما. فانت من المحال ان تقول تدخل الشجرة والانسان في صراع اضداد مثلا وذلك لانعدام وحدة المجانسة النوعية بينهما.

الشيء الآخر أن الجدل الذي يتم في وحدة المجانسة التي تجمع بين نقيضين يشتركان بالصفات والماهية، والجدل الذي نتصوره يحدث خارج وحدة المجانسة النوعية أو خارج المادة والتاريخ على صعيد الميتافيزيقا كما عبّر باشلار عنه هو نوع من الجدل غير القائم حقيقة وجدل زائف لا قيمة له لأنه غير حادث أصلا ولا تتوفر إمكانية حدوثه.. لذا وصفه باشلار بالجدل الميتافيزيقي، اي الجدل غير الحادث واقعيا.

أكثر من مرة تحاشيت الإجابة عن كيفية حدوث جدل ديالكتيكي حقيقي غير ميتافيزيقي بين المادة والفكر وهما كيفيتان غير متجانستان لا بالصفات ولا بالماهية. فالمادة جوهر وجودي مستقل تدركه الحواس، والفكر تجريد تصوري تمّثلي في التعبير عن المدركات المادية بوسيلة اللغة.

ليس هناك من وجهة نظري جدلا ديالكتيكيا منطقيا يخرج على مجانسة النوع الواحد الذي يجمع بين نقيضين داخله. والتناقض والتضاد وصراع الطبقات على مستوى التاريخ يكون بين قطبين متنافرين تجمعهما المجانسة النوعية الواحدة التي لا يمكن تجزئتها وتوزيعها بين المتناقضين. بل يحسمها التضاد في هزيمة احد قطبي الجدل.

والتناقض والتضاد على مستوى المادة والصراع بين الطبقات الاجتماعية على مستوى جدل المادية التاريخية، هو تضاد وصراع بين قطبين يعتملان داخليا لا يخترعهما الانسان ولا يمكنه التدخل في نصرة أحدهما على الآخر. كما أنه صراع ينبثق للعلن بعد توافر العوامل الموضوعية الخارجية المساعدة التي تعمل على تسريع وتنضيج هذا التضاد الداخلي في إنتاج الظاهرة المستحدثة الجديدة أو ما يعرف بالمرّكب الثالث.

بعد بروز الظاهرة المستحدثة الجديدة يلعب الفكر دوره الايجابي في الانتصار لما هو تقدمي يخدم الانسان ويتطور به الى أمام. وهو في طريقه نحو حتمية التناقض الجدلي والانحلال في استحداثه الظاهرة الاخرى الجديدة وهكذا. بمعنى الجدل هو قانون الحركة المتضادة الدائمية داخل سيرورة المادة وتطورالتاريخ.

بضوء ما تم شرحه هل من الممكن إعتبار التناقض الجدلي المادي، هو عملية إنقطاع مؤقت لوعي الفكر في ثبات الادراك؟ لا علاقة تقاطع مباشرة بين الوعي الذاتي المستقل عن حدوث التضاد الداخلي الذي لا يتوقف بفعل عوامل ظرفية مساعدة مستقلة عن إرادة ورغبة الانسان.

الزمان القبلي

هل الزمان قبلي كما يشير له باشلار "ارتقاب مجرى الزمان مكتوب في الذاكرة وقبلية الزمان لا تظهر إلا لاحقا كضرورة منطقية "6

قبل الدخول في مناقشة باشلار اود تثبيت ما يلي:

- الزمان جوهر كيفي ثابت – انا هنا استبعد نسبية انشتاين في تحرك الزمن على شكل حزم متموجة تتقلص وتتمدد - لا يمكن التلاعب في ماهيته غير المدركة للانسان. بمعنى الزمان جوهر غير متعالق مع رغبة الانسان مطلقا فهو محايد حاله من حال قانون الجاذبية مثلا، ولا يوجد هناك قدرة انسانية يمكنها التحكم بالزمان في أي شكل من الاشكال لسبب إنعدام المجانسة الماهوية بين الزمان وبين كل شيء موجود يتعالق مع الزمان إدراكيا فقط. عقل الانسان ودلالة الزمان الافتراضية لا يلتقيان.

- الزمان جوهرافتراضي غير ديالكتيكي وهذه حقيقته الانفصالية المطلقة عن الاشياء خارج علاقته انه دلالة إدراك الاشياء وليس في التداخل الجدلي الديالكتيكي معها.

- الزمان وحدة كليّة وجوهر ماهوي مطلق تجريديا لا يمكن تجزئة الزمان ولا تحديده ويقول ارسطو في عبارة رائعة (لا يمكننا حد الزمان بزمان) اي من المحال ان يكون هناك زمانين اثنين او ثلاثة. فأنت عندما تريد محدودية زمانية يتوجب عليك أن يتوفر لديك زمان آخر يمتلك ماهية زمانية مغايرة أخرى تحّد بها زمانا لا يشاركه المجانسة الماهوية النوعية وهو محال فالزمن جوهر واحد في مجانسة نوعية ماهوية واحدة. وما يحكم العالم والانسان والطبيعة والكون زمان واحد يمتلك كيفية ماهوية واحدة لا تنقسم على نفسها ولا تتجزأ ولا يمكن حدّها.

- السؤال هل من الممكن حد الزمان بالمادة؟ كتحقيب أرضي وليس كمطلق ازلي زماني.؟ ايضا هنا الجواب في منتهى الإحراج. الزمان يدرك بحسب مقدار حركة الاجسام داخله على الارض. لذا فالزمان من خواصه أنه يتمدد ويتقلص كما هي خاصيّة المادة لكن من غير فقدانه لماهيته الزمانية التي لا يمكننا ادراكها بغير دلالة حركة جسم يحتويه الزمان.

-  إننا نستطيع تحديد الزمان بحركة الاجسام داخله في توازن ماهوي جوهري لهما متصلين في دلالة أحدهما إدراك الاخر، ومنفصلين بالخصائص الذاتية المختلفة بين الزمان والاجسام التي يحتويها الزمن. لا الجسم يفقد خصائصه في حركته داخل الزمان ولا الزمان يفقد خصائصه الماهوية كزمن لا يمكن إدراكه إلا بدلالة حركة غيره ماديا.

- الزمان قبلي على الإدراك بعدي على الوجود، علما أن الوحدة الزمانية لماهيّة الزمان لا تتغير في الحالتين. كون الزمان جوهر لا يقبل التجزئة والانقسام لا على نفسه ولا بعلاقته بموجود مدرك بحركته داخل الزمن.

- المشكلة الميتافيزيقية التي أثارها سبينوزا بحق هي في إعتباره الطبيعة مخلوق قبلي على بعدية الزمان، فالوجود أولا والزمان ثانيا. سبينوزا من المدهش حقا إنطلاقه تحت تأثير لاهوتي أن الخالق خلق المكان والمقصود بها الطبيعة بنظام ثابت في قوانينه الفيزيائية التي تحكمه، والطبيعة بنظامها هذا هي التي أسبغت على عشوائية الزمان نظامه. لذا إعتبر سبينوزا إدراكنا الوجود والزمان إنما يتم بدلالة ازلية الجوهر الذي هو الله. يوجد عبارة لافلاطون يقول فيها اننا بدلالة المكان ننظّم عشوائية الزمان. العبارة اوردتها فقط للتدليل على ان الطبيعة او المكان اسبق وجودا من الزمن. وليس مهما إثبات قول افلاطون اننا بدلالة نظام الطبيعة ننظم عشوائية الزمن.

- لما كان الانسان يدرك ويحّس الزمان بخلاف الحيوان الذي لا يدرك ذاته ولا يدرك نظام الطبيعة والأهم أنه لا يدرك الزمان ولا يتمتع بخيال ميتافيزيقي. لذا نجد الحيوان متكيّفا إنقياديا سلبيا ذاتيا مع الطبيعة في إدامة حياته يعيش ليأكل، في حين العلاقة التكيّفية عند الانسان مع الطبيعة لا تقوم على الانقياد لها من دون وعي منها. فالطبيعة لا تعقل نفسها من جهة ولا تعقل وجود الانسان المتمايز عنها من جهة أخرى. وعلاقة الانسان بالطبيعة تتمحور حول الانسان العاقل والطبيعة غير العاقلة. بهذه الميزة الانسان يقود الطبيعة ولا ينقاد لها.

التعاقب الادراكي

برجسون يخرق حقيقة علمية فيزيائية تقول إدراك كل شيء هو (زمكانيا) وهي الحقيقة التي ارساها كانط ومن جاء من بعده. يعبر برجسون قائلا " أن امتلاء المادة للزمان هو الاكثر كثافة من إمتلاء المادة للمكان، وما تزال المادة تملأ الزمان بشكل مؤكد أكثر مما تملأ المادة المكان"7.

من المعروف جيدا أن كل إمتلاء مكاني هو في نفس اللحظة من الحين والوقت يكون إمتلاءا زمانيا افتراضيا، وإدراك الإمتلاء لا يخضع لتعاقب تسلسلي في الأسبقية لتعذر إمكانية معرفة فصل إمتلاء المكان بمعزل عن إمتلاء الزمان. إدراك أي شيء لا يتم وفق تراتيبية أسبقية بين إدراك المكان عل بعدية إدراك الزمان. وعندما يفصل برجسون الادراك في الإمتلاء بين المكان والزمان كلا على إنفراد حسب مرجعية الامتلاء، فهذا الفصل ميتافيزيقي وهمي تصعب البرهنة على حدوثه وإمكانية تحققه سوى في تصور ميتافيزيقي غارق في تجريد فلسفي.

ومن البديهيات التي لا تحتاج نقاشا هي حضور المادة زمانيا في إحتواء الزمان الطبيعة أكثر كثافة من محدودية المكان في إحتواء الامتلائي للاشياء. ولا ينتج عن كل هذه السفسطة ما يستوجب الايهام أن برجسون وباشلار يناقشان قضية عالقة من مباحث الفلسفة جديرة بأهمية الأمتلاء الزماني بالمقارنة مع الإمتلاء المكاني.

هل من المتاح تصور أن كلا من الزمان والمكان حيّزان فارغان لإستيعابهما إمتلاء المادة لهما.؟ المادة وجود زمكاني مدرك مستقلا ولا يحتاج إمتلاء فراغات زمانية أكثر منها إمتلاء فراغات مكانية. ما هو أبسط تعريف للمادة هي كل شيء يشغل حيّزا من الفراغ، والمقصود بالفراغ هنا الحيّز المحدود الذي يناسب موضعة المادة أو الشيء فيه، لذا الفراغ المكاني لا يسبق المادة في موضعتها المكانية، وكذا المادة موجود مكاني يسبق إدراك الزمن له. لا يوجد وعائين فارغين زماني - مكاني لاستيعاب إمتلاء المادة بهما الا في تفكير باشلار الميتافيزيقي.

***

علي محمد اليوسف – الموصل

..............................

الهوامش: 1 – 7، جاستون باشلار / الجدل والزمن/ ترجمة خليل احمد خليل/ الصفحات 41- 45

الفلسفة ضحية نظام تعليمي يكرس السذاجة

فرش إشكالي: يجسِّد تعليم الفلسفة في الواقع التربوي المعاصر عندنا في الجزائر مفارقةً وجوديةً قاسيةً؛ فهو من ناحيةٍ يُقدَّم بوصفه مشروعًا تحرُّريًّا يتبنى المقاربةَ بالكفاءات كآليةٍ لتحرير العقل، ومن ناحيةٍ أخرى يُختَبر إدراكُ الطلاب لهذه الكفاءات عبر آلياتٍ تقييديةٍ تُحيلُ الفكرَ الفلسفيَّ إلى مجرَّدِ استظهارٍ لإجاباتٍ جاهزةٍ، تُروَّجُ في فضاءات الدروس الخصوصية كسلعٍ معرفيةٍ. هذا التناقضُ الجوهريُّ بين النموذج التحرري للفلسفة (كنقدٍ وتشكيكٍ وتحريرٍ) والممارسة الواقعية (كتلقينٍ واتباعٍ لنماذجَ مُعلَّبةٍ) لا يكشفُ فقط عن اغترابِ الفلسفة عن غاياتها، بل يُعرِّي أزمةً أخلاقيةً في البنية التعليمية، حيثُ يتحوَّلُ المعلمُ من حاملٍ لرسالةِ التنوير إلى وسيطٍ في سوقِ "سمسرةِ المعرفة"، يُنتجُ طلَّابًا مُطيعينَ لا عقول فلسفية تتساءل.

فكيف لدرسٍ يُفترضُ أن يكونَ حقلَ تفكيكٍ للسلطاتِ أن يتحوَّلَ هو ذاتُه إلى سلطةٍ مطلقةٍ، تُفرضُ عبرَ خطابٍ تجاريٍ يُعيدُ إنتاجَ السذاجةِ الفكرية؟ هذه الورقةُ تحللُ هذا الانزياحَ من الفلسفةِ كممارسةٍ حرةٍ تُعلي سؤالَ الحقيقةِ، إلى منتجٍ استهلاكيٍّ يُختزلُ في عملياتِ تداولٍ ربحيةٍ، مُستكشفةً تداعياتِ تحوُّلِ المعرفةِ إلى كسب مادي في سياقِ الليبراليةِ التعليميةِ الجديدة.

في "المقدمة" (الفصل السابع والثلاثون: "وجه الصواب في تعليم العلوم وطريق إفادته")، ينتقد ابن خلدون ظاهرةَ انحراف التعليم عن غاياته المعرفية، ويُسلط الضوء على عدة إشكاليات تتعلق بفساد المنهج التعليمي وسوء ممارسات بعض المعلمين. ومنها:

1. ظاهرة الارتزاق بالعلم: يحذر ابن خلدون من فئة "المتطفلين على العلوم" الذين يحوِّلون التعليم إلى وسيلةٍ للكسب المادي، مما يؤدي إلى تدهور قيمة المعرفة وتحويلها إلى مجرد بضاعة. ويؤكد أن هذا الانزياح يُفقد العلمَ جوهرَه الأصلي:" إذا اتُّخِذ العلم بضاعةً، فسدت الفلسفة وخَملتْ شريعةُ الحكمة." وهذا القول يشير إلى أن تسليع العلم يُفقد الفلسفةَ قيمتها النقدية، ويُحيلها إلى نشاطٍ آليٍ خالٍ من العمق.

2. إشكالية تحريف المعرفة وسوء المنهج: ينتقد ابن خلدون بعض المعلمين الذين يقدمون المعرفةَ بشكلٍ سطحيٍ لجذب الطلاب، بدلًا من بناء ملكة الفهم النقدي. ويوضح أنهم:

"يُحْضِرُون للمتعلم في أول تعليمه المسائل المقفلة من العلم، ويطالبونه بإحضار ذهنه في حلها... ويخلطون عليه بما يُلقون له من غايات الفنون في مبادئها، وقبل أن يستعدَّ لفهمها."

وهذه المغالطات تُربك المتعلم وتعيق تكوين "ملكة النقد"، أي القدرة على التصرف في العلم بنقدٍ وإبداع.

3. أزمة انقطاع السند التعليمي وضعف تكوين الأستاذ: يشير ابن خلدون إلى أن انهيار المنظومة التعليمية في المغرب (بعد سقوط مراكز العلم في قرطبة والقيروان) أدى إلى ضعف الملكة العلمية لدى الطلاب، حيث أصبح التعليم يعتمد على الحفظ دون الفهم أو المناظرة:

"فتجد طالب العلم منهم بعد ذهاب الكثير من أعمارهم في ملازمة المجالس العلمية سكوتًا لا ينطقون ولا يفاوضون، وعنايتهم بالحفظ أكثر من الحاجة."

مما نتج عنه قصورٌ في القدرة على النقاش والتعليم، إذ لم يعد الطلاب قادرين على توظيف المعرفة توظيفًا نقديًا.

في المسار التاريخي للفلسفة اليونانية، يبرز سقراط في المحاورات الأفلاطونية (وخاصة في "بروتاغوراس" و"جورجياس") كنموذج للفيلسوف الذي يقف بالمرصاد لظاهرة تسليع الحكمة. عبر منهجه التوليدي (المايوتيكي) وتهكمه السقراطي، يكشف لنا كيف حول السوفسطائيون المشروع الفلسفي من بحث عن الحقيقة إلى مجرد "تقنية بلاغية" تهدف إلى تحقيق المكاسب المادية. هذا التحويل الجوهري للفلسفة من مسعى وجودي-معرفي إلى مهارة نفعية، يشكل في جوهره اغتراباً عن المهمة الفلسفية الأصلية.

في هذا السياق، تظهر المفارقة السقراطية في موقف كاليكليس (في محاورة جورجياس) الذي يسخر من سقراط لرفضه قبول الأجر على تعليمه، بينما يتباهى جورجياس بثرواته التي جمعها من بيع المعرفة. هذه الثنائية تفضح التناقض الجوهري بين الفلسفة الحقيقية كنشاط تحرري والسفسطة كصناعة استهلاكية. في محاورة "هيبياس الأكبر"، يصل هذا التناقض إلى ذروته عندما يتباهى هيبياس بأنه "كسب في رحلة واحدة إلى صقلية أكثر من 150 مينا" وهو مبلغ يعادل في قيمته الحالية راتب عام كامل لخمسين عاملاً.

رد فعل سقراط على هذا النموذج من التبضيع المعرفي كان ثورياً في عصره: "أنا لا أبيع الحكمة، لأني لا أمتلكها أصلاً". هذه العبارة التي تبدو تواضعاً تحتوي في طياتها نقداً جذرياً لادعاءات السوفسطائيين بامتلاكهم للمعارف الجاهزة. تعليقه الساخر "لو كانت الحكمة تُباع كالسمك، لكان السوق مليئاً بالحكماء!" يكشف عن التناقض الأساسي بين طبيعة الحكمة كمسعى فردي وبين محاولة توحيدها وتسويقها.

اليوم، نجد إعادة إنتاج كاريكاتورية لهذا النموذج السوفسطائي في مشهدنا التعليمي المعاصر، حيث يتجلى في ثلاث شخصيات أساسية:

1. جورجياس المعاصر: يتمثل في أولئك الأساتذة الذين يحولون العمل الأكاديمي إلى "صناعة معرفية" عبر تقديم "دورات المقالات الجاهزة" بمقابل مادي باهظ، محولين الفلسفة من حوار عقلي إلى "وجبات سريعة" فكرية تهدف إلى الربح المادي.

2. بروتاغوراس الرقمي: يظهر في شكل "الخبراء" الذين يختزلون العمل الفلسفي إلى محتوى رقمي سريع الاستهلاك، معتمدين على منطق الإغراء والإبهار بدلاً من التحليل النقدي، محولين السؤال الفلسفي من "ما الحقيقة؟" إلى "كيف تحصل على العلامة الكاملة؟".

3. كاليكليس العولمي: يتمثل في الأستاذ المتعالي الذي يسخر من زملائه الملتزمين بالبحث الجاد، معتبراً إياهم فاشلين لأنهم لم يخضعوا لمنطق السوق، فيكرس بذلك ثنائية زائفة بين "النجاح" المادي والقيمة الفكرية الحقيقية.

هذه التجليات المعاصرة تطرح إشكالية عميقة حول علاقة المعرفة بالسلطة والمال، وتستدعي إعادة قراءة نقد سقراط في ضوء تحولات العصر الرقمي والرأسمالية المعرفية. فكما كان سقراط ينظر إلى السوفسطائيين كأعداء للحكمة الحقيقية، يمكننا اليوم أن ننظر إلى هذه النماذج المعاصرة كتعبير عن أزمة أعمق في علاقة المعرفة بالسلطة في عصرنا.

الفيلسوف الألماني نيتشه في كتابه "هكذا تكلم زرادشت": في فصل الحديث عن الكهنة يهاجم "مُعلّمي الفضيلة" الذين يحولون الفكر إلى دوجما (عقيدة جامدة) لأغراض نفعية. قائلا: " لقد أراد هؤلاء الكهنة أن يعيشوا كأشلاء أموات؛ فسربلوا جثثهم بالسواد فإذا هم ألقوا مواعظهم انتشرت منها رائحة اللحود. إن من يجاور هؤلاء الناس فكأنما هو ساكن على ضفة الأنهار السوداء حيث لا يسمع إلا نقيق الضفادع الحزين" يهاجم نيتشه وينتقد أولئك الذين "يدّعون الفضيلة" لكنهم في الحقيقة يخدمون مصالحهم ينطبق هذا على الأساتذة الذين يُكررون نفس المقالات منذ 20 عامًا او أكثر. يُحوّلون التعليم إلى مصنع شهادات لتحقيق أرباح أو سمعة وينتقد النظرة السياسية الضيقة التي تشتغل على تصميم المناهج لـغسل الأدمغة بدلًا من تنويرها " جميعكم أيها الحكماء المتمتعون بالشهرة قد خدمتم الشعب وما يؤمن به منَّ خرافات، ولو أنكم خدمتم الحقيقة لما كرمكم أحد، ومن أجل هذا احتمل الشعب شكوككم في بيانكم المنمق؛ لأنها كانت السبيل الملتوي الذي يقودكم إليه، وهكذا ً يوجد السيد لنفسه عبيدا يلهو بضلالهم الصاخب، وما الانسان الذي يكرهه الشعب كره الكلاب للذئب الا صاحب الفكر الحر عدو القيود الذي لا يتعبَّد، ولا يلذ له الا ارتياد الغاب "والاسوء هنا ليس الجهل، بل وهم المعرفة الذي تخلقه الأنظمة التعليمية التي :

* تُكرّس الحفظ عن ظهر قلب بدلًا من التفكير النقدي.

* تُعاقب الأسئلة الجريئة وتُكافئ الطاعة العمياء.

* برامج تعليمية تُنتج أفرادًا مُطيعين للنظام (السياسي، الاجتماعي، الاقتصادي) بدلًا من مُفكّرين أحرار.

تشريح الأزمة: التمزق الثقافي وأثره على الكتابة الفلسفية

أ. الصراع اللغوي:

- التلميذ يتعامل مع لغة مزدوجة:

- لغة التدريس في الثانوية يفترض انها (عقلانية، مجردة، نسقية).

- لغة الحياة اليومية وأحيانا حتى الدروس الخصوصية (عامية، تهكمية، سطحية).

- النتيجة: كتابة هجينة تفتقد التماسك المنطقي وفقيرة من حيث المبنى والمعنى.

ب. صدام المنطق:

- منطق تدريس الفلسفة وفق المقاربة بالكفاءات يتطلب الشعور بوجود مشكلة ومن ثمة كفاءة التحليل وامتلاك ملكة النقد ورصيدا معرفيا تراكميًا يوظف قصد محاولة حلها ( خلاف ذلك التلميذ يعيش في عالم افتراضي لا يشعر بوجود مشكلة ولا يندهش ولايتساءل يؤمن بمنطق القفز كما هو الحال في "ثقافة التيك توك.

ج. أزمة الزمن:

- الفلسفة تُعلّمنا أن الماضي حي نستعيده من خلاله الذاكرة لتوظيفه في بناء استجابة تكيفية ناجحة مع الواقع وان الحاضر ندركه ونتعامل معه بذكاء وبصيرة وان المستقبل نؤسس له، بينما التلميذ يعيش في زمن مُجزأ لا ماضي ولا مستقبل، فقط "اللايك" الحالي، والاستمتاع باللحظة من خلال التفاعل مع الريلز وتبادل النكت مع الأصدقاء.

المسؤولون عن الأزمة: من النظام إلى وسائل الإعلام

أ. الثانوية:

- تتعامل مع الفلسفة كـ "شكل ومادة" لا كـ" روح وممارسة حية". ،تصنف الفلسفة كـ"مادة ثانوية". خاصة الأقسام العلمية والتقنية، وتتعامل مع التلاميذ كأعداد وكتلة يجب مراقبتها والتحكم فيها وتوجيهها وتُهمل تعليم التفكير النقدي لصالح الحفظ.

 ب. الأسرة والمجتمع:

- تُكرّس النفعية والنظرة البراغماتية المفرغة من القيم الروحية حيث الهدف هو النجاح بأي ثمن ولو بالغش والحصول على الشهادة لأجل الوظيفة ولاقيمة للفكر في هذه المعادلة، والنظام التعليمي الذي يشجع على "الحفظ والتوقع" بدلًا من التفكير النقدي يُنتج طلابًا غير قادرين على مواجهة التحديات غير المتوقعة. هذه الظاهرة تعكس خللًا في غرس قيم الاجتهاد والإبداع ورفض بعض الأساتذة للتغيير في نمط الأسئلة قد يعبّر عن مقاومة التحديث في المناهج أو الخوف من فقدان السيطرة على مصادر المعرفة، بينما يطالب الطلاب بامتحانات "مألوفة" كحقّ مكتسب.

ج. وسائل الإعلام والرقمنة:

تُعزز السطحي من خلال نشر المحتوى السريع، والإجابات الجاهزة انها تشجع التلميذ على الكسل وتغرس لديه وهم امتلاك المعرفة وتُفكك قدرته على التركيز وتضعف ارادته مثلا بدل قراءة كتاب والتحضير من خلاله او الاشتغال على تمارينه يكتفي التلميذ المغرر به بمشاهدة "ريلز" او المشاركة في دورة مدفوعة الثمن على الانترنت للتباهي والهروب من الواقع وما يفرضه من اكراهات العمل وبذل الجهد. وهنا تتحول المنصات إلى فضاءات لنشر "أسئلة مزعومة" او ما يسمى التسريبات، ظاهرة تعكس تأثير المجتمع الافتراضي في تشكيل الواقع التعليمي، حيث تتحول الشائعات إلى حقائق مُسلَّمة بفعل التكرار والمصادر "المزعومة" (التي يروج لها بعض الأساتذة).

كتخريج عام

يمكن القول ان دفاع بعض الأساتذة عن أسئلة البكالوريا "المتوقعة" له علاقة وظيفية بالدروس الخصوصية وضعف التكوين في مجتمع سائل يعيش حالة من التخلف الثقافي والهشاشة الحضارية

واقعة تحركها المصلحة المادية حيث لا يجد بعض الأساتذة حرجا في تحويل الامتحانات إلى سلعة، وهنا تصبح "التنبؤات" بالأسئلة وسيلة لتعزيز مكانتهم في سوق الدروس الخصوصية، وجذب الطلاب عبر وعود بتحقيق نجاح مضمون تحت تأثير وهم السمعة المهنية التي يُروج البعض لها ولمقالاتهم "المُعدة مسبقًا" وتكهناتهم التي لاتخطئ في نظرهم كدليل على "خبرتهم"، مما يخلق هالة زائفة حول قدرتهم على التحكم في نتائج الامتحانات، ويُضعف ثقة الطلاب بالمنظومة الرسمية مما يعكس رفض التجديد- كما هو حال بكالوريا الفلسفة 2025 شعبة آداب وفلسفة - خوفًا من فقدان الامتيازات المرتبطة بكونهم "وسطاء" بين المنهج والطلاب، خاصة إذا كانت مهاراتهم لا تتجاوز تقديم إجابات جاهزة حالة كرست التبعية: من خلال تحويل التعليم إلى مقامرة على الأسئلة بدلًا من بناء المهارات مما أدى الى تآكل مصداقية المؤسسة التعليمية: فعندما يُنظر إلى الامتحان على أنه "مسابقة تخمين"، يُفقد التعليم قيمته الحضارية كأداة لتقييم المعرفة الحقيقية وبناء ما نسميه المواطن الحر والمسؤول.

***

عمرون علي – تخصص فلسفة

قَوْلٌ في فِعْل الاقْتِبَاسْ والاسْتِئْنَاسْ

مُفْتَتَحْ إشْكَالِي: إنّ الكتابة هي الحِفَاظ والتَرْسِيخْ، وهي إثبات للوجود والإقرار بفَعَّاليته وحَركِيتِهِ، والحقّ في التفكُّر والفهم والتعبير عن المواقِف والآراء والتقديرات بالحُجّة والمِثَال. فَمَنْ يكتُب يُحْفَظْ، خاصّة إذا كانت كتاباته ذات وزن ثَقِيل من الجدّية والرَصَانَة والتَعْميق. وللكتابة كَمَا جَرَى الاتّفاق صِلَة وَثيقَة مُتبادلة التأثير مع القِراءة؛ إذ أنّنَا نَحْتاج أن نَقْرأ كيّ نكتُبْ ونَحْتاج إلى ما هو مكتوب كيّ نَقْرَأْ، وحقًا الكتابة والقِراءة تضمّ جميع أفعال العقل توظيفًا وتفعيلاً كالتفكير، التحليل، التركيب، النّقد، المُقارنة والاستنتاج (...).

ويتقدّم حقل الفلسفة كأبرز الحُقول الدافِعَة بالعقل إلى أن يَقْرَأَ ويَكْتُبَ، ما أنْتَجَ العديد من النُّصوص المُخْتَلِفَة اللّغات والمَشَارب والمناهج والموضوعات والغايات، فلِكُلّ نصّ قِصّة مَنْسُوجَة من معانيها البَيّنَة والمُتوارية. وبإعراض المُبالاة عن مَدَى قُوّة أو ضُعف، أغراض ومقاصد، تأصيليّة أو تكراريّة، استئناف لِمَا سَلَفْ أو قَطيعَة هذا النصّ أو ذاك، تُعَيّن النُّصوص كوعاء حامِل للكثير من الدلالات وزاوية من زوايا النَظَر إلى العالَم. ومن بين هذه النُّصوص نَجِد تِلك التي يكتُبها الباحث الجزائري في بُحوثه الأكاديميّة العِلّمية على سيرة التخصيصّ والضَبطّ. ومن أوجه الاعتراف بهذه النُّصوص وتقديرها، اعتمادها في الامتحانات والمُسابقات، وقد جاءت بكالوريا 2025م بالجزائر لتَشْهَدَ توظيف كتابات جزائريّة في امتحان مادة الفلسفة، وتضرب تكهُّنات الموضوعات وعقلية التوقّعات عُرض الحائِط، ومنه فإنّ الإشكال الرئيسي الذي نطرحُه ونحنُ نُقارِبُ هذا الموضوع تحليلاً ونقدًا، ماهي القيم التي كَشَفَ عنها امتحان مادة الفلسفة في بكالوريا 2025م والدروس التي ينبغي استخلاصها ضِمنَ مُحاولتنا في صياغة قول في فِعل الاقتباس والاستئناس؟

1- الفلسفة والمُقْترح: جدل التصديق والتكذيب

تُصَنَّف مادة الفلسفة كإحدى أهمّ المواد الأساسيّة التي يُمْتَحَنْ فيها تلاميذ شُعبة الآداب والفلسفة؛ حيث يُقدّر مُعاملها بستّة وهو رقم مُرتفع يُمكِّن من تحصيل نتيجة جيّدة أو مُتدنّية في المُعدّل العام قِياسًا على العلامة المُحَصّل عليها. والحقّ أنها مادة مُهِمّة كذلك بالنِسبة لبقية الشُعب خاصّة لِمَنْ يطمح ويطمع سَعّيًا لتحقيق مُعدّل عالٍ. ومن الجديد الذي أضحى قديم بسبب انتشاره وتحوّله إلى ظاهرة تمثّلت في حملة التوقّعات والترشيحات التي يُمارسها البعض من أساتذة الدروس الخُصوصية، مِمَّا جعل الحال يسوء إضافة إلى ما هو جاري من مشاكل؛ حيث أصبح التلاميذ يُغادرون مقاعد الدراسة في الربيع ويلتحقون بمقاعد أساتذة خارج القسم والمُراهنة على مجموعة من المقالات أو الموضوعات والذهاب بها يوم الامتحان. وقد يحصُل أن يصدُقَ توقُّعًا من التوقّعات وليسَ هذا من قَبيل الفلاح العِلمي والفلسفي وإنّمَا صُدفة أو حُسن حظّ وتوفيق ترشيح.

لتأتي بكالوريا 2025م وتَقْلِبَ الموازين وتُثير ضَجّة واسِعة؛ إذ لم يصدُق صِدقًا واقعيًا ولا اقتراح من الاقتراحات والمُحتملات التي تَغَنَّى بها فِئَة من أساتذة الدروس الخُصوصية ورفعوا بها سقف آمال التلاميذ في ضَمَانْ علامة جيّدة أو حتى مُمتازة في امتحان مادة الفلسفة. فَعَلَى حسب العديد من تصريحات التلاميذ أن موضوع الأخلاق لم يكُنْ ضِمن قائِمة المُنجّمِين وحتى موضوع الشعور واللاّشُعور، مِمَّا أثار موجة سُخط وانهيار لَدَى البعض منهم وحتى الأولياء وأشباه الأساتذة الدُخلاء على الفلسفة.

إنّ مسؤولية ما حدث تُعزى لعديد الأطراف وهي مسؤولية شامِلة، من ناحية أولى، تبتدئ في البدء بغِياب الضَمير الأخلاقي والمهني لفريق من الأساتذة الذين يُزاولون حرفة التدريس الخُصوصي، فحَسّبُهم مُنجّمون لَسْنَا ندري، ظَنَّا منهم أنها طريقة لجذب التلاميذ في حين هي خيانة أمانة وتضييع جيل، فنحنُ لَسْنَا ضِدّ دُروس الدعم ولكنّنا ضِدّ عقلية التكهُن، وما أضرّ بالفلسفة إلاّ قريبها، سواء منها كمُشْتَغِلَة بتِكرار أو منها كمُسْتَرْزِقَة بانتفاع فردي.

ومن التَبِعات المَرضيّة والآثار السلّبية النّاتِجة عن ظاهرة التكهّنات والأَمَرّ من ذلك المُرور إلى الإقناع بها وكأنهم هُم من يضعون الأسئلة، استفحال الحفظ الآلي من دون فهم عَميق ولا استيعاب مُتمكِّن للدُروس والمُشكلات المَطْروحَة، فيجد الأستاذ المُصَحِّح نفسه أمام مجموعة كبيرة من الإجابات المُتماثِلة وفي حالات مُتطابِقة حول الموضوع الواحد، ما يُفضي إلى رتابة رديئة ونَمَطْ من الكتابات الهَيّنَة والوَاهِنَة. ومن ناحية ثانية، تعود المسؤولية إلى التلاميذ المُعلّبة عُقولهم، بنفسيات هَشّة وشخصيات ضَعيفة تنساقُ وراء كلّ شيء بِمَا في ذلك من تفاهات وطُرق مُؤدّية إلى الخُسران. هؤلاء التلاميذ ويا للآسف ينجرفون خلف أيّ تيار يوهِمُهُمْ بأنّهم سيتحصّلون على علامة من قَبيل تقدير: جيّد جدًا أو مُمتاز وبالتالي النجاح في المادة حليفهم ونيل الشهادة في أفُق الإمكان السهلّ.

لماذا لا تتمّ مُراجعة وفهم واستيعاب جميع الدروس المُقَرَّرَة؟ ما الفائِدة من عقلية الترشيحات التي هي عبارة عن ضغط نفسي لا أكثر في أن تصدُق أو لا تصدُق؟ لماذا يُغادر البعض الأقسام مُبكِّرًا؟ لماذا يتعاملون بنوعٍ من الاستهتار والاستهزاء بامتحان البكالوريا التجريبي؟

مَتَى يُدرك التلاميذ أن ما يُسمّى بالتوقّعات تحمِل بُذور انهيارها في ذاتها، وتحمِل في طيّاتها مُفارقتها؟ نقول: مِنَ المُتوقّع أن يكون هذا الموضوع أحد موضوعات الامتحان، ونقول أيضًا: مِنَ المُتوقّع أن لا يكون هذا الموضوع أحد الموضوعات التي سنُمْتَحَنْ فيها، والنتيجة أن المُتوقّع معناه إمكان الوجود أو الحُدوث وإمكان العدم أو الغياب.

ومن ناحية ثالثة يتحمّل الأولياء جُزء من المسؤولية، لماذا يُوافِقُون على هذا الوهم؟ وعلى هذه المهزلة؟ وعلى هذا المُنْكَرْ الفلسفي الحاصِل؟ كان حريٌّ بهم نُصح أبنائِهم وتوعيتهم ودعوتهم بحِرص ومُتابعة مُسْتَمِرَة إلى ضرورة الانتباه إلى أستاذ القسم والاستفادة من أستاذ الدعم مع مُراجعة جميع الموضوعات وتفاصيل البرنامج المُسَطّر من طرف الوزارة الوَصِيَّة والابتعاد عن أجواء المُحتملات وأشخاص التكهنات.

وخِلال رحلة التوقّعات هذه تَبْرُز جدلية التصديق والتكذيب يوم الامتحان، ولا شيء محسُوم أو مضمون العاقِبة الحَسَنَة إلاّ من اجتهد وأحسن عَمَلاَ، ولهذا يجب على تلاميذ البكالوريا استخلاص الدروس والعِبرْ، بالاستعداد ذهنيًا ونفسيًا والتحضير بجدّية والتركيز بقُوّة يوم الامتحان وقبل ذلك الإحاطة الشَامِلَة بموضوعات ومُشكلات المادة. كمَا يُقترح إعادة النَظَر في برنامج المادة الذي جاء طويلاً ومُرْهِقًا على حَسَب بعض الآراء والتصريحات.

2- أهميّة تحليل النصّ والبحث عن سبب عُزوف التلاميذ عنه

يتجلّى النصّ ككيان من المعاني والأفكار والتصوّرات، وهو يُمثِّل عالَم من الإيحاءات والدلالات، تَتّصِل بالبيئة الثقافية والاجتماعية والتاريخية والمعرفية المُشكِّلَة له وأيضًا بنسيجه اللغوي. ولهذا تَعَين النصّ كأحد أهمّ محاور اهتمام العديد من المدارس على غِرار البنيوية والتفكيكية، لدرجة أنه قيل: لا شيء خارجه.

وضِمن السياق التربوي، بالتحديد شأن البكالوريا في الجزائر يكون النصّ دائِمًا هو الموضوع الثالث بعد موضوعي الجدل أو المُقارنة، أو الاستقصاء بالوضع أو بالرفع. وتتحقّق قيمة النصّ بالنِسبة للمُتلقّي الباحث والمُحَلِّل له تشريحًا وبِناءً أنه يُمثِّلُ التقاءً مُباشرًا مع الأفكار والرؤى والمواقف ما قد يُولِّدُ تفاعلاً حيًّا حراريًا من خِلال قِراءات وتحليلات مُتوالدة، كمَا أنه يُمكِّنُ الدارس له من التعرّف على النزعة، التيار، المنهج والمذهب الموصولة بالكاتب. ويُشكِّلُ النصّ لحظة آنيّة من النِّقاش والمُدارسَة مع العودة إلى الأفكار المُكتَسَبَة ذات الصِلَة به. يُضاف إلى كون النصّ شبكة من المفاهيم والتصوّرات والدلالات منها ما هو ظاهري ومنها ما هو مُتواري، ما يدفع بالباحث إلى استنطاقه وإزالة ذلك الحُجُب والإبانة عنه بالمُعاينة والتحليل والنّقد. ولقد أبان الراحل الأستاذ الجزائري "محمود يعقوبي" (1931 - 2020م) عن أهميّة تحليل النصّ وخُطواته ودعوته إلى تدريب التلميذ على الاشتغال عليه، في كتابه: أصول الخِطاب الفلسفي (مُحاولة في المنهجية)، بالتحديد في الفصل الثالث عشر: "مُعالجة النُّصوص".

ومن المُلاحَظ على اختيارات التلاميذ أثناء الإجابة في امتحان مادة الفلسفة في البكالوريا في جميع الشُعب وبالأخصّ في شُعبة الآداب والفلسفة، نُفورهم وعُزوفهم عن مُعالجة الموضوع الثالث الذي يأتي دائِمًا مطلوبه في مُعالجة النصّ في شكل تحرير مقال عنه. وتختلف الأسباب والمُبرِّرات من طرفهم، فمنهم من ينحو مَنْحَى القول بصُعوبته ومنهم من يقول بغُموض أفكاره وخشية الفهم المغلوط لمضمونه، ومنهم من يُسوِّغ عدم اختياره لتحليل النصّ بمُسوِّغ أن الأساتذة المُصحِّحون لا يضعون علامات جيّدة عند تصحيح المقال المَنْسُوج حول أفكاره. وهكذا دَرَجَ على الألسُن وترسّخ في الأذهان أن تحليل النصّ مُغامَرة، لا يلجأ إليه إلاّ من يفتقر للأفكار والحُجّج بخُصوص الموضوعين الأوّل والثاني.

3- بَيَانٌ لقيمة الاعتماد على نُصوص فلسفيّة جزائريّة أو في ثَمْرَة النصّ المحلي

مِنَ الجدير بالطرح والاعتزاز ما شَهِدهُ امتحان الفلسفة في البكالوريا لهذه السنة، من اقتباس نُصوص فلسفيّة جزائريّة والاستئناس بها، بالضَبطّ في الموضوع الثالث "تحليل نصّ"؛ حيث تمّ الاعتماد على نصّ من كتاب: مدخل إلى الفلسفة العامة للأستاذ "عبد الرزّاق بلعقروز" (1981م) في شُعبة الآداب والفلسفة، ونصّ من كتاب: فلسفة الثورة الجزائريّة للأستاذ المرحوم "البخاري حمانة" (1937 – 2018م) في شُعبة لغات أجنبية وفنون، ونصّ من كتاب: مُشكلات فلسفيّة ونُصوصها للأستاذ "محمد شوقي الزين" (1972م) في شُعبة علوم تجريبية ورياضيات. هي عودة لِمَا يكتُبُه العقل الجزائري وما يطرحه بالتحليل والنِّقاش والنّقد، عودة اعتراف وتثمين للجُهود الجزائريّة، ودعم وتشجيع للإقبال على القِراءة والكتابة وإثبات الوجود الفَعَّال، وقيمة العِلم والمعرفة والفلسفة في عَمَلية البِناء الحضاري والإنتاجية التي تُغَيّر وتُعَمِّر، للأحسن وبالأحسن.

يكشِف هذا الفِعل الاقتباسي والاستئناسي من قِبل لجنة صياغة الأسئلة عن وجود درجة مُعتبرة من الوعي والإدراك بقيمة النصّ المحلي وثِماره التي تظهرُ في توظيفِه في امتحان رسمي كالبكالوريا. والأمر الإيجابي المُضاف، أضحى الاهتمام بكتابات وجُهود روّاد الدرس الفلسفي الناشِطين اليوم، في حين كُنَّا سابِقًا نلحظ نُصوص فلسفيّة جزائريّة تَرِدُ في امتحان رسمي لكُتّاب وأساتذة قد غادرونا؛ أيّ أدركهُم الموت. ويَبْرُز الدور المُحرّك والفاعِل، الإغنائي والإنمائي لهذا الاهتمام بوصّفِه تفاعُلاً مع حركية الزمن المُعاصر، وارتباط بمضمون نصّ قد يكون مُواكِبًا لتحوّلات نماذج الفهم والتفكير، ولنقد الأسُسّ وتغيّر مبادئ النَظَر إلى العالَم والمُستجدات العِلّمية.

إنّ الاستثمار في فِعل الاقتباس والاستئناس بتأليفات العقل الجزائري، له من الأهميّة الشيء الكَثير والوَفير من الفائِدة الناهِضة بالأجيال؛ إذ يُمكِّنُ من التعريف للتلاميذ وللمُتتبّع للشأن التربوي والفكري بوجود كُتّاب جزائريين لهُم مُدوّنات حَصيفَة المبنى والمعنى تستحِق أن تُدرَجَ كمادة عِلّميّة يُمتحنُ حولها. عِلاوة على هذا، يُسّهِمُ في تربية الناشِئة على مُعالجة النصّ المحلي والشُّعور بنوعٍ من الأُلفة والمُؤانَسَة والمُعايَشَة عقليًا ونفسيًا وكأنه يُعالجُ حدث أو قضيّة من عُمق واقعه، في حين قد يكون النصّ غريب المضمون مألوف المُؤلِّف. مع زرع حُبّ الانتماء فيه وقُوّة الارتباط وتقديره.

4- من النصّ إلى المَقُولَة: توسيع نِطاق الاقتباس والاستئناس

لا يقتصِر أمر اقتباس كتابات فلسفيّة جزائريّة والاستئناس بها في مادة الفلسفة ضِمن امتحان البكالوريا على الموضوع الثالث التي تكون دائِمًا مادته نصّ وغرضه تحليله، إنّمَا من خيرة الفِعل وضرورته أن يشمُل أيضًا الموضوعين الأوّل والثاني، اللّذان يأتيان في شكل مقولة يُطلَبُ مُعالجتها في مقال سواء بطريقة الجدل أو المُقارنة أو الاستقصاء بنوعيّه. وللمقولة حظُّها الإيجابي مثل حظّ النصّ، فهي من جهة "عبارة" تَسْتَفِزُ العقل للتفكير فيها وفي كيفية مُعالجتها تحليلاً وحُجّة ونقدًا. ثُمّ إنه لَمَّا يتمّ التعبير بصيغة: يقول، يرى، يذهب، يعتقد، ليكون المطلوب الدِّفاع أو الإبطال أو المُقارنة أو التجديل، فإنّ في الصيغة إنساب وتعيين لصاحب المقولة وإشارة مُباشرة له. بينمَا مع النصّ لابُدّ من قِراءة معلومات الاقتباس حتى يعْلَمَ المُترشِّح أن الكاتب جزائري.

5- تعميم الإجراء على كافة الامتحانات ومُختلف أنماط الكتابات

يبعثُ فِعل الاقتباس والاستئناس بِمَا يكتُبُه العقل الجزائري على الثِقة ويدفع كلّ شخصّ يبحث ويُمارس الكتابة الجادّة والمُثْمِرَة ويتحرّى التعميق والتدقيق، يجتهِد في أن يكون مُبدِعًا ويجترح الجديد والمُختلف من دون ترك أو رَسمْ قَطيعَة مع المُؤتلِف، يتفاعل مع الراهِن والعصر ولا ينسلِخ من الماضي والأصل، يُراجع قناعاته وأفكاره مُراجعة مُنفتِحة ومُؤسَّسَة على قُوّة الحُجج والأدلّة العِلّمية والمنطقيّة. ولهذا تتقّرّر ضرورة تعميم الإجراء على كافة الامتحانات من امتحان البكالوريا والامتحانات العادية على مُستوى كلّ ثُلاثي، وامتحانات الجامعة وامتحان الدكتوراه. فالوضع بِحاجة إلى استنفار جُهود وتكاثُف مساعِ حتى يغدو تقليد من تقاليد الامتحانات الجزائريّة. كمَا ويُشار على جَنَاح الاستحقاق أن ذلك الفِعل لا يتوقّف على الكتابات الفلسفيّة بل يَطَال النُّصوص التاريخيّة والاجتماعيّة والأدبيّة والثقافيّة وغيرها، ويُمكن تحقيق هذا التوسُّع أكثر في امتحان مُسابقة الدكتوراه.

6- متى وكيف نَقْتَبِسْ ونَسْتأْنِسْ؟

لَيْسَ كلّ نصّ يستحِق الاقتباس والاستئناس به بِصَرَفْ النَظَر عن اسم صاحبه ولقب كاتبه، بصيغة أخرى لا تُوفِّر كلّ النُّصوص ما يُؤهِّلُها لكيّ تكون مادة للامتحان، وكمُحَصِّلة لهذا الإقرار يستلزم حُصول جُملة من الشُّروط التالية:

- مَدَى توافُق أو على الأقلّ قَرابَة مضمون النصّ مع مُقرّرات الدروس والمُشكلات التي درسها التلميذ خِلال السنة.

- مُراعاة المُستوى والفُروقات الفردية في اختيار النصّ.

- وضوح الكلمات والأسلوب؛ أيّ البَسَاطَة العَميقَة.

- أن يكون النصّ مُكتمل الأركان، بحيث يحتوي ما يُمكِّن من طرح المُشكلة، تحديد موقف صاحب النصّ، الحُجج (...) إلخ.

- أن يكون النصّ قوي المباني والمعاني، ما يستفز العقل ويدفعه إلى التفكير فيه تحليلاً وحُجّة ونقدًا.

- اقتباس النُّصوص المُكْتَمَلَة ولَيْسَ المُجَزّأة إلاّ ما حُذِف من الشرح الزائِد والعبارة الطويلة المُرهِقَة والتكرار غير الضّروري الإبقاء.

- المُوازَنَة بين الأفكار المُكتسَبَة في العام الدراسي وبعض الأفكار المُستجدة من دون تجاوز معارف التلميذ، على مِنوال المِثال: نصّ حول مصدر الفِعل الأخلاقي ويتضمّن أفكار تتحدّث عن ما بعد الأخلاق.

- المُوازَنَة بين النُّصوص القَديمَة والنُّصوص الجَديدَة.

- أن لا يحتوي على تحيّزات إيديولوجية فاضِحَة، بل يكون نصًّا عِلميًا موضوعيًا.

- أن لا يُكرِّسَ لثقافة ماضوية مُنغلِقَة ولا لثقافة مُعاصرة مُنسلِخَة.

- أن لا يحمِل إيحاءات تشجيعيّة على العُنف والخِلاف والنِّزاع والتعصّب.

- أن لا يكون نَصًّا للمُجاملة والتعظيم والتقديس الأعمى سواء لكتابات الفكر العربي والإسلامي أو لكتابات الفكر الغربي.

- الابتعاد عن منطق الجهويّة في انتقاء النُّصوص بِمُوجَبْ فِعل الاقتباس والاستئناس، والعَمَلْ بمنطق الكِفايَة والاستحقاق فقط.

7- بين الكتابات الجزائريّة وخُطوات تحليل النصّ الفلسفي: عَقَبَات وتَحَدّيات

مِنَ المُتَداول منهجيًا أن خُطوات تحليل النصّ الفلسفي تكون كالتالي:

أ- مُقدِّمة:

- تمهيد وظيفي.

- الإطار الفلسفي للنصّ (الإشارة إلى مبحث النصّ).

- مُناسَبَة كتابة النصّ وتحديد المُشكلة.

- طرح المُشكلة في صيغة استفهامية.

ب- العرض والتحليل:

- توضيح موقف صاحب النصّ (آرائه وتقديراته).

- استخراج الحُججّ والبراهين.

- النّقد والتقييم (مع الرأي الشخصي).

ج- الخاتمة:

- حلّ المُشكلة

لكن بعض النُّصوص المُقْتَبَسَة والمُسْتأنَسْ بها تطرح عَقَبَات وتَحَدِّيات، يُمكن إيجازها في عَقَبتيّنِ أو تَحدّيينِ.

تَتَجَسّد العَقَبَة الأولى في كون النصّ قد يرِدُ عرضًا لمواقِف ورؤى صاحبه وتقديراته وتحليلاته ووجهة نَظَرِهِ مع الحُجّة، وقد يكون عرضًا لمواقف غيره من دون بَيَان موقف واضِح للكاتب، مِمّا يُثير تَحدّي تحديد موقفه ومَدَى مشروعية نقده وتقييمه في الخُطوة الأخيرة من خُطوات العرض والتحليل. وأمّا العَقَبَة الثانية فَتَتَعَيّن في عدم معرفة صاحب النصّ من طرف المُمْتَحَنْ؛ أيّ عدم الإحاطة بطبيعة اشتغالاته وبُحوثه، تخصّصه واهتماماته على أقلّ تقدير بشكلٍ عام، ما ينجُمْ عنه تَحدّي ضَبطّ نزعة صاحب النصّ.

8- تَرْسِيخْ الجُهود الجزائريّة ودعم المُؤلّفِينَ والمُؤلَّفَات

ابتغاء تجاوز ما ذكرناه من عَقَبَات وتَحَدِّيات، سَطَرّنَاهَا في عَقَبتيّنِ أو تَحدّيينِ، يجب البدء قبل كلّ شيء بالتهيئة من أجل تحقيق التنمية على مُستوى الطور الثانوي، وذلك بإدراج محور يُمكن تَسّميتِهِ برُوّاد الدرس الفلسفي الجزائري ضِمن برنامج السنة الثانية والسنة الثالثة شُعبة الآداب والفلسفة. يحتوي في السنة الثانية على الشخصيات الفلسفيّة المعروفة الراحِلَة، مثل: "مالك بن نبي"، "كريبع النبهاني"، "عبد الله شريط"، "محمود يعقوبي"، "البخاري حمانة"، "البشير ربوح" (...) وفي السنة الثالثة على الشخصيات الفلسفيّة اليوم، مثل: "عبد الرحمان بوقاف"، "إسماعيل زروخي"، "الحاج أحمنة دواق"، "عبد الرزّاق بلعقروز"، "مصطفى كيحل"، "محمد شوقي الزين"، "نورة بوحناش"، "محمد جديدي"، "الدراجي زروخي"، "خديجة زتيلي"، "عمر بوساحة"، "ميلود بلعالية دومة"، "عنيات عبد الكريم"، "كمال بومنير" (...) والقائِمة تطول. ولَيْسَ شَرْطًا تقديم نُصوص جميع هذه الشخصيات ولكن على الأقلّ مُجملِها. وقد يقول البعض أن البرنامج طويل فكيف لنا أن نُضيف هذا المحور؟ حقًا، غير أنه يُمكِنُ التخفيف منه وإدراج محور رُوّاد الدرس الفلسفي الجزائري لأنّنَا بِحاجّة ماسّة إليه؛ إذ كيف نُقدِّم نَصًّا ونَتَغَنَّى أن من كتبه جزائري والتلميذ يجهل ذلك!

كمَا ينبغي تدريب التلاميذ على مُناقَشَة هذه النُّصوص ونقدها، لأنّنَا لا نُريد الإعداد لجيل يظُنّ أن النّقد إهانة، في حين هو كرامة تقديرية. هذا ويوجد مقياس "فكر جزائري" يُدرّس في السنة أولى ماستر تخصّص الفلسفة التطبيقية في الجامعة، لكنه غير كافٍ ومضمونه مُختزل.

وبالنِسبة للشُعب العِلّمية أيضًا، شُعبة العُلوم التجريبية وشُعبة الرياضيات، فَكَمٍّ من فلاسِفة هُم في الأصل عُلماء في الرياضيات والفيزياء والكيمياء والطب، وكذا شُعبة التقني رياضي وشُعبة التسيير والاقتصاد وشُعبة اللغات الأجنبية وشُعبة الفنون، يجب التعريف بالمُدوّنات الفلسفيّة الجزائريّة وأصحابها.

نقترِح إقامة ندوات ولِقاءات بشكل دوري للتلاميذ، تكون فُرص حقيقية للتوعية بوجود كتابات في الفلسفة من العقل الجزائري ومُؤلِّفِيهَا، من طرف أساتذة مادة الفلسفة (الثانوية) بالتعاون مع أساتذة تخصّص الفلسفة (الجامعة). ودعوة الأساتذة الذين يُدرّسون مادة الفلسفة إلى السَّعيّ خِلال حصص الدروس والتطبيق في فتح أذهان التلاميذ على جُهود الجزائري وإسهاماته الفلسفيّة، وإلى الاقتباس من هذه الإسهامات والاستئناس بها في امتحانات الثلاثي الأوّل والثاني والثالث وتقديمها كمادة ضِمن الواجبات. بالإضافة إلى دعوة وزارة التربية والتعليم إلى إنشاء ديوان وطني للمطبوعات الفلسفيّة الجزائريّة ينشُر كتب تضمّ نُصوص فلسفيّة مُختارة مع فسح المجال لكلّ نصّ جادّ وقيّم ومُثْمِر، وكتب تتضمّن مقولات فلسفيّة مُختارة، مع التشجيع على المُشَاركة في تأليفها.

خاتمة:

في خِتام هذه الورقة التفكّريّة التي تناولت بالتحليل والنّقد والأشْكَلَة أفكار أساسيّة ضِمن موضوع توظيف الكتابات الفلسفيّة الجزائريّة في امتحان البكالوريا، وأرادت تحرير قول في فِعل الاقتباس والاستئناس، نُدرِكُ باقتناع قيمة النِّقاش الحَيّ الفَعَّال والمُنفتِح بالعقلانيّة والنّقد على الواقع حول هذا الموضوع الذي لا يُمكِنُ اعتباره حدثًا عابِرًا ولا سِّمَة مُمَيّزة لبكالوريا 2025م فقطْ، إنّمَا الأجدر والأصوب التفكير فيه بِجِدّية وبذهنية إنْمَائِيَة من أجل إنصاف كلّ الشرائِح المَعْنِيَّة من تلاميذ، أساتذة وأصحاب النُّصوص والنُّصوص ذاتها. وإذ نُؤكِّدُ مرة ثانية على الأهميّة المُتوالدة معرفيًا ومنهجيًا لتحليل النصّ وعلى ضرورة رِعايته رِعاية مُثَوِّرة لدلالاته وتدريب التلاميذ تدريبًا مُتمِكِّنًا مُنْتجًا، وإكسابه الآليات الصَحيحة في التعامُل مع النُّصوص. كمَا لا يفوتنا التنويه إلى القيمة العِلمية والفلسفيّة والرمزيّة لاعتماد نُصوص من مُؤلّفات جزائريّة، فَمَنْ لا يُقدِّر ذاته تقديرًا سَويًّا لإنجازاتها ومُتَعَلِّمًا من زلاّتها سَائِرًا دومًا نحو النُضج أكثر بعيدًا عن التقدير التعظيمي العَليل، لن يُقدِّره غيره، ففي سياق البِنَاء الحضاري لابُدّ من التدافُعْ والتنافُسْ.

وبعد نِهاية المَطَاف والخِتام، تتجدّد المُسَاءلَة: هل يكفي أن يكون صاحب النصّ جزائري الانتماء حتى نقول هذا نصّ جزائري؟ ماذا عن شُّروط الإنساب والتأصيل؟ وهل كلّ نصّ يتحدّث عن الفلسفة أو عن مواقف فلاسفتها وطُروحاتهم نقول عنه نصّ فلسفي؟

***

د. شهرزاد حمدي - تخصّص الفلسفة العامة

 جامعة محمد لمين دباغين سطيف2، الجزائر

لا تربط الفكرُ النقدي بالكائن البشري حاجة عابرة، وإنما هو عنصر أصيل من عناصر التفكير السويّ لديه. فلا ينحصر دور هذا الفكر في التنديد بما قد يتهدّد الرصيد القِيَمي والجمالي من تآكلٍ، أو بما قد يعتري حياة البشر من زيف جرّاء تغوّل الأيديولوجيا والديماغوجيا، وإنما تأتي الحاجة إلى الحضور المستدام للفكر النقدي لأجل تعزيز رصيد الناس المعرفي، والتوقّي من مخاطر فقدان الكينونة، وهو ما قد يحدث جراء الإيقاع بالناس من حيث لا يعلمون.

يتعزّز ذلك الحضور للنقد بغرض دفع الناس صوب المسلك القويم في تقييم الأشياء، وانتهاج سبيل الرشاد في تبنّي الخيارات الحرة. وبالتالي يبدو مفهوم الفكر النقدي، من هذا الجانب، مغريا، وأداة فعالة بحوزة المرء لفرز الغثّ من السمين حين تختلط الثنايا، وتختلّ المقاييس. كون العملية النقدية تقف على نقيض الخيارات السلبية، وتؤسس لوجود متحرّر من شتى أوجه الاغتراب. لذا تلوح الفعلة النقدية، بصرف النظر عن دوافعها ونتائجها، مغامَرةً واعية وليست مقامَرة يائسة، تهدف لاستعادة الأصالة، وتأسيس الوجود الحق، والقطع مع السلبية.

ومع هذه الحمولة الإيجابية التي ينطوي عليها الفكر النقدي، يظلّ في كثير من الأحيان مبهَمًا، تغشاه ضبابية يعوزها التفصيل والتوضيح، وتفتقر إلى البيان والتبيين. ولو شئنا شرح تجليات الفكر النقدي في المعيش اليومي، وتقفّي آثاره المباشرة، لقلنا هو القدرة التي تتيح للمرء العيش في العالم وليس خارجه، والمشي سويا على قدميه وليس مكبّا على وجهه. إذ يشكّل الفعل النقدي المتأتي من الوعي النقدي نحتًا للكيان، وإغناءً للذات قبل أن يكون تتبُّعا لعورات الآخرين وترصُّدًا لسقطاتهم أو تشهيرا بزلّاتهم. وبالتالي الفكر النقدي هو إدراكٌ واعٍ قائم على التحليل والتقييم لأيّ طرْح وأيّ عرْض، بغرض تبيّن حظوظ التلاؤم مع الواقعية. والأمر في هذا الجانب، يتعلق بآلة قياس تَقِي ضدّ الخديعة وسوء الفهم لذواتنا ولنظرائنا في العالم.

لكن ثمة أسئلة جوهرية على صلة بالموضوع على غرار علامَ يقوم الفكر النقدي؟ وما هي مقوّماته؟ وهل هو آلة متعددة الأوجه تناسب كل الوقائع والحالات بما يعني القدرة التي بوسعها التعامل والتكيف مع كل الظروف والأحوال؟

بادئ ذي بدء، نشير إلى أنّ اكتساب هذه المَلَكة يتضافر مع جملة من القدرات ينبغي بلوغها، على غرار التجرد في الحكم والنباهة النقيض للاستحمار. ومن ثَمَّ فإنّ الفكر النقدي هو أهلية يجري تطويرها على مراحل، وليس معطى مورَّثا أو مكتَسبًا في الحين، كما أنه ليس معتقدا أو خيارا يتبنّاه المرء ويركن إليه بدون مراجَعة أو إعادة نظر، كما قد يتصوّر البعض خطأ، وإنما هو سياق معرفي تصنعه عوامل تاريخية متداخلة وأوضاع اجتماعية حاضنة.

كان الفكر النقدي في مفهومه القديم مجرّد مجافاة للسائد المجتمعي والاعتقاد الجمعي، من قِبل أفراد أَبَوا الانخراط في الحشد ومجاراة المألوف. ويأتي الإغريقي كسينوفان دي كولوفان (ق 6 ق. م) من الرواد في سلسلة العقول النقدية التي وقفت ضد تجسيم الذات الإلهية. وقد عبّر عن ذلك في قوله الشهير: "يتصور الناس الآلهة متولدة كإياهم، وتمتلك ألسنة، وتصدر عنها أصوات، وتميزها أبدان على شاكلتهم... تَمثَلوا آلهتهم على هيئتهم، الزنجي يراها فطساء الأنوف والأشقر يراها شقراء الشعر وزرقاء العيون... حتى الخيول والثيران لو قُدّر لها أن تعرف الرسم لرسمت الآلهة في صور مماثلة لها، ولكانت لنا صور إلهية مضاهية لكل الأصناف الحيوانية". ولكن بعيدا عن الطابع الساخر لذلك الفكر النقدي مع كسينوفان، فقد كان الرجل على قناعة راسخة بوحدانية الألوهية، بوصفها محلّ الكمالات كافة.

تلك العملية النقدية لم تغب في تاريخنا القديم عنّا، وقد ورد صداها عبر جملة من المواقف في التراث العربي القديم. ولكن تلك العملية النقدية ما كانت تتمّ في تصوّر الجاهليّ ضمن إطار نسقيٍّ جدليٍّ، وإنّما في ظلّ نفور عفويّ لا وعي معرفيّ. ولم يتطوّر الأمرُ إلى صياغة رؤى وجوديّةٍ سياقية قائمة على أسس مغايِرةٍ. نجد ذلك في ما أورده الكلبي في "كتاب الأصنام" أنّ رجلا من كنانة قَدِم إلى صنم سعد تبرّكًا وتقرّبًا، فما راعه إلا أن نفرت إبله عند رؤية تلطّخ الصّنمِ بالدماء، فما كان منه إلّا أن رمى ربّه بحجر، وقال: لا بارك الله فيك إلهًا أَنفرْتَ عليّ إِبِلي وأنْشدَ:

أَتيْنا إلى سعد لِيجمَع شملنا/ فشتّتنا سعد فلا نحن من سعد

وهل سعد إلّا صخرة بتنوفة/ من الأرض لا يدعى لِغيّ ولا رشد

وبالمثل موقف ذلك الرجل الذي لفي الثعلبان قد تبوّل على رأس صنمه فصدح قائلا:

أربّ يبول الثعلبان برأسه/ لقد ذلّ من بالت عليه الثعالب

فلو كان ربّا كان يمنع نفسه/ فلا خير في ربّ نأتْه المطالب

وبالتالي ما بلغنا من لوامع الوعي النقدي من الحقبة الجاهلية، سواء مع مبغضي الوثنية أو مع أتباع الحنيفية، قد دار حول رفض بعض الطقوس انطلاقا من تخمينات ذاتيّة، ولم يتحوّل الأمر إلى تقليد رؤيويّ يطبع التصورات الجماعية. ومن ثَمَّ فالوعي النقدي ما كان مطلبا جماعيا، لِما يطبع حياة الحشد من ركون للسائد. ولو نظرنا إلى مستهلّ الحقبة الحديثة نرى أن الإنسانوية قد مثّلت فكرا ناقدا للسائد الكَنَسي، ولكن الإنسانوية التي أزهرت مع توماس مور، وإرازموس دي روتردام، وخوان لويس فيفاس، وجون كوليت لم تعمّر طويلا لترثها رؤى أكثر نضجا.

وفي تاريخنا الحديث نعرف أن كانط في ثلاثيته، "نقد العقل الخالص" و"نقد العقل العملي" و"نقد ملكة الحكم"، قد أدرج النقد شرطا ضمن سياق صوابية الفعل، بوصف النقد أحد دعامات فلسفة التنوير؛ غير أنّ النقد مع تطور القراءة الماركسية للرأسمالية، ونقد البنى الاجتماعية، والقوى المتحكمة بالأوضاع الاجتماعية، اتخذ طابعا أيديولوجيا، وهو ما تطور لاحقا بشكل موسع مع جورج لوكاش وأنطونيو غرامشي. فالفكر النقدي قد تتهدّده من داخله أعراض الانحراف التي تظهر في التأدلج والتحزب والتمذهب. مع هذا، فالخطّ النقدي، بصرف النظر عن حمولته الأيديولوجية أحيانا، يظلّ مسعى للكشف عن فحوى ما هو سائد وبيان ما يعتريه من نقص. وبشكل عام، وضمن فهمٍ سياقي للفكر النقدي، فهو عملية ذهنية تطورية تجري داخل صيرورة تاريخية وليس معطى ثابتا.

وفي عصرنا الحالي المشبع بالتفرّع، تنوعت حقول النقد: النقد الأدبي، والنقد الفني، والنقد السينمائي وغيرها، وكأن هذه الحقول الرخوة بحاجة إلى صرامة لا يتكفّل بها سوى العقل الناقد، وذلك لفرز ما هو محض وخالص مما هو مزوَّر وشبيه ودخيل. ومن ضمن تلك الفروع النقدية نشير إلى النقد السياسي أيضا. فإن يكن الهدف الرئيس للنقد السياسي التطلع إلى إيجاد مواطنين مسؤولين لا رعايا خاضعين، وإشاعة ثقافة المسؤولية لا ثقافة الأداء، فإن العملية في جوهرها هي ممارسة مستقلة وراقية للقدرات العقلية.

ولكن ينبغي أن نعي أن صعود تلك المراقي النقدية لا ينبع من فراغ، بل يتأتى عبر سياق بحث، كما يقول جون ديوي في كتاب "كيف نفكر". لسبب واضح، أنّ الفكر هو بحث وحفر، وإحاطة واستقصاء، أو باختصار هو تساؤل، والفكر النقدي يعلّمنا كيف نكون عقلاء في زمن تدحرجت فيه حشود إلى ما دون سنّ الرشد.

***

عزالدّين عناية – أستاذ جامعي

تمهيد اولي: لا نجانب الصواب لا بالفلسفة ولا بالعلم اذا قلنا ان تعاملنا مع العالم الخارجي الطبيعة والوجود والكوني انما هي علاقة تجريد لغوي معرفي. كل شيء في الوجود من حولنا مدركات وموضوعات وظواهر نتعامل معها في تعبير لغوي تجريدي، فالعقل ذاته جوهر قائم على ثنائية لا انفكاك بينها هي (بيولوجيا اللغة وتجريد الفكر).. وحين نذهب مع وليفريد سيلارز الفيلسوف الامريكي في مقولته الرائعة المكتنزة علميا وفلسفيا (الوجود لغة) نكون في الجانب الصائب من التفكير الفلسفي وحتى العلمي. واذا ما علمنا ان الانسان اهمية ننعته اليوم بكائن لغوي اوكائن ميتافيزيقي اوكائن خيالي اوكائن علمي ذكي قبل ان نقول عنه كائنا اجتماعيا هو عين الصواب بالاهمية الانثروبولوجية التاريخية لتطور وجود الانسان وليس في التراتيبية التي تكون فيها الاولوية والغلبة لانثروبولوجيا الانسان كائنا اجتماعيا قبل ان يخترع اللغة، وقبل ان ينشغل خياله بميتافيزيقا البحث عن الاله الخالق المعبود. عرف الانسان اللغة حوالي 250-300 الف قبل الميلاد. واصبح الانسان كائنا ميتافيزيقيا في اختراعه الاديان الوثنية حوالي 750 الف ق.م. في ابان ظهور العصر الزراعي الذي يعتبره المؤرخون بداية صنع الانسان للحضارة. ونستطيع اليوم المجاهرة بأن مقولة الانسان كائن اجتماعي انتفت الحاجة لها اليوم وتراجعت امام الانسان كائن علمي او كائن فوق ذكاء اصطناعي اوكائن فضائي اوكائن سبراني وهكذا.

العلة والجوهر

يقول جان فال الفيلسوف الفرنسي (العلة والجوهر ليسا تجريدان وليسا افكارا، كما انهما ليسا اشياءا او موضوعات من الخارج). أولا الجمع بين العلة والجوهر عملية إعتسافية. ثم اذا كانتا العلة والجوهرليسا تجريد ولا اشياء ولا موضوعات، فما هما اذن؟ الصحيح الذي ناخذ به من العبارة هو ان العلة والجوهر كمبحثين يلازمان عالمنا الشيئي داخليا كونهما تجريدان لغويان لا يدركان ماديا. والحقيقة ان السببية او العلة تتوزع الوجود الداخلي والخارجي لعالمنا بعلاقات بينية (سبب ونتيجة)، اما الجوهر فملازمته داخل الموجود فقط.. الجوهر هو الدفين بالاشياء والموجودات الذي لا تحكمه العلّية السببية. كون الجوهر مفهوم مطلق تغلب عليه ميتافيزيقا التفكير . وهو السبب الذي جعل كل من ديفيد هيوم وجورج بيركلي ينكران السببية العلية ان تحكم العلاقة البينية بين الاشياء وهذا هراء اذ يعزو هيوم رفضه السببية بانها ظاهرة تحكمها العادة بالتكرار. وينكرهيوم ايضا وجود العالم الخارجي اصلا ما لم يكن موضوعا لادراك قبلي بالفكر (مثالية ابتذالية). فالفكر يسبق الواقع عندهما بيركلي وهيوم وكل شيء بالفكر موجوديته قبلية اولا قبل وجوده المادي. والجوهر دفين وراء الصفات الخارجية فالذي ينكر مادية الوجود كاملا يكون طبيعيا لا يوقفه عائق حين ينكر موجودية الجوهر الجزء المحتجب خلف الصفات الخارجية في تركيب الكينونة المستقلة لكل مدركاتنا المادية... الجوهر مطلق ميتافيزيقي اكثر منه جزءا بيولوجيا في مادية الموجودات كما نتعامل معه.

نعتقد اسبينوزا تناول الجوهر في تجريد لغوي ميتافيزيقي كي يهرب من الاستحقاق المطلوب فلسفيا هو خطأ (الجوهر موضوع للعقل)، تجنبه اسبينوزا بنجاح في تجريده ميتافيزيقيا الجوهر بموجودات واشياء عالمنا الخارجي، ونسبه لله الخالق التام الازلي اللانهائي في جوهره غير المدرك وليس في تكوينه الالهي، كما لم يهتم اسبينوزا بالجوهر بعيدا عن ربطه بميتافيزيقا مذهب وحدة الوجود. والا كان سقط بالمحذور الذي نبّه عليه جدا كانط قوله الجوهر ميتافيزيقا وليس موضوعا يدركه العقل. مذهب وحدة الوجود كل شيء في الله، والله في كل شيء. مبدأ اسبينوزي بعيدا عن الايمان بالمعجزات الدينية وتغليبه لمقولته اننا بدلالة الجوهر الالهي ندرك الوجود. (هذه المقولة لاسبينوزا لم يقل بها ولا فيلسوف واحد قبله وتعارضه كلا من الافكار الوجودية وافكار الماركسية بشدة).

من المهم التذكير انه بالفلسفة ادراك كل شيء والتعبير عنه تجريدا لغويا إنما يكون خاضعا لمنطق ان الوجود برمته علاقتنا واتصالنا به هو تعبير صوري تمثّلي تجريدي في تفكير عقلي يتم بتوسيط (اللغة). بمعنى ان كل ادراكاتنا من اشياء وموضوعات وظواهر العالم الخارجي والداخلي فينا ومن حولنا انما نتعامل معها ادراكيا باسلوب وحيد هو التجريد الصوري الذي تستوعبه اللغة تجريديا وحدها بما لا يجاريها غيرها بهذه الخاصية كما يذهب له الفيلسوف الامريكي وليفريد سيلارز في مقولته الرائعة (الوجود لغة). ليس غريبا اذا قلنا كل شيء في حياتنا يتعطل من غير اللغة. 

والقول ان الفكر يسبق تعبير اللغة في انتاجية تفكير العقل لهما، لذا من المباح لنا ان نقول الوجود (فكر) بدلا من قولنا الوجود لغة. اذ ان تراتيبية الفكر قبلية على تجريد اللغة. فالفكر محتوى يسبق تعبير اللغة مجازا (كشكل) ولكن لا يمكننا فصل الفكر عن اللغة ابدا الا في حالة الصمت. حيث يكون الصمت هو التفكير اللغوي الذي تحتويه اللغة ولا تؤطره صوتيا في تعبيرها الخارجي عن الاشياء. لكنها تؤطر الفكر في صمت اللغة كتفكير صوري يتمّثل موضوعه. بمعنى حتى انتاجية الصمت هو لغة. واسبقية الفكر على تعبير اللغة خطأ جرى معنا توضيحه كون الفكر الذي لا يؤطره تعبير لغوي صائت صوتي هو صمت لغوي سلبي لا يسعف نفسه في قدرة الحضور من دون شكل لغوي يحتويه ويعبّر عنه.. ثم هناك خاصية فلسفية لا يمكننا العبور من فوقها ان الفلسفة في تعبيرها اللغوي المنطقي تعوّض وتسد النقص عن كل ما يعجز العقل ادراكه واقعيا ماديا كما في ابداعات المخيلة وموضوعات الخيال في الاجناس الادبية والفنون.. وحتى هذا الاستثناء الاخير حول تعويض الخيال الذي اوردناه لا يتم اشتغاله في غير تفكير (اللغة – الصمت) كون ادراك العقل للاشياء هو تفكير وتعبير لغوي تجريدي (فكر صامت ولغة صوتية تلازمه). ادراك الشيء والوعي به هو تمثل لغوي له سواء في تعبير اللغة او صمت الفكر. والعقل من دون موضوع لا تحضره اللغة يكون حضورا ادراكيا منفعلا له يعتريه العجز عن اثبات وجوده. فالعقل بلا موضوع وبلا تفكير لغوي لا معنى له حتى في وجوده البايولوجي كدماغ يكون تعطيل اللغة فيه تعطيل لعمله كاملا. وجود العقل الطبيعي بايولوجيا كدماغ تحتويه الجمجمة لا يعمل ويشتغل الا تفكيرا لغويا تجريديا بموضوع ماثل يشغل الدماغ تفكيريا.

ازدواجية الذات على نفسها

عبارة مين دي بيران (انني من اجل ذاتي، لكني لست بذاتي) ربما يبدو غريبا للبعض اذا قلنا العبارة صحيحة سليمة وليست هراءا فلسفيا متناقضا. بضوء الحقيقة غير المعلنة ان وجود الانسان هو العمل الذي ليس له نهاية من اجل تلبية متطلبات الذات في كل اشباعاتها بدءا من الاحتياجات البايولوجية والنفسية والى اللذات الجسدية التي تبقي الكائن الحي موجودا لا ينقرض. والحقيقة الثانية الذات لا تنقسم على نفسها لا بيولوجيا ولا تجريديا رغم اجازة فرويد انقسام الذات نفسيا. وهنا تكون الذات منفصلة فرويديا في اللاشعور اذا صح لنا التعبير تماشيا مع العبارة عن الانا التي تخدم ذاتها وهي منفصلة خارجة بعيدة عنها بنوع من اغترابية بناءة هادفة. بمعنى توجد ذاتا تعيش لذاتها وتوجد (انا) غير متحدة بها تعمل على بناء وتطوير الذات وكانما الذات اصبحت موضوعا مستقلا لادراك ذاتي متعال عليها.. هذا منطق فلسفي يتوسل فائض التجريد على حساب تغييب مادية التفكير العقلاني. تحت ذريعة الفلسفة تعبير لغوي منطقي تجريدي مفتوح النهايات لا يخضع للتجربة ولا للتطبيق الواقعي.

وقد يبدو هذا تخريجا مسعفا لركاكة الفهم التعبيري الفلسفي الوارد بالعبارة (انني من اجل ذاتي لكني لست بذاتي). الحقيقة الفلسفية الباطنية تشير حسب العبارة الى ان الذات واحدة وليست منقسمة على نفسها (انا وذات) كما هي في علم النفس. الانسان الذي يعيش من اجل ذاته بانفصال تام عنها (مجازيا) وليس حقيقيا. هذا جائز في علم النفس وفي اللاشعور اما على صعيد منطق العقل الفلسفي فهو هراء فلسفي أن نجد الانا منقسمة على نفسها مرتين او اكثر وتبقى محتفظة بحضورها الشعوري التفكيري المنطقي والادراكي السليم عقليا محال. اذا قلنا العقل هو المطابقة التامة مع الذات حقيقة بايولوجية غير قابلة لادحاضها.

لتوضيح اكثر نتساءل هل من الممكن ان تكون الذات تجريدا عابرا للعضوية الفسلجية البايولوجية المرتبطة بالعقل والنفس؟ ام خاصية الذات هو التجريد التفكيري على صعيد الفلسفة فقط؟ هل من المنطقي السليم ان نجد الذات تجاهر بانقساميتها على نفسها وتبقى محتفظة بعلاقة بيولوجية سليمة مع عقل سليم يوجهها؟ ازدواجية الذات على نفسها حسب مصطلح علم النفس هي حالة انفصام مرضي شيزروفينيا. ولو نحن ابحنا للفيلسوف الفرنسي المجاهرة بانقسام الذات على نفسها (إغترابا ذاتيا) وتبقى تتفلسف بمنطق لغوي سليم يحتويه العقل لاصبحت ازدواجية الذات غير مرضية كما اعتمدها واشار لها فرويد. في تقسيمه الانا بثلاث درجات تراتبية هي الانا الاولى والوسطى والثالثة المتعالية تراسندتاليا مثاليا.

في المطابقة السائدة فلسفيا – علميا الانا هي الذات لكن ان يعمل الانسان من اجل ذاته وهو منفصل عنها متحرر منها، فيكون معنا انفصال الانا عن موضوعها الذات تجريدا لغويا وليس حقيقة بايولوجية اذ لا يوجد غير ذات واحدة موحدة تحت وصاية عقلية. وليس من رابطة تجمع بين الانا والذات اذا جاز لنا التفريق بينهما سوى التجريد اللاشعوري، وكليهما الذات والأنا جوهر بيولوجي نفسي واحد بمرجعية العقل.

 ومن تجليات نزعة فائض التجريد الفلسفي يصف مين دي ميران ان الوعي ميتافيزيقي. والحقيقة الوعي لا يمكن ان يكون ميتافيزيقيا وتجريدا غير قصدي ماثل بموضوع العقل الادراكي. الوعي هو توسيط شعور العقل في مدركاته. الوعي خاصية العقل البيولوجية في التعبير عن مدركاته معرفيا ولغويا.

مالبرانش والوعي

ينسب لمالبرانش مقولته (الوعي لا يمكن ان يصير موضوعيا والوعي ناقص) اذا قلنا بالرد المباشر ان الوعي لا يكون ولا يوجد الا موضوعيا، والوعي خارج موضوعيته غير موجود. لان الوعي علاقة توسيط العقل بمدركاته. محاولة جعل الوعي موضوعا مستقلا للعقل محاولة غير مجدية. اما ان يكون الوعي ناقصا فمصدره ان فاعلية العقل الادراكية بالتفكير تخطأ معظم الاحيان نتيجة تضليل الحواس في نقلها الانطباعات الحسّية لمدركاتها من موضوعات واشياء العالم الخارجي. الشيء الملاحظ في مباحث الفلسفة انها لدى بعض الفلاسفة يذهبون بالتجريد الفائض بعيدا عن الواقعية والتفكير المتزن الذي لا ترفضه الفلسفة وتحتويه.. فهي اي الفلسفة ان تتفلسف بكل شيء في سلسلة من الادهاشات على شكل متوالية هندسية من تساؤلات مفتوحة النهايات لا قرار لها ولا نتائج.

الوعي تجريد عقلي يداخل ويتخارج مع موضوع العقل البيولوجي معرفيا وليس ديالكتيكيا، والوعي من غير حضور موضوع مدرك تفكيري للعقل اي الوعي لا يشتغل على موضوع خاص به بل يشتغل على موضوع ادركه العقل واعطى مقولاته عنه كما يشير كانط. وبغير ذلك لا يعمل العقل تفكيريا ولا يعمل الوعي توسيطا تخارجيا معرفيا. والوعي لا ينفصل عن الموضوع الذي هو مادة موضوع تفكير العقل القبلي. ادراك الدماغ للشيء يسبق ثانوية الوعي به. الوعي هو الارتدادات الصادرة عن العقل حول مدركاته من اشياء وموضوعات.

فائض التجريد لعبة فلسفية عقيمة

يلاحظ في تاريخ الفلسفة ادراج العديد من موضوعات فلسفية قائمة على غرائبية من تعبيرات فائض التجريد المجاني بلا معنى ما يسقط تلك المباحث في تهويمات بعيدة جدا عن النسق المنطقي اللغوي المتماسك في معالجته قضايا فلسفية حيوية هامة. لماذا وكيف نرفض فائض التجريد المجاني بمباحث الفلسفة؟ سنجيب عن التساؤل بمنطق الفلسفة.

لا بأس ان ندخل في استطراد سريع هو لماذا كانت فلسفة اللغة بداية القرن العشرين هي الفلسفة الاولى بعد تنحية مبحث تسيّد الابستمولوجيا (المعرفة) لقرون طويلة واعتبروها خرافة غير واقعية ولا حقيقية؟ السبب هو انتباه اللاسفة المتأخر الى ان تاريخ الفلسفة مليء بالاخطاء اللغوية والتجريد الفائض عن الحاجة الفلسفية.

وطرح الفلاسفة البنيويين رواد فلسفة اللغة تهمة عويصة ان اللغة في تاريخ الفلسفة كانت تضليلا للعقل. على كل حال ليس هذا موضوعنا بالرد وقد عالجته في اكثر من مقالة منشورة لي.. افضل مثال على توظيف فائض التجريد الحشو الزائد عن ضرورات الحاجة بالفلسفة وابرز مثال على هذا الهراء الفلسفي هو ما اقدم عليه جاك دريدا بالتفكيكية بما اطلق عليه استراتيجية الهدم والتقويض بما لا نهاية له في استهداف نسق تجريد اللغة (النص) في البحث عن فائض المعنى في متوالية لانهاية لها. في تاريخ الفلسفة الفرنسية تحديدا نجدها مليئة بتقليعات هي فائض تجريد طروحات غرائبية تحتويها الفلسفة بكل يسر ويجري تمريرها تحت فائض التجريد التهويمي على حساب اهمال وتمييع كل ما يمت بصلة للفكر المادي ومرجعية الواقع والعقل البيولوجي واهتماماته. نجد مثال ذلك كابانيس وهو من رواد الفكر الفرنسي في القرن الثامن عشر يجاهر بدون ادنى التزام بما يقول (ان كل ما فينا عضوي) وفي ظل هذه العبارة وغيرها اكثر ابتذالا حين يقول فيلسوف فرنسي اخر (للطبيعة عقل) وآخر يقول (للجماد الصخر عقل). ورغم كل هذا التبجح بحضور بايولوجيا العقل نجدهم يتسابقون وراء غرائبية فائض التجريد الفلسفي بما يجعل دور بيولوجيا ومادية العقل بالتفكير تتراجع جدا. ويجعل من التهمة الحاضرة ان الفلسفة لا تقول شيئا جاهزة للتسويق.

***

علي محمد اليوسف

مصطلح العمل الكلي Total work صاغه الفيلسوف الالماني جوزيف بيبير بعد الحرب العالمية الثانية في كتابه (الترفيه: أساس الثقافة، 1948)، ويعني به العملية التي يتم من خلالها تحويل البشر الى عمال ولاشيء آخر. ظاهرة العمل الكلي هي نتاج لترافق الخوف من محدودية العمل مع تصوّر العمل كفضيلة. لو تصورنا ان العمل سيطر على العالم، عندئذ سيكون هو المركز الذي تدور حوله بقية الحياة. وسيصبح كل شيء آخر خاضعا للعمل. هنا وبشكل بطيء وغير محسوس، سوف تصبح كل الاشياء الاخرى مثل الألعاب التي نلعبها، الأغاني التي يتم غنائها، مظاهر الحب المنجزة والمهرجانات المحتفل بها كلها متشابهة وتصبح بالنهاية عملا. ثم يأتي وقتا هو ذاته غير مُلاحظ، عندما تختفي كليا من السجل الثقافي العديد من العوالم التي كانت موجودة قبل هيمنة العمل على العالم و يطويها النسيان.

في هذا العالم من العمل الكلي كيف يفكر الناس وكيف يتكلمون ويتصرفون؟ عندما ينظر الناس في أي مكان سيرون موظفا سابقا، موظفا، موظف بعقد، وغير موظف او عاطل، وسوف لن يكون أي شخص خارج هذا التصنيف. في كل مكان هم يمدحون ويحبون العمل، يتمنون ان يبذل كل شخص جهده ليوم منتج، يفتحون أعينهم على العمل ويغلقونها فقط عند النوم. في كل مكان هناك أخلاق العمل الشاق التي يتم تمجيدها كوسيلة يتحقق بواسطتها النجاح، والكسل يُعتبر أعظم الخطايا. في كل مكان بين مقدمي المحتوى، وسطاء المعرفة، مهندسو التعاون ورؤساء الاقسام الجديدة سوف نسمع ثرثرة متواصلة حول سير العمل، الخطط والمعايير، التوسع والعائدات والنمو.

في هذا العالم، الأكل، الراحة، الجنس، التأمل والتنقل – يتم مراقبتها بدقة ويجري تحسينها باستمرار – ستكون سببا للصحة الجيدة، والتي بدورها توضع في خدمة من يكون أكثر انتاجية. لا أحد يشرب كثيرا، البعض سيتناول جرعة صغيرة من المخدرات كي يعزز ادائه، وكل شخص سيعيش الى أجل غير محدود. في الزوايا، تنتشر الشائعات حول الموت او الانتحار من الإرهاق، لكن مثل هذه الهمسات الخفيفة لا تُعتبر اكثر من مظاهر محلية لروح العمل الكلي، حتى ان البعض يرى هذه طريقة جديدة بالثناء لإنجاز العمل الى حدوده المنطقية المتمثلة بالتضحية النهائية. لذلك، في كل زوايا العالم، سوف يتصرف الناس لكي يكملوا توقهم العميق للعمل الكلي: ليروا أنفسهم يتجلّون بشكل كامل.

هذا العالم، ليس من الخيال العلمي، انه بلاشك قريب من عالمنا. مصطلح "العمل الكلي" يعني، ان العمل بالنهاية سيصبح كليا، في الحقيقة، ان العمل الكلي يحصل عندما يكون هو المركز الذي تدور حوله كل حياة الانسان، عندما كل شيء آخر يوضع في خدمته، عندما تتشابه التسلية، الاحتفالات واللعب تدريجيا وتصبح عملا، عندما لا يبقى هناك بُعد آخر للحياة وراء العمل، عندما يعتقد الانسان تماما اننا وُلدنا فقط لنعمل، وعندما تختفي من الذاكرة الثقافية تماما جميع طرق الحياة الاخرى التي كانت موجودة قبل انتصار العمل الكلي.

نحن على وشك بلوغ العمل الكلي. كل يوم نتحدث مع اناس يسيطر العمل على حياتهم، محوّلين عالمهم الى واجب، افكارهم عبء غير مُعلن.

بالنسبة للشخص المختلف الذي كرس نفسه لحياة التأمل، يأخذه العمل الكلي ليكون في الاساس شخصا يقف أمام العالم الذي يُفسّر كمجموعة لامتناهية من المهام تمتد الى مستقبل غير محدد. بعد هذه المهاماتية taskification للعالم، يرى المرء الزمن كمورد نادر يجب استعماله بحذر، وهو دائما قلق بما يجب عمله، وعادة هو قلق حول ما اذا كان الشيء الصحيح يتم الان وايضا حول ان كان هناك دائما ما يتطلب المزيد من العمل. ان الموقف من العامل الكلي لا يُفهم جيدا في حالات العمل المرهق، وانما في الطريقة اليومية التي يركز بها المرء بشكل كامل على المهام التي يتعين اكمالها، وفي الانتاجية والكفاءة والفاعلية التي يجب تعزيزها. كيف يتم هذا؟ من خلال طرق التخطيط الفعال، والتفضيل الماهر والتفويض في الوقت المناسب. العمل الكلي، باختصار، هو شكل من النشاط المتواصل والمتوتر والمزدحم، المشكلة الرئيسية فيه معاناة وجودية عميقة متجذرة في انتاج المفيد.

ما هو مزعج في العمل الكلي هو ليس فقط انه يسبب معاناة انسانية غير ضرورية وانما ايضا يقضي على أشكال التأمل المرح المتعلق بسؤالنا والتفكير والاجابة على معظم الاسئلة الاساسية للوجود. لكي نرى كيف يسبب العمل الكلي معاناة انسانية غير ضرورية، لننظر في ظاهرة العمل الكلي كما تظهر في الوعي اليومي لشريكين خياليين في محادثة. هناك في البدء توتر مستمر، شعور كاسح بالضغط المرتبط بفكرة ان هناك شيء يجب عمله، شيء ما دائما يُفترض اني اقوم به حتى الان. وكما يوضح الشريك الثاني في المحادثة، هناك في نفس الوقت السؤال المهم الذي يلوح في الافق: هل هذا أفضل استخدام للوقت؟ الوقت عدو، نادر، يكشف عن قدرة الشخص المحدودة في الفعل، ألم المضايقة، تكاليف الفرص التي لم يُجب عليها.

وباجتماع، الافعال التي يُفترض عملها لكن لن تتم بعد، وتلك التي يجب ان تكون اُنجزت سلفا، وما يُحتمل ان هناك شيء اكثر انتاجية يجب القيام به، والشيء القادم الذي ينتظر الجميع القيام به كلها تعمل مجتمعة كعدو لإزعاج الشخص الذي هو دائما في الخلف في عمل غير مُستكمل الآن.

ثانيا، المرء يشعر بالذنب متى ما كان غير منتج بأقصى ما يمكن. الذنب، في هذه الحالة، هو تعبير عن الفشل لمجاراة او البقاء في قمة الاشياء، في ظل التدفق في المهام بسبب الاهمال المفترض او الخمول النسبي.

اخيرا، ان الحافز المستمر على إنجاز الامور يعني انه مستحيل عمليا، وفق هذه الطريقة في الوجود، ممارسة الاشياء بشكل تام. الرجل الاول يستنتج ان "وجودي" هو "عبء: والذي يعني دورة لامتناهية من عدم الرضا. ان طبيعة عبء العمل الكلي تُعرّف بالفعالية اللامتناهية والمستمرة والمقلقة. القلق حول المستقبل، الذنب المرتبط بامكانية الخمول. وعليه، فان "مهاماتية" العالم مرتبطة بطبيعة عبء العمل الكلي. باختصار، العمل الكلي بالضرورة يسبب المعاناة او dukkha بالتعبير البوذي وهو مصطلح يشير الى الطبيعة غير المقنعة لحياة مليئة بالمعاناة.

العمل الكلي، بالاضافة الى ما يسببه من معاناة، يمنع بلوغ مستويات عليا للواقع. لأن ما يضيع في العمل الكلي هو الايحاء الفني للمحات الخلود الدينية الجميلة، وفرحة الحب النقية، وإحساس الفيلسوف بالدهشة. كل هذه تتطلب صمتا، هدوءاً، رغبة مخلصة للفهم. اذا فُهم المعنى كتفاعل تلقائي للمحدود واللامتناهي، هو بالضبط ما يتجاوز، حاليا، المعرفة بانشغالاتنا وواجباتنا الروتينية، يمكّننا لتكون لدينا تجربة مباشرة بما هو أكبر من أنفسنا، عندئذ ما يضيع في عالم العمل الكلي هو بالضبط إمكانية تجربتنا للمعنى. ما يضيع هو الذي يبحث لماذا نحن هنا.

***

حاتم حميد محسن

عمد فويرباخ أن يجعل من الطبيعة منشأ وأصل الدين، وينصّب الانسان (الها) عليها ومن خلالها، فهو – فيورباخ - جعل الانسان يقدّس ويؤله الطبيعة بتأملاته الخيالية والميتافيزيقية المحدودة أدراكيا عقليا، وأن يعتبر (الانسان) دون وعي منه، الطبيعة بكل ماتمتلكه من ظواهر وهيئات وتنوعات جغرافية وبيئية وتضاريس وانهار وجبال وحيوانات ما هي الا مصدر (الاله) الذي يحتاجه الانسان روحيا وماديا أيضا في تعليل اسباب وجوده او المساعدة في ايجاد حلول لجميع المشكلات التي تعترضه والظواهر والموجودات الاخرى التي تتعايش معه وتحيط به.

فويرباخ كما معلوم أبرز فيلسوف أنشق مع آخرين من تلامذة هيجل واطلقوا على أنفسهم الشبان اليساريين الهيجليين، منهم ماركس وانجلز وشتيرنر وشتراوس وشيلروغيرهم.وربما يكون أهم انجاز فلسفي تركه فويرباخ هو كتبه الثلاث (اصل الدين)و(جوهر المسيحية) و(جوهر الايمان) في محاولته تثبيت نزعته الالحادية وشرح فلسفته في منشأ الدين عن الطبيعة واغتراب الانسان عن ذاته .

ولقّب فويرباخ بأنه صاحب منهج فلسفي مادي تصوفي او تأملي ذاتي، البعض ينعت فويرباخ فيلسوف الذات فهو عالج موضوعة أغتراب الذات فلسفيا في سبق فلسفي يحسب له . ومن الماركسيين المحدثين الذين ينكرون التأثير المادي لفويرباخ على ماركس، بنفس معيار أنكارهم الجدل الهيجلي على ماركس أعتبارهم فويرباخ هو الآخر مثاليا تجريديا تأمليا، واقفا على رأسه بدلا من قدميه قبل ماركس، علما أن جميع دارسي وباحثي الماركسية يذهبون الى أن المادية التصوفية الفويرباخية والجدل او الديالكتيك الهيجلي كانتا دعامتي الديالكتيكية المادية، والجدل المادي التاريخي الذي اعتمدهما ماركس في صياغته قوانين تطور المادة والتاريخ، بعد تخليص مادية فويرباخ من تصوّفها التأملي الديني، وتخليص الجدل الهيجلي من مثاليته المقلوبة.

المهم أن هذا ليس موضوعنا، لكن لا يمكن لأحد نكران أن المعارف والفلسفات وحتى العلوم الانسانية، هي تراكم معرفي وحضاري تاريخي محكوم بالكم والكيف، في تقادم زمني لا يلغي تماما جهد السابقين على اللاحقين تاريخيا، مهما اعتور وشاب تلك المسيرة من النقد والمراجعة والحذف والتفسير والتفنيد ..الخ.كما يتعذر ولادة معارف علمية أو فلسفية من فراغ فكري سابق عليهما. واذا سمحنا لانفسنا اسقاط الفهم الحداثي وما بعد الحداثي على اي نص مكتوب، فهو بحسب رولان بارت في مقولته الشهيرة موت المؤلف، في ردّه كل نص الى تناصه المتعالق مع سابقاته من النصوص من جهة، ومن جهة اخرى فأن النص بعد كتابته ونشره يصبح ملكا صرفا للقاريء المتلقي، او بالاحرى المتلقين الآخرين في تعدد وتنوع قراءآتهم للنص.وهو ما ينطبق على كل نص تداولي مكتوب سواء في الثقافة او المعارف او الفلسفة او السرديات الكبرى كالايديولوجيا والتاريخ والدين الخ.

ويؤكد البرتو ايكو هذا المعنى لدى بارت قائلا (بارت يقوم بتفريق هام بين نص القراءة، الذي يستهلكه القاريء، والذي يمنح نفسه للقاريء بلا مشّقة، ومن ثم يقوم بترسيخ العادة وألمالوف، وبين نص الكتابة الذي يقوم القاريء بكتابته مرة اخرى، ومرات عديدة في كل قراءة اخرى جديدة).

يقول ماركس في عبارته المتعالقة مع فويرباخ:(ان الدين باق معنا، في بقاء الاسباب التي أدّت الى نشوئه)1. لا نجانب الصواب حين نرد وننسب التقاء ماركس وفويرباخ في نشأة المسألة الدينية لديهما في اشتراكهما ليس في طبيعة الحادهما وحسب، وانما في طبيعة نسبة مصدر الدين ومنبع وسبب نشوئه الطبيعة ذاتها والانسان ذاته ايضا.معتبرين الدين من صنع الانسان وصنع الطبيعة معا.وملخص ذلك في عبارة فيورباخ (عبادة الله تعتمد على عبادة الانسان لنفسه).

الطبيعة الارضية الحيّة التي وجد الانسان نفسه مقذوفا بها كوجود من غير ارادته مع باقي المخلوقات والكائنات الطبيعية والحياتية النباتية والحيوانية والجمادية، وسط اشكال وظاهرات متنوعة، اشجار ونباتات وجبال عملاقة وصخوروانهار وبيئة متنوعة وغير ذلك.كان محتّما ومحكوما على الانسان ان يتكيّف ويتعايش مع هذه الطبيعة شاء أم أبى، ويتماشى مع مراحل تطورها التاريخي، محاولا فهم صفاتها وقوانينها وكيفية التعامل والتكيّف والتعايش معها.

وفي معرض الحديث عن تعالق الدين واللغة عند الفيلسوف بروديكوس، ان الانسان البدائي والذي بدا له ان كثيرا من الظواهر الطبيعية معادية له، ومع ذلك كان معجبا جدا بالهبات التي تزوده بها الطبيعة لتسهيل حياته ورفاهيته.

هذه الطبيعة المادية في مجموع تكويناتها وتنوعاتها الارضية، لم تكن طبيعة جامدة (روحيا) بمعنى الثبات والسكون الفيزيائي والبيولوجي الذي يعدم تساؤلات ما وراءهما.، تساؤلات الانسان الكائن النوعي في ذكائه المتفرد به عن باقي المخلوقات والكائنات (عقليا - روحيا) خياليا تأمليا ميتافيزيقيا الى ماوراء ظواهر الطبيعة. في هذا التأمل الروحاني البسيط، حسب فويرباخ أخذ الانسان يخلع على الطبيعة، بعضا من خصائصه الذاتية عليها، ليصل بعدها خطوة او مرحلة متقدمة في(تأليه) اغترابه عن الطبيعة، متصوّرا أن قدراتها وما تمتلكه الطبيعة من صفات لا يمتلكها هو تجعله بالضرورة يجعل من الطبيعة كائنا يفوقه بالقدرة والمكانة، ويستوجب عليه تقديسه واعتباره (الها) له يعبده ويعمل بجميع الوسائل كسب مرضاته ووقايته من الحاق ضرره(العفوي) المقصود به في كل خوارق العواصف والزلازل والفياضانات وهكذا في كل ما يهدد حياته ووجوده.هنا بدأ الانسان يفهم ان الطبيعة الاله، تمتلك وتستطيع فعل كل ما يعجز عنه تفكيره ان يفعله ويعمله، في وجوده المادي الحسّي والروحي على السواء.

ان تفسير فويرباخ (الوهية) الطبيعة المتخيّلة والمصنّعة انسانيا ذاتيا، هو ان(الانسان وضع اسمى خصائصه الانسانية، ماهيته، او جوهره في الطبيعة فقدسّها، ثم خلع عليها صفات وقدرات الالوهية في تجريدها من عينيتها اي واقعيتها المادية، ومن ثم رفعها الى السماء، وسماها(الله) بلغات مختلفة وكيفيات مختلفة ورموز مختلفة وخصائص مختلفة وهيئات مختلفة.)2.

واضح ان الدين لدى فويرباخ هو الطبيعة، ويعتبر الانسان الديني هنا، انما يتعامل مع (الطبيعة – الدين) من خلال الوعي بذاته، كذات عقلانية مدركة للطبيعة والمحيط وتعي اغترابها عنهما معا (اغتراب ذاتي واغتراب عن الطبيعة). وبالتالي فان (اله) الانسان لا يعكس سوى حالته فقط، ذاتيته، وجوهره المتفرد الخاص به وحده دون غيره من الكائنات.

تأسيسا على ما ذكرناه يعتبر فويرباخ الطبيعة المبتدأ الاول والمنتهى الاخير لفهم نشوء الدين، لذا تكون تبعية الانسان لحاجة التديّن، هي لاشعوره الدفين بتبعيته للطبيعة التي لا يستطيع تصوّر الحياة من دونها وما توفره له من اسباب العيش والبقاء.

من المعلوم جيدا ان جدل الانسان مع الطبيعة يقوم على جوهر ومرتكز(أنسنة) الانسان لها، ومحاولته السيطرة على بعض تجليّاتها وتسخيرها لمنفعته، أو محاولة اكتشاف بعض قوانينها الطبيعية التي تعمل بمعزل عن رغباته ووجوده ومحاولته الاستفادة منها في تمشية حياته والتكيّف مع الطبيعة.

بالمقابل الجدلي المناقض للانسان نجده في فرض الطبيعة، تطبيع الانسان على التكيّف معها في مقابل محاولته هو أنسنتها، في افتراض واقعي علمي ان جدل التناقض في قطبيه الانسان والطبيعة لا يعيان ادراكيا تضادهما الجدلي ولا حتى النتائج الغائية المتولدة منه والمفصحة عنه. الجدل والتضاد بينهما في قانون الماركسية وحدة وتصارع الاضداد الذي يحكم المادة والتاريخ والوجود عامة. انه من المفهوم جيدا ان جدل الانسان في محاولته انسنة الطبيعة يقوم على اكثر من خاصيتين يمتلكها الانسان وتفتقدها الطبيعة وهي عوامل (الذكاء واللغة والخيال ووعي الذات والعقل)، لذا بالامكان ترجيح جدل التضاد بين الانسان والطبيعة في صالح الانسان وليس في صالح الطبيعة وهو ما ثبت انثروبولوجيا وعلميا في التطور التاريخي والحضاري للانسان. ثم اضيفت للانسان قدرات اضافية لا تجاريه فيها الطبيعة مثل انتصاب القامة واستعمال اليد بمساعدة اصبع الابهام الذي لا تمتلكه سائر الحيوانات، وفي مرحلة متقدمة جدا اخترع الانسان اللغة مع دخوله عصر الزراعة، عصر صنع الحضارة الانسانية. (عصر الزراعة سبعة الاف سنة قبل الميلاد، وعصر اختراع الكتابة بحدود (2200 – 2300) ق. م.*

نعود لنكمل مع فويرباخ (اذا كان الانسان يؤمن بكائن مختلف مستقل عنه، والذي ليست له طبيعة بشرية، وليست له صفات بشرية، فان ذلك الكائن ليس شيئا سوى الطبيعة في الحقيقة، وان كل الاسماء التي يمنحها هذا الانسان لكائن متخيّل ما هي في الاصل الا سمات الطبيعة ذاتها)3.

ويمضي فيورباخ قائلا في تأليهه الطبيعة (انه اذا كان الله بنظر اللاهوتيين عبارة عن كائن خالد لا يفنى، فانه لا يوجد في الحقيقة كائن خالد سوى الطبيعة، حيث يموت جيل ويعقبه جيل آخر، في حين نجد أن الارض، الشمس، الماء خالدين الى الابد)4.

كما يرى فويرباخ أن جوهر الدين هو جوهر الانسان، وماهية الدين هي ماهية الانسان نفسه، وبهذا المعنى فان فويرباخ بحسب الاستاذ الباحث جاد الكريم الجباعي (لا يؤسس للالحاد، بل يؤسس الدين برده الى اصله (الانسان) وعلة وسبب نشوء الدين هو اغتراب الانسان الذاتي واغترابه عن الطبيعة معا)5.

وبهذا الفهم الاغترابي الادماجي المركّب حسب فويرباخ يصبح كلا من الانسان والطبيعة والاله المصنّع خياليا ميتافيزيقيا (الها واحدا) متمثلا في محورية ومركزية الانسان وليس الطبيعة ولا اله ما وراء الطبيعة.

من الواضح ان فويرباخ جعل قدم الوهية الطبيعة متقدمة على الوهية الانسان لئلا يقع في التفسير المثالي الذي تحاشاه وهو ان الطبيعة الالهية والاله الميتافيزيقي كلاهما من صنع الانسان، وبهذا المنطق المثالي الذي تحاشاه فويرباخ ابقى الطبيعة وجودا ماديا بمعزل عن كل وجميع رغائب الانسان وذهب الى ان الطبيعة منشأ الدين وليس الدين من صنع وخلق الانسان المحض. متجاهلا ان حقيقة التفسير العقلي المنطقي بغض النظر عن ماديته او مثاليته يذهب الى ان الطبيعة وحدها لا تستطيع صنع دينها بنفسها لولا توّسل الانسان بها وقيادته هو للطبيعة وليس العكس.عندها يصبح التفسير المثالي او المادي في ان الدين لم تصنعه الطبيعة بقواها الذاتية لولا توّسل الانسان بها واعتماده لها مقبولا صحيحا، وبالتالي يبطل قول فويرباخ ان الطبيعة مصدر ومنشأ الدين. بل الانسان الميتافيزيقي هو اصل اختراع الدين. وفي تحاشي فويرباخ عدم الانزلاق بهذا الفخ لجأ الى القول ان الانسان خلق تدينه من الطبيعة ولم تفرض الطبيعة دينها ان صح التعبير هي عليه .اي ان فويرباخ وقع في مأزق المراوحة بين التفكير المادي الذي يتبناه ويحمله من جانب، وبين الفهم المثالي الذي لا يقر فويرباخ الاخذ به من جانب اخر.

فقد عمد الانسان تأليه الطبيعة التي يجهل خلقها ومن أوجدها، لذا فقد اعتبرت الطبيعة منذ تلك الحقب التاريخية السحيقة والى يومنا هذا ميراثا للانسان ووجوده الارضي لا ينازعه بها أحد منذ انقراض الديناصورات والماموث وغيرها من الكائنات التي كانت تهدد وجوده بالانقراض عصر ذاك.

وسواء ورث الانسان الارض هبة من الخالق ام كنزا وجده مصادفة هيأته له ارادة اخرى مجهولة خفيّة في التطور البيولوجي والكوسمولوجي، فهو وجد نفسه حاكما متحّكما في الكثير من امورها الغامضة او الواضحة ليكون سيّد الطبيعة.

وحسب فويرباخ فان الانسان خلع على الطبيعة من صفاته رغبة منه في حل الغاز وجوده، ونضيف تماشيا مع تصور فويرباخ انه لما كانت الطبيعة عاجزة عن حمل رسالة الالوهية بما يلبي رغبات الانسان ويبعث الطمانينة بنفسه، فهي لا تجترح المعجزات ولا تجيب على اسئلة عقل الانسان المحيّرة ووجوده النوعي، فأن الانسان لم يمتلك سوى الارتداد الى ذاته في تصنيعه الطبيعة (الها)، الى مرحلة لم يكن يعيها جيدا انه بأمكانه ان يكون هو (الها) للطبيعة والمخلوقات الأخرى معه التي لا تدركه. من الطريف ان نجد الانسان ينصّب نفسه الها للطبيعة من غير ارادتها ووعيها، ونجده ينصب نفسه الها لباقي كائنات الطبيعة من غير ادراك تلك الكائنات له.

مانجده متحققا في مراحل تاريخية متطورة حضاريا من وجود البشرية في اعلان الانسان نفسه (الها) وحتى ليس نبيا، في الاساطير والميثولوجيا، وحتى الى عصور متقدمة معاصرة جدا في اعلان امبراطور الحبشة (اثيوبيا) هيلاسلاسي نفسه(الها) مخلصّا يعبد بحسب المعتقد الديني في (الراستفارية) عند بعض القبائل الاثيوبية- الجامايكية. بالحقيقة لم يكن يدرك الانسان ان من خصائص الاله اجتراح المعجزات عصر ذاك، لذا كانت الوهية الانسان لا ارادية عفوية غير عقلانية لا يؤمن بها غير الفرد الذي اخترعها، بمعنى لم يكن الانسان عصرذاك نبيا يحتاج اجتراح المعجزات كي يصدق القوم الوهيته. يحصل هذا سواء اكانت الطبيعة الها ام لم تكن، او كان الانسان مخلوقا عبدا ام الها مرسلا ام غير مرسل بوحي.

ولأن الانسان بحسب فويرباخ (كائن غير ميتافيزيقي فان تفكيره الميتافيزيقي (نقض) بمعنى السلب النفي، لفن التفكير كأنه سلب مطلق، والطبيعة له ليست الا المقابل العقلي له)6. (والكائن الذي يوجد في الفكر بالنسبة للمفكر، هو الجوهر الحقيقي، ومع هذا فانه يكون واضحا بذاته له، والكائن الذي لا يوجد في الفكر لا يمكن ان يكون جوهرا صحيحا)7. اول خطأ وقع به فيورباخ قوله الانسان غير ميتافيزيقي، فميتافيزيقا الانسان التفكيرية والى يومنا هذا هي التي جعلت من اختراع الدين بطبعاته المكررة في الاديان التوحيدية واقعا يعيش من اجله الانسان الحياة.

كما ان الذي لا يعطيه لنا الفكر بفعل التفكير كناتج تفكيري وفهم الذي هو الموضوع المادي المدرك لذاته، او الكائن المدرك وجوده خياليا (روحيا) عندها يكون المخيال الغاءا افتراضيا مطلوبا لادراك وجود الطبيعة ماديا.التي يرغب الانسان اعطاءها صفة المتعالي والمقدس والالوهية، على حساب الغاء فاعلية العقل الحسّي في تحقق وجود الاشياء.على وفق قصدية روحانية دائمة التصادم والتضاد، في عجز الانسان والطبيعة معا اي الخالق الطبيعة والمخلوق الانسان العبدين كليهما وجدا عجز اثبات ان الطبيعة تمتلك سمات الالوهية والمقدس في اجتراح المعجزات وتحقيق اماني العبد الانسان في درء الاخطار المحدقة به وحمايته. هذه السمات لم تكن الطبيعة تمتلكها اولا، ولا هي (الطبيعة) ارغمت الانسان خلعه عليها، وتصنيع الانسان الهه منها وعبادته لها على وفق ما يطلبه ويتمناه لا وفق ماترغبه الطبيعة، فهي لم تكن ولن تكون مستقبلا بحاجة الى انسان روحي يستمد تدينه من الطبيعة كون الطبيعة لا تدرك ذاتها بوعي منها كما هي الحال مع الانسان.

وفي مقولة هيجل (الدين هو أعلى صورة من صور التعبير عن الوعي الذاتي) نستطيع فهم ان ذاتية الانسان هي التي جعلت من الطبيعة الها افتراضيا هو من صنع خيال الذات الانسانية في ايجاد وسيلة تخلع عليها صفات الالوهية، ويعبدها الانسان فلا يجد غير الصفات التي تتفرد بها الطبيعة، او الصفات المشتركة بينهما، ويصنع من الطبيعة الها ماهو الا ذاته هو الانسان، التي خلعها على الطبيعة. تم هذا بواقع تفسير خيالي افتراضي ان الطبيعة قادرة ان تعطي كل متطلبات معيشة الانسان، وبالتالي فهي تستحق التأليه الذي يحتاجه الانسان روحيا في فزعه من الموت والفناء اذا ما توقفت الطبيعة امداده باسباب البقاء والحياة.

***

علي محمد اليوسف

.......................

الهوامش:

* اعتمدت في هذه المقالة المداخلة، مقالة الاستاذ الباحث جاد الكريم الجباعي/الالحاد لا يقي من المثالية والغيبيات/موقع مؤمنون بلا حدود، نيسان 2018 في عرض اراء فويرباخ كتابه اصل الدين تعريب وترجمة الاستاذ احمد عبد الحليم.

1.  نقلا عن المصدر اعلاه نفسه

2.  المصدر اعلاه نفسه

3.  المصدر اعلاه نفسه

4.  المصدر اعلاه نفسه

5.  المصدر اعلاه نفسه

6.  المصدر اعلاه نفسه

7.  المصدر اعلاه نفسه

*هذا الموضوع شائك وغير محسوم بين البنيوية والتفكيكية ايهما أسبق على الآخر الكتابة ام الكلام؟ اذا اعتبرنا ان النقوشات والمحفورات البدائية الصورية على جدران الكهوف هي اسبق على الكلام، قد يبدو صحيحا، لكن اذا اعتبرنا الكلام التخاطبي الشفاهي هو غير لغة التداول والتدوين، عندها تكون اللغة المكتوبة المدونة أسبق على الكلام الشفاهي في التداول. (المؤلف)

مَدرسةُ فرانكفورت (1923 - 1970) هِيَ مَدرسة للنظرية الاجتماعية والفلسفةِ النَّقْدية، مُرتبطة بمعهدِ الأبحاثِ الاجتماعية في جامعة غوتة في مَدينة فرانكفورت الألمانية، ضَمَّتْ المُفكِّرين والأكاديميين والمُنشقين السِّياسيين غَير المُتَّفقين معَ الأنظمة الاقتصادية الاجتماعية المُعَاصِرَة (الرأسماليَّة، الفاشيَّة، الشُّيوعيَّة) في ثلاثينيات القرن العِشرين.

تُفْهَمُ أعمالُ مَدرسةِ فرانكفورت في سِيَاقِ الأهدافِ الفِكرية للنَّظريةِ النَّقْدِيَّة، التي تَقُومُ على النَّقْدِ الاجتماعيِّ الرَّامي إلى إحداثِ تغيير اجتماعيٍّ، وتَحقيقِ التَّحَرُّرِ الفِكْرِيِّ مِن خِلالِ التَّنويرِ غَيْرِ الجَامِدِ في افتراضاته، وكَشْفِ تَناقضاتِ المُجتمع الغربيِّ الحَديثِ، وتَحديدِ مَظاهرِ الاستغلالِ والاستلابِ والاغترابِ التي أفْرَزَتْهَا الحَدَاثةُ المَادِيَّةُ نَتيجة هَيمنةِ العَقْلانيَّةِ الأداتيَّةِ.

وَقَدْ هَاجَمَتْ مَدرسةُ فرانكفورت ابتعادَ الفَلسفةِ عَنْ دَوْرِها الاجتماعيِّ، وانتقدتْ تهافتَ النَّزعةِ الوَضْعِيَّة التي تَجْعَلُ مِنَ العُلومِ الطبيعيةِ نموذجًا لِلْعِلْمِيَّةِ، وتَجْعَل العِلْمَ والتِّقنيةَ الأدَاتَيْن القَادِرَتَيْن بِمُفردهما عَلى إحداثِ التَّغييرِ الاجتماعيِّ، وتَحقيقِ سَعادةِ الإنسانِ، كما انتقدتْ تَحَوُّلَ أدواتِ التَّثقيفِ وَوَسَائِلِ الإعلامِ إلى أدوات تُمارسها سُلطة الأنظمة السِّيَاسِيَّة الغربية للسَّيطرةِ على الناسِ، والهَيمنةِ عَلى مَسارِ حياتهم، وتَوجيهِ الرَّأي العام.

يُعْتَبَر الفَيلسوف الألماني يورغن هَابِرْمَاس (وُلِدَ عام 1929) مِنْ أهَمِّ عُلماءِ الاجتماعِ والسِّيَاسَةِ في العَالَمِ، وَهُوَ المُمَثِّلُ الأكثرُ شُهرةً للجيلِ الثاني لِمَدرسةِ فرانكفورت، وَالوَرِيثُ الرئيسيُّ المُعَاصِر لأفكارِهَا ونظرياتها وإسهاماتِ أساتذته: ماكس هوركهايمر(1895_ 1973)، وتيودور أدورنو (1903_1969)، وهِربرت ماركوز (1898_ 1979)، وفالتر بنيامين (1892_ 1940)، وإريك فروم (1900_ 1980).

ومَهْمَا كانَ التلميذُ ذكيًّا ومُبْدِعًا لا يَستطيع التَّخَلُّصَ مِنْ تأثيراتِ أساتذته بشكل كامل، ولا يَقْدِر على التَّحَرُّرِ مِنْ أفكارِ العُلماءِ الذينَ دَرَّسُوه بِصُورةٍ تَامَّة. لذلك تُعَدُّ فَلسفةُ يورغن هابرماس استمرارًا وتَطَوُّرًا للفِكْرِ النَّقْدِيِّ الذي أسَّسَتْهُ مَدرسةُ فرانكفورت، مَعَ تَبَنِّي المَنهجِ التواصلي الذي يُرَكِّز على العَقلانيةِ التواصليَّة، ونَقْدِ العقلانيَّة الأداتيَّةِ.

وَقَد اعْتَبَرَ هابرماس أنَّ إنجازه الرئيسيَّ هُوَ تطوير مَفهوم ونظرية العقلانيَّة التواصليَّة، وذلك بِتَحديدِ العقلانية في بُنى الاتصالِ اللغويِّ الشَّخْصِيِّ. وَتُقَدِّمُ هذه النَّظريةُ الاجتماعيةُ أهدافَ الانعتاقِ أو التَّحَرُّرِ الإنسانيِّ، ضِمْن الإطارِ الأخلاقيِّ الشامل، والفَهْمِ المُتَبَادَلِ بين البَشَر.

وتأثيرُ مَدرسةِ فرانكفورت في فَلسفةِ هابرماس يَتَجَلَّى في النَّظريةِ النَّقْدِيَّةِ، التي تَنْتقِد المُجتمعَ الرَّأسماليَّ الحديثَ وعَقْلانيته الأداتيَّة، مِمَّا أدَّى إلى تَهميشِ وتَشَيُّؤ الأفرادِ. والتَّشَيُّؤُ: تَحَوُّلُ العَلاقاتِ بَين البَشَرِ إلى مَا يُشْبِهُ العَلاقاتِ بَين الأشياء، ومُعاملةُ الناسِ باعتبارهم مَوْضِعًا للتبادُل. وعِندما يَتَشَيَّأ الإنسانُ، فإنَّهُ سَينظر إلى مُجتمعِه وتاريخِه باعتبارهما قُوى غريبة عَنْه، وهَذا يَقُودُ إلى سُقوطِ الإنسانِ في فَخِّ الاستلابِ ومِصْيَدَةِ الاغترابِ.

وَقَدْ تَبَنَّى هابرماس جُزْءًا مِنْ نَقْدِ مَدرسةِ فرانكفورت للحَداثةِ، لكنَّه اختلفَ معها في رُؤيتها المُتشائمة للحَداثةِ، حَيْثُ رَأى أنَّ الحَداثة مشروع غَيْر مُكتمِل، يَجِبُ استكمالُه، ولَيْسَ التَّخَلِّي عَنْه. كما أنَّه انتقدَ العقلانيَّة الأداتيَّة التي رَكَّزَتْ على تَحقيقِ الأهدافِ والغَاياتِ مِنْ خِلالِ الوَسائلِ الأكثر فَعَالِيَّة، ورَأى أنَّها أدَّتْ إلى تهميش القِيَم الإنسانيَّة والمُجتمعية.

وعَلى الرَّغْمِ مِنَ الاختلافاتِ بَيْنَ أجيالِ مَدرسةِ فرانكفورت، بسبب الاعتباراتِ التاريخية والظُّروفِ المَعيشيةِ وتَبَايُنِ طَبيعةِ الناسِ وَعَادَاتِهم، إلا أنَّ فلاسفة المَدرسةِ لَمْ يَعتمدوا على التَّقليدِ الأعمى والنَّسْخِ والاتِّبَاعِ والتَّكْرَارِ، وهَذا سَاهَمَ في تَكوينِ نظريات مُتَجَدِّدَة باستمرار. وهَذه النَّظرياتُ ذَات هُوِيَّة مَركزية تَرتبط بالتُّراثِ الفلسفيِّ الغَرْبيِّ بِكُلِّ تَشَابُكَاتِهِ وتقاطعاتِه، بَعْدَ إخضاعِه للنَّقْدِ والغَرْبَلَةِ والتَّصْفِيَة.

لَقَدْ وَرِثَ هابرماس عَن مَدرسةِ فرانكفورت تقاليدَها في نَقْدِ الحَداثةِ التي كَشَفَتْ عَن الجَوانبِ المُدَمِّرَة للعَقْلانيَّةِ وآلِيَّاتِ السَّيطرةِ والضَّبْطِ التي قَدَّمَتْهَا المَعرفةُ التِّقنية للسُّلطةِ، وأسَّسَ فَلْسَفَتَهُ عَلى التُّراثِ النَّقْدِيِّ لِفلاسفةِ مَدرسةِ فرانكفورت، حَيْثُ فَتَحَ الفَلسفةَ المُعَاصِرَةَ عَلى فِكْرَةِ التَّوَاصُلِ والسُّلوكِ الاتِّصَاليِّ بَيْنَ أبناءِ الحَضاراتِ المُختلفة، مُحَاوِلًا تَحليل أسباب ونتائج العَواملِ التي تُهَدِّد الحَيَاةَ الإنسانيَّة فَرْدِيًّا وجَمَاعِيًّا. كما أنَّهُ اعتمدَ على اللغةِ بِوَصْفِهَا فِكْرًا وسُلوكًا اتِّصَالِيًّا لِتَحقيقِ الحِوَارِ والتَّفَاهُمِ بَيْنَ البَشَرِ، وُصُولًا إلى تَحقيقِ حَالةِ السِّلْمِ الاجتماعيِّ في ظِلِّ الاختلافاتِ العَقَائِدِيَّةِ والثقافيةِ، والتَّبَايُنَاتِ الطَّبَقِيَّةِ، وتَرسيخِ قِيَمِ الحُرِّيةِ الفِكْرية والعَدالةِ الاجتماعيَّة.

إنَّ نظرية الفِعْلِ التَّواصليِّ وَضَعَهَا هابرماس مِنْ أجْلِ تَفْسيرِ كَيفيةِ تَشكيلِ العلاقاتِ الاجتماعية، وتَطويرِ الثَّقَافات، وَهِيَ طريقة أساسيَّة للتواصلِ بَيْنَ الأفرادِ في المُجتمع، وتَبَادُلِ المَعلوماتِ والأفكارِ والمَشاعرِ والأهدافِ عَبْرَ اللغة، بِوَصْفِهَا أداة رئيسيَّة للتَّعبيرِ والاتِّصَالِ، والهَدَفُ هُوَ التَّوَصُّلُ إلى تفاهم مُشترَك بَيْنَ الأفرادِ، والإجابةُ عَن الأسئلةِ المُعقَّدة حَوْلَ الطبيعةِ الإنسانيَّة والاجتماعيَّة. والفَضَاءُ العامُّ هُوَ المكانُ الذي يَتِمُّ فيه تبادُل الآراء والأفكار بِحُرِّية، وَهُوَ ضَروريٌّ لِتَشكيلِ الرَّأيِ العَامِّ واتِّخَاذِ القَراراتِ المَصِيرية. ***

 إبراهيم أبو عواد

 

 

تعد مشكلة الخوف من الموت وطبيعته تقليدياً من دائرة اختصاص الدين، والدين ينكر عادة الطابع اللامتناهي للموت، إذ يؤكد استمرارية الشخصية الانسانية سواء في شمولها النفسي – البدني او كروح متحررة من البدن، مؤكدا على طابعها الممّيز المألوف. ومن ثم فأن الفلسفة لم تشرع في الاهتمام بالموت الا حينما اصبح التأكيد الذي يطرحه الدين مشكوكا فيه وموضع ريبة، او حينما بدا هذا التأكيد في تناقض لا مفر منه مع شهادة حواسنا المباشرة التي لا جدال فيها.

وحينما اصبح الرد الديني على الموت موضع تشكيك سعت الفلسفة الى دعمه بحجّة عقلانية، وعندما غدا الامر متعلقا بالتناقض راحت الفلسفة تسعى الوصول من خلال النظر العقلي الى رد مؤكد مماثل لذلك الذي طرحه الدين منذ وقت طويل، او تصدت للوصول الى التصالح مع الموت منظورا اليه باعتباره نهائيا او بحسبانه خلودا غير شخصي، خلود الانسان كنوع. وهناك امكانية ثالثة، فالعجز عن تقبل الحل الديني يمكن ان يؤدي بالفيلسوف الى الاهمال الكلي للمشكلات التي يطرحها الموت، والى انكار انها تقع في دائرة اختصاص الفلسفة.

وفي غياب اقتناعات دينية محددة تماما، كما كان الامر في القرنين الخامس والرابع قبل الميلاد في بلاد الاغريق على سبيل المثال، وفي القرنين الثاني والاول قبل الميلاد في روما، نجد الموت لا كموضوع للفسلفة فحسب، وانما كمحرك لها ايضا، لكنه مع مجيء المسيحية، ووعدها بالبعث والحياة الخالدة، في العالم الاخر تقلصت الضرورة الحيوية لقيام الفلسفة بتناول الموت. حيث غدت الفلسفة ذاتها تابعة للاهوت لاسباب عديدة. لكن سيكون من الخطأ الاستنتاج بأن الانشغال بالموت قد اختفى في العصر المسيحي فالظهور التدريجي لتصور محدد للحياة الاخرى، التي طورها اللاهوت وجعلها الشعر، والنحت، والتصوير، واقعية بصورة مرئية.

وخلال القرنين الرابع عشر والخامس عشر التي سادت فيهما نوبة تسلط الموت على الاذهان والقلوب، اصبح حدث الموت بالاضافة الى المخاوف المعتادة المرتبطة به، اكثر اثارة للفزع، لان لحظة الموت اكتسبت معنى خاصا ومشؤوما، حيث ان لحظة هروب الروح من الجسد المحتضر، هي الفرصة الاخيرة لقوى الجحيم من السيطرة على هذه الروح.

ونجد مع استئناف التفكير الفلسفي المستقل في عصر النهضة ان الفلاسفة يميلون فيما يتعلق بمشكلة الموت الى انكار الخلود الشخصي، ويمكن ان يقال انه منذ اللحظة التي انحاز فيها بيترو بومبونازي P.Pomponazzi الى صفوف القائلين بانكار الخلود، اصبح انكار خلود الروح بصورة تدريجية الموقف الفلسفي غير المنازع في كل من فرنسا والمانيا في القرنين الثامن والتاسع عشر. ولم تهمل الفلسفة مشكلة الموت، فحتى الماديون الفرنسيون في غمار انكارهم لخلود الروح ووصفهم بانه (كذبة كهنوتية) وانه عقبة في وجه تحسين الظروف الاقتصادية والاجتماعية والسياسية، لكنهم تناولوا الموت بالدراسة. وكان هناك دائما جهدا دائبا من جانب بعض الفلاسفة لاثبات خلود النفس. وفي الضرب الاول أي الفلسفات التي تتناول مشكلة الموت تظهر العلاقة بين واقعة الموت والبحث الفلسفي في ثلاثة جوانب هي:

1- يمكن ان يكون الموت مصدر الهام للفلسفة وقوة الدفع الكامنة وراء التفلسف الذي يهدف اساسا الى السيطرة على الخوف من الموت والتصالح مع حتميته. وكانت هذه فلسفة شوبنهاور.

2- يمكن ان يكون الموت اداة للفلسفة التي تزعم انها وحدها التي تناسب الوصول الى فهم الوجود والكشف عن طبيعته الحقة التي يتخللها اللاوجود على حد تعبير هيدجر.

3- اخيرا الموت كما يقول افلاطون يمكن ان يكون الوضع المثالي للتفلسف وحالة يمكن فيها وحدها ان يتحقق سعي الفيلسوف وراء المعرفة الحقة.

ان مهمة الفلسفة هي التيّقن من طبيعة الموت والبرهنة على انه ليس فناءا نهائيا، او اظهار الاسباب الكامنة وراء موقفنا من الموت الذي يذهب الى انه رغم الموت هو (النهاية) فانه لاينبغي ان يكون موقفنا هو الخوف بل اللامبالاة والاذعان بل التقبل والابتهاج..

لقد سهّل استبعاد مشكلات الموت عن الفلسفة تحت ضروب التقدم المذهلة التي أحرزتها العلوم الدقيقة، الى ترك الموت ومشكلاته على قارعة الطريق. وعلى اية حال فقد أعلن انصار النزعة العلمية حماس احتضار الموت، بينما اعترف به بأسى وحزن ممثلو الدين التقليدي فقد كتب احدهم (ان الموت المجرد كمحرك قد احتضر... لقد فقد الموت ضروب افزاعه). وكتب اخر (ان القرن العشرين اكثر انشغالا من ان يشغل نفسه كثيرا بالمشكلات التي يطرحها الموت، وما يعقبه فالرجل المحنك يكتب وصيته، ويؤمن على حياته، ويزيح موته جانبا باقل صور التأديب...  الموت كمصير يلقي بظلاله وكموضوع كان الخلاف حوله شاملا).

غير ان آرثر شننتزلر يجد انه ما من شخص جدير بالاحترام لايفكر في الموت، وبينما انسحب الفلاسفة المحترفون الى البحث المتخصص. اعرب كتاب وشعراء من امم عديدة عن ادراكهم للموت وأساهم ازاء الظل المعتم الذي يلقيه على كل ما يحيا ويتنفس، وعلى وجودهم بصفة خاصة، وهناك تولستوي الذي كانت فكرة الموت تطارده دونما توقف والذي واصل التساؤل في يأس (أي حقيقة يمكن ان توجد اذا كان هناك موت؟).

وهناك اونامونو (1864-1936) فيلسوف وجودي اسباني تأثر في مذهبه بابي الوجودية سورين كيركارد، الذي كانت شهوته للخلود، وشكهّ في الحياة بعد الموت يجعلانه ينشد عبثا الهروب من المعنى المأساوي للحياة، بان يكرر لنفسه دونما توقف ان على المرء ان يؤمن بالايمان ذاته، وهناك (ريلكة) الذي اصيب بعذاب الزوال وناضل ببسالة ليحول الموت من شبح مفزع الى اعظم حدث في الحياة، وهناك بروست الذي سعى للوصول الى مهرب من المرور الفاني للزمن من خلال محاولة استرجاع الماضي بأمل باطل هو انه اذا كان بوسعه القيام بذلك، فان كلمة الموت لن يعود لها معنى بالنسبة له.

ومع بداية القرن الحالي على وجه التقريب فحسب حدث رد فعل في الفلسفة ضد استبعاد الموت من التأمل الفلسفي، فتمرد وليام جيمس، وهنري برجسون على استبعاد جميع العناصر الشخصية من الفلسفة، ولاحظ جورج زمل بأسى (بأن جانبا بالغ الضآلة من المعاناة الانسانية- يقصد الموت- شق طريقه الى الفلسفة).

وحدث انقسام حاد بين الفلاسفة المعاصرين فيما يتعلق بما اذا كان من الضروري اعتبار الموت موضوعا مناسبا للفلسفة من عدمه، وانفصال الفلاسفة التحليليون عن اولئك الذي يتعاطفون مع تصور اوسع نطاقا لمهمة الفلسفة باعتبارها تعنى كذلك بمسائل المصير النهائي للانسان ولكن هناك كذلك اشكالات اخرى للانقسام فقد هاجم برنشفيك صاحب الوضعية المنطقية حلقة فيّنا بشدة، هاجم جبرائيل مارسيل احد اقطاب الوجودية الحديثة وهو لاهوتي التفكير. وعند نيكولاي هارتمان (1882-1950) وهو فيلسوف الماني وضع مذهبا يدور حول الانطولوجيا النقدية، كما وضع مذهبا للاخلاق ونظرية القيم وعلم الجمال ونظرية المعرفة، فهو يتحدث عن رجال الميتافيزيقيا الذين يعذبون انفسهم، وينكر اهتمام الفلسفة بالموت، لان تعذيب الذات امر لا اخلاقي، ويذهب قائلا: اذا لم يكن الموت الا عدما، فانه لايمكن ان يكون شرا. غير ان شيلر يسخر من العبث الميتافيزيقي للفلاسفة الذين لا يرغبون في معالجة المسائل المطلقة، ومشكلة الموقف بشكل خاص، وفي غمرة نظر راسل الى الانسان باعتباره محكوما عليه بان يفقد احب الناس اليه وانه يمر هو ذاته في الغد عبر بوابات الظلام، فانه يدرك بصورة ملحة الحاجة الى شيء (يلوح للخيال وكأنه يحيا في سماء بعيدة عن فكي الزمان المفترسين).

ويكتب بردياييف: (انني لا اميل الى الخوف من الموت على نحو ما كان يفعل تولستوي على سبيل المثال، لكني شعرت بألم حاد ازاء فكرة الموت وبرغبة جامحة في اعادة الحياة لكل من ماتوا، وبدا لي قهر الموت المشكلة الاساسية للحياة، فالموت حدث اكثر اهمية وحيوية للحياة من الميلاد).

وفي عبارة كونفوشيوس المعاكسة (اننا لانعرف أي شيء عن الحياة، فكيف نستطيع ان نعرف شيئا عن الموت؟) فما لانعرفه عن الحياة أي معناها وهدفها المطلقين، يرتبط ارتباطا وثيقا بالموت، ومشكلة هذا الاخير اننا لانعرفه خير المعرفة.

الفلسفة تعنى بامور كثيرة منها الموت والامر يرجع الى الفيلسوف الفرد في متابعة المشكلات التي يعتقد انها هامة، لكن الفلسفة باهمالها لمشكلات الموت كلية انما تفصل نفسها عن احد ينابيعها الرئيسية التي تنشّط البحث الفلسفي بقوة تضاهي الفضول العقلي والدهشة.

وان الحجة القائلة بان الاهتمام بالموت يؤدي الى اهمال المهمة المحددة والملحة المتمثلة في تحسين الوضع الانساني والاهتمام بالرخاء والسعادة، تتجاهل واقعة ان الموت بدوره ينتمي الى الوضع الانساني العام، وان الابحاث التي اجريت في السنوات الاخيرة مقنعة بما يكفي لاظهار ان الشخص العادي يفكر في الموت اكثر بكثير مما يفترض عادة. واذا كان الادب ذو المعنى في عصرنا يصلح كمؤشر للمزاج الحديث، فيكفي ان نشير الى هيمنجواي، فوكنر، مالرو، كامو، ت.س، اليوت، وديلين توماس، فالموت يثقل كاهل شريحة هامة من الانسانية المعاصرة كما يجد البعض امكانية الاقتناع بان الحياة عبث، وانها مجردة من المعنى ولايحملها القلائل أي معنى آخر، وضروب الموت العبثية تبدو سطحية وموضع تشكك طالما انها ليست قابلة للتطبيق على ضروب الموت الاخرى.

ويقدم مالرو صياغة بليغة لذلك حينما يقول ان الحياة رخيصة في الوقت نفسه ما من شيء غال كالحياة، ويشير براتراندرسل قائلا: (ان اولئك الذين يحاولون ان يجعلوا من النزعة الانسانية التي لاتعترف بشيء اعظم من الانسان دينا، لايرضون عواطفي، رغم اني عاجز عن الايمان بان هناك في العالم على نحو ما نعرفه ما يمكن ان اقدره خارج نطاق الموجودات البشرية).

ننتقل الى احد اقطاب البراجماتية الامريكية وليم جيمس (1842-1910) وما يميزه عن غيره من فلاسفة البراجماتية هو رؤيته الخاصة الى قضايا الاعتقاد الديني، والحقيقة ان رؤية جيمس الدينية لا تصدر عن قناعة فكرية ولا تقوم على ايمان راسخ محدد، فهو في الحقيقة لايؤمن بالدين والديانات السماوية التوحيدية وهو ما نجده واضحا في قوله بان البراجماتية يمكن ان تكون دينية اذا ما كانت تؤمن بالتعدد والتطور.

ان البحث في الجانب الديني من براجماتية جيمس تكمن اهميته عن حقيقة موقف جيمس من الاعتقاد، والمعتقدات الدينية ويعدها نوعا من التجريبية النفسية الواقعية، وفي تأكيده على النفعية فقد جعل من الدين بضاعة تباع وتشترى على اساس الرغبة ومقدار نفعها وقيمتها المادية العاجلة.

يؤكد جيمس على الارادة انها حق الاختبار والاعتقاد يقوم على الرغبة الذاتية والمنفعة الشخصية، والاعتقاد لدى جيمس احد القوى النفسية ولابد ان يبقى عنصرا ثابتا من عناصر البناء الفلسفي، وخاصة لانه يحمل معه في كثير من الحالات براهينه، عليه فالدين عند جيمس اعتقاد فردي وموقف شخصي لايقرره منطق العلم، ولا يدعمه مصدر سماوي فالدين عند جيمس مجموعة وجدانات وافعال وتجارب يعانيها الافراد في وحدتهم كلما ادركوا انهم على علاقة مع أي شيء يعتبر الهاً، وان جوهر مثل هذا الدين الشخصي هو الاعتقاد.

ان جيمس لا يقر دينا معينا وبخاصة الاديان السماوية، التي يرى جيمس ان الايمان بها في طريقة الى الزوال قائلا: (انه لم يهتم بالاديان السماوية، وسيوجه همّه الى الديانة الشخصية، وان لكل متدين دينه الخاص). فاساس الدين عنده امر واقعي وشخصي وليس الدين في ذاته، الدين الواحد الثابت حقيقة مدرسية فارغة، فهناك من الاديان بمقدار ما يوجد من افراد، ولم يكن عبثا ان يضع وليم جيمس على كتابه عنوان (تعدد التجربة الدينية)، وعن القضايا الروحية يقول جيمس (لم يحتقر العلم على العموم شيئا من تلك البواقي غير المنسقة كما احتقر تلك المسائل الروحية الغامضة. اذ ان علم النفس المحافظ يعرض عنها، واما الطب فيبعدها كلية، ويصفها بـ (عمل الوهم والخيال).

ومن المسائل الروحية التي يذكرها جيمس هي: (التفكير الديني، والتفكير الاخلاقي، والخيال الشعري، والتفكير الغائي، والتفكير العاطفي والانفعالي، وكل ما يصفه الانسان بانه افكار شخصية ليميزه بذلك عن الاراء الآلية الميكانيكية، او كل ما يصفه بانه افكار رومانتيكية، كل هذه الافكار كانت ولا زالت خارجة عن الدائرة العلمية، وهي في نظر الميكانيكية العقلية، حديث خرافة).

ويؤكد جيمس: (لكننا لا ندري من اين أتت تلك الحاجة النفسية الى الاعتقاد في ان هذا العالم المشاهد ليس الا مجازا لعالم اخر اكثر منه روحانية وابدية. من القدرة والسلطان على النفوس هؤلاء الذين يشعرون بها مثل ما للحاجة النفسية الى الاعتقاد المطرد في قوانين السببية من قوة وسلطان على عقول العلماء)، ويعتبر جيمس حرية الاعتقاد ركيزة مهمة في تكوين قناعات الافراد، ويقول: (لنا الحق في ان نعتقد في بعض الموضوعات الدينية، على الرغم من انه قد لايكون لنا من الادلة المنطقية ما يكفي لاقناع قوانا العقلية). وفي تأكيده على حرية المعتقد الديني يتبين بحسب جيمس:

- حق الانسان الفرد في الاعتقاد بأن يؤيد فكرة مهما تبدو غير مناسبة لغيره من الافراد وتحقق المنفعة الذاتية له.

- الاعتقاد بالشيء ممكن، وان لم يدعمه دليل منطقي علمي.

- الاعتقاد قضية فرضية تصدر من تجربة نفسية ذاتية، وتخضع لقواعد المنهج العلمي في الفروض العلمية.

- الاعتقاد في موضوع من الموضوعات الاعتقادية، يصدر عن ارادة المعتقد في السلوك، وباصراره على الفعل دائما، ويدوم الاعتقاد اذا استمرت ارادة الفعل نحوه عند الفرد.

- الاعتقاد لابد ان يكون نافعا، محققا رغبات الفرد في حياته.

ويرى جيمس اذا كان الاعتقاد بالدين حقا فرديا، ولم تكن براهينه كافية، يكون الاعتقاد فرض يعتمد على المخاطرة، كما ان عدم الاعتقاد يقود الى المخاطرة ايضا. والاثنان ميل نفسي لا دليل قاطع يفصل بينهما. لذلك يدعو الى الاعتقاد الديني على وفق رؤية براجماتية خاصة تؤكد على ما هو عملي نفعي، يناقضه في ذلك البابا حين يدين الدفاع البراجماتي عن الدين، ويبين الرؤية الدينية القائمة على الايمان الراسخ بوجود الله دون تفكير في منفعة دنيوية عاجلة.

***

علي محمد اليوسف - الموصل

.....................................

الهوامش: المصدر كتاب (الموت في الفكر الفلسفي الغربي) جاك شورون، سلسلة عالم المعرفة. ت: امام عبد الفتاح امام.

في نهاية حياته، كتب هيرمن ميليفيل كتابا بعنوان الرجل الواثق: حفلة تنكرية. تدور أحداث الرواية على متن سفينة بخارية، وتتضمن مجموعة من الرسوم التوضيحية تتضمن محتالين، مخادعين، أغبياء. في عالم ميليفيل، ينقسم الناس الى ثلاثة أنواع: الواثقون بالمخادعين، المشككون، ذوي التعامل اللاشرعي. انت لا تحتاج لقراءة الرجل الواثق لمعرفة النهاية – السذج يأتون اخيرا. هم يتم مضغهم وبصقهم. ستتأكد ان أي مخدوع بارادته، سوف يكون فقير حالا.

الانسان يكذب طوال الوقت. أحدنا ربما كذب مؤخرا، معظم الناس يكذبون حوالي ثلاثين مرة في اليوم. الكذب أحد أهم الحيل لدينا للحصول على ميزة على الآخرين. وبهذا، فان الاتصالات الانسانية عادة تستلزم نوعا من سباق تسلح. الناس يحاولون خداعك، وانت سوف تطور وسائل لتحدّي خداعهم. الناس سوف يحاولون بيعك شيء ما، وانت سوف تتعلم الشك.

هذا قاد الفلاسفة والسايكولوجيون لصياغة فكرة "اليقضة المعرفية" epistemic vigilance". حجة اليقضة المعرفية تؤكد باننا نمتلك ترسانة من الأدوات الرقابية لتحديد وكشف الأكاذيب. في ورقة شهيرة حول الموضوع، جادل sperber بان "الناس لديهم آليات معرفية لليقضة الابستمية لمواجهة خطر تلقّي معلومات مضللة من الآخرين". نحن لدينا جهاز كشف الكذب.

حجة اليقضة المعرفية

هناك فرعان للحجة. الاول هو ان البالغين باستمرار يقيسون مدى الموثوقية بالاخرين. نحن نميل عموما للوثوق بمصداقية الاخرين واعتبار اكثرهم نزيهين. وبمرور الزمن، عندما يقول شخص ما قولا كذبا او يقوم بشيء خاطئ، نلجأ ليقضتنا المعرفية. نحن نقول، "اوكي، زيد بوضوح لا يعرف شيئا حول كرة القدم، لذا انا سوف لن أسأله مرة اخرى".

الملاحظة الثانية هي ان الاطفال يتعلمون في وقت مبكر جدا بمنْ يثقون او لا يثقون. السايكولوجي باسكال بوير لاحظ ان الاطفال الرضع "يبدون حساسين للفرق بين الخبراء والعاملين المبتدئين. لاحقا، الاطفال الصغار يستخدمون اشارات الكفاءة للحكم على مختلف أقوال الافراد، وعدم الوثوق باولئك الذين كانوا مخطئين في مواقف سابقة، او اولئك الذين يبدو مصممين على استغلال الآخرين".

الحجة لهذا السبب تؤكد ان الناس يولدون بمهارات معينة او آليات رقابية للبحث عن الحقيقة مقابل الزيف. لديهم يقضة معرفية.

خطأ منطقي

الفيلسوف جوزيف شيبير Joseph Shieber يرى ان شيئا خاطئا هنا. هو لا يعارض حقيقة اننا يقضين – الدليل يبدو يشير الى ذلك، لكنه يعارض تسمية هذا باليقضة المعرفية.

المشكلة هي ان الانسان أظهر مرة بعد اخرى انه خصيصا لا يجيد التمييز بين الحقيقة والكذب. وكما يذكر شيبير "رغم عدة عقود من البحث، الاستنتاج يُظهر ان الانسان فقير جدا في كشف الخداع". اذا كنا نمتلك جهازا داخليا لكشف الكذب، فهو غير دقيق، وفي أغلب الاحيان لا يعمل، وعادة يتشتت ذهنه بالأشياء الاخرى.

نحن ايضا لسنا جيدين بقول ما اذا كان شخص ما كفئاً. دراستان من عام 1996 الى 2005 اظهرتا كيف يستخدم الناس عوامل غير ابستمية لتقرير ما اذا كان شخص ما جيدا في مهنته. نحن نعتقد خطئا ان الشخص ذو الوجه الملائم هو كفء، او ان شخصا ما يمشي، يتحدث، ويبرز نفسه بطريقة معينة يمكن ان يكشف عن قدراته. في الحقيقة، لا أحد من هذه العوامل مسؤولة حقا عن الكفاءة او المصداقية.

اطروحة نيتشة (1)

اذاً، نحن تُركنا مع حقيقتين. نحن يقضين حول ما يقوله الناس، لكن يقضتنا لا ترتكز على أساس ادراكي. اذاً، أي نوع من اليقضة هي؟ شيبير صاغ تعبير "اطروحة نيتشة". هو يجادل ان "هدفنا في المحادثة ليس من حيث الاساس اكتساب معلومات موثوقة وانما الهدف هو "تجسيد ذاتي - ادارة انطباع الاخرين عنا والتحكم به". بكلمة اخرى، نحن نقبل او نرفض اقوالا مرتكزة على اهداف نفعية وليس على مصداقيتها. في كلمات نيتشة، نحن نقبل ونبحث عن الحقيقة فقط عندما تكون لها "نتائج سارة ومحافظة على الحياة".

وبالعكس، نحن كارهون"للحقائق المؤذية والمدمرة". نحن لا نمتلك يقضة ابستمية وانما يقضة ميكافيلية.

هناك ملاحظة هامة حول المجتمع الحديث الذي ربما يعطي مصداقية لأفكار شيبير: شعبية نظريات المؤامرة و هراء غرف الصدى(2).

 اذا كانت اليقضة المعرفية صحيحة، سنكون دائما مدققين للحقيقة وطاردين للمؤامرات طول الوقت. لكننا لسنا كذلك. عندما يلقي متحدث كاريزمي او مقنع بيانا، نحن نقبله في كثير من الاحيان بالارتكاز على خطوط ميكافيلية. انا سوف أقبله حين يحافظ على منزلتي الاجتماعية.

اطروحة شابير تعرض اسئلة كبيرة ليس فقط للفلسفة وانما ايضا للقانون: اذا لم يكن الناس يهتمون بالحقيقة، عندئذ كيف يمكن الوثوق بالشهادة في المحاكم؟ انها ايضا مسألة هامة يجب تذكّرها في تفاعلاتنا مع بعضنا البعض بالاضافة الى ما نقرأ، نسمع، نرى اونلاين. من الجيد ان نتذكر اننا سيئين جدا وايضا قليلي الاهتمام بالحقيقة. في أغلب الاحيان، نحن نهتم بالاشياء الاخرى غير المعرفية.

***

حاتم حميد محسن

............................

Big Think, November, 2023

الهوامش

(1) اطروحة نيتشة Nietzsche Thesis لا تشير الى اطروحة معينة لنيتشه معترف بها عالميا. انها تشير الى أهم الافكار والحجج المتناثرة التي وُجدت في جميع أعمال نيتشة الفلسفية.

(2) غرف الصدى تشير الى الافكار والآراء او المعلومات التي يتم تداولها باستمرار وتجسيدها ضمن نظام مغلق، مثل جماعة الاون لاين، حيث يتفاعل فيها فقط الافراد المتشابهين فكريا، بينما يتم استبعاد الرؤى المخالفة او تسقيطها. هذا يخلق موقفا يتم فيه تسليط الضوء على أفراد معينين وتعزيزعقائدهم القائمة، بما يقود الى تشويه الواقع او المبالغة بفهمه.غرف الصدى تخلق صدى بنفس الطريقة التي يحدث بها الصدى في الكنائس او الكهوف. هي دائما تكون واسعة ومغلقة وتنطوي على مساحات فارغة مسقفة ومحاطة بجدران ومواد تعكس الموجات الصوتية جيدا.

 

مهداة إلى صديقي الاستاذ خالد قاسم الطيار في البصرة – العراق

يقول المحلل النفسي الفرنسي " جاك لاكان " لاتوجد كلمة لكل شيء، فإذن مانقوله أو نعبر عنه بكلمات ليس هو صلب المعنى، أو الفكرة، أو الرأي، أو اتجاه الفرد الحقيقي، أو الاعلام، أو الدبلوماسية، أو لغة السياسة التي تلف وتدور متلاعبة بالكلمات.

فالكلمة التي تقال لا تصلح لكل الأفكار، لكل شيء، أو لكل الجمل، أو لكل معنى، فقول " جاك لاكان " لا توجد كلمة لكل شيء، هو صحيح تمامًا لو تعمقنا في تلك الكلمات وعمق معناها، هو اللاوعي – اللاشعور منبع الأفكار وخزين الكلمات التي تقال، وهي في الاساس قيلت ولو على المستوى المتخيل، لم تظهر للعلن، ولا حتى إلى التلفظ، فاللفظ يعني كلمات، تساؤلنا هل هذه الكلمات تدل على عمق المعنى في الكلمة ؟ رغم أننا في اللغة العربية لدينا ما يسمى فقه اللغة، هو وجود أكثر من معنى للكلمة الواحدة ولكن نعيها " في وعينا " ونعرف معناها، وهذا ما لا أقصده، بل أقصد الكلمة التي تدل على أكثر من معنى، فصحيح تمامًا لا توجد كلمة لكل شيء، الكلمة تعبر عن الشيء بذاته، وليس كل ذوات الأشياء المقصودة، ونحن نعرف أن دوال الكلمة يأخذ معاني لا نهاية لها، ودلالات مختلفة، فالكلمة دال وهي تمثل الذات نحو دال آخر، وعلمنا "لاكان" أن الدال له الاسبقية على المدلول، والدال هو المكون الواعي واللاواعي للغة الدال في التحليل النفسي، وهو العنصر المهم في الكلام، فالكلمة دال متعدد الأبعاد حسب الموقف الملفوظ به، وخلاله، وأثناء التعبير عنه، فاللفظ يأخذ في الكلمة عدة مدلولات.

ولذا فعالم الكلمات يصنع عالم الأشياء، وهو أنه يحولها إلى حضور له معنى عندما تغيب الأشياء في الواقع، وهو ما دونته الدكتورة " نيفين زيور " في كتابها جاك لاكان وإعادة ابتداع التحليل النفسي.

التخييل بوصفه نوعًا من التفكير كما يقول فرويد، التخييل اللاواعي هو الطريقة التي يحاول بها الإنسان تنظيم رغباته في مواجهة نقصه، وهو يشكل جزءً أساسيًا من هويته النفسية بوساطة التخييل أيضًا، وقول " سارتر " إنه ليس سراب في الفعل التخيلي تتغذى الرغبة من نفسها، ونقول بكلمات محددة ولكن تحمل الكثير من المعاني التي تغيب عن الإدراك.

ان عمليه الفهم " التي هي جزء لا يتجزأ من بعد المتخيل اللاكانى" تختزل اللا-مألوف وترده إلى المألوف كما عبر عن ذلك " بوريس فينيك ".

يمكننا القول أن ثمة استخدامات للكلمة غير مناسبة أنتشرت وتحتاج قرارًا يعتمد على الاستدلال، وهذا يقودنا إلى بلاغة اللغة فربما يكون واسع جدًا، وربما ضيق جدًا فيقول " بول ريكور " التعريف الواسع جدًا هو التعريف الذي يجعل الوظيفة الرمزية كما هي الوظيفة العامة للوساطة التي يبنى فيها الفكر، الوعي، كل عوالمه ونقول أنه التخييل وهو عوالم الإدراك والقول، فالكلمة تحمل عدة معاني لا في النص، أو في عدد حروفها " ثلاثية الحروف، أو رباعية الحروف، أو خماسية الحروف " أو ذات معنى، أو غير ذات معنى، فهي تحمل دلالات وإن بدت غير ذات دلالة.

يقول " ريكور " في كتابه في التفسير محاولة في فرويد أن كلمة رمزي تبدو أنها مناسبة جدًا للدلالة على الأدوات الثقافية لإدراكنا الواقع فكريًا: اللغة، الدين، الفن، العلم، فمهمة فلسفة للأشكال الرمزية أن تكون الحَكَم في الادعات بالمطلق لكل وظيفة من الوظائف الرمزية والنقائض المتعددة لمفهوم الثقافة الذي ينجم منها. وهذا ما يقودنا مرة أخرى لوظيفة الكلمة متعددة المعاني لا في العلن، بل في ما تحمله من معانٍ أخرى لا تبدو ظاهرة في ما تحمله فيضيف " ريكور" فلنتقدم بعض التقدم في التحليل الدلالي للعلامة والرمز، ففي كل علامة ناقل حسي هو حامل الوظيفة الدالة التي تنتهي إلى أنها صالحة لشيء آخر. ولكنني لن أقول إنني أفسر العلامة الحسية عندما أفهم ما تقول. فالتفسير يُحال إلى بنية قصدية من الدرجة الثانية تفترض أن معنى أول يتكون حيث يكون شيء منشودًا بصفة أولى، ولكن حيث يحيل هذا الشيء إلى شيء آخر لا ينشده إلا هو. ونتفق مع " ريكور " في كتابه الآخر الاستعارة الحية حيث يقول هناك عدد غير محدود من السياقات حيث يكون ضروريًا إعادة خلق مدلول العبارة الاستعارية وذلك اعتمادًا على نيَّات" نية " المتحدَّث، فضلا عن نبرة الصوت، وإطار العبارة اللفظية والعمق التاريخي التي تتضافر في توضيح الاستعارة المستخدمة للكلمة وعمق معناها حتى وإن غاب عن التفسير، فيظهر ذلك في قلب دّلالة الكلمة نفسها في مواضع مختلفة. وإذا اتفقنا، أو أختلفنا في معنى الكلمات " فــ فريدناند دي سوسير" يرى أن هناك الكلام الحقيقي والكلام الكامن، فيقول نسمي مقطعًا ما كان كلامًا حقيقيًا، هو التوليفة من العناصر المحتواة في قطعة كلام متحقق، وهو مقابل للتوازي، أو الكلام الكامن، أو مجموعة العناصر المصاغة من قِبَل العقل ومحتواة فيه، أو النظام الذي يتخذ بموجبه العنصر وجودًا مجردًا وسط عناصر ممكنة اخرى.

إن الكلمة تحمل جانب نفسي، وهي في الآن عينه تُكونُ الفكرة، وتبدو واضحة في الصوت، أو الكلمة نفسها ولا نغالي اذا قلنا أن ثمة تقابلا بين الكلمة والفكرة التي تعبر عنها والصوت بنبراته، رغم أن البعض من علماء اللغة يعدون ذلك لا خلاف فيه حيث تكون الكلمة والفكرة والصوت متحدان في اذهاننا، وأعتقد أن هناك فروق ربما من الصعب لمسها أو تحسسها في الوضع الطبيعي، لكن تبدو واضحة عند بعض العصابيين " مرضى النفس " مثل الشخصيات الحوازية – الوسواسية، أو ربما من لديهم إضطرابات نفسجسمية – سيكوسوماتية، أو الشخصيات القلقة في مواقف الحياة غير المرنة، أو في حالات الوهن النفسي حيث إن طابع التوجس المأساوي يأتي من حقيقة أن العقل يجبر نفسه على إعادة انتاج الشيء الذي يخافه بكلمات تحمل أكثر من معنى رغم وضوحها، ويبدو ذلك بشكل أعمق وأوضح لدى الذهاني " مريض العقل " الفصام إنموذجًا، فهو يُحملْ الكلمة أكثر من بعدها الذي يقال، وما يُخفى خلفه من معاني وخبرات ربما مؤلمة، والمثل الشعبي المتداول هو خذ الحكمة من أفواه المجانين.

لدينا في اللغة العربية ما يعرف بفقه اللغة، وهو تعدد معاني الكلمة، حتى تصل الكلمة لاكثر من عشرين معنى لها، لا في القراءة الصامتة، بل في اللفظ والتلفظ، وربما نقول في صدى الكلمة حينما تنطق ومن الصعب على الأعاجم من غير العرب أن ينطق بها كما ينطق بها العربي، وهذا الرأي يقودنا إلى دراسة اللسان بجانبه اللغوي، وليس بجانبه النفسي، ويرى علماء اللغة بأن الجانب النفسي هو بكل بساطة الفكر أو الدلالة، ويذهب بشكل أعمق من تخصص في علم اللغة حيث وجد العشرات، بل المئات من الكلمة الشبيهة لها، ودليل آخر هو لغة النص القرآني الذي ينطبق عليه قول " لاكان " لا توجد كلمة لكل شيء. دعونا نبحر في النفس الإنسانية وما تقوله في كلمات منطوقة.   الكلمة طالما هي مرتبطة في اللاشعور – اللاوعي فهي لا تعبر عن كل المواقف، والمحادثات ويمكن تعميمها، حيث هي الشيء الذي يعطي معناه حسب ما يقال، ويخفي خلفه ما لايقال، وربما نتفق مع فيلسوف اللغة " لودفيج فتجنشتين ونختلف معه في الوقت نفسه حيث يرى كل ما يمكن التفكير فيه على الأطلاق، يُمكن التفكير فيه بوضوح، وكل ما يُمكن أن يقال، يُمكن قوله بوضوح، إلا إننا نتفق مع " جاك لاكان" حينما يقول انا دائمًا أقول الحقيقة، لكن ليس كل الحقيقة، لأننا وبكل بساطة لا نستطيع أن نقول كل شيء، هناك دائمًا شيء ما يتوارى خلف الكلمات، شيء يختبئ في الصمت، في الفجوات، وفي ما لا يقال. الحقيقة ليست في ما نقوله فقط، بل أيضًا فيما يتعذر علينا قوله، وأفضل ما نشاهده اليوم في عالمنا المعاصر هو لغة الاعلام وما يحمله من كلمات بها لف ودوران وغير وضوح في المعنى، والإنسان الساذج الذي يرى المعنى الظاهر من الكلمة دون أن يتمعن في باطن الكلمة وبعدها، والأخطر أيضًا في عالمنا اليوم هي ما تطرحه السياسة في كلمات محورة قابلة للفهم من عدة محاور، فالكلمة في التداول الدبلوماسي ليست هي الكلمة المقصودة، وهي قابلة للتأويل، وقابلة لفهم معنى آخر ربما أخفى صاحبها عمدًا أو بغير ذي قصد، ولا نخفي على الآخرين معلومة عن استخدام الكلمات في كلام ثقافات معينة مثل الثقافة الغربية حيث كل كلمة لا تدل على المعنى الواضح لما نطق بها، وعندما تسأل قائلها، يقول لك لماذا قصدت ذلك، وبينت المعنى الآخر، يجيب وبكل طلاقة وسهولة وحيلة باستخدام الكلمات، أنك لم تقل لي ما تريد لكي اصيغ ما تريده. في هذه الثقافات ومنها الغربية بالتحديد أنها تلون الكلمة بأشكال تحمل عدة مفاهيم ومعاني، وسابقًا علمونا في المدرسة الكلمة ومعناها، وهو درس من الثقافات الغربية التي وضعت أساس التربية والتعليم في البلدان التي استعمرتها، ولم نفهم حينها إن الكلمة ومعناها، ليس المقصود بالمعنى بالتحديد، وإنما الكلمة والعديد من المعنى، هذا المعنى يتغير حسب متطلبات دينامية النفس عبر اللاوعي – اللاشعور وهو أعمق خزين يحمله الإنسان فيعود بالكلمة محرفة، مشوهة مطلية بألوان ما يحمله الفرد من محبة أو حقد على الآخر فرد أو مجتمع أو شعب، فالكلمة هي السياسة اليوم، هي الاعلام، هي الثقافة التي يبثها فينا من يريد تغيير اتجاهاتنا نحو شيء ما. الكلمة لا تحمل معناها فقط، بل تحمل حقارتها أو حقدها أو تحيزها نحو ما ترغب تلك السياسة، أو إدارة الشعوب وتغيير إتجاهات الناس نحو موضوع معين، وهذا يجسد سياسة بعض الدول في التأثير بوساطة الكلمة على عقول البعض، وحتى الحرب رغم قساوتها تستخدم الدول المتحاربة الكلمة في التأثير النفسي على المعنويات، تُجمل المعنى بالكلمة فتقول احدى الدول التب بدأت الحرب على دولة أخرى هناك تفهم دولي لعملياتنا العسكرية ضد إيران، هذا النص بمجموعة الكلمات معتم، غير مفهوم، الكلمة فيها ذات أبعاد لا نهاية لها، تبقى هي الكلمة لا توجد لكل شيء.

***

د. اسعد الامارة

1.  تناولت سابقا باكثر من مقال متناقضات هيدجر المستترة خلف تعابير غامضة غير مفهومة لا قيمة فلسفية لها بخلاف الذين يرون الغراب صقرا.

عثرت مؤخرا على عبارة لهيدجر فاتني التعقيب عليها بمقالاتي الثمانية السابقة المنشورة لي عنه في مناقشة بعض ما ورد بكتابه الشهير (الكينونة والزمان) حيث يقول متفلسفا (الموجود هناك الديزاين الانسان هو ركض الموت الى العدم).

الموت في الفلسفة او بالعلم هو مرادف لفظي للعدم ولا فرق ان تقول موت او ان تقول عدما فانك بكلا المفردتين انما تقصد فناء الكائنات الحيّة بيولوجيا بما لا تدركه عقولنا من سبب ذلك ولا من كيفية. في مقدمة هذه الكائنات التي يطالها الفناء الارضي هو الانسان.

والموت والعدم هما دلالة متطابقة بالجوهر والصفات غير المدركة عقليا. فالشخص يعرف دلالة الموت انها دلالة العدم لكنه يعجز عن تفسير ماهية كل من المفردتين ماهو الموت وما هو العدم؟. اذن كيف يركض الموت نحو العدم وكلاهما دلالة فناء الكائنات الحية.؟ الموت والعدم تعبرّان عن مدلول واحد هو الفناء البيولوجي للكائنات الحية. الجمادات قد تهرم وتشيخ مثل الاثار لكن لا يطالها الموت.

لو نحن اعتبرنا الموت او العدم لافرق في التسمية ولا في الدلالة انه (ذات) وهو ليس بذات لسببين الاول الذات تدرك ذاتيتها وتعيها لانها تمتلك الحياة، وتعرف خاصية ذاتيتها بالتأمل العقلي لوجودها بحسب تعليل ديكارت الذات او العقل خاصية تفكيره هو اثبات وجوده الانطولوجي. وهذا لا ينطبق على الموت او العدم فالموت لا يدرك ذاتيته كما ولا تدرك عقولنا ان الموت يمتلك ذاتا يدركها تهرول نحو الفناء العدمي. الموت او الفناء ليس جزءا من الانسان بل هو جزء هام ومهم من الحياة.

والسبب الثاني ان الموت لا يمتلك ذاتا ولا كينونة ولا روح ندركها. الذات تدرك ذاتيتها ليس بالتفكير المجرد فقط وانما بالمغايرة الموجودية مع غيرها من موجودات الوجود في الطبيعة والعالم من حولنا..

لذا الموت او العدم هو اللاشيء الذي لا يدركه العقل بغير دلالة ناتج افنائه الكائنات الحية. اللاشيئية العدمية للعدم او الموت هو اللفظ الدلالي الذي يعجز العقل معرفته الماهوية بغير نتائجه الافنائية للاحياء. العدم او الموت لا يطال ما ليس له روح تعيش الحياة اي الموت لا يميت حجرا مثلا.

اذكر مقولة هيدجر الثانية الخاطئة قوله العدم لا يعدم نفسه اذ من البديهي اننا نعجز ان نقول الموت لا يميت نفسه كي لا نصبح اضحوكة كما فعل هيدجر. فاللاشيء(الموت – العدم) الذي لا يدركه العقل غير موجود إدراكا ليموت ونحن ندرك نتائجه في اعراض مفارقة الروح للجسم او بقائها فيه ميتا نعرفه بدلالة اعراض الموت الاخرى المعروفة في توقف جميع اجهزة بقاء الحياة بالجسم البايولوجي تعمل بدءا من توقف القلب فقدان الاحاسيس كافة توقف التنفس عدم الحركة فقدان الوعي الدماغي والحسي الجسمي الخ. وذلك لان العلم لم يتوصل لحد الان كيف يموت الكائن الحي وكيف تفارق الروح المزعومة الجسد اكثر من معرفة نتائجه التي يدركها العقل على انها لم تعد طبيعية تعيش الحياة كما نعيشها نحن؟

2.  اذا قلنا الحاضر وهم افتراضي لا زمني فهو لحظة لا زمنية منحلة لانه غير محدد بدلالة غيره من مدركات. والزمن هو الاخر وهم دلالة لا وجود ادراك عقلي لتحديد وجوده غير الدلالي في ملازمته لكل شيء لا نهائي ازلي سرمدي لا يقبل القسمة على نفسه ولا يتجزا ولا يوجد بالكون وعلى الارض زمانان اثنان مختلفان بالماهية والصفات احدهما نسبي على الارض والاخر مطلق كوني في الفضاء بعد اختراع انشتاين النسبية العامة 1915 فانعدم المطلق الزمني الذي قال به ارسطو واحتذاه اسحق نيوتن واصبح نسبيا. افكارنا التي نطلقها شفاهيا في لحظة من الحاضر لا تلبث ان تصبح بعد ثوان ماض بالدلالة الزمنية وليس التاريخية. الزمن الحاضر يختلف عن تاريخية وجود الاشياء في الافكار المعبّرة عنها.

صناعة البنية الفكرية والاجتماعية للحاضر الوهمي غير المتحقق ادراكيا يتوزعها ماض استذكاري تكون فيه الوقائع التاريخية في الماضي قد اكتسبت ثباتها. بتوثيق زمني لا يكتسب دلالته الحقيقية الا بملازمته التعريف بوقائع التاريخ الماضي.

الحاضر الزمني في حقيقته هو الماضي الزمني وليس التاريخي في لحظة سيرورته الانتقالية من انحلال الحاضر كلحظة زمنية وهمية الى ماض زمني.

كما ان الحاضر لا يصنع المستقبل لانه وجود زمني افتراضي غير موجود. لذا يكون المستقبل سيرورة تتشكل من ماض يعبر لحظة الحاضر الوهمية وتكون الوقائع التاريخية بالماضي سابقة على وجود الزمن. ارسطو ومن قبله افلاطون اكدا ان لحظة الحاضر وهم لا زمني حقيقي اي انه لا يدرك بدلالة شيئية ثابتة زمنيا مثل زمانية الماضي الثابتة تاريخيا وليس الثابتة زمانيا.

3. مذهب وحدة الوجود يكون مطلقا ميتافيزيقيا صوفيا يجمع بين الدين والطبيعة والفلسفة. مذهب وحدة الوجود يفقد حقيقة معناه في الصوفية التي يعتبرونها المتصوفة هي وسيلة تلاقي ذات الصوفي بالحلول الالهي النوراني وهو ما لا يتحقق بسبب عدم توفر مجانسة نوعية واحدة تجمع خصيصة الذات الصوفية الروحانية مع خصيصة الذات الالهية غير المدركة لا بالعقل ولا في ما وراء العقل اي في التجربة الروحية. بهذا المعنى تكون التجربة الصوفية روحانية تدور في فلك ذاتيتها الانسانوية التي تفترض حلولها التواصلي مع الذات الالهية وهي لم تغادر مادية وجودها الارضي.. فالذات الالهية لا تمتلك الروحانية البشرية المدركة صوفيا في مجانستها الروحانية الصوفية التي هي في كل حالات التجربة الصوفية لا تغادر مواقع اقدامها.

الذات الالهية لا تجانس الذات الروحية البشرية لا بالماهية ولا بالصفات لذا تبقى الذات الصوفية روحانية مرتبطة بالارض على خلاف الذات الالهية المرتبطة بنفسها بما لا يستطيع العقل ادراكها.

4. الموضعة اللغوية في تعبيرها التجريدي عن الاشياء هي ادخار معرفي بها وليس اضافة تكوينية لها. الموضعة هي تلك القراءات التاويلية التداولية للادرك المتطور تعيد وتضيف وتعدل التي هي في حقيقتها تجريد تعبيري لغوي عن تلك الاشياء المدركة.تساؤلنا هل الموضعة اللغوية المتعالقة بالفهم تكون معطيات مكتسبة قبلية عن ذالك الشيء ام هي معطيات فطرية عنها؟

لا يوجد افكار فطرية معرفية قبلية غير مكتسبة بالخبرة عن الاشياء. اما بالنسبة للزمكان فهو وعي العقل لفراغ احتوائي للاشياء يوجد باستقلالية. فهو اي الزمكان لا يدخل مع الاشياء التي يحتويها بعلاقة موضعة تعريفية بها. ولا يدخل بعلاقة جدلية ديالكتيكية او تكاملية معرفية معها بل يبقى احتواء الزمكان للاشياء حياديا كما هي علاقة الزمن الافتراضي في ملازمته وجود الاشياء. وتكون افصاحات العقل عن مدركاته من الاشياء التي يحتويها الزمكان هو الافصاح عن علاقات تلك الاشياء المادية البينية مع بعضها. وبهذا تكون الموضعة اللغوية تحت وصاية العقل مادية في علاقة تكامل معرفي. الشيء الاهم هو الاقرار بحقيقة ان المادة لا تتموضع مع غيرها من الاشياء بغير علاقة تجريدية لا تعي ذاتها ولا تدرك موضوعها.

5. نسب احدهم لافلاطون قوله: تكلم كي اراك. ونسب لدوستوفسكي قوله، تكلم كي اعرفك. وتساءل أيّا من التعبيرين صحيحا وترك الامر غير مكترث بالعثور على جواب فلسفي صحيح من متصفحي موقع التواصل الاجتماعي.

طبعا الاصح قول افلاطون اذا اعتبرنا الرؤية بمعنى المعرفة وليس بمعنى الابصار الحسي بالعينين وهو ما كان يقصده افلاطون. فالابصارهو ادراك الموجود وليس معرفته. اراد دوستوفسكي بعبارته معرفة المتكلم بكلامه قوله (تكلم كي اعرفك) كون كلام المتحدث اليه لا ينقل له صورته الشخصية وانما ينقل له افكاره التي تعرّف به لغويا. رؤية الشيء بابصاره النظري هو ادراكه الحسي فقط اي استلام الانطباعات الحسية المنقولة عن الحواس عنه وليس معرفته كماهية وجوهر وصفات وعلاقات بغيره. والادراك انطباع اولي مؤقت محكوم بالزوال في طريقه داخل المنظومة العقلية وصولا للدماغ. ادراك الشيء بالحواس مرحلة اولى في سلسلة تراتيبية منظومة العقل الادراكية، رؤية الشيء معناه ان تدركه بصفاته الخارجية الحسية ولا تشمل هذه الرؤية الادراكية الاولية معرفة الشيء بالماهية او الجوهر. المعرفة وعي اشمل من الادراك الحسي.

6. في البدء الادراك هو ليس الوعي بالشيء. ان تدرك الشيء بالحواس هو معرفة موجوديته كموضوع وتسمى هذه العملية المحسوسات في شكل الانطباعات الاولية. اما وعي الشيء او الموضوع فهو معرفة حقيقته عقليا وليس حسيّا فقط. دأب فلاسفة عديدون الى تقسيم الموجود المدرك كموضوع الى مظهر هو الصفات الخارجية له والى محتوى دفين يدعى الجوهر. وهو تشبيه مرادف لقولنا شكل الشيء ومحتواه.

وخلاصة القول ان مقولة لماذا لا يكون مضمون الشيء منفصلا عن قابلية ادراكه التي يمتلكها الموجود المادي الشيئي كينونة موحدة مستقلة؟ مقولة خاطئة وفرضية تعسفية تحاول وضع العربة امام الحصان لاسباب اوضحتها سابقا واوجزها بكلمات:

اولا قابلية الادراك هي كيفية وسيرورة تجمع بين المادة وادراكها كما هي وسيلة معرفية لا تمتلكها المدركات لاتموضعا ماديا فيها ولا تجريدا تعبيريا يصدر عنها. بل يمتلكها الحس والوعي العقلي لها فقط.

ثانيا مضمون الشيء لا يكون موضوعا لادراك قائم لوحده منفصلا عن موجوديته المادية الموحدة شكلا ومحتوى. المضمون يحتاج دائما لشكل يحتويه وبغير هذه الملازمة لا يمكننا تصور مضمون بلا شكل يحتويه. كما ولا يمكننا تصور شكلا خاليا من مضمون او محتوى دلالي عليه كما في مثال الرسوم الهندسية المجردة فالخطوط التي يتشكل منها الشكل الهندسي تحدد مضمونه الهندسي الذي ندركه للوهلة الاولى فارغا ما عدا محدداته المستقيمة. في أن يكون دلالة على مثلث او مستطيل او دائرة وهكذا. اي ان ابعاد اشكال الخطوط الهندسية المجردة اعطت للحيّز المكاني الذي احتوته مضمونا متفردا هندسيا. المثلث نقصده ادراكيا بالتسمية على اساس خطوطه الثلاث ونحن لا ندرك من الوهلة الاولى الادراكية ان للمثلث ثلاثة زوايا مقدارها 180 درجة احدها زاوية قائمة الا بمعرفة مضمون المثلث واستعمالاته وليس في ادركنا شكله التخطيطي كخطوط مجردة.

ثالثا الادراك لا يجزيء موضوع ادراكه الى شكل هو الصفات الخارجية والى مضمون او محتوى هو جوهره وماهيته. فالادراك هو وعي كينونة الشيء الموحد في كليته الكينونية الموجودية البائنة للادراك. ويكون معنا اعجاز عقلي ادراكي ان نتصور مضمونا لا يحتويه شكل يدركه العقل. وبالعكس ايضا استحالة ادراكية ان تجد شكلا مجردا بلا مضمون يحتويه يمكن للعقل ادراكه كموضوع.

رابعا الصفات الخارجية هي كينونة موجودية موحدة وليس من خاصية الادراك الحسي احتوائها على جوهر او مضمون يستقر خلفها. وعندما نقول امكانية ان يكون المضمون (موضوعا) لادراك فهي فرضية خاطئة فالمضمون لا يكون موضوعا لادراك لا يحتويه (شكل) الذي هو الصفات الخارجية للشيء. الادراك يدرك كينونة كليّة واحدة وليس اجزاءا متناثرة. بمعنى لا تدرك الصفات الخارجية لوحدها ويدرك الجوهر المحتجب خلف تلك الصفات لوحده هذا غير ممكن.

7. من مقولات بيركلي المثالية (وجود الشيء هو قابليته ان يكون موضوعا لادراك) وهي مقولة خاطئة كما نوضحه لاحقا..

وجود الشيء لا تحدده صفة ان يكون موضوعا لادراك. بل وجود الشيء موضوعا ندركه تاتي من خاصية موجوديته الانطولوجية التي يدركها الحس والعقل. وليس كما ذهب له بيركلي وجود الشيء هو قابليته ان يكون موضوعا لادراك.

كما ان خاصية ان يمتلك وجود الشيء قابلية ادراكه ليست صحيحة. فقابلية الادراك يحددها الحس والوعي بالشيء ولا تمتلكه الاشياء المدركة المستقلة ذاتيا. ولا يفرض الشيء قابلية ادراكه الزائفة على الحواس والعقل لتكون صفة به كموجود.

النقطة الاخيرة من يحدد ان يكون الموجود موضوعا لادراك؟ هل يحدد ذلك مضمونه (جوهره)؟ ام يحدده الشكل الخارجي في الصفات المدركة له؟. الحقيقة ان الشكل الخارجي او الصفات الخارجية للموجودات تجعل منها موضوعا ماديا تدركه الحواس والعقل. اما جوهر او ماهية اي شيء لا يكون موضوعا كونه لا يدرك بينما صفاته الخارجية تكون موضوعا.

الادراك الحسي لا يدرك مواضيعه لمعرفة مضامينها الجوهرية. فادراك الحواس ينحصر بالصفات الخارجية للشيء فقط. وادراك الشيء حسب بيركلي هو ادراك كينونة موجودية موحدة شكلا اي صفات خارجية وماهية اي جوهردفين. وهما كينونة غير قابلة للانفصال لانها بالانفصال الوهمي غير القابل تحقيقه تفقد وجودها الانطولوجي. خلاصة ماذكرناه بالضد من بيركلي يمكننا تلخيصه بنقطتين،

الاولى وجود الشيء لا تحدد قابلية ادراكه كموجود يمتلك قابلية ادراكه ذاتيا، بل قابلية الادراك تحدده الحواس والعقل. قابلية الادراك بالاشياء هو خاصية الحواس والوعي وليس قابلية الادراك موجودة في الموضوع الذي يدركه العقل والحواس.

الثانية وجود الشيء الحقيقي هو عندما يكون موضوعا يحتويه شكل ومضمون. فالحواس والعقل لا يدركان موضوعا لا وجود حقيقي واقعي له لا على صعيد المادة ولا على صعيد موضوعات الخيال.

8. يذهب فلاسفة الوضعية المنطقية التحليلية حلقة فينا بزعامة انشليك التي انحلت لتبعث نفسها في حلقة اكسفورد بلندن بزعامة بيرترانرسل. هؤلاء الفلاسفة يرون وظيفة الفلسفة الحقيقية هي (تحليل العلم) (وعماد هذا التحليل انما يكون في توضيح منطق اللغة في التعبير عن التراكيب العلمية التي تحوي الالفاظ والتعريفات لكي يتمكن الفيلسوف من تحليل الكلام ويفرغه ويجرده.) نقلا عن زكريا ابراهيم.

سنجد لدى كارناب تعارضا مع ما مر ذكره بالعبارة وهو احد فلاسفة الوضعية المنطقية التحليلية حلقة اكسفورد نجده يقول، لا علاقة بين لغة الفلسفة والعلم ولا يقع على عاتق اللغة توضيح وتحليل قضايا العلم. فالعلم له اختصاصاته التي يقوم عليها العلماء وليس الفلاسفة.

بهذا المعنى التحليلي الذي يجد حقيقة الفلسفة في تحليل وتوضيح قضايا العلم تكون الفلسفة ملحقا منطقيا تحليليا لقضايا العلم. نعتقد ان لغة العلم لا تحتاج دوما اللغة المعرفية الفلسفية او الفكرية عموما لتوضيح قضاياه. وحقيقة الفلسفة اللغوية انها نسق نمطي يفسر كل ما يصادفه من قضايا تهم حياتنا وعالمنا الخارجي والداخلي.

النسق اللغوي المنطقي للفلسفة يوازي قضايا العلم ولا يقاطعها. بل تعمد الفلسفة ملازمة قضايا العلم بمنهج معرفي هو التخارج المعرفي لكليهما. من الخطأ الفادح الاخذ بالمقولة الفلسفة هي ام كل العلوم.

اول ملاحظة يجب ابعادها عن تفكيرنا ان منطق الفلسفة لا يدخل بعلاقة ديالكتيك جدلي مع قضايا العلم حتى في نقد الفلسفة لتلك القضايا العلمية. واذا ما حاولنا افتراض تطابق لغتي الفلسفة والعلم من حيث تجمعهما تركيبة نحوية وقواعد وصرف وغير ذلك من ثوابت اللغة ونظامها الخاص بها في حين تكون غالبية لغة العلم هي معادلات رمزية تشمل الرياضيات والفيزياء والكيمياء وباقي العلوم الاخرى. ولا تتعامل مع السردية اللغوية الناقدة او الموضّحة.. علاقة لغة الفلسفة مع قضايا العلم هي لغة متابعة نقدية وتخارج معرفي متبادل للافكار بينهما.

النسق اللغوي الخاص بلغة معينة لا يتداخل ولا يتخارج معرفيا بحيادية متوازية لا تغني العلم ولا تغتني هي نفسها منه. مهمة توضيح اللغة لقضايا العلم التي اشار لها فلاسفة التحليلية المنطقية جعل من لغة الفلسفة تابعا يحمل حقيقة انه يقوم بتوضيح قضايا العلم وتحليلها وتبسيطها ولا اكثر من ذلك. نص الفلسفة يوازي سردية الدين وتجريبية العلم ولا يصطدم بهما.

على رحابة وشساعة رقعة تاريخ المنجزات العلمية الجبارة الهائلة فهي الى جانبها نشأ تاريخ الفلسفة البشرية الموغل بالقدم وتنوع قضاياه ومواضيعه ربما قبل البدايات العلمية. فالفلسفة ظهرت في الميتافيزيقا والانثروبولوجيا مثلا قبل التخصصات العلمية في بداياتها اكتشافات قوانين الطبيعة في الفيزياء..... وحين تكون حقيقة الفلسفة التي اشار لها التحليليون المنطقيون تتلخص مهمتها في توضيح قضايا العلم فهذا التقزيم التبعي للغة الفلسفة امام قضايا العلم التجريبي غير كاف. الحقيقة التي يجب ان لا تقاس بالحجوم مابين العلم واللغة هي اللغة عامة ولغة الفلسفة خاصة اشمل من الاهتمام بقضايا العلم كي تؤكد حقيقتها الملتبسة امام العلم.

تحليل اللغة بعيدا عن التطرق الى مضامينها وحواملها يجعل من اللغة نسقا شكليا مستقلا عن الحياة وهذا ما اكده جورج مور وفينجشتين المتاخر. كلاهما اكدا اهمية مضمون ما تهدف له اللغة تعبيرا قبل الاهتمام بشكل الصياغة اللغوية.

ماوراء اللغة الذي اشار له (آير) حسب ماتقوله الفلسفة ولا اعرف مصطلح (مافوق اللغة) الذي نحته سكينر صاحب نظرية السلوك اللفظي هما نفس المصطلح ام مختلفان؟ (كتبت مقالتين منشورتين عن مصطلح مافوق اللغة واجريت اسقاطا للمصطلح على لغتنا العربية فلقي اقبالا على كوكل ونافذة نبأ والعديد من المواقع المرموقة منها المثقف والحوار المتمدن). ماوراء اللغة التي اشار لها آير هي النسق اللغوي الذي يلاحق حمولات ومضامين قضايا معبرا عنها لغويا بعيدا عن التجنيس الادبي او الفلسفي في صياغاتها اللغوية.

الفلسفة ليست توضيحا لمنطق استقصاءات بعض قضايا العلم وتحليلها توضيحيا. الفلسفة ليست شارحة سردية توضيحية بل هي فعالية فكرية ناقدة تحكمها منظومة منطقية مهمتها اثارة سلسلة من التساؤلات المعقدة امام العلم وامام غالبية الوسائل المعرفية الاخرى..ليس مهما ان وظيفة الفلسفة تفسير الاستقصاءات العلمية بلغة الفلسفة. بل وظيفتها الحقيقية اثارة ما يجهله العلم او يحاول اهماله والعبور من فوقه. العلم عابر للفلسفة التي تحاول عدم التبعية والانجرار وراء العلم.

الشيء الذي نراه مهما ان العلم يتطور بقضاياه حتى في عدم ملازمة لغوية ناقدة لما يقوله وفي معزل عنها. فالعلم يشتغل بلغة المعادلات الرياضية والرموز وليس بلغة الفلسفة. كذلك الفلسفة وان كانت مركزيتها التعبيرية اللغة. لذا تستطيع المطاولة الزمنية ان تطرح قضايا فلسفية بعيدا عن اهتمامات العلم الاثيرة عنده.

اذا كانت اللغة مركزية في جميع اجناس التعبير عن الحياة والطبيعة وقضايا العلم والانسان. لكن مع هذا تحتفظ هذه المركزيات الاجناسية المعرفية ليس في اهمية استحالة محو ملازمة اللغة لما تريده. لكن من حيث ان اللغة ليست مهمتها مقتصرة في احادية (نقد وتوضيح وتحليل قضايا العلم) والا كانت الفلسفة اندمجت في هيكلية قضايا العلم منذ امد بعيد.

9. الحقيقة الانثروبولوجية خارج او داخل حقيقة الفلسفة او الابستمولوجيا والعلم مصطلح طوباوي وليس نسبيا فقط. كلما بحثت عنه وجدته سرابا خادعا لعقولنا. لذا حقيقة وجودنا الانثروبولوجي الذي نعيشه على كوكب الارض انما هي صيرورة دائبة الحركة لحقيقة وهمية لا نهائية غير مدركة كما لا يمكن الوصول لها. الفلسفة مهمتها البحث عن الحقيقة لكنها ليست حقيقة في جميع مباحثها. الفلسفة مجموعة من التساؤلات الادهاشية على طريق السعي لبلوغ مطلق الحقيقة الذي لايمكن تحققه.

كل حقائقنا العلمية والفلسفية وفي مختلف شؤون الانسانيات هي جميعها وهم الصيرورة الخادعة في مسار مطلق الحقيقة، ولا تتوفر لدينا حقائق منطقية ماثلة ندركها في تزامنها الابدي معنا. قد تذهب السذاجة بالبعض قولهم حقيقة الشيء هو في ادراك الدال والمدلول عن ذلك الشيء. اي حقيقة الشيء واقعيته هذا التعبير خاطيء.

اذا تمكنت نظرية الكوانتم الفيزيائية اثبات اننا نعيش موزعين روحيا على اكوان عديدة احدها هذا الكون المتخلق عن الانفجار العظيم حينها يصبح موت الانسان على كوكب الارض ليس فناءا بل خلود ابدي للروح.. ويصبح موت الانسان العوبة اذا مات الانسان هنا فانه سيذهب الى العيش في كون اخر، بمعنى الموت على الارض حياة ثانية تنبعث حيّة في كون اخر لا يضم الارض ولا المجرات ولا الحلزونيات الدودية المظلمة التي لا يعرف الانسان ماهي ومن اين امتلكت قابلية الجاذبية المذهلة التي لا تتصورها عقولنا. هذا الراي لا يعارض مفهوم خلود الانسان في الجنة والنار من الناحية الدينية. جاذبية الثقوب السوداء الفضائية لا يتصورها العقل البشري من حيث لا يمكن لاي شيء الافلات منها ولا حتى الجسيمات او الموجات الكهرومغناطيسية المشعة. قضية مستقبلية اخرى يواجهها الانسان بيولوجيا هو لماذا يموت الانسان وماهو سبب الموت سواء اكان مرضيا ام نتيجة حادث.؟ الانسان كائن بيولوجي محكوم بالشيخوخة والهرم ثم الموت ولا علاقة لهذه الانتقالات بحياة الانسان انها محكومة بالزمن. الزمن افتراض وهمي محايد في ادراكاتنا الاشياء.

10. السؤال طالما كانت الفلسفة تجريدا يماثل الالتقاء مع تجريدية اللغة والتي أيّد هذا التكامل كلا من هيدجر ومن بعده فوكو فماذا اضاف هذا التلاقي على صعيد البنية المضمونية بالنسبة لثيمة الالتزام بالفلسفة؟ ولماذا فشل هذا المسعى الذي عبّر عنه هيدجر وفوكو ان عوالم الشعر التجريدية وضعت بصمتها الجوهرية في تداعيات لغة اللاشعور في كل من لغة الشعر وتكاملها الوجودي الفلسفي مع لغة الجنون واعتبرا هذا التعبير الخارج على نظامية تحقيق المعنى اللغوي في التواصل هو اصدق تعبير عن عالمنا الزائف بكل شيء منها تعبير لغة الفلسفة في تضليلها العقل. واعتبرا حقيقة الوجود هو ما يمثله الجنون والشعر في تعبيرهما عن لغة تداعيات اللاشعور و تبشيرهما بعالم حقيقي جديد هو غير عالمنا الذي نعيشه..

وهذه الثنائية بين لغة الشعر السائبة بلا معنى تحت راية تقليد الحداثة الغربية، وهذاءات وغطرفة لغة المجانين في اصوات ايضا لامعنى لها في التزام نيتشة وهيدجر وفوكو الشاعر الالماني هولدرين. ان هذه النماذج من القول الفارغ بلا معنى في تفسيره المعلن والخفي هو الذي يمثل الوجود الحقيقي بما نطمح تحقيقه في ازاحة وجودنا الزائف الذي نعيشه بنفاق كاذب..... هذه دوغمائية في التعبير الفلسفي في محاولة تطويع الافكار المجردة تغييبها الواقع العياني الماثل.

تعقيب حول اعجاب نيتشة وهيدجر وفوكو بتجربة هولدرين الشعرية هو ان الشاعر الالماني هولدرين تحت وطأة هذا الانحراف الهستيري جاءت تجربته الشعرية في تقمص هولدرين حالة الجنون كي يصل اعماق الحفريات الدفينة في عالم الجنون وخرج بنتيجة أن تلبسه الجنون تماما. ما اثار تمجيدات نيتشة وهيدجر وفوكو لتجربة هولدرين في اثباته من خلال تجربته تقمص الجنون لا حقيقة العالم الذي نعيشه وعالم الجنون الذي لا نستطيع فهمه ربما يكون اصدق من عالمنا الذي نعيشه في كل شيء.

11. مفارقة لم اجد حلا لها حين تجد بعض المثقفين من الادباء والكتاب والمفكرين ملائكة في طروحاتهم على الورق وفي وسائل التواصل الاجتماعي. وهم في حقيقتهم الاجتماعية والثقافية منافقون لا يردعهم رادع اخلاقي ولا ضمير في تضليل المجتمع بكل الطرق والوسائل تؤرقهم الانانية والغيرة من المبدع المثقف الحقيقي.

12. لا تعظ الناس بما لا تتعظ انت به.

13. ليس جميلا ان تجد نفسك راهبا في مجالس العرس.

14.حقوق الشعوب العربية في الحرية والامان والاستقرار والعيش بكرامة لا تقع المطالبة بها والتضحية في سبيلها على عاتق شريحة مجتمعية من المضحين حتى بدمائهم ومستقبلهم السياسي. وبالضد منهم شرائح من المتفرجين على مآسي شعوبهم.

15. صناعة الطغاة في كل مجالات الحياة انما يكون ليس في قمع الحاكم وانما في تدجين الناس في افشاء الجهل والتضليل في تخريب وعي المجتمع بوسائل برمجة ايديولوجيا التخلف.

16. نقطة الصفر بحياة الانسان هي منعطف تجربة حينما يتساوى الفشل والنجاح في تفكيره وليس في سلوكه. ونقطة الصفر بداية معرفة.

17. ان يكون محاربة الفلسفة جهلا بها فهذا عيب الجاهل وليس عيب الفلسفة.

18. المثقف الذي يدور في طاحونة ايديولوجيا العداء لمن يخالفه الراي هو شخص يسبح عكس التيار ليس سعيا الحصول على ما يفيده بل لتوكيد حماقته بالتفكير.

19. من خلال تجربتي الثقافية وجدت العداء الاعمى لي يسبق معرفتي من انا.

20 من العبث ان يحزن الانسان على مجموع اخفاقاته بالحياة ولا ينهض بعد ان وجد جوانب القصور في أخطائه هو بحق نفسه وليس مناكدة الحياة له.

21. مذهب الحلول الصوفي بالذات الالهية باطل في وحدة الوجود اذ تنعدم المجانسة النوعية بين الخالق والمخلوق.

22. كتبت بالسياسة الوطنية الصادقة فانكرتني وانكرتها وكتبت عشر سنوات بالفلسفة فاحتضنتني واكرمتني حين وجدت نفسي بها.

23. لم اجد من خلال تجربتي والاطلاع على حياة بعض المبدعين العرب الذين يسبقون ازمنتهم فلم اجد مفكرا منهم ليس له من كثرة الاعداء ما لا يقاس بمناصريه داخل بلده.

24. ثمة عبارتين للقديس دي لاسوكا الاولى " الوعي هو نوع من التحرر من الواقع" والثانية " الزمن هو بعد سببي للزمكان " تعقيبي ان الوعي هو نوع من انواع التحرر من الواقع فقط. اما ان يكون الزمن سببا في الزمكان فهو تعبير فلسفي خاطيء بدليل ملازمة الزمن للمكان علاقة محايدة وليست علاقة سببية. اما الزمن يسبق الطبيعة والمكان فهي اطروحة تحتاج البرهنة عليها. وحسب افلاطون اننا بدلالة المكان نستطيع تنظيم عشوائية الزمن. بمعنى اسبقية المكان على الزمن.

25. ارى الوعي ليس نتاج الواقع بل هو تخليق عقلي بعدي على اسبقية وجود الواقع. والواقع الذي لا يدركه العقل لايدركه الوعي. وفي غياب موضوع تفكير العقل المادي او الخيالي لا يبقى معنى للوعي في تعطيل فاعلية العقل التفكيرية. الواقع لا يسجن الوعي كي يعمل على التحرر والخلاص منه. والوعي هو الوسيلة الادراكية العقلية لفهم الواقع ومعرفته.

26. لا علاقة تكاملية بين الوعي والواقع وليس هناك موضعة احدهما بالاخر. الوعي نتاج عقلي يختلف في علاقته بالواقع عن علاقة الحواس بالواقع فعلاقة الحواس بالواقع علاقة انطباعية وعلاقة الوعي بالواقع علاقة معرفية نتاج تفكير عقلي. كما برايي لا توجد علاقة جدلية بين الواقع والوعي بمعنى قانون الماركسية وحدة وصراع الاضداد بالمادة. المقصود بوحدة الاضداد هو تجانسها النوعي وهو شرط حدوث صراع الاضداد. الوعي توسيط نقل مقولات العقل الادراكية تجاه موضوعاته وموجودات عالمنا الخارجي.

27. الفلسفة تفكير لغوي منطقي تجريدي يحاول معرفة حقيقة الانسان والوجود.

28. كل معرفة خارج الموّرثات الجينية ال DNAهي مكتسبة وليست فطرية. وهناك استعداد فطري عند الطفل لتعلم اللغة ولا يمتلك ملكة فطرية لغوية.

29. الشعر هو اللاشعور اللغوي الذي ينظم منطق العقل وليس منطق ادراكات الحواس. والشعر الذي يمثّل الواقع بادراكات عقلية منطقية يخرج الشعر من خاصيته الشعرية في اعدامه فاعلية مخيّلة اللاشعور تكسيرها نسق اللغة.

30. ماقيمة صمتك حين تكون محتاجا الصراخ. آلام الحياة لا تحتاج حكمة الصمت الذي لا معنى له في بعض الاحيان. وليس كل انسان صالحا ترويضه في سيرك الاكاذيب. واحيانا يكون الصمت ابلغ في تمثيله الحقيقة الوحيدة في مواجهة زيف الحياة.

31. لعل هنري برجسون الفيلسوف الفرنسي الحاصل على جائزة نوبل بالادب هو من اشار الى اننا ندرك المكان بوظيفة الادراك العقلية البيولوجية منفصلة عن الزمان. بهذا المعنى يكون برجسون الغى زمكانية ادراكنا الوجود في منحيين الزمكان ليس مادة يدركها العقل. كما ولا هو فراغ احتوائي خارج ادراك العقل.

32. الزمن هو وعي الدلالة الادراكية والمعرفية للاشياء والموجودات والموضوعات. وهو افتراض وهمي فاقد برهان تحققه.

***

علي محمد اليوسف

 

تُعد الوجودية من الفلسفات العظيمة، لكن كيف يمكن لنا التفاعل مع افكارها اذا كنا لا نعتقد بموت الإله؟ لحسن الحظ هناك حل لما نريد بالضبط. الوجودية تبقى بالنسبة للشخص العادي منْ أشهر الفلسفات الجديرة بالقراءة والدراسة. الأسئلة التي تطرحها الوجودية والمشاكل التي تواجهها مثل الرغبة الحرة، والقلق، والبحث عن المعنى، هي ما نواجهه في حياتنا اليومية. وبينما قد لا تنجح الحلول التي تقدمها الوجودية مع كل شخص، فهي قد تكون فيها حلا عندما تحاول الإجابة على الدين. نيتشه صرح بموت الإله، سارتر وكامو وبوفوار جميعهم كانوا ملحدين، وكل ما يتصل بفلسفة العدم ايضا ينكر وجود الله.

بالنسبة للفرد الديني الذي يبحث عن راحة اضافية من القلق الوجودي ومنظور الوجوديين حول مشاكل الحياة الحديثة، يجد من الصعب العثور على أجوبة جيدة. لكن هناك مفكر وجودي جعل المسيحية أحدى المبادئ المركزية في فلسفته هو مؤسس الوجودية سورن كيركيجارد.

كان كيركيجارد فيلسوفا دانيماركيا وُلد في عائلة ثرية في كوبنهاغن في بداية القرن التاسع عشر. هو كان كاتبا غزير الانتاج استعمل اسماءً مستعارة لإستطلاع منظورات اخرى. غطى في عمله كل مجالات الفكر الوجودي: القلق، السخافة، الاصالة، اليأس، البحث عن المعنى، الفردية. لكن خلافا للملحدين الذين أعقبوه، هو وضع ايمانه في جوهر الحلول لمشكلة حياة الانسان. مثلما كان موت الإله عنصرا رئيسيا لنيتشه، كانت الحاجة الى الله أساسية لكيركيجارد. لنأتي الآن الى بعض رؤاه:

حول العثور على المعنى

يوافق كيركيجارد بان الحياة يمكن ان تكون سخيفة والمعنى قد يصعب العثور عليه. وبالضد من نيتشه الذي قال ان موت الاله هو سبب ذلك، كيركيجارد جادل بانه، في العصر الحالي، المعنى افرغ من المفاهيم بواسطة التجريد والميل للنظر الى الاشياء بعقلانية كبيرة. هو شكا من انه عاش في عصر نُظر فيه للناس كتعميمات حيث نُظر الى الرجل العاطفي كغير معتدل، وحيث معظم الناس يقبلون ذلك دون معارضة.

هو يدعونا لنعيش عاطفيا، وان نقلق كثيرا حول مشكلة عيش الحياة بدلا من محاولة الانسجام مع النظام الاجتماعي. فلسفته كلها تدور حول العيش بهذه الطريقة، حتى الى النقطة التي يكون فيها المراقب الخارجي غير قادر على فهم حوافزك. كيركيجارد اكتشف ايضا النقطة التي جرى التأكيد عليها من جانب الوجوديين اللاحقين، العقل والعلم يمكن ان يقولا الكثير عن الاشياء، لكنهما لايستطيعان ان يمنحا القيمة والمعنى للشيء. عليك ان تقوم بذلك. المعنى، القيمة، والهدف لايمكن اختزالهم لعنصر كمي، انه متروك للفرد ليتصرف بذاته ليقرر ما سيكون عليه معنى حياته. حلّه المفضل لايجاد المعنى هو عبر النظر الى الله واجراء قفزة الايمان. تلك القفزة وحدها، كما يقول، تقدم لنا المعنى والتوازن الصحيح كأشخاص.

حول العيش بحرية

نحن يجب ان نواجه العالم كأفراد، هكذا يخبرنا كيركيجارد. لكن هو يعلن اننا لكي نجسد أنفسنا بالكامل يجب على الفرد ان يدرك "القوة التي شكلته". نحن مُنحنا الضرورة الاخلاقية لنكتشف ونعيش كما نحن انفسنا، والله هو جزء أساسي من تلك الضرورة. كل يوم تُعرض علينا حقائق عن الحياة والإمكانات، ونحن يجب ان نتخذ خيارات. ان لا نختار هو ايضا خيار لكنه خيار سيء. حين نتجنب ان نجسد أنفسنا هذا هو يأس يعتبره كيركيجارد خطيئة. هو يحذرنا ايضا من القلق الذي يأتي مع اختيار المسار لحياتنا. بينما نحن يجب ان نختار، نحن لايمكن ابدا ان نتأكد اننا نختار بشكل صحيح، لأن "الحياة يمكن فهمها فقط رجوعا الى الوراء، لكنها يجب ان تُعاش قدما الى الامام". وفي نفس الطريقة، نحن امامنا امكانات لامتناهية، ماعدى تلك الحياة التي نختار عدم امتلاكها. هو يعبّر عن القلق الناجم عن الاضطرار الى اختيار عدم عيش بعض الامكانات بشكل رائع، "عندما تتزوج، انت سوف تندم، اذا لم تتزوج، انت سوف تندم ايضا، اذا تتزوج او لا تتزوج، انت سوف تندم في كلتا الحالتين، عندما تضحك على حماقات العالم، انت سوف تندم، وعندما تبكي عليها، انت سوف تندم على ذلك، سواء كنت تضحك على حماقات العالم او تبكي عليها، ..".

كما في نيتشه، كيركيجارد ايضا رأى امكانية "المعتقدات" isms في حل مشكلة المعنى في حياتنا. يركز كيركيجارد على فكرة الحياة "الاخلاقية" باعتبارها مهربا من اتخاذ قرار بشأن المعنى للذات. عبر اختيار أنظمة اجتماعية او اخلاقية للتشبث بها، يمكننا ان نجد المعنى في علاقاتنا بها بدلا من انفسنا. هو يرى هذا كامكانية للعديد من الناس لكنها ليست كحل مثالي لمشاكلنا.

أحد حلول كيركيجارد لمشكلة المعنى كانت صنف مسيحي للانسان الخارق قبل ان يخترعه نيتشه هو فارس الايمان knight of faith : فرد انتقل وراء الوثوق بالعقلانية الخارجية او "المعتقد" لتبرير حياته وتكريس نفسه بالكامل  لنداء أعلى. هذا النداء هو الله  ومثال كيركيجارد هو ابراهيم  ومريم(1).

هو يفهم ان طلبات الله ربما غير أخلاقية كالطلب من ابراهيم قتل ابنه. لكن فارس الايمان، يستمر في اهتماماته الاخلاقية السابقة، لأنه لكي تكون فارس ايمان يعني ان تكون وراء الخير والشر.

فوائد الوجودية لايجب ان تكون منفصلة تماما عن الفكرة المسيحية لله. ونفس الشيء، رؤى كيركيجارد لاتتطلب الالتزام باستخدام المسيحية. هو جادل بان "الوثني العاطفي" الذي يصلي لصنم كاذب هو أفضل من المسيحي الذي يعبد من مجرد العادة. حتى بالنسبة لاولئك الذين هم غير مسيحيين، من الممكن ان نفهم اكثر حول انفسنا والمشاكل التي نواجهها كبشر عبر دراسة الرؤية العالمية لكيركيجارد.

لاولئك الذين يرون مشكلة محتملة هنا. يلاحظ كيركيجارد في كتاب (خوف وارتعاش) بعض الطرق يجب استعمالها لتقرير من هم فرسان الايمان ومن هم فقط مرضى نفسيين. ونفس الشيء، بينما يمكن للفرسان ان يستوحوا من الله لعمل أشياء فظيعة وغريبة (مثل التضحية بالاطفال او اختراع الختان) من خلال حماس ديني، يؤكد كيركيجارد بان الفارس النموذجي سيكون متحفظا ونحن ربما لن نسمع عنه ابدا.

***

حاتم حميد محسن

.......................

الهامش

(1) في فلسفة كير كيجارد، يمثل فارس الايمان أعلى أشكال الايمان، وقد تجسّد برغبة ابراهيم في التضحية بابنه اسحق. هذا الفرد يعمل قفزة ايمان، يقبل الطبيعة المتناقضة والسخيفة للعقيدة الدينية خاصة عندما تتعارض مع العادات الاخلاقية او التفكير المنطقي. فارس الايمان يؤمن بفكرة ان أي شيء ممكن مع الله حتى استعادة ما تم التخلي عنه سابقا من خلال الايمان وحده. فارس الايمان يعيش حياة سعيدة ومطمئنة، يؤمن حقا في المستحيل حتى في العالم المادي المحدود. هو يضع الله فوق كل شيء.

 

شذرة فلسفية

العقل ليس جوهرا منفصلا عن الجسم، وان الخصائص العقلية تابعة للخصائص الفيزيائية... (ويكيبيديا الموسوعة). بمعنى جوهر العقل في الوقت الذي يكون فيه تجريدا لغويا في التعبير عن موجودات عالمنا الخارجي فهو اي العقل خاصية فيزيائية بيولوجية في اشباعه احاسيس الجسد الغرائزية الفطرية داخليا.

بالحقيقة هذه العبارة المبتورة تعتبر العقل ليس جوهرا منفصلا عن الجسم، وإن الخصائص العقلية التفكيرية تابعة لخصائصه الوظيفية الفيزيائية (للعقل) كعضو بيولوجي في تكوين أعضاء الجسم الذي يحتويه.، هذه العبارة تختصر مجلدا من المناقشات الفلسفية المتناحرة والمتناطحة مع بعضها بلا جدوى. فخاصيتي العقل البايولوجية وخاصيته اللغوية الصورية التجريدية هما جوهر واحد لعقل واحد لا يمكننا تجزئته. الا في ناحيتين الاولى خاصيته البيولوجية المسؤولة عن الجسم كاملا وخاصيته الثانية أنه منتج التفكير التجريدي.

إذ دأبت مباحث الفلسفة منذ افلاطون وارسطو وديكارت إعتبار علاقة العقل بالجسم أنه – اي العقل - جوهر غير فيزيائي منفصل عن الجسم ماهيته التفكير. لكن ما يجب الوقوف عنده بالعبارة أن الخصائص العقلية التجريدية للعقل جوهر ماهيته التفكير هي علاقة تخارجية جدلية معرفية تكاملية مع الخصائص الفيزيائية للعقل على إعتباره عضو بايولوجي في جسم الانسان له وظائف فيزيائية اخرى خارج وداخل الجسم تتجاوز خاصية العقل جوهر ماهيته التفكير التجريدي المنفصل عن الجسم.

حسب النزعة المثنوية أو الثنائية (علاقة العقل بالجسم) التي ترى العقل جوهرا مستقلا عن الجسم. في حين خالفهم الرأي بعضا من أصحاب خصائص العقل البيولوجية الوظائفية الذين يرون فيها العقل جوهرا غير منفصل عن الجسم. هم أصحاب النزعة الواحدية أن العقل والجسم ليسا كيانين منفصلين إنما هما جوهر واحد في الإفصاح عن مدركات العالم الخارجي والعالم الداخلي للانسان. وتبّنى اسبينوزا هذا الرأي وبيركلي.

طرح افلاطون في وقت مبكر تعريفه العقل من وجهة نظر فلسفية تعتبر إبنة عصرها قبل تقدّم مباحث العلم في دراسة وظائف الأعضاء وفلسفة العقل المعاصرة. قوله العقل لا يمكن شرحه بمصطلحات الجسم الفيزيائية، أي بمعنى أراد افلاطون حصر العقل ضمن مباحث الفلسفة كتجريد منطقي لغوي بعيدا عن علم وظائف الاعضاء بيولوجيا التي تركن فلسفة العقل التجريدية جانبا.

بتعبير ربما يكون أكثر وضوحا أن العقل في الوقت الذي هو جوهر ماهيته ملكة التفكير، فهو بنفس الوقت عضو بايولوجي من أعضاء الجسم يقوم بفاعليات ما لا حصر لها تدخل ضمن خاصّية العقل الإدراكية ومسؤوليته المباشرة عن اشباع ردود افعال كل شيء يصدر عن الانسان من احاسيس وسلوك ومعرفة بالحياة والوجود خارج وداخل الجسم. بالحقيقة هذا الانقسام بين بنية العقل التجريدية الفكرية الفوقية بتعبير ماركسي، مع البنية الوظائفية البايولوجية التحتانية للعقل كعضو تحتويه الجمجمة في غير حصر جوهر العقل أنه تجريد تفكيري لغوي، يجعل من رأي أصحاب مذهب الواحدية في علاقة إرتباط العقل بالجسم من جهة وعلاقة عدم إنقسام العقل على نفسه – بايولوجيا وتجريدا- من جهة اخرى. تجعل من العقل ليس خاصّية لغوية إدراكية تجريدية يقف عندها، وأن العقل تكوين بايولوجي له وظائف علائقية وظائفية بالجسم بما لا يمكن حصره وهو يتجاوز تعريف العقل أنه خاصّية تفكيرية تجريدية غير مادية.

هذا الإنقسام الذاتي الافتراضي للعقل على نفسه يجمع خاصيتي التجريد - البيولوجيا يقوم على جدل من العلاقة التي تشبه علاقة جدل الفكر والمادة، وجدل الفكر واللغة. هناك خاصّية جدلية للعقل تقوم على جدلية الفكرمع الإدراك العقلي المادي من جهة، وجدل آخر يحكم علاقة العقل بالجسد بايولوجيا في إشباع غرائزه مثل غرائز الجنس وحاجته للطعام والنوم والعيش المؤنسن مع مجتمعه والطبيعة وكذلك اشباع حاجات النفس والعاطفة والاخلاق والضمير والوجدان والقيم..

شذرة فلسفية

بمجيء ديكارت في القرن السابع عشر أراد إعطاء العقل ميزة متعالية على مباحث الفلسفة فأوقع نفسه في خطأ لم يكن يتصوره تحت وطأة تطوير فهم افلاطون أن العقل تجريد لغوي لا يخضع لمنظومات العقل البيولوجية الادراكية.. فعمد افلاطون  إختصار ومصادرة الجدال البايولوجي حول العقل في تأكيده المنحى الفلسفي المنطقي للعقل انه جوهر منفصل عن الجسم ماهيته ملكة التفكيرفقط وأهمل عن قصد العقل كتكوين بيولوجي يرتبط بجسم الانسان...كما ينسب لديكارت قوله مؤيدا لما يسمى المثنوية (علاقة العقل بالجسم) " العقل غير محدود في إطاره الفيزيائي، فهو جسم غير مادي" نقلا عن ويكيبيديا الموسوعة.

يبدو لي على الأقل وجود تناقض بالعبارة فما هو فيزيائي يكون بالضرورة الماهوية ماديا وليس غير مادي. وكل فيزيائي مدرك حسيّا هو مادي، والتناقض الآخر حين يعتبر ديكارت العقل قدرة غير محدودة فيزيائيا لأنه غير مادي؟ قدرة العقل غير المحدودة فيزيائيا هي كون العقل يجمع خاصيتي الادراك الحسي التجريدي للاشياء في التعبيرعنها بالفكر واللغة. وهذا لا ينفي خاصيته الثانية التي هي العقل ماديته العضوية البيولوجية داخل تكوينات اعضاء الجسم يجعل من جوهر العقل انه فيزيائي بايولوجي وليس تجريدي لغوي فقط.. ما اراده ديكارت في انحيازه الى جوهر العقل تجريد هو التاكيد على خلود الافكار وفناء بيولوجيا العقل.

العقل سواء إعتبرناه عضوا ماديا بيولوجيا في جسم الانسان،أو إعتبرناه تجريدا إدراكيا لغويا لا يرتبط بالجسم ففي كلا الحالتين هي حالة إثبات فيزيائية العقل،وحالة تجريديته التفكيرية لا تغيّر من حقيقة جوهر العقل في حال كونه عضوا غير مادي أو يجمع الصفتين معا(المادية والتجريد) كما نقول نحن، ودليل ذلك العقل يجمع ثنائية التعبير التجريدي عن جميع الحالات الادراكية داخل الجسم وخارجه لا فرق. وبذا تنتفي حاجة تصنيف العقل ماديا فيزيائيا يحتويه الجسم تارة، وجوهر ماهيته التفكير منفصلا عن الجسم تارة أخرى. فالعقل موجود فيزيائي(بيولوجي) غير منفصل عن الجسم ماهيته التفكير والإستجابة لكل ردود الإفعال الصادرة عن مدركاته من الاشياء والموجودات في العالم والطبيعة. ومسؤول عن ردود الافعال الواردة اليه في ضرورة اشباع غرائز الانسان التي يحتاجها الجسد داخليا ايضا.

شذرة فلسفية

يعزى لديكارت أنه كان أول من أعطى العقل أسبقية ربطه بالوعي والادراك الذاتي. بمعنى ديكارت أراد تجريد العقل من خاصيته البايولوجية تماما التي تقود مسؤوليته الوظيفية خارجيا وداخليا في استجابته للمحسوسات في العالم الخارجي والاحاسيس الغرائزية الداخلية الصادرة عن اعضاء الجسم بالفطرة، فأوقع ديكارت نفسه في كمين لم يكن أمر تجاوزه سهلا هو إنكاره ان يكون العقل عضوا بايولوجيا يحتويه الجسم ويقوم بمهام وظيفية يعتمدها العلم تتجاوز الفهم الفلسفي المحدود أن العقل جوهر منفصل عن الجسم ماهيته التفكير المجرد فقط وهو خالد. بمعنى إستنسخ ديكارت مقولة افلاطون السابق ذكرها العقل ليس خاصية بيولوجية عضوية بل هو خاصية تفكيرية تجريدية فقط.. السبب بذلك ان افلاطون كان فيلسوفا وليس عالما في فسلجة وظائف الاعضاء، يدرس الطبيعة في موجوداتها وفي خصائصها ايضا وعلاقة الانسان بها. ديكارت ليس غفلا ان العقل البيولوجي غير خالد يفنى بفناء الجسم. كما وخطأ ديكارت الاكبر هو في إعتباره العقل جوهرا مستقلا عن الجسم والعقل خالد خلود النفس الانسانية، والحقيقة البايولوجية التي تحكم الكائن الحي يتقدمها الانسان، أنه لا يبقى جوهر مستقل خالد لا للعقل ولا للنفس بعد ممات الجسم وفنائه البايولوجي.. من الواضح ان ديكارت تجاوز عمدا او سهوا اهمية الفرق بين النفس والروح؟

ديكارت لم يكن خافيّا عليه تشريح العقل فسلجيا كعضو بايولوجي يمثل أحد أهم أعضاء جسم الانسان في تعامله مع مدركات العالم الخارجي والحياة، بدليل مقولته الفسلجية الخاطئة التي قال بها ديكارت عن الغدة الصنوبرية الموجودة وسط الدماغ انها مرتكز ومحور تفكيرنا. حيث إفترض ديكارت حتمية وجود مكان معيّن في الدماغ يجرى فيه تجميع المعلومات قبل إرسالها إلى العقل اللامادي في تعبير الفكر واللغة تجريديا. وكان المرشّح الأفضل لهذا المكان، بالنسبة لديكارت، هو الغدة الصنوبرية، وذلك لأنه رأى أنها الجزء الوحيد من الدماغ الذي يملك بنية واحدة، على عكس بقية الأجزاء التي تنقسم بين النصفين الأيمن والأيسر للدماغ.

يلاحظ هنا إصرار ديكارت مغالطة نفسه قوله ما معناه ان منظومة العقل الادراكية هو تجميع المعلومات وإرسالها الى العقل اللامادي ويقصد به العقل غير الفيزيائي غير العضوي بالجسم. وبهذا يريد ديكارت تأكيد فلسفته أن جوهر العقل تجريد تفكيري خالد فقط كما هي النفس خالدة. وهو العقل اللامادي الذي تهتم به الفلسفة كتجريد لغوي منطقي، وليس عقلا علميا يشمل وظائف الاعضاء وعلم النفس السلوكي. في حين الحقيقة العلمية والفلسفية تقول خاصية العقل انه جوهر فيزيائي بيولوجي قبل خاصيته ان يكون جوهرا تفكيريا لغويا تجريديا. الانسان مخلوق مادي قبل ان يكتسب ميزته اللغوية.

الحقيقة التي عبرها ديكارت عن قصد أن العقل جوهر واحد مادي بيولوجي وغير مادي تجريدي مفكرا معا، فهو في الحالتين العقل خاصيّة تجريدية إدراكية لغوية بنفس وقت هو خاصّية بيولوجية عضوية مسؤولة عن الجسم وخاصية لغوية تجريدية. ولا يمكن الفصل بينهما مطلقا. تماما كما في إستحالة الفصل بين الفكر واللغة. سيرة حياة ديكارت تشير الى أنه كان مولعا وممارسا لعلم وظائف الاعضاء وتشريح جسم الانسان إضافة الى ولعه بالرياضيات ومنجزات العلم وهذا يعطينا حقيقة أن ديكارت لم يكن فيلسوفا يتعامل مع مباحث الفلسفة كتجريد عقلي. بل يتعامل مع العقل كعضو بايولوجي يحتويه جسم الانسان كبقيّة أعضاء الجسم الحّي ماهيته التفكير التجريدي ولم يقل خصائصه البيولوجية الاخرى التي لاحصر لها..

ديكارت كان ملمّا الماما كاملا بأجزاء تكوين الدماغ وعمل الفص المّخي الايمن بإختلافه عن عمل الفص المّخي الايسر بالنسبة لجسم الانسان حيث تكون فعاليات عمل الفص المّخي الايمن مسؤولا عن الجهة اليسرى من الجسم طوليا، وعمل الفص المّخي الايسر مسؤولا عن وظائف النصف الأيمن من الجسم طوليا. وعندما يعطب الفص الايمن من الدماغ ينشل الجانب الايسر من جسم الانسان طوليا.

مع هذه المفارقة المعرفية العلمية المطلع عليها ديكارت جيدا علميا لكنا نجده أهمل وظيفة عمل الدماغ كعضو بايولوجي من تكوين جسم الانسان على حساب تركيزه على العقل بإعتباره لوغوس (عقل / خطاب) فلسفي تجريدي خالد كان معروفا تماما عند فلاسفة اليونان القدماء. ولم يكونوا عارفين تكوين العقل بايولوجيا كونه إختصاص علمي متقدم ظهر لاحقا بعد قرون من ظهور الفلسفة اليونانية التي تقوم على منطق العقل التجريدي اللغوي. ديكارت والعديد من الفلاسفة السابقين عليه لم يكونوا يعطون تمييزا واضحا بين العقل التجريدي الذي ماهيته التفكير وبين العقل البايولوجي (الدماغ) المسؤول عن إشباع كل إدراكات الانسان وسلوكه بالحياة ومحاولة فهم الطبيعة والوجود..عديدة هي المداخلات التي مركز دورانها العقل، فمثلا أصحاب ثنائية العقل والجسم الفلسفية تؤكد بداهة الفكر هو تجربة الوعي المجرّد عن المادة. وهي مقولة صحيحة إذا أخذنا الوعي هو تجريد لغوي يتبع تجريد العقل.

شذرة فلسفية

عمدت الفلسفة الهندوسية واليوغا منذ حوالي650عاما قبل الميلاد تقسيمهم العالم الى عقل وروح ومادة. بغض النظر عن مدى صّحة أو خطأ التقسيم الفلسفي الهندوسي، نطرح بشكل بسيط إشكالية العقل في علاقته بالنفس والروح، ثمة خطأ تداولي بادبيات الفلسفة إعتبارهم لفظة (النفس) مرادفا تطابقيا في التعبير عن معنى (الروح)، المعضلة الواضحة التي لا يصار الإعتراف بها أن مصطلحي النفس والروح كلاهما مصطلحان تجريديان منفصلان عن بعضهما في إرتباطهما بالعقل وجسم الانسان. يوجد من ينكر على العقل العاطفة والوجدان والضمير ويعزوها لاختصاصات علم النفس المنفصل عن وصاية بيولوجيا العقل.

وبضوء مرجعية هذا التعالق نقول أن النفس ليست هي الروح في دلالة ثنائية مختلفة المعنى وليس في دلالة مرادفة أحادية المعنى، ما نعني به النفس بعلاقتها بالعقل والجسم هي نفسها لفظة الروح في ترابطها بنفس العلاقة مع العقل والجسم. لكن يبقى التفريق بين النفس هي غير الروح قائما فرقا جوهريا لا يمكن إغفاله.

كما إعتبر ديكارت النفس أو والروح – بدون تفريق بينهما - جوهرا منفصلا تجريديا مرتبطا بالعقل والجسم، يشملهما خلود العقل كجوهر خالد حسب ديكارت. وهو خطأ بني على خطا سابق عليه في إعتبارهما النفس والروح جوهرين منفصلين عن العقل والجسم لا يقل فداحة من خطأ إعتبارهما جوهرا واحدا خالدا ملازما خلود العقل. الخالد من الانسان بعد الممات هو تجريد العقل اللغوي الفكري فقط. اما العقل البيولوجي- عجينة الدماغ- فمصيره الفناء بعد الممات البيولوجي للجسم. النفس هي مجموعة الخصائص والفعاليات والعواطف والضمير والسلوك المرتبط توضيحه بعلم النفس السلوكي، والنفس تشكيلات عاطفية شعورية ولاشعورية مبعثها الإحساسات في العالمين الداخلي والخارجي.. والنفس رغم أنها من ناحية الإدراك المرتبط بالعقل هي تجريد صرف قبل تحوّل المدركات الى سلوك وعواطف ومشاعر وعلاقات اجتماعية يجري التحقق منها في السلوك المرتبط بوصاية العقل عليها. الفرق بين عجز العقل التفريق بين العاطفة بمجموع تجلياتها وبين الروح الميتافيزيقية هو في استطاعة العقل التعامل مع تجليات النفس وعجزه التعامل مع ماهية الروح وماهي بالضبط؟ وما هو اثبات ملازمتها ومغادرتها الجسم؟ بالحياة وبعد الممات. العقل حقيقة تفكيرية في الوجود وفي الميتافيزيقا التي لا فائدة منها في استحالة وصول العقل لاثباتات ميتافيزيقية يمكن اعتمادها.

إذن النفس وارتباطات مباحثها بعلم النفس لا تمتلك إستقلالية جوهرية منفصلة عن العقل بيولوجيا ولا عن الجسم سلوكا ايضا، بل النفس هي فعالية خاصّة يمتلكها الانسان بتعالقها مع توجيهات ووصاية العقل عليها. وجميع إفصاحات النفس التي مررنا على ذكر بعضها لها إرتباط وثيق بعقل الجسم الحي غير الميّت.

كما أن ربط النفس باللاشعور يلغي عنها ويجرّدها أن تكون النفس وعيّا إدراكيا يتمّثله السلوك الواعي الشعوري في التعامل مع الحياة ويجردها من خاصية أن النفس وعي قصدي وسيلة تنفيذه السلوك. نعود التذكير بخطأ ديكارت قوله النفس جوهر خالد يلازم جوهر العقل بالخلود كليهما بعد فناء الجسم بعد موته. الحقيقة العلمية تقول ليس هناك من خلود للنفس ولا الروح ولا العقل البيولوجي الذي هو الدماغ بعد فناء الانسان بالموت. خلود الروح تقول به ميتافيزيقا ادبيات الاديان ولا تقول به الفلسفة ولا يقول بها العلم ايضا..

والروح التي ليس لها علاقة بالنفس، ولا بالعقل غير تعالقها الميتافيزيقي الديني غير المحسوم جدليا لا على مستوى العلم ولا على صعيد الدين ولا على صعيد الفلسفة أيضا، فالروح مصطلح ميتافيزيقي مبهم وغامض على صعيدي الدين والفلسفة وليس بمستطاعتهما تعريف ماهية الروح وأين يكون موضعها في الجسم أو على الاقل معرفة مصدرها ومن أي شيء تتشّكل، فالروح تسكن الجسد من غير إدراك عقلي لها لا بالماهية ولا بالصفات سوى الإتفاق على تعبير غائم أن الروح تفارق جسم الانسان بعد وفاة هذا الأخير سريريا. وادبيات الاديان تتعامل مع الروح أنها لا تعني النفس بمصطلح علم النفس كما يجري الخطأ بالفلسفة.

شذرة فلسفية

ننتقل الى إشكالية أخرى ما هي علاقة الذهن بالعقل؟ الرائج فلسفيا الذهن هو مصدر التفكير بمدركات الحواس وهو خطأ دارج متداول فلسفيا، في البدء علينا توضيح هل الذهن خاصّية تفكير بمعنى التوليد كما هي وظيفة الدماغ؟، أم الذهن خاصّية إدراك داخل منظومة العقل الإدراكية؟. الحقيقة الذهن هو حلقة إدراك في إستلامه الإنطباعات الواصلة اليه عبر الحواس. ولو إعتبرنا الذهن مركز تفكير وتفسير لمدركات الانطباعات الخارجية، لأصبح تنحية دور العقل في وصايته على عملية الادراك منذ بدايتها بالحواس وإنتهائها بالمخ التي هي جميعها فعالية تجريدية يقوم بها عقل مادي عضوي في جسم الانسان لاغية.

علاقة الذهن بالعقل التفكيري التجريدي هو حلقة في منظومة العقل الإدراكية وليست عضوا ماديا. وإعتبار الذهن ينوب عن وظيفة العقل بالتفكير خطأ لا يمكن تجاوزه. تفكير العقل خاصيّة دماغية وليس خاصية ذهنية. كما الذهن ليس خبرة معرفية مخزّنة بالذاكرة بل هو واسطة معرفية لنقل الانطباعات الاولية من الحواس لشبكة الاعصاب الناقلة لايعازات الحواس عن مدركات العالم الخارجي. اما العقل البيولوجي – الدماغ تحديدا - مع منظومة الاعصاب ومراكز وظائف عمل اجزاء خلايا التخصص في قشرة الدماغ فهي مخزن التجارب لعمل العقل او بالتحديد عمل الدماغ. الذهن كما هو ليس تفكيرا عقليا فهو ايضا لا علاقة له لا بالذاكرة ولا بالخيال.

ولو نحن إعتبرنا الذهن هو حلقة عضوية- اعتقد علم فسلجة الاعضاء اشّر الخلايا العصبية المسؤولة عن فعالية الذهن- التي ترتبط تحديدا بخلايا موجودة بقشرة الدماغ عبر شبكة منظومة الجهاز العصبي، لتوجب علينا التفريق البيولوجي بين تفكير العقل وتفكير الذهن... امام هذا الاستشكال نرى ما تقول به ويكيبديا الموسوعة " الفرق بين تفكير العقل وتفكير الذهن ان العقل هو القدرة على الادراك والتفكير والفهم. بينما الذهن فهو المكان الذي تتواجد فيه الافكار والمعلومات. العقل هو وظيفة للدماغ اما الذهن فهو المكان الذي تجري فيه العمليات العقلية وفقا لموقعه في خلايا الدماغ. بمعنى اوسع العقل هو القدرة على التفكير المنظم والممنهج، بينما الذهن هو المكان الذي يتم فيه الابداع والتفكير. العقل يتيح لنا ان نفكر بطريقة منطقية، وان نحل المشكلات وان نتخذ القرارات، اما الذهن فهو يتيح لنا التعبير عن افكارنا ونتخيل الاشياء وان نكون مبدعين." انتهى الاقتباس عن الموسوعة.

لا بد لي من تسجيل بعض الملاحظات:

- كان ذهب ديفيد هيوم الى ان الذهن واسطة نقل محسوسات الحواس الى الدماغ واطلق على هذه العملية نقل الذهن للانطباعات الاولية. كما اعتبر هيوم ويشاركه بيركلي ان تفكير الذهن هش ومتحلل وآني زائل بالقياس الى ناتج تفكير العقل.

- ورد في الموسوعة ان الذهن يضطلع بمهمة التعبير عن افكارنا وتخيّل الاشياء وابتكار الابداعات. واعتقد في هذا لبس تقريب ما يجري بالذهن مع ما يجري بالمخيلة وقدرة الانسان على خلق الابداعات. كما اشرنا سابقا تفكير الذهن لا علاقة له لا بالذاكرة ولا بالمخيّلة.

- ورد بعبارة الموسوعة ان الذهن هو مكان تخزين المعلومات فاين اصبحت مهمة الذاكرة؟ وارتباطها بالمخيلة المسؤولة عن تنظيم خلق الابداعات الفنية والادبية في مزج الشعور باللاشعور. والذاكرة هي مركز تجميع وتخزين المعلومات وليس الذهن كما ورد في الموسوعة.

- علاقة الذاكرة بالمخيال في انتاج الابداعات هو المعوّل عليه وليس تفكير الذهن المستقل عن تفكير الدماغ او العقل.

الحقيقة الفلسفية التي لا يمكن تجاوزها أن العقل الذي هو وظيفة الدماغ يحتوي الذهن ضمن منظومة الإدراك التي تبدأ بالحواس وتنتهي بالدماغ . ولا يعني هذا استغناء العقل عن مهمته في أن ينوب الذهن الإستئثار بخاصّية التفكير العقلي وينوب عنه. وبذا يكون الذهن حلقة توصيلية في منظومة الادراك العقلي.

الذهن كما يصفه بيركلي وديفيد هيوم هو الحلقة الإدراكية التي تستلم الإنطباعات الخارجية الاولية المنقولة عن الحواس ونقلها الى العقل البيولوجي(الدماغ) عبر منظومة شبكة الجهاز العصبي بلا تغيير يطرأ على تلك الانطباعات. ونضيف الذهن ليس مصدر تفكير ينوب عن وعي العقل التفكير في إصداره مقولاته الفكرية التجريدية بتعبير اللغة عن المدركات، وهذه الخاصيّة العقلية لا يمتلكها الذهن كونه لا يستطيع التعبير عن مدركات الوجود خارجيا وداخليا دونما مرجعية العقل الخالص في مقولاته التي حصرها وأجملها كانط بإثنتي عشرة مقولة.

هناك مدرسة فيزيائية عقلية حديثة تعتمد النزعة العلمية تذهب أنه بالنهاية لا يوجد في عمل العقل غير العمليات الفيزيائية التي تقوم على الخاصّية البايولوجية للعقل، معتبرين كل الخصائص العقلية هي خصائص فيزيائية حتى تعبير اللغة التجريدي، سواء فهمنا العقل جوهرا مفكرا تجريديا أم إعتبرناه عضوا بايولوجيا في الجسم. وهي براينا فلسفة واقعية حقيقية صائبة.

بناءا عليه نقول أن الإحساسات الخارجية التي يدركها العقل عن العالم الخارجي إنما يكون رد الفعل العقلي عليها هو تجريد فكري، بينما تكون الأحاسيس التي تثيرها أجهزة الجسم الداخلية مثل الشعور بحاجة الجنس الغريزية او بالجوع أو العطش أو الالم أو الحزن الخ فيكون رد الفعل العقلي عليها عضويا داخليا سواء في إشباعها كغرائزبيولوجية أو في معالجتها كأعراض مرضية أو أحاسيس بيولوجية مصدرها أجهزة الجسم الداخلية العضوية وفي رد فعل الدماغ أشباعه غرائز الجسم...

شذرة فلسفية

تقاطع العقل والجسد: يذهب بعض العلماء والفلاسفة أن العقل لا يطابق رغبات الجسم ولا يطابق تلبية إحتياجات الجسم على الدوام،معتبرين إنفصال العقل عن الجسم حقيقة بيولوجية قائمة لا يمكن نكرانها. ما يرتّب فصل العقل عن الجسم ضرورة فك الإشكال القائم بينهما على أصعدة عديدة. من الأمور التي أجدها تفيد هذه الإشكالية من منطلق فلسفي فقط وليس من منطلق علمي ليس من إختصاصي:

- حاجات الجسم التي يحتاج بها ملازمة العقل في إشباعها تنقسم نوعين:

1. الاول حاجات المثيرات الناتجة عن عملية الادراك الخارجي مع موجودات العالم الخارجي والطبيعة والحياة.

2. الثاني حاجات إشباع النوازع الغريزية التي يحتاجها الجسم داخليا عبر إجهزته البيولوجية عن طريق ما تثيره من أحاسيس الجسم الداخلية مثل سد حاجة الجوع، العطش، الالم، الحزن، الفرح، النوم، الجنس الخ.

- السؤال الذي يثار بضوء ما ذكرناه أعلاه، هل هناك في كلتا الحالتين إشباع إحساسات الإدراكات الخارجية، وإشباع أحاسيس أجهزة الجسم الداخلية، حاجتهما الى مرجعية أخرى ذاتية أو غير ذاتية سوى العقل؟

بالتاكيد الجواب بالنفي، فجميع الإستشعارات الخارجية والداخلية الواصلة للجسم لا يستطيع الجسم تلبيتها دونما تكامل عمل العقل مع حركة الجسم، فلا العقل يستطيع إتخاذ الإجراءات اللازمة من دون حاجته لتنفيذ تلك الايعازات العقلية من قبل أعضاء الجسم في ملازمة ما يصدره العقل من ايعازات مطلوب تنفيذها. ولا الجسم يستطيع منفردا دون العقل القيام بتنفيذ ردود الأفعال لما يستشعره من احاسيس. .

- عليه لا يكون هناك حاجة أهمية مناقشة هل العقل جوهرا منفصلا عن الجسم أم لا ؟ كما ليس ذات أهمية مناقشة إختلاف حاجات الجسم بايولوجيا (فقط) عن تلبية حاجات العقل الادراكية التجريدية. لذا يتأكد ما سبق لنا ذكره أن العقل يمتلك خاصيتين أن يكون عضوا بيولوجيا بالجسم (دماغ ) في نفس وقت ملازمة صفته الادراكية أنه مركز التفكير المجرد في التعبير عن الاشياء المادية وغير المادية الخيالية والمبتكرة التي لا علاقة لها بالعالم الخارجي بوسيلة الفكر واللغة المجردتين. علما أن العقل في كل إستجاباته الادراكية الخارجية والداخلية إنما هي وعي تعبير تجريدي تمّثلي وتصّوري لغويا. الادراك الواعي جوهر لا مادي ماهيته نقل الاحساسات تجريديا عن اشياء وموجودات العالم الخارجي.

- لكن يبقى هناك إستدراك ضرورة التنويه له، هو إحتمال وارد جدا أن العقل يحتاج في إدارته إشباع حاجات الجسم تعتبر أساسية بالنسبة له، ثانوية بالنسبة للجسم، فالعقل بما يمتلكه من خاصيّات بيولوجية عضوية، وخواص تجريدية إدراكية وخيالية تكون أولوية مسؤوليته في إشباع حاجات الانسان برمّتها المادية منها، وغير المادية تقوم على عاتق مهام العقل منفردا دون الجسم أو معه، مثال ذلك أن العقل في المجال العلمي التخصصي لا يحتاج الجسم تنفيذ ما يرغبه الا في حركات إجرائية بسيطة مثل حركات اليدين والاحساسات الواردة خارجيا، نفس الشيء حين يحتاج العقل المخّيلة والذاكرة والإدراك الذهني الصرف، لانتاجية ابداعية يرومها في مجالات متعددة مثل الكتابة والتاليف في مختلف الاجناس الادبية والثقافية والفنية والفكر والمعرفة وضروب أخرى عديدة التي يتراجع فيها دور الجسم لإعطاء تقدم وأسبقية تفكير العقل وتداعيات اللاشعور القيام بتنفيذها.

شذرة فلسفية

هل معرفة عالمنا الخارجي تنفي واقعية ذلك العالم؟ ام العكس؟ وهل صحيح أن كل معرفة تستنفد نفسها حينما تكون محصورة بواقعية معرفتها؟ يقول شيلر ويؤيده دلتاي بذلك أنه لا يوجد غير ثلاثة مناهج معرفية هي معرفة استقرائية علمية، ومعرفة تنصب على الماهية، وثالثا منهج المعرفة الميتافيزيقية. هذا ليس موضوع مناقشتي لهذه الاطروحة حاليا.

كما يذهب شيلر ومعه دلتاي أن (العالم الخارجي وجود حقيقي، واذا كان كل موجود ينحصر في معرفته لما كانت لهذا الوجود "واقعية" لان الواقعية تصنع المقاومة في وجه مقاصدنا. وما يثبت الشيء هو الصدمة التي تحدثها لنا "المقاومة"). نقلا عن دكتور زكريا ابراهيم / كتابه دراسات في الفلسفة المعاصرة.

هذا التجريد الفلسفي العصّي على التلقي لا يمنعنا من تثبيت مايلي:

- يقر شيلر أن العالم الخارجي وجود حقيقي بمعنى أنه قابل للادرك حسيا وكذلك معرفته بإي منهج علمي متاح، وهذه المعرفة لا تنفي حقيقته الموجودية كينونة مستقلة. لا يصح التعميم ان موجودات العالم الخارجي تنتهي واقعيتها بمجرد الانتهاء من معرفتها التي تحدثها الصدمة التي مبعثها لنا المقاومة على حد تعبير شيلر. لا يشير شيلر ولا دلتاي توضيح علاقة ثلاث مفردات اقحمت مع بعضها إعتسافا غير فلسفي واضح. هي الواقعية والصدمة والمقاومة.

- معرفة العالم الخارجي طالما هو وجود حقيقي فهو يكون بالضرورة وجودا ماديا ولا يحتاج برهان اثباته الواقعي. وطالما موجوداته واقعية فلا تنحصر معرفتها الابستمولوجية بجانب فلسفي او بمنهج احادي. كما لا يمكن للمعرفة الادراكية في منهج الاستقراء العلمي تجريد موجودات العالم الخارجي من واقعيتها بعد استنفاد منهج الاستقراء العلمي معرفتها..

- موجودات عالمنا الخارجي هي موجودات حقيقية واقعية قابلة للمعرفة المنهجية. وليس لموجود بالمواصفات التي ذكرناه يستنفد واقعيته في تمام معرفته. ولا يوجد كما ذكرنا موجود تنحصر موجوديته في جانب معرفته المنهجية، التي تنفي واقعيته الموجودية امام المعرفة الادراكية للعقل.

- يذهب كانط الى أن العقل ليس كافيا للمعرفة ولا بد من توفر ما اسماه "مدخلات" نحصل عليها من العالم الخارجي لامتلاكنا المعرفة. وبدوري اجد المعرفة هي تراكم خبرة العقل في فهمه وتفسير الحياة والطبيعة والتعايش المتّكيف أو الاحتدامي المتصارع معها احيانا.

- لماذا كل موجود تتحدد موجوديته كمعرفة تنبعث عنه ما اطلق عليه شيلر" المقاومة" أية مقاومة يقصدها شيلر.؟ موجودات العالم الخارجي التي تمتلك خاصية انها تحمل معنى ادراكيا لغويا هي معطى للمعرفة ولا يحدث في خصيصته هذه انه يحمل معنى لا صدمة ولا مقاومة. عالمنا الخارجي بموجوداته المدركة معرفيا منهجيا علميا او غير علمي لا يمتلك وعيا ذاتيا مدّخرا في رفضه امتلاك مقاومة ذاتية طاردة لامكانية معرفته المتاحة لنا كموضوع.

- ما سبق واشار له فيلسوف اللغة لوفيدج فينجشتين أن تجريد موضوع الفلسفة لغويا من غير وضوح ملزم في المعنى يكون الصمت في هذي الحال أجدى. وإعتبر فينجشتين وأيده بشدة جورج مور عضو المنطقية الانجليزية حلقة اكسفورد بأن الوضوح الفلسفي اللغوي عامل اساسي في أن يكون للفلسفة وبخاصة فلسفة اللغة واللسانيات مستقبلا امام طغيان التقدم العلمي الذي يتهدد الفلسفة عامة.

- اخيرا رغم المآخذ السلبية على مقولة هيجل"كل ما هو واقعي هو عقلي وكل ما هو عقلي واقعي" تصبح المقولة الفلسفية صحيحة في اطلاقية مسلم بها لا تحتاج نقاشا يدحضها بضوء فهم شيلر ودلتاي لمعنى ان يكون عالمنا الخارجي بموجوداته واقعيا عقليا. بمعنى واقعية الموجود لا تحدده المعرفة به. بل يحدد واقعيته الادراك العقلي له وليس الصدمة التي تحدثها المقاومة المعرفية كما يذهب له شيلر.

شذرة فلسفية

لغة العقل: العقل هو تعبير اللغة عن معنى الوجود وليس هناك وجود يدركه العقل صوريا تمثّليا لا تحضره وسيلة اللغة. ولا يوجد ادراك تصوّري عقلي لشيء يتم بلا تعبّير اللغة عنه . كي نفهم حقيقة العقل علينا التسليم بخاصيته الجوهرية التي هي ماهية التفكير المعرفي ولا يعقل العقل ما لا معنى له كما لا تستطيع اللغة التعبير عن شيء او موضوع لا يدركه العقل في معناه لغويا تفكيريا..العقل واللغة يتلازمان الاشتراك بوعي التعبير عن كل ماله معنى يكون موضوعا لادراك بالضرورة.

ان ندرك الشيء تفكيرا بلغة ابجدية صوتية ام بلغة صامتة فكلا التفكيرين هو ابجدية صورية تمّثلية واحدة لغوية يحكمها الصوت ودلالة المعنى للمفردة والجملة.. كل موجود في الطبيعة والعالم الخارجي ما لم تحتوه اللغة الصورية ويتمثله العقل لا يدرك العقل معناه ولا يعيه. ادراكات الحواس هي احساسات لغوية مجردة ينقلها الذهن للعقل لذا تكون انطباعات الذهن حسيّة تعيها اللغة ماديا. قلت بدءا العقل تفكير لغوي بينما ذهب سيلارز الامريكي قوله الوجود لغة واضيف انا العقل جوهر لغوي ولا معنى لوجود لاتعبّر عنه اللغة. العقل ماهيته التفكير اللغوي المجرد سواء اكان مصدر ادراكاته تكوينه البيولوجي (الدماغ) او سواء مرجعيته انه جوهر ماهيته تجريد مستقل في تعبيره اللغوي عن مدركاته الشيئية (لوغوس) أي خطاب.

في نفس الوقت الذي قال به هيجل الوجود هو الله وهي فكرة معنى لهوية الله.. واجد ان هذه التعبيرات واحدة في التعبير عن مفهوم واحد متداخل غير منفصل. أن العقل هو لغة معنى الوجود وليس هناك وجود يدركه العقل لا تحضره اللغة تصوّريا ولا يوجد ادراك عقلي لشيء له معنى لا تعبّر عنه اللغة.

***

علي محمد اليوسف / الموصل

شذرة فلسفية

صحيح جدا ان الذات كخاصية انسانية يحتويها الديني ميتافيزيقيا، عندها تصبح الذات واقعا ماديا هامشيا في العمل المنتج الذي يمثل سلطة النفوذ المالي وملكية وسائل الانتاج.. لكن الاهم ان الذات تكتسب وعيها الطبيعي للاشياء سواء اكانت تحت وصاية الدين ام تحت وصاية وتسلط راس المال ووسائل الانتاج.

الذات لا يمكنها الانفصال عن الحياة والوجود المجتمعي في اسوأ الظروف والمراحل. وفي هذه الخاصيّة تتجنب الذات السقوط في الاغتراب الانفرادي بمضمونه السلبي في فقدان الانسان جوهر وجوده الاندماجي ضمن مجتمع منتج للحياة. الاغتراب الانعزالي الايجابي هو وعي قصدي محسوب البداية ومحسوب الوصول الى نهاية وهو ميزة غالبية الفلاسفة والعلماء والمتميزين من الكتاب في الاجناس الادبية.

لا تحقق الذات موجوديتها في ارتباطها بالديني الذي يحتويها في علاقة دائمية وحسب. بل تحقق الذات وجودها الانطولوجي السلوكي بالمغايرة الوجودية مع غيرها من غير وحدة المجانسة النوعية بين الذات وموجودات الطبيعة. تمايز الذات ضرورة وليست اختيارا. والا اصبحت الذات موجودة في كل شيء مادي تكوينيا وليست وعيا تجريديا في فهم الحياة. ثنائية الذات مع الروح والزمن هي علاقة يجمعها ميتافيزيقا المطلق ويفصلهما فقدان الانسان لحياتة بالممات. ولا يوجد ماهو روحي خالد ولا ماهو زمني غير ازلي خالد بفناء الانسان.

كما هي الذات وجود متحقق بوعي العقل الا انها تفقد انطولوجيتها الحسّية والادراكية في نهاية الانسان بالموت. مثلما لا يستطيع الانسان إثبات وجود الروح بالجسم قبل الممات فهو اعجز أكثر عندما يبحث عن مصير الروح التي غادرت الجسد بعد الممات.

شذرة فلسفية

الحداثة والعلمانية: في تفسيرنا العنوان يتوجب علينا توضيح العلاقة بينهما (الحداثة والعلمانية) هل هي علاقة جدلية ام علاقة تخارج معرفي تكاملي ام هي معرفة متوازية في توازي احدهما الاخر. العلمانية بداية هي الخروج من معطف الماقبل حداثي وتبلغ اوجها في الحداثة وتصل قمتها المتطرفة اكثر في ما بعد الحداثة..

العلمانية واقع معيش يكفل للانسان كرامته وتحفظ له كامل حقوقه بالحرية المسؤولة ديمقراطيا التي تقوم على جملة القوانين الوضعية التي ينتفع منها الانسان. الاستقلال في التضاد الافتعالي مابين العلمانية والدين ليست علاقة ديالكتيك نفي أحدهما في بقاء الاخر. لكن بينهما ترابط ميتافيزيقا الدين، وتاريخية منهج العلمانية التي تسود هيمنته على كل ما يتجنب الديني الخوض في معتركه وفي انقياده للعقل المادي.

ما يثبته العلم تجريبيا لا يخوض معتركه الدين. الحداثة لا تقاطع الديني كمقدس ولا تسعفه بالتكامل المعرفي معه ميتافيزيقيا. لذا يكون الاسلم ان يحكمهما الاثنين نوعا من التوازي الاستراتيجي الذي يحفظ الاستقلالية لكليهما. من الخطا التفكير ان منجزات العلم ستترك الجوانب الروحية النفسية يقررها الاستفراد التدين الوضعي ويقرّه مستقلا به وحده..

شذرة فلسفية

ورد في ويكيبيديا الموسوعة في دفاع هيجل عن الحاد اسبينوزا ما يلي" ان هوية الله مع الطبيعة تلغي فكرة الله. والاصح ان هذه الهوية تلغي الطبيعة. وبدلا من اتهام اسبينوزا بالالحاد ان لا يسمى بالالهية بل يسمى بالكونية او اللاطبيعية بحيث لا يكون للكون وجود في ذاته. لان كل ما يوجد انما يوجد في الله".

اجد في تعبير هيجل حول توضيح معنى مفهوم وحدة الوجود لدى اسبينوزا تحليلا دقيقا سليما في تفعيله العقل معرفة دلالة هوية الخالق. ويذهب بعض الفلاسفة ان اسبينوزا له من الاعتقاد بالله ما يكفي او يزيد ما يجعله بعيدا عن الالحاد. اسبينوزا انكر المعجزات الدينية ولم ينكر الدين.

هيجل حينما استعار فكرة (هوية الله) المتجانسة مع الطبيعة على انها تلغي فكرة الطبيعة كانت فكرة صائبة تنظيريا لكنها خاطئة واقعيا. هذا لا يعني ان اسبينوزا لم يفهم الفرق بين هوية الله في الطبيعة التي هي مرتكز فلسفته بوحدة الوجود. وبين هوية الله الميتافيزيقية في مرجعية ما تقوله الكتب المقدسة والمعجزات الدينية.. الطبيعة ادراك محدود غير كوني ولا نهائي لا يجوز الاستدلال به في الغاء هوية الله الميتافيزيقية غير المحدودة لا بالصفات ولا باللامتناهي ولا في كل مطلق لا تدركه عقولنا المحدودة..

شذرة تاسعة

وحدة الوجود في فلسفة هيجل واسبينوزا: مذهب وحدة الوجود عند اسبينوزا يشبه الى حد كبير وحدة الوجود عند هيجل بفارق نوعي كبير. وأكثر مما يشبه وحدة الوجود عند هنود ألمايا، ويقرّ هيجل أن اسبينوزا كان محّقا الى حد ما عندما تصّور المطلق جوهرا واحدا، لكن المطلق بالفهم الفلسفي الهيجلي أبعد ما يكون عن فهمه أنه جوهرالهي. لذا نجد وجوب معاملة الجوهر "ذاتا" وليس هناك شيء بالمطلق لا يكون عقليا، من الممكن معرفته وتصوره عقليا ..

وحدة الوجود عند اسبينوزا حين يلتقي مع فهم هيجل، فهذا مؤشر على وجود إختلاف جوهري كبير بينهما يصل مرحلة التضاد. أهمها بداية أن أسبينوزا يفهم وحدة الوجود فلسفيا بمرجعية لاهوت الإيمان الديني بالخالق خارج الإيمان بالمعجزات، في حين يعمد هيجل فهم وحدة الوجود من منطلق فلسفي مادي على صعيد الفكر لا ديني يقوم على وحدة الادراك الكليّة العقلية في نزعة واقعية لا ميتافيزيقية..

اسبينوزا يرى بالمطلق الأزلي الشامل الإلهي جوهرا لا يمكن إدراكه خالق غير مخلوق، بدلالته ندرك الجواهر الاخرى في الطبيعة والاشياء. بينما نجد النزعة العقلية لدى هيجل تذهب خلاف اسبينوزا أن الله والطبيعة والانسان والميتافيزيقا تقوم على فكرة مطلقة واحدة عقلية لا دينية تجد أنه لا يوجد شيء حتى الروح لا يطالها الإدراك العقلي. فكرة المطلق الهيجلية تجدها تمّثل مدركات موجودات الواقع في كل شيء يدركه العقل.

مفهوم الجوهر يختلف تماما بين الفيلسوفين، ونجد هيجل متناقضا مهزوزا في فهمه الجوهر الذي يقصده اسبينوزا ولا يؤمن به، حيث يقول هيجل: اسبينوزا على حق في إعتباره المطلق جوهرا لا يمكن إدراكه، ليعود ينقض قوله هذا أن المطلق لا يلتقي الجوهر وهو خال من جوهر لا يدركه العقل.. تناقض هيجل يتعدّى هنا مفهوم الجوهر في الوجود الى الفكرة المطلقة التي تطال فيها مركزية العقل كل شيء.

هيجل يرى المطلق هو الواقع الذي يدركه العقل. مطلق وحدة الوجود عند هيجل هو مطلق إدراك العقل لكل شيء يكون موضوعا لتفكير العقل به. الفكرة المطلقة عند هيجل لا يمكن تحديدها فهي الوجود والصيرورة وهي الكيف وهي الماهية وهي الطبيعة والفكرة الشاملة (العقل).

هيجل لا يؤمن بجوهر مثالي غير عيني غير مدرك لا على مستوى الطبيعة ولا على مستوى المطلق الكوني الالهي. لذا يدعو الى معاملة الجوهر "ذاتا" يمكن حدّها وإدراكها العقلي المباشر في التعامل معها، وهو خلاف صميمي بالإجهاز علىفلسفة اسبينوزا في وجود جوهر كليّ شامل متكامل نعرف الوجود كاملا بدلالته. حينما نعامل الجوهر (ذاتا) كما يرغب هيجل نعامله كمدرك عقلي، يمكن تذويته بالموجودات التي ندركها على أنها صفات خارجية هي ماهيّة لا يحتجب جوهر وراءها، وهذا ينطبق على الحيوان والنبات والجمادات التي تكون جواهرها هي صفاتها الخارجية المدركة في ملازمة وجودها الواقعي.. لذا يوجد من يعتبر كائنات الطبيعة ما عدا الانسان جواهرها الماهوية تسبق وجودها في الطبيعة وعلاقة الانسان بها. لان الجوهر عند كائنات الطبيعة ماعدا الاستثناء الانسان مكشوف الدلالة. بخلاف الانسان وجوده المادي يسبق ماهيته كما رسّخت ذلك الفلسفة الوجودية الحديثة والماركسية. نستدرك أن معظم الفلسفات المعاصرة والحديثة تذهب الى أن جميع كائنات الطبيعية هي بلا ماهية ولا جوهر خفي، وصفاتها الخارجية المدركة هي ماهيتها وجوهرها معا ايضا.

إعتبار الجوهر ذاتا كما يدعو هيجل يعني يمكن إدراك جواهر كل الاشياء عقليا حسّيا كصفات خارجية للموجودات، وإذا سحبنا هذا التصور التذويتي في تشييء الخالق الجوهر المطلق (ذاتا) عندها يتاح للعقل إدراكه وينسف معنى التصور الديني الاسبينوزي أن الجوهر لا يدرك عقليا بل يحدس بمخلوقاته وموجودات الطبيعة. والجوهر عند اسبينوزا هو سبب الموجودات وليس ناتج محتوياتها. ولا يدرك الجوهر الإلهي بدلالة مخلوقاته بخلاف ما يعتقده العديد من الفلاسفة.

اسبينوزا يعتبر الجوهر الانساني سابقا على الوجود الشيئيء بخلاف الفلسفة الوجودية تماما، التي ترى الوجود يسبق الماهية او الجوهر. بمعنى ما عدا الانسان الذي لا يمكننا معرفة جوهره من ناتج ومحصلة إدراكنا لصفاته الخارجية، وجود الانسان سابق على ماهيته وجوهره الذي هو تصنيع ارادة ذاتية خاصّة بالانسان في حين نجد الحيوان والنبات والجمادات لها صفات خارجية فقط خالية من إحتجاب جوهر داخلها، وماهيتها كصفات وسائلية للانسان تسبق وجودها الانطولوجي. كل شيء تحتويه الطبيعة ما عدا الانسان هي موجودات لا تمتلك جوهرا. وندركها موجودات انطولوجية بصفاتها الخارجية فقط وهذا كاف كما تجده الماركسية والوجودية.

وحين يعتبر هيجل المطلق ذاتا يعني أضفى عليه صفة الإدراك الممكن له، وبذلك يفقده خاصّية الجوهر المطلق الإلهي في تعاليه على الطبيعة والكون والانسان. حين يقول اسبينوزا في معرض محاججته عن الجوهر إنني لم أنزل التعالي الإلهي الى مصاف الطبيعة الارضية في مذهب وحدة الوجود، بل حاولت رفع شأن الطبيعة بتقريبها من الجوهر الخالق لها. نجد هيجل أراد العكس في محاولته تذويت الالهي التشيئي كي ينزله من تعاليه على الطبيعة الى مساواته بها فيكون هذا التذويت التشييئي للخالق لا يختلف عن إدراك فكرة المطلق أنه يدرك كل شيء من ضمنها الذات الالهية فلا يوجد مطلق لا يدركه العقل لا دينيا ولا واقعيا كونيا ولا يبقى بعدها معنى ميتافيزيقي يراود قلق الانسان بالحياة في البحث عن الله.

نجد من المهم توضيح أن هيجل لا يأخذ مذهب وحدة الوجود وسيلة ألكشف عن شك يفقدنا برهان ألوصول لإيمان ديني، بوجود الخالق كجوهر نعرفه بدلالة الاعجاز التنظيمي في موجودات الطبيعة، فالفكرة المطلقة عنده هي الكلّي الشمولي الادراكي، وهي كل الواقع والكوني الذي في قدرة العقل إدراكه. ليس للبرهان على وجود مطلق كوني إلهي لا يدركه العقل حسب مفهوم اسبينوزا، وهو خالق الطبيعة وقوانينها الثابتة التي تحكمها بكافة تكويناتها من ضمنها الانسان.

هيجل لا يؤمن بميتافيزيقا خارج الطبيعة والمطلق الكوني رغم نزعته الفلسفية المثالية التأملية. ولا يوجد ما هو خارج قدرة العقل يمكن إدراكه. والطبيعة والكوني حسب هيجل أنهما القوانين التي تحكمها ويدركها العقل كونه جزء من الفكرة المطلقة إن لم يكن هو كل تلك الفكرة. المادية والميتافيزيقية التي هي أجزاء تكوينية لعقل مطلق هو فكرة مطلقة تدرك كل شيء ولا إدراك لشيء خارجها يمكن أن يكون موضوعا لادراك وتفكير العقل به..

شذرة فلسفية

العبارة التي وقفت عندها متأملا هي مقولة سارتر (جوهر الانسان الحقيقي أنه بلا جوهر) من السهل جدا أن نحسم خطأ العبارة بمصادرتها من نهايتها، ونقع نحن أيضا بالخطأ مع سارتر أن الانسان لا جوهر له في حين هو يمتلك جوهرا قيد التكوين والتصنيع مدى الحياة حسب فلسفة سارتر الوجودية نفسه. .وكي نناقش العبارة نقول الانسان يمتلك كينونة وجوهرا، لكن متى يكون الانسان فاقدا لجوهره ومتى يكون مالكا له؟ الجوهر في فلسفة سارتر سيرورة من الخلق الذي يلازم الانسان الى مماته.

هذا يتوقف على المرحلة العمرية للانسان ويتوقف ايضا على موقفه النفسي الصحّي، فالطفل يولد موجودا بلا ماهيّة ولا جوهر، صفحة بيضاء كما يعبر جون لوك، والجوهر الانساني في جميع المراحل العمرية هو عملية تصنيع ماهوي تلازم الانسان منذ الولادة والى الممات. أما المجنون فهو يمتلك وجودا لا جوهر حقيقي طبيعي سوّي له.

تصنيع الجوهر عند الانسان يقوم على ركيزتين الاولى أنه يعي ذاته عقليا طبيعيا كموجود في عالم، والثانية يعي مدركاته الخارجية بنوع من المسؤولية التي تتطلب قدرة على إمتلاك الحرية في إتخاذه القرار الصائب. . والجوهر الانساني ماهيّة يشّكلها الوعي الذاتي والمحيطي الطبيعي وتتجلى في صورة سلوك مجتمعي هادف بالحياة.

 ولتوضيح أكثر نجد:

* الوجودية تؤمن أن الانسان موجود طبيعي نوعي قبل أن يكون جوهرا محتجبا خفيا، فالانسان يوجد أولا وبعدها تتشكل ماهيته أو جوهره ذاتيا حسب مؤهلاته وقدراته وإمكاناته الفردية ومميزاته الخاصة به كفرد.

* يمتلك الانسان جوهرا ماديا مكتسبا مصدره الحياة التي يعيشها وتجاربه وخبراته ومميزاته الثقافية والسلوكية في تكوينه لشخصيته. بمعنى الانسان يصنع جوهره بقواه وإمكاناته الذاتية. الانسان كائن نوعي موجود بالطبيعة جزء منها متمايزعنها بصفات العقل والذكاء والوعي بالذات والمحيط والخيال.

شذرة فلسفية

من المرجّح أن جاستون باشلار أراد القول أن طرق الوصول الى المعرفة طرقا عديدة ومتنوعة بعديد وتنوع مواضيع المعرفة المختلفة، لذا إعتبر عدم إقصاء الذات المحضة، يحد من لا محدودية المعرفة بإعتبارها فضاءا مفتوحا يصل الى أن يكون مبحثا ميتافيزيقيا.

باشلار يجد في الباحث العلمي إستحالة وصوله مرحلة التحرر من مكبوتات اللاشعور المعيقة والآراء المسبقة التي تجعله يصل مرحلة حيادية نقدية متحررة من كل معيقات الإنحياز للمعرفة العلمية الخالصة.

من الملاحظ في فلسفة باشلار أنه من حيث تعالق المعرفة العلمية بالوعي التجريبي نجده في تحوله الفلسفي اللاحق يغادر اهمية فلسفة العقل في معرفتنا العالم، متجها نحو دراسة جمالية ألمكان والشعر والفنون التي هي الطابع النسقي العلمي العقلي الذي كانت تحكمه مواضيع مؤلفاته الاولى، الى مجالات مفتوحة لا يستطيع منهج نسقي يحتويها نظاميا مثل الكتابة الفلسفية عن الفن والجمال والشعر فهذه مباحث لا يحتويها النسق المعرفي القائم على وعي علمي معرفي بل على نسق قيمي اكسيولوجي يحكمه منهج علم النفس واللاشعور والعاطفة والوجدان والاخلاق.

شذرة فلسفية

بضوء بعض الاقتباسات لباشلار نستطيع المقاربة الفلسفية منها وتوضيحها بعد تثبيتنا لبعض منها: "الواقع لا يكون ابدا ما يمكن ان يظن انه عليه، بل هو دوما ما كان علينا نعتقده، وكل كشف لحقيقة يتم في جوهر من الندم الفكري، والفكر هو امام يسبق المعرفة العلمية لا يكون قط حديث النشاة، بل شيئا مثقلا بالسن، لانه يحمل من ورائه عمر طويلا يعادل عمر احكامه المسبقة. " كما طالب باشلار وجوب القيام بمراجعة نقدية على الدوام لبعض المفاهيم التقليدية الموروثة في فلسفة المعرفة، لانه ليس هناك لا حقيقة علمية مطلقة ولا قانون علمي مطلق، معتبرا المعرفة بطبيعتها تجربة عقلية نسبية لا حقيقة مطلقة تحتويها...

تعقيب توضيحي:

باشلار في عبارته الاولى يجد الواقع معرفة تسبق الفكر الاعتقادي القصدي المسبق عنها. لكنها تكون معرفة سطحية، كون كل كشف لحقيقة تتم في جوهر من الندم مبعثه البون الشاسع العازل بين الحقيقة المعرفية وتعبير الفكرالقاصرعنها في وعي الذات لها.

والمفارقة أن يعتبر باشلار الفكر يتقدم حقيقة المعرفة التي تحمل ميراثا طويلا من عمر الافكار المسبقة التي تجعل من المعرفة متراكما متجددا؛ كميا وكيفيا يسبق تصورات الفكرفي الحاضردوما. هنا باشلار يعتبر الفكر مكافئا جوهريا يوازي التراكم المعرفي الذي يتجدد كيفيا ذاتيا ولا يقاطعه، ويتغافل باشلار عن حقيقة المعرفة هي تراكم خبرة مكتسبة لا تمتلك قابلية التجدد المستمر وبناء نفسها ذاتيا دونما تداخل فكري معها جدليا.. وتخارجيا بالاضافة والتغيير.

كما أن المتراكم المعرفي لا يحمل ذاتا تعي علاقة الفكر الجدلية معها في نشدان تطورها. دائما يكون الفكر محكوما عقليا في توجهه بخلاف متراكم الخبرة الذي يحمل القيمة الدفينة فيه، ولا يمتلك قابلية عقلنته الفكرفيا الانطلاق من حقيقة الواقع الجدلية المتغيرة والصيرورة المتجددة غير الثابتة على الدوام، لذا تكون علاقة المعرفة بالفكر ليس علاقة تبعية ولا علاقة أسبقية تراتيبية بل علاقة جدلية تكاملية تفاضلية بمنطق الرياضيات، .

جدل تخارجي يقوم على علاقة تخليقية جديدة للمعرفة يتطورالفكر هو ايضا نتيجة هذا التداخل الجدلي بينهما المعرفة والفكر. والكشف عن المعرفة الحقيقية حين تكون ندما فكريا متراجعا بالنسبة لتخلف مواكبة الفكر للمعرفة حسب تعبير باشلار حيث يتراجع الفكر في تفسيره الواقع العلمي الذي يغذ السير التقدمي الحثيث نحو معرفة علمية في تخلف مواكبة الفكرلها. دائما نجد الواقع يتطور قبل الفكر.

الفكر حسب تعبير باشلار قدوة أمامية للمعرفة العلمية، العلم يتقدم الفكر هو شيء طبيعي، وطبيعة عكسية أن العلم يسير بهدي الفكر النظري القبلي لا بهدي التجربة البعدية ... هذا الفهم في علاقة الجدل بين المعرفة العلمية والفكر نجده غائما ولا يقوم على وضوح فلسفي نسقي، حيث نجد أحيانا عند باشلار تقاطعات فلسفية تتوزّعها تعالقات الأفكار بالمعارف تخرج من محدودية التجربة المعرفية الى فضاءات تجريدات الفكر خارج محدودية التجربة ..

منجزات العلم والفكر علاقة من الجدل الخلاق ليس بالتأثير المتبادل فقط، بل في جدل يحقق التسارع المتقدم في فارق زمان المسار بينهما. ويبني باشلار على هذه الحقيقة، نتيجة هي أن الجهل بحقائق الاشياء لا يجعل منها كينونات من وجود فارغ خاوي، فهو حسب فلسفته يعتبر البدء من نقطة جهل نحو السعي لتحقيق معرفة، في فلسفة باشلار تكون نقطة الجهل في الشروع هي معرفة بذاتها. يرادفها نقطة الصفر اذ تكون هي معرفة بدئية تمتلك مرجعية معرفية في تراكم خبرة سابقة عليها.

باشلار يعتبر الغاء الفكر المعرفي السابق بأنه جهل خاطيء هو نقطة صفر معرفية من التقاطع المعرفي معها الذي يبدأ الشروع في التحقق من بنائيات معرفية متعددة سابقة... ويرى باشلار مجرد ادراك الفكر الجهل بالمعرفة يجعل من الجهل نقطة انطلاق شروع معرفي جديد . كون العقل العلمي لا يبحث عن معرفة سبق له أن إكتسبها من قبل وأصبحت خبرة تراكمية مخزّنة. بل هو يبحث عما يجهله من معارف. غير مخترعة وغير مكتشفة.

وفي تعبير باشلار"المعرفة لا تنبثق عن جهالة كما ينبثق النور من الظلام"  يعني ليس هناك معرفة بدرجة الصفر في تقبلها النقد والاضافة والتجديد بلا مقدمات معرفية تسبقها موجودة فيها. باشلار يؤكد لا توجد معرفة جديدة قادمة من فراغ لا معرفي سابق عليها. باشلار حسب تقديري يريد التاكيد وبشدة على اهمية تراكم الخبرة.

شذرة فلسفية

لا يمكن لأحد نكران المعرفة هي موروثات من الخبرة التراكمية والنوعية المكتسبة لا يوقفها قطار الشد والجذب المعيق لتقدمها، المعرفة بطبيعتها هي صيرورة متقدمة الى أمام ونزوع دائمي في تحقيق معارف جديدة على أسس تشييد بنى معرفية سابقة عليها.

وبهذا المعنى يعتبر باشلار مسار المعرفة هو مسار تاريخ تصحيح الاخطاء العلمية، وهي العبارة التي نجد قريينتها المتطابقة معها في تعبير فينجشتين فيلسوف اللغة أن تاريخ الفلسفة عموما هو تاريخ تصحيح أخطاء تعبيرات اللغة القاصرة في ملاحقة تمام المعنى الصادق والصحيح في نقد الاخطاء وتحليلها. وهو المسار الذي دأب البحث عن معاني اللغة الجديدة التي لم يتم التعبير عنها بوضوح كاف. لذا يتوجب أن تكون المراجعة النقدية لتاريخية المعرفة هي تاريخ تصحيح افكار معرفية خاطئة وليس تاريخ إلغاء تام لها والبداية من نقطة شروع معرفية جديدة تبدأ من الصفر حيث لا يوجد بالمعرفة نقطة صفرلا معرفية.

الجدل عند باشلار هو نوع من جدل يقوم على تكامل الفكر والواقع، ولا يقوم على التفسير الجدلي المادي الماركسي القائم على التضاد. ويعتبر النقد منهجا في التفكير غير محايد، وهو إجابة عن تساؤلات يبتدعها النقد المعرفي البناء، ولا يجد تلك التساؤلات ناجزة ماثلة أمامه ليصطدم بالإجابة عنها. لذا تكون عملية النقد عملية إضافة معرفية متجددة على الدوام.

إتخذ باشلار موقفا فلسفيا منحازا الى المنهج الذي يرى في المسار العلمي ليس عملية مطردة في التقدم الى أمام، بل هو مسار متعثر تتخلله قطوعات تراجعية وأحيانا راكدة تشبه الى حد كبير القطوعات التي تعترض مسار التاريخ الانساني المليء بالصعوبات والرؤى المتناحرة المتضادة في تفسيره. ويقترب باشلار كثيرا من الفهم الماركسي إعتباره التقدم العلمي هو تراكم خبرة تتخلها طفرات نوعية تلزم تقدم المسار التاريخي بحتمية السير الخطي الى امام.

***

علي محمد اليوسف

في خضم التحولات الثقافية والاجتماعية المتسارعة التي يشهدها عالم اليوم، برزت ظاهرة "الفردانية المفرطة" كمظهر بارز لما يسميه علماء الاجتماع "تحوّل القيم الكبرى"، حيث يتمركز الإنسان حول ذاته في انفصال متزايد عن الجماعة، عن المسؤولية المشتركة، بل حتى عن روابطه النفسية والعاطفية. وبينما تُعدّ الفردانية في أصلها مكسباً حداثياً مرتبطاً بالتحرر والحق في الاختلاف، فإن إفراطها بات يهدد تماسك النسيج الاجتماعي ويحوّل الإنسان إلى كائن معزول، غارق في سردية الأنا، يلهث وراء إثبات الذات خارج سياق الانتماء.

لقد ظهرت الفردانية بوصفها إحدى الثمار الكبرى للحداثة الغربية، إذ نادى فلاسفة كـ"جون لوك" و"جان جاك روسو" بحق الفرد في تقرير مصيره، والخروج من سلطة المؤسسات التقليدية كالدين والملك والأسرة. كانت تلك الفردانية في سياقها التاريخي تحرراً من التراتبية الاجتماعية، وتأسيساً لفكرة الإنسان كمركز للمعرفة والقرار. لكن مع صعود النيوليبرالية الاقتصادية والثقافة الاستهلاكية منذ سبعينيات القرن العشرين، تحولت هذه الفردانية إلى حالة مفرطة من التمركز حول الذات، واختزال الإنسان إلى مشروع ذاتي، يسوّق نفسه ويقيس نجاحه وفق منطق الربح والخسارة.

ويشير عالم الاجتماع الفرنسي جيل ليبوفتسكي إلى أننا دخلنا "عصر الفراغ"، حيث تراجعت القيم الجمعية الكبرى لصالح نزعة فردانية تُمجّد الحريّة دون مسؤولية، والتعبير عن الذات دون انتماء. إنها "الفردانية النرجسية" التي وصفها كريستوفر لاش بأنها حالة من الانكفاء على الذات بحثاً عن اعتراف دائم، لكنها في العمق تُخفي هشاشة نفسية واجتماعية عميقة.

وساهمت الثورة الرقمية ومواقع التواصل الاجتماعي في تعزيز هذه النزعة الفردانية إلى أقصى مدياتها. فباتت الذات تُعرض كعلامة تجارية تُسوّق أمام جمهور افتراضي: الصور، الآراء، تفاصيل الحياة اليومية، كلها تتحوّل إلى أدوات لإثبات الوجود وتحصيل "الإعجابات". في هذا السياق، لا يعود الآخر شخصاً أتعامل معه، بل جمهورًا يُقيّمني. وهكذا، يعيد الإنسان تشكيل ذاته وفق معايير خارجيّة لا تُعبّر بالضرورة عن عمقه الوجودي، بل عن صورة مصنّعة تطلب التصفيق.

هذا الواقع الرقمي، رغم ظاهره التشاركي، يُغذّي الانعزال، إذ يخلق وهمًا بالتواصل، لكنه في الحقيقة يعمّق الشعور بالوحدة، ويُضعف القدرة على بناء علاقات حقيقية قائمة على الثقة والانتماء والاستمرارية.

نتيجة لهذا التحول، شهدنا تراجعًا واضحًا في بنى الانتماء التقليدية: تفكك الأسرة، ضعف التضامن الاجتماعي، تراجع الالتزام بالشأن العام، بل حتى ازدياد العزوف عن المشاركة السياسية أو المدنية. أصبحت الجماعة بالنسبة للفرد مجرد وسيلة أو عبء، لا ضرورة وجودية. يقول عالم الاجتماع زيغمونت باومان إن مجتمعاتنا المعاصرة أصبحت "سائلة"، أي هشّة، لأن الروابط التي تربط الأفراد لم تعد قائمة على المعنى المشترك، بل على المصلحة المؤقتة والهوية المتغيرة.

وهكذا، لم تعد الجماعة هي الحاضنة التي توفر للفرد الأمان والقيمة، بل بات يُنظر إليها كقيد على الحرية، أو كعائق أمام التعبير عن الذات. وهذا ما يعزز بدوره شعوراً متنامياً بالوحدة، واللاجدوى، والانفصال الوجودي، خاصة بين فئة الشباب الذين يجدون أنفسهم في مواجهة عبء "بناء الذات" دون دعم جماعي حقيقي.

ليس المقصود من نقد الفردانية المفرطة الدعوة للانصهار داخل الجماعة، أو العودة إلى أشكال قهرية من الانتماء. بل المطلوب هو بناء شكل جديد من الفردانية المتوازنة، التي تحفظ للإنسان حريته، ولكن تُعيد وصلها بالمسؤولية الأخلاقية تجاه الغير والمجتمع. فالفرد لا يكتمل بوجوده المادي أو الرقمي، بل يتشكل من خلال علاقته بالآخرين، ومساهمته في صناعة المعنى المشترك. ويمكن التأسيس لفردانية مسؤولة من خلال: إعادة الاعتبار للتربية على المواطنة والانتماء، دون فرض الامتثال، وبناء محتوى ثقافي ناقد لخطابات الأنانية الاستهلاكية، وتشجيع المبادرات الجماعية التي تحفّز على المشاركة والتعاون والتضامن.

تبدو الحاجة اليوم ماسّة إلى مراجعة شاملة لنمط حياتنا الحديث الذي يضخّم "الأنا" على حساب "النحن". فالفرد لا يمكنه أن يحيا بالانعزال، ولا أن يُحقق ذاته بالانفصال عن الجماعة. الإنسان، كما قال أرسطو، "كائن اجتماعي بالطبع"، وهذه الحقيقة لا تنتفي مهما تطورت التكنولوجيا أو تبدّلت القيم. إن تجاوز الفردانية المفرطة هو المدخل الضروري لإعادة المعنى للعيش المشترك، وللإنسان نفسه.

***

د.هدى لحكيم بناني

شذرة فلسفية

جمالية المكان هو عنوان أحد مؤلفات جاستون باشلار الذي يرى في بيت الطفولة خيالا يتجاوز محدداته الهندسية كبناء مادي، ليكون المكان ذخيرة مخيّلة تسرح وتحلم بفضاء أفقي ممتد غير محدود لامتناهي العواطف والانفعالات النفسية التي تعتبر موجودية المكان ماديا هي موجودية خيالية.

باشلار رغم محاولته المستميتة تجريده المكان من طبيعته المادية الثابتة كبناء قائم على شكل هندسي معماري ثابت، إلا أنه يعامله على أنه مصدر إستثارة عاطفية نفسية تتعالق بروحانية المكان لا في ماديته.

باشلار يعالج فهمه الفلسفي للخيال متجاوزا منظوره الذي إعتدناه أنه خيال ماض مستمد من الذاكرة ، وليس تجريدا معرفيا في معالجته موضوعا انطولوجيا واقعا حضوريا. الخيال في منظوره هو ملكة أو قابلية تحويل ما هو مادي الى مصدر خيالي غير محدود وبالعكس ايضا.

يعتبر باشلار الخيال وعيا ذاتيا يترجم دواخل إرتباط الوعي كمدرك قصدي لا يشترط أن يكون موجودا انطولوجيا، بل الخيال له تداعيات من اللاشعور في تجريد قائم على موضوعات تقوم هي الاخرى على إحالة الى تجريد خارج مألوفية أن يكون الخيال إدراكا حّسيا لمكان متعيّن وجودا، يحدّه الادراك الزمكاني حين يكون موضوع الخيال غير مطلق بل محدود بزمانية تحكمه بالادراك المكاني.

باشلار يبحث الشعر في جوهره الشكلي على أنه صورة المخيلة الشعرية، ويعتمد فلسفيا المنهج الظاهراتي الذي مرتكزه اللاشعور النفسي وليس على التقيّد بمنهج الفينامينالوجيا التي تجده الظاهراتية هو الوجود المدرك حسّيا أي فينومين اي الصفات الخارجية. وما لا تدركه الحواس ومنظومة العقل الإدراكية هو النومين أو الوجود بذاته وهي الجوهر او الماهيّة. الذي إعتبره كانط لا يمكن إدراكه عقليا ومن الأجدى الأنفع ترك الخوض في غمار بحث لا يمكن التثبّت منه إدراكيا..

باشلار يجد في اللاشعور إنتاجية المخّيلة الشعرية للصورة الشعرية التي يعبّر عنها بقوله " هي نتاج مباشر للقلب والروح والوجود الانساني، وهي مدركة في حقيقة هذا الوجود "، يبدو واضحا باشلار يستعير المنهج الظاهراتي في إثارته إشكاليات معلقة لا يعطي هو حلا لها بل يتوخى غيره تفكيكها.

مثال ذلك تعبيره " كيف يمكن لنا أن تكون ظاهرية الصورة تسبق الفكرة، لذا علينا أن نقول الشعر هو ظاهراتية الروح أكثر من ظاهريات النفس "

محاولتنا قراءة مفهومية لهذا التعبير الذي يقودنا الى المنهج الظاهراتي عليه تكون ليست هناك إشكالية معيارية منطقية أن الشيء بظاهراته المدركة يسبق فكرة التعبيرعنه. من حيث ندرك الوجود بصفاته الخارجية قبليا في تجريد تعبير الفكر عنه لغويا بعديا.

تعبيرات باشلار بمقدار وضوحها الفلسفي المباشر إلا أنها توقع المتلقي في غموض إبهامي إستعصائي يصبح متناقضا إشكاليا، فمثلا حين لا يكون هناك تعبيرا واضحا بين النفس والروح بعلاقتهما في اللاشعور المستثير للمخيلة الشعرية. فهو يعتبر الصورة الشعرية تمثل ظاهراتية الروح وليس ظاهراتية العقل. وسبب ذلك ان الصورة الشعرية تستمد حقيقتها اللاشعورية من الروح التي من الممكن أن يعتبر معنى النفس المرتبطة بالشعور وليس معنى الروح المحلقة التي هي أقرب الى  اللاشعور الخيالي المستمد من الذاكرة.

ويثير باشلار أرجحية إرتباط " الشعور الذي يعتبره هو التزام الروح والوعي المتصّلين ببعضهما، ويكون الوعي بذلك أكثر إسترخاءا وأقل قصدية من الوعي المتصّل بظاهرية العقل، وهناك قوى تتبدى في الاشعار لا تمّر عبر دوائر المعرفة المعلقة ". خارج تصورات الشعرية التي يكون الوعي أكثر إرتباطا بالشعور من الإرتباط بالعقل المقفل منطقيا. العقل  يتعامل مع الشعر بصرامة المنطق الشعوري بما يلغي خاصيّة الشعر أنه فعالية مستمّدة من مخيّلة اللاشعور.

تعبير باشلار عن الروح حتى وإن بدا لنا ملتبسا في معناه أنه يرادف لفظة النفس، فهي لا تحتوي الوعي الشعوري. "وأن الشعر يكون أدخل الحرية في جسد اللغة ذاتها"  وهو ما لا غبار عليه أن الشعر المعاصر أدخل الحرية باللغة، التي لم تغفل الفلسفة هذه الميزة حيث هي الاخرى أدخلت الحرية في الفلسفة بما ليس له حدودا. الحرية وجود فضائي متحقق لمجمل نواحي الحياة وإبداعات الانسان بالفكر والمعرفة والعلم وفي كل شيء.

الحرية خارج التداول الايديلوجي السياسي وإمتدادها الى متداخلاتها مع حقوق الانسان ومحاربة التمييز العنصري وحقوق المرأة وحرية المعتقد وحرية التعبير وغيرها، وفي كل هذه المناحي المنسحبة على الادب والثقافة، جعلت حرية الشعر إنعتاقا متمّردا على كل تقييد بما يحتويه من عواطف ومشاعر تأخذ تعبيرها اللغوي المتحرر تماما عن كل القيود.

لكن حين أدخل الشعر الحرية في جسد اللغة، جعل الحرية تشتت الوعي الجمالي في تذويتها الصورة الشعرية ضمن فضاءات إحتوائية وتموضعات لا حقيقية ، وتم التعبير عن هذه الحقيقة " لا شعر دون خلق مطلق". مطلق التعبير اللغوي عامة هو الوعي القصدي الذي يحكم عبور اللغة الى ما بعد اللغة كما يرغب الشعر تحقيقه. وهذا النوع من التعبير يجعل من لاشعور الصور الشعرية ترتبط بكل فضاء مفتوح روحاني والأصح نفسي هارب من هيمنة العقل.

شذرة فلسفية

هيجل والجدل: يصنف دارسي فلسفة هيجل انها قامت على ثلاثة  ركائز هي المنطق، والطبيعة ، والروح، معتبرا الطبيعة هي (تخارج) العقل بالمكان، والروح أوالتاريخ هو تخارج العقل في الزمان.

السؤال لماذا استخدم هيجل لفظة (تخارج) بدلا من لفظة (جدل)؟ الاجابة ان هيجل في تنظيراته المثالية الجدلية لا يؤمن بوجود قانون جدلي يحكم الطبيعة والتاريخ وحياة الانسان ونوضح هذا لاحقا. فحين يقول طبيعة العقل الجدلية هي التي تضفي الجدل على المادة والتاريخ فهذا لا يؤمن بجدل يعمل باستقلالية عن رغائب الانسان.

تخارج العقل مع الطبيعة هو تخارج تكامل (معرفي) وليس تضادا جدليا ينتفي اطراف الجدل كليهما نوعيا في ميلاد المركب الثالث الجديد، على قدر اعطاء العقل موجودات الطبيعة من ادراك معرفي، تقابله الطبيعة بتبادل متخارج يعمل على تطوير العقل معرفيا ايضا.

التخارج المعرفي لا يقوم على مجانسة نوعية بين العقل والطبيعة بدلا من جدل غير حاصل على صعيد علاقة العقل بالطبيعة كبنية ادراكية شاملة او كموضوعات وجودية منفصلة بصفات وماهيات مختلفة. التخارج الجدلي بين العقل في ادراك تجريد التعبير اللغوي الصادر عنه هو من نوع وعي قصدي معرفي.

اما ان العقل يدرك علاقته بالاشياء جدليا فهذا يلزم العقل بتفكيره التجريدي الدخول في جدلية تجمع الفكر بالمادة المدركة في تضاد يجمع نقيضين في مجانسة نوعية واحدة لانتاج مركب ثالث. لا اعتقد جدل الفكر مع الواقع يقوم على تضاد يجمع نقيضين متجانسين بالماهية والصفات، بل يدخلان بعلاقة تخارج معرفي كما سبق وذكرنا. لذا فالديالكتيك لا اثبات على انه يحكم التاريخ من دون رغبة الانسان.

شذرة فلسفية

تربية العقل تربية جدلية منهجية في التفكير وفهم العالم والحياة ليست مسالة سهلة من حيث تباين واختلاف طبيعة الجدل بين الوعي القصدي الانفرادي كسلوك نحو تحقيق هدفه وبين الجدل كفلسفة عقلية لا يمكن تلقينها للفرد تربويا ايديولوجيا. كما لا يمكننا اعتبار اكتساب التفكير الجدلي تنظيرا يمنح صاحبه ادراكه الواقع جدليا. من حيث المسلمة الخاطئة ان جدل الواقع يحكمه قانون طبيعي منعزل عن تحقيق رغائب الانسان أو امكانية التداخل معه. جميع المؤثرات الموضوعية الخارجية تكون علاقتها مع ظاهرة جدلية تمثّل دور العوامل المساعدة في تسريع عملية الجدل بالظاهرة ولا تدخل في تكوينها ولا في عملها.

وسنتناول الجدل في مفهومه الفلسفي الذي هو الاخر يرتبط بالسلوك النفسي للفرد اكثر من كونه فلسفة فهم مظاهر الحياة. كون الجدل هو وعي ادراكي في فهم الحياة وفق منهج جدلي خاص بفرد لا يمكننا تلقينه تربويا للمجموع. 

صحيح العقل اعدل قسمة مشتركة بين الناس في التفكير كما يصفه ديكارت لكن خاصية الجدل ليست خاصية عقلية مشتركة تجمع طبيعة تكوين غالبية عقول الناس. الجدل ليس ناتج تناقض مادي مصدره عقل الانسان وانما مصدره واقع مسيرة الحياة. بمعنى على خلاف هيجل الواقع يخلق التناقض الفكري ولا تخلقه طبيعة العقل الجدلية بالفطرة.

حسب فلسفة هيجل يقول (العقل بطبيعته جدليا) بمعنى ان الجدل خاصية تفكيرية بيولوجية فطرية طبيعية لا يكتسبها الفرد ولا يتعلمها من المحيط. من حيث جدل العقل هو الذي يخلق جدل الواقع والموجودات بالطبيعة ولا يكتسبه منها. وفي هذا تضاد جوهري مع مقولة ماركس ان جدل الواقع هو الذي يضفي جدله على تفكير العقل وليس العكس الذي يقول به هيجل.

ليس من المعقول منطقيا فلسفيا وحتى عضويا بيولوجيا ان نحصر خاصية العقل الاساسية انها خاصية جدلية فطرية وليست خاصية مكتسبة من الواقع. السيرورة الطبيعية في تقدم الحياة هي التي تملي على التفكير العقلي صفته المادية الجدلية او صفته المثالية المجردة.

جوهر فلسفة هيجل (المنطق موضوعه العقل) يلاحظ هنا كيف قلب هيجل اولوية المنطق على ثانوية العقل في وقت المنطق هو ماهية ناتجة عن تفكير العقل ولا وصاية لها عليه.. العقل لا يكون موضوعا للمنطق الذي هو ناتج تفكير العقل. ويضيف هيجل ان (المنطق هو علم العقل الموضوعي وعلم العقل الذاتي). من التبرير المسوّغ ان يكون المنطق هو علم العقل الموضوعي، اما ان يكون المنطق علم العقل الذاتي عندها يصبح المنطق سلوكا قصديا يقوم على مرجعية علم النفس السلوكي وليس على ادراك العقل لموجودات العالم الخارجي.

فالعقل غير ممكن ان يكون موضوعا لنفسه بل ان يكون العقل ادراكا ذاتيا هو في توكيد ادراك الذات له بمعيارية الاختلاف مع موضوعها موجودات العالم الخارجي.عندما يتشبث هيجل وباصرار عنيد على مثالية التفكير في تغليبه المنطق موضوعه العقل، رغم تباين الاسبقية في التقديم والتاخير بين اولوية العقل على المنطق مع اولوية المنطق على العقل. انما هو – هيجل – يعمد الى تصنيع مقولات العقل المنطقية في اسبقيتها على الواقع. المنطق نسق مهمته تفسير وفهم الحياة ولا يهتم المنطق ان يجعل موضوع تفكيره العقل. بل هو دلالة عقلية لتفكير منطقي.

نعود لمركزية فهم هيجل لجدلية العقل الذي يعتبرها خاصية طبيعية في ادراكه النسق الجدلي الذي يوجده تفكير العقل الجدلي في الطبيعة والاشياء القائم على طبيعة العقل الجدلية بالفطرة التي هي تضفي على مواضيعه الادراكية النسق المنهجي الجدلي.

بمعنى جدلية العقل تسبق جدلية مواضيعه التي تنقاد له. بتوضيح اكثر يفترض هيجل انعدام الجدل في الواقع او حضوره هو الذي يحدده تفكير العقل ذو الخاصية الجدلية الطبيعية التي تملي على مدركاته الواقعية نوع من النسق الجدلي القائم على الحركة الدائمية والتطور.

معادلة اسبقية جدل العقل على جدل الواقع لدى هيجل تنعكس لدى ماركس ان جدلية الواقع الذي تحكمه الحركة الاصطراعية الذاتية المتضادة هي التي تملي على العقل جدليته الفكرية. وكلاهما لا يمتلكان تقديم اثبات ادعاءاته في ان الجدل حاصل سواء بالفكر او بالواقع.

كيف يثبت هيجل ان طبيعة العقل جدلية وليست ليبرالية راسمالية في فهم الحياة؟ وكيف يثبت ماركس خارج منهج الاستقراء التنبؤي ان الجدل قانون طبيعي يحكم المادة والطبيعة خارج ارادة الانسان التداخل معه وتجييره لمنفعته؟

الجدل من حيث هو طبيعة عقلية والجدل من حيث هو قانون يحكم المادة والتاريخ بمعزل عن تداخل ارادة الانسان به كلاهما مبني على تصورات افتراضية لا يمكن التحقق الاثباتي منها. الجدل كقانون تفسيري وضعي يختلف عن القوانين الطبيعية الثابتة التي لا يستطيع الانسان باردته المحدودة التداخل معها.

فقانون الجدل يحكم حياة الانسان العملية واقعيا ولا يحكم الجدل الطبيعة بما هي طبيعة طابعة التي هي حسب تعبير اسبينوزا هي مايكون متصورا بذاته ومحصورا بذاته.. مثلما يعجز العقل عن تغيير مباديء الرياضيات والفيزياء والكيمياء كقوانين ثابتة قابلة للتطوير الاضافي لكنه اي العقل يعجز ان يفهم كل ظاهرة بالحياة والطبيعة تتطور جدليا.

شذرة فلسفية

يستعير فلاسفة المنطق عبارة هيجل " الحقيقة هي الكل" بمعنى فهم الحقيقة لا يكون صائبا الا اذا كان ضمن نسق تام من الترابط المنهجي الحقائقي الذي لا يتقبل التجزئة على حساب تفكيك الهيكل النسقي الكلي الذي يضيع في فك ترابط أجزائه وفصلها عن بعضها البعض. ويفرق فيلسوف المنطق "بوزانكت" أن الحقيقة لا يفهم معناها ولا تكون صائبة الا ضمن نسق منتظم يحتويها. والحقيقة لا يمكن الاستدلال عليها إلا اذا كانت ضمن نسق كلي ترابطي داخليا يجمعها بغيرها في بنية كلية واحدة. وهو منطق فلسفي صحيح جدا.

والحقيقة المنطقية هي ليست الحقيقة في المفهوم الفلسفي الذي يقوم على نسبيتها وحمولة الخطأ والصواب معا بداخلها، وحتمية إندثارها حينما تكون (درجة) في سلم مفهوم البحث الدائب عن مطلق الحقيقة الوهمي الزائف الذي لا يمكن بلوغ أزليته. ترافقها حتمية تطورها النسبي على الدوام عندما تكون حقيقة (نوعية) لا تندثر ولا تموت بل تستحدث نفسها بإستمرار.

منطق الحقيقة النسقي هو غيره مفهوم معنى الحقيقة الفلسفية، فالمنطق لا يعتبر إكتساب الحقيقة المجردة مصداقيتها كما هي في المفهوم الدارج في تطابق الفكر مع الواقع في معرفة حقيقة المادة، بمعنى آخر تطابق تعبير اللغة مع الموجود الشيئي تطابقا تاما يعطيه حقيقته المادية الصادقة.

وتأكيد هذا المنحى لدى فيلسوف منطقي مثل " بوزانكت" الذي لا ينكر وجود الوقائع الانطولوجية الشيئية منفردة مستقلة في العالم الخارجي تعبر عن نفسها في إدراكها الحسي لكنه لا يعتبرها حقائق معرفية.

الحقيقة في الشيء المنفرد المادة التي تدرك حسّيا في تطابق وجودها الخارجي مع معنى الفكر المعبّر عنها وعيا لغويا، والتي لا يحتويها نسق ترابطي من الحقائق داخليا وتكون حقيقة منفردة لوحدها. الحقيقة التي لا تشكل إنتظاما نسقيا متداخلا بغيرها لا معنى لها. لذا تكون الحقيقة التي تدركها الحواس زائفة كونها تعبر عن موجود خارجي منفصل عنها.

 يعتبر فلاسفة المنطق ما أشرنا له في تعبيرنا الدارج الذي يعتبره كلا من برادلي وبوزانكت هو في مطابقة الدال مع المدلول مطابقة تامة لا تحتمل غير التاويل الوحيد المتعيّن بحقيقة الشيء.

لذا تكون مطابقة أفكارنا مع وقائع موجودية بعينها لا يمنحها حقيقتها الصادقة حسب المناطقة. كذلك حقيقة الشيء المادي المتعيّن هو ليس منطق حقيقة المفهوم الفلسفي. منطق الحقيقة الذي لا يأخذ بمبدأ الترابط في التطابق خارجيا في معناه مطابقة الفكر لما هو واقع عياني في الوجود وهو مايخص المادة كموجودات متناثرة في عالمنا الخارجي، أي هنا تلعب الحواس دورا مهما مركزيا في خلق التطابق الخارجي بين الفكر والاشياء خارجيا الذي نطلق عليه حقيقة ذلك الشيء. أما إدراك الحقيقة كمفهوم تجريدي إنما يكون في ترابطها الداخلي ضمن نسق كلي موحد.

والطعن بمبدأ الترابط الخارجي بين الفكر والمادة في تحقق تطابق المعنى الذي يخص المتعيّن الانطولوجي المادي منطقيا وليس منطق الترابط الداخلي النسقي الذي تختص به الحقيقة كنسق مفهوم تجريدي يعتمده منطق الفلسفة يقوم على أربع ركائزحسب إجتهادنا هي:

- الحواس في جوهرها الحقيقي هي تضليل العقل في معرفة حقائق الوجود النسقي منهجيا. ولا يعني هذا الانسياق بالخطأ ان جميع المحسوسات التي مصدرها الحواس لاقيمة لها. لاننا بهذا الفهم الاعتباطي الساذج نلغي وجود منظومة عقلية ماهيتها التفكير وتزويدنا بالمعرفة عن عالمنا وعن موجودات الطبيعة والحياة من حولنا كافة.

- عدم تطابق حقائق الاشياء في نظام نسقي داخلي يجعل منها اجتزاءات فاقدة لجوهر تحققها المنطقي وليس تحققها الحسّي الانفرادي.فمدركات الحواس للاشياء خارجيا زائفة منحلة زائلة قياسا لمدركات الفكرالثابتة بما يخص علاقته التطابقية مع النسق الداخلي للحقيقة.

- تطابق حقائق الاشياء خارجيا لا يكافيء ترابطها الحقيقي المنطقي داخليا عندما يحتويها نسق كلي يعطيها حقيقة معناها ولا يؤخذ بترابطها الخارجي التقليدي في مطابقة الادراك عن الشيء في وجوده الانطولوجي..

- لا مجال لنكران دور العقل في التعبير عن حقائق الظواهر والاشياء في إرتباطها الداخلي مع بعضها البعض كنسق والخارجي في مطابقة معنى الفكر اللغوي مع الشيء على السواء. وكل ما لا يدركه العقل لا يمكن معرفة حقيقته الزائفة ولا الصادقة معا. وسيلتا إدراك العقل للعالم الخارجي هما الحواس والدماغ والمخيلة فقط.

شذرة فلسفية

رغم مثالية المناطقة في معرفة الحقيقة إلا أن التفسير المنطقي للحقيقة مستمد من التفكير العقلي الذي لا يقوم على انطولوجيا موجودات الواقع بل في دراسة النظام المنطقي الداخلي الذي يحتوي الحقيقة نسقا ادراكيا تصوريا تجريديا.

بهذا يكون تحليل المنطق في إنكاره علاقات الترابط الخارجية بين الوقائع وإدراكها الفكري المطابق لوجودها لا يمنح حقائق الاشياء في ترابطها بمنظومة النسق الكلي داخليا مصداقية وأرجحية على صدقية معرفة الحقيقة.

فمعرفة حقيقة المادة حسّيا عقليا لا يعني معرفة حقيقيتها الجوهرية ، كذلك معرفة الحقيقة المجردة في إنتظامها النسقي المترابط داخليا لا يمنح مفهوم الحقيقة المجرد مصداقيته اليقينية. معنى دلالة الحقيقة في الوجودين المادي والمثالي لا يدرك العقل أصالتها من زيفها تماما..

يقر برادلي ومعه مناطقة المثالية معرفة الحقيقة لا تكون بإدراكها التصوري، فالتصورلا مكان له في التفكير الفعلي إلا بوصفه جزءا من (حكم) يشترط معرفة الحقيقة أن تكون نسقية منطقية مترابطة غير مجزأة الى قطوعات تنهي الهيكلية الكلية الانتظامية للترابط الحقائقي. فقد إعتبر بوزانكت حكم الادراك الحسي الخارجي المألوف تداوله يعد تعبيرا جزئيا عن الواقع في غير حقيقته. أما الحكم المنطقي والكلام لبوزنكارت فهو في تأكيد كلية الواقع في صورة شمولية عامة.

تعقيب:

- الادراك التصوري الحسّي التجريدي لاشياء العالم من حولنا هو الطريقة الوحيدة التي يتوفر عليها العقل. ولا يتوفر العقل على إدراك الحقيقة المجردة حتى لو كانت – إفتراضا – هي حلقة في منظومة نسق داخلي لا يدركه العقل مباشرة لا بالحس ولا بالحدس.

- الادراك التصوري ليس جزءا من (حكم) مثالي يعبرمن فوق الواقع، فالادراك مرحلة بدئية اولى في سلم المعرفة الحقيقية تبدأ بالحواس وتنتهي بالعقل. سواء أكان المدرك ماديا حسيا أو موضوعا متخيلا تجريديا من تداعيات تفكير الذاكرة. منظومة العقل الادراكية التي تبدأ بالحواس وتنتهي بالدماغ هي نسق منتظم بدونه لا يتحقق للعقل أي نوع من الادراك.

- الحكم على الكليّات ليس حكم حقيقة صائبة تماما بل حكم إحتمال.

- الحكم على حقائق العالم الخارجي في كليته يلغي الخصوصية الانفرادية لكل حقيقة جزئية، فمثلما يكون الاهتمام بجزء من النسق الكلي هو إنحلال لوحدته المتكاملة كذلك الحكم الشمولي هو تضييع خصوصيات الاجزاء الحقيقية.

- الحكم على الواقع يأتي من أسبقية وجوده المادي على كل تفكير، والواقع هو ما يحدد نوع الحكم وليس نوع الحكم يخلق حقائق الواقع.

- في لغة المناطقة الذي ينكر الاستدلال الكلي بدلالة الجزء، فهذا لا يبيح أن يكون الحكم المنطقي الكلي هو في إهمال خصوصيات أجزائه ضمن النسق الذي لا يعير فيه الحكم حقائق الاجزاء أدنى إهتمام في تشكيل النسق الكلي العام.

 شذرة فلسفية

يطرح برادلي في كتابه (المظهر والحقيقة) عدة مفاهيم نجدها متناقضة في بعض منها:

- يعرف برادلي المظهر – ويعني به الصفات الخارجية – ليس هو الظاهري، سواء فهمنا هذا الظاهري على أنه معطى في الوعي أو أنه مقابل الشيء في ذاته، والمظهر ليس مجالا معينا للوجود أو الفكر يتميز عن أي مجال آخر.1

أود في تعقيب بسيط قبل الانتقال الى فقرة أخرى لبرادلي، أن ظواهر الاشياء ليست معطى في الوعي، بل هي معطى إدراك حسّي قبلي يتبلور لاحقا بالفكر الى وعي عقلي مجرد. إدراك الشيء لا يكافيء معنى الوعي به. الصفات الخارجية للاشياء هي ادراك حسي قبل كل شيء. وطبعا صفات الشيء أو الظاهر منه لا يشابه كما ولا يمثل الشيء بذاته.

معلوم الشيء بذاته هو الماهية أو الجوهر الذي لا تدركه الحواس ولا يدركه العقل الا في ماهية الانسان فقط.، فكيف يكون الجوهر أو الماهية معطى للوعي يكافيء وعي الصفات الخارجية لذلك الشيء.؟ ثم ومن المرجح الذي اؤيده أنا أن يكون جوهر الشيء تتقاذفه فرضيتان: الاولى لا يمكن الجزم القاطع أن الاشياء وكائنات الطبيعة الحيّة تمتلك جوهرا هو غير صفاتها الخارجية باستثناء الانسان الذي يمتلك كينونة موجودية تسبق ماهيته الجوهرية. الثانية توجد دلائل يقينية ثابتة أن الحيوان والنبات والجماد جميعها لا تمتلك ماهيات هي غير صفاتها الظاهرية الخارجية التي يدركها العقل الانساني.

- في فقرة لاحقة أخرى يناقض برادلي علاقة ظواهر الاشياء بحقيقتها قوله: المظهر هو الحقيقة المطلقة للشيء، ولا يوجد ما يعقبها، والحقيقة التي يتوزعها تقسيم العالم الى جزئي وكلي، يجعلنا ندرك حقيقة ما هو جزئي في تعميمها على ما هو كلي.. وبذلك لا يكون هناك فرق يذكر بين حقيقة نسبية واخرى مطلقة.

لا امتلك تعليقا إدحاضيا لما ذكره برادلي من خلط جرى توضيحه سابقا من قبلي في هذه المقالة أكثر مما ينبغي تكرار مناقشته وتوضيحه، فقط اتساءل كيف يكون المظهر (الصفات الخارجية) هو الحقيقة المطلقة للشيء الذي لا يوجد ما يعقبه.؟ ومن قال أن جزئية حقيقة شيء كافية لجعل كليته حقيقة مطلقة بدلالة معرفة مطلق الجزء الوهمي؟ المظهر هو صفات الشيء المدركة خارجيا وهي في تغيير مستمر فكيف لا يعقبها حقيقة مطلقة أخرى غيرها؟ مطلق الحقيقة وهم ركض وراءه عشرات الفلاسفة ولم يستطيعوا حتى ولو تعريفه وليس بلوغه.

أختم برأي ورد على لسان هيجل (الحقيقة هي الكل) بمعنى الحقيقة الكلية هي نسق متكامل من الصعب معرفته بدلالة معرفة الجزء. عبارة هيجل تكررت استعارتي لها مرتين في مفتتح هذه المقالة وفي نهايتها لأهميتها..

***

علي محمد اليوسف – باحث فلسفي

 

تمهيد: الحقيقة مفهومٌ مُعقّدٌ ومتعدد الأوجه، وقد ناقشه الفلاسفة على مرّ العصور. وبشكلٍ عام، يُمكن تعريف الحقيقة بأنها بيانٌ مُطابقٌ للواقع. ومنذ عصر أفلاطون، فُهِمَت الحقيقة بأنها ما هو حقيقيٌّ وغير مُشوّهٍ بإدراكاتنا أو أحكامنا المُسبقة. إلا أن هذا التعريف للحقيقة يواجه تحديين رئيسيين: ذاتية إدراكنا للواقع، والإمكانية الأخلاقية للكذب. في الواقع، يختلف إدراك كل فرد للواقع، وبالتالي قد يُفسّر الحقيقة بشكلٍ مُختلف. علاوةً على ذلك، تُشكّل ذاتية الحقيقة مُعضلةً أخلاقيةً لأنها تدفعنا إلى التساؤل عمّا إذا كان علينا قول الحقيقة مهما كلّف الأمر، حتى لو كانت تلك الحقيقة مؤلمةً أو صادمةً. يُدرَس الجدل الدائر حول الحقيقة والكذب بشكلٍ مُكثّفٍ في مجال الأخلاق. وقد جادل الفيلسوف إيمانويل كانط، في كتابه "نقد العقل العملي"، بأن الكذب دائمًا ما يكون مُستهجنًا أخلاقيًا لأنه ينتهك واجب احترام كرامة الآخرين وحريتهم بخداعهم. علاوةً على ذلك، للحقيقة أيضًا أهميةٌ اجتماعيةٌ وسياسية. من المتفق عليه عمومًا أن الحقيقة ضرورية لتحقيق السلام الاجتماعي والعدالة. فهي تلعب دورًا حاسمًا في إدارة الشؤون العامة، وفي الحفاظ على ثقة المواطنين، وفي منع إساءة استخدام السلطة. فماهي الحقيقة وما قيمتها؟ وكيف يمكن الوصول اليها ؟ وهل من حدود للقول بالحقيقة المطلقة؟ والى أي مدى هناك حقيقة في عالم الانسان؟

هل كل الحقيقة نهائية؟

الحقيقة مفهوم فلسفي يجمع اليقينيات التي تتجاوز البراهين الذاتية. وبالتالي، ثمة درجات متعددة في تجربة الحقيقة. بين الحقيقة والعقل، يبدو أن التجريبية تندمج في ممارسة نهج صادق تجاه المجتمع من خلال التعبير عن الحقيقة. ويظل هذا المفهوم جوهريًا لأنه يضع الحرية في صميم الاهتمامات ويقترح أخلاقيات العلاقة مع الآخر. وبالتالي، تُبنى هذه الحقيقة نفسها من خلال تقارب يُثريه اليقين والحكم أو يُدينه. والحقيقة، بوصفها موضوعًا خالدًا، ليست مجرد واجهة لمشروع اجتماعي: إنها تُجسد الإنسان في تناقضاته، بل تُجسد أيضًا عقائده الجذرية أو المُنقذة. في النهاية، هل تُركز الحقيقة فقط على المسارات "الإنسانية" أم على المسارات الخطرة، وتُمثل الصراع الأبدي بين "الرؤية الديكارتية" و"الرؤية المجردة" لمعنى الحياة؟ في النهاية، هل الحقيقة والسعادة غير مرتبطتين؟ للإجابة على هذا السؤال، سنحلل الجوانب الفلسفية المختلفة للحقيقة لفهم أهدافها بشكل أفضل. يمكن إثبات الوصول إلى الحقيقة وفقًا لعدة مبادئ. كما يؤكد باسكال (في أفكاره)، فإن الحقيقة هي تعبير عن المعرفة التي يداعبها القلب. مثال اول: ولكن كما ذكّرنا أفلاطون، يجب أن تضع المعرفة حدودًا... ويجب أن تحترم السعادة الفردية هذه الملاحظة، والحقيقة أيضًا تتوافق مع هذا التمثيل نفسه. مثال ثان : عندما نطيع شخصًا ما بناءً على السلطة الأخلاقية التي نلمسها فيه، فإننا نتبع نصيحته، ليس لأنها تبدو لنا حكيمة، بل لأن في تصورنا لهذا الشخص طاقة نفسية من نوع ما كامنة1، تُخضع إرادتنا وتدفعها نحو الاتجاه المُشار إليه. الاحترام هو الشعور الذي نشعر به عندما نشعر بهذا الضغط الداخلي والروحي المحض الذي يُولد فينا. ما يُحددنا إذن ليس مزايا أو عيوب الموقف المُوصى به لنا؛ بل الطريقة التي نُمثل بها أنفسنا من يُوصينا به أو يُرشدنا إليه. عندما نطيع شخصًا ما بناءً على السلطة الأخلاقية التي نلمسها فيه، فإننا نتبع نصيحته، ليس لأنها تبدو لنا حكيمة، بل لأن في تصورنا لهذا الشخص طاقة نفسية من نوع ما كامنة، تُخضع إرادتنا وتدفعها نحو الاتجاه المُشار إليه. الاحترام هو الشعور الذي نشعر به عندما نشعر بهذا الضغط الداخلي والروحي المحض الذي يُولد فينا. ما يُحددنا إذن ليس مزايا أو عيوب الموقف المُوصى به لنا؛ بل الطريقة التي نُمثل بها أنفسنا من يُوصينا به أو يُرشدنا إليه.

حججٌ لصالح الحقيقة المطلقة:

لا ريب حول الحقيقة كقيمة أخلاقية واجتماعية. باسم الأخلاق، يُجادل البعض بضرورة قول الحقيقة دائمًا. تُعتبر الحقيقة قيمةً في حد ذاتها، أي أن قول الحقيقة خيرٌ في حد ذاته، بغض النظر عن عواقبه. هذا ما دافع عنه إيمانويل كانط في فلسفته الأخلاقية الأخلاقية. ووفقًا له، فإن الكذب دائمًا خطأٌ أخلاقيٌّ لأنه ينتهك "أمرًا قاطعًا" أساسيًا، وهو وجوب معاملة الآخرين دائمًا بطريقة تحترم كرامتهم وحريتهم العقلانية. بالإضافة إلى هذه القيمة الأخلاقية، للحقيقة قيمةٌ اجتماعيةٌ عظيمة. في أي مجتمع ديمقراطي، من الضروري أن يعتمد المواطنون على بعضهم البعض في قول الحقيقة. فالمجتمع الذي يُقدّر الحقيقة يُعزز الاحترام والثقة المتبادلين، وهما عنصران أساسيان للتماسك الاجتماعي والعدالة. علاوةً على ذلك، لقول الحقيقة أيضًا أهميةٌ سياسية. وقد جادل الفيلسوف جون ستيوارت ميل، المدافع القوي عن حرية التعبير، بأن الحقيقة ضروريةٌ للتقدم وتحسين المجتمع. في الواقع، بدونها، يُواجه المجتمع خطر الركود، أو ما هو أسوأ من ذلك، التراجع.

هل يمكن أن يكون البحث عن الحقيقة نزيهًا؟

تشير المشكلة التي يطرحها السؤال إلى شروط إمكانية البحث عن الحقيقة ("هل يمكن ذلك" بمعنى "هل هو ممكن") ولكن أيضًا إلى شرعيتها ("هل يجوز قانونًا ..."). علاوة على ذلك، لا يتعلق الأمر فقط بالاهتمام بالأبعاد المعرفية للذات، ولكن أيضًا بتعددية الحقيقة (الحقيقة التاريخية، الحقيقة القضائية، حقيقة الإيمان ...) وبسبب هذا التعدد، فإننا نتساءل عما إذا كان البحث عن الحقيقة مجرد وسيلة لتحقيق غاية خارجية عنها (مثل الحقيقة العلمية التي من شأنها أن تستخدم في تطبيق تقني لها) أو ما إذا كان غاية في حد ذاته. ملاحظات: سيكون من الضروري توضيح سبب عدم إعطاء الحقيقة فورًا ولكن كونها موضوع البحث: من قبل من؟ ولمن؟ ولماذا؟ سيكون أيضًا سؤالًا عن ينابيع النزاهة المحتملة: هل يمكننا مساواة النزاهة بالمجانية؟ إذا لم تكن هناك مصلحة شخصية مباشرة، ألا يمكننا إرساء مصلحة جماعية مشتركة في البحث عن الحقيقة، في مجال العمل العملي كما في المجال السياسي؟ هل يترافق البحث النزيه مع الحكمة؟ من الأخطاء التي يجب تجنبها: - اختزال الموضوع إلى منظور معرفي بحت، أو منظور فلسفة العلم. - الخلط بين حقيقة الدليل واليقين، والحقيقة القائمة على العقل، والحقيقة الحدسية (مثل حقيقة الإيمان). - التسليم بأن الحقيقة هي موضوع البحث، دون التسليم بوجود شكل واحد فقط للحقيقة، أي باختصار، عدم التشكيك في كل مصطلح وتعريفه. قضايا الموضوع: التشكيك في النهج الأداتي للمعرفة والفهم الحقيقي: هل العلم مجرد أداة للإتقان التقني؟ إعادة النظر في النسبية، التي تهدف إلى ربط الحقيقة بمجموعة من القيم والمعايير الطارئة الخاصة بثقافة معينة، ومن هنا غلبة الاهتمام بالدفاع عن "حقيقة الفرد"، لكننا نغفل حينها عن العالمية، ضمانة الحقيقة العقلانية. إعادة تقديم بُعد أخلاقي في البحث عن الحقيقة، حيث يشير عدم الاهتمام إلى الحكمة أو الفضيلة: ليس فقط لإرضاء فضولي أسعى إلى أن أكون في الحقيقة ولكن لإقامة علاقة حقيقية مع الآخرين، والأشخاص الجديرين بالاحترام (انظر أسس كانط لميتافيزيقا الأخلاق). الخطة: إن المثل التقني وتأثير العلوم التقنية يعتاداننا اليوم على رؤية في البحث عن الحقيقة أو المعرفة الحقيقية وسيلة لتطبيق هذه المعرفة لتحسين السيطرة على الطبيعة، أو حتى للاستغلال التجاري للعمل العلمي (من الكائنات المعدلة وراثيًا إلى التكنولوجيا الحيوية)؛ إن حقيقة الاقتراح العلمي لن تخدم في النهاية سوى مصالح ثانوية (تقنية أو تجارية أو حتى سياسية). ولكن هذا يقلل من تعدد أصوات الحقيقة والحقيقة كموضوع للبحث والفحص والعمل النقدي. إذا كان البحث عن الحقيقة يتطلب بشكل فعال النهج العلمي المبني على المنهج، وبناء موضوع البحث والتطبيق المحتمل للاكتشافات على واقع محسوس (الأشياء التقنية)، فإن تنوع أشكال الحقيقة ومجالات ظهورها هو الذي يسمح لنا بالتفكير في البحث عن الحقيقة كهدف أخلاقي للأصالة أو حتى الحكمة، أو أن العيش الجيد يشير إلى الفعل في الحقيقة.

 حدود القول بوجود الحقيقة:

توجد حالة الحقيقة الجارحة وأكاذيب الإغفال، ومع ذلك، فإن لمبدأ قول الحقيقة دائمًا حدودًا معينة. من جهة، هناك حالة معروفة حيث يمكن أن تكون الحقيقة ضارة: الحقيقة الجارحة. على سبيل المثال، إذا كانت الحقيقة قادرة على تدمير علاقة، فهل يجب علينا دائمًا قولها؟ يطرح هذا السؤال معضلة أخلاقية حقيقية، لأنه يضع قيمتين أخلاقيتين مهمتين في مواجهة بعضهما البعض: الحقيقة والرحمة. من جهة أخرى، هناك حالة أكاذيب الإغفال. أحيانًا، باختيارنا المتعمد عدم مشاركة معلومات صحيحة، يمكننا تجنب إيذاء، أو على الأقل زيادة معاناة، أولئك الذين تعرضوا للأذى بالفعل. في هذه الحالة، يمكن اعتبار الكذب بالإغفال فعلًا من أفعال الرحمة. فهل يمكننا العيش في مجتمع يقول فيه الجميع الحقيقة كاملةً دائمًا؟

السؤال: "هل يجب علينا دائمًا قول الحقيقة؟" مسألة معقدة، ويبدو أن الإجابة تعتمد على السياق والقيم التي نعطيها الأولوية. من جهة، تُعدّ الحقيقة قيمة أخلاقية واجتماعية أساسية، ضرورية لكرامة الإنسان، والثقة المتبادلة، والعدالة الاجتماعية. من جهة أخرى، هناك حالات يمكن فيها تبرير الكذب، وخاصة الكذب بالتقصير، بالرحمة والتعاطف. في مجتمع مثالي، سيقول الجميع الحقيقة دائمًا، لكن يجب أن ندرك أننا نعيش في عالم معقد وغير كامل، حيث قد تتفوق الرحمة والتكتم أحيانًا على الحاجة إلى الحقيقة. لذا، بينما يبقى قول الحقيقة هدفًا نسعى جميعًا لتحقيقه، من المهم أيضًا أن نضع في اعتبارنا احتمالية أن تُسبب الحقيقة ضررًا، وأن ندرس بعناية خيار قول حقيقة صعبة من عدمه. بشكل عام، في مجتمع يلتزم فيه الجميع بالحقيقة دائمًا، قد نتحرر من العديد من الأكاذيب والخداع التي تُولّد انعدام الثقة والظلم. ومع ذلك، يجب علينا أيضًا أن نتوقع ونستعد للتعامل مع المعاناة التي قد تُسببها الحقيقة.

الخاتمة

لقد استكشفنا بذلك فكرة الالتزام الأخلاقي بقول الحقيقة دائمًا، مشيرين إلى أن مفهوم الحقيقة وقيمتها لهما دلالات معقدة. فبينما من الصحيح أن للحقيقة دورًا أساسيًا كفضيلة أخلاقية وركيزة أساسية من ركائز المجتمع، من الصحيح أيضًا أن تطبيقها غير المشروط قد يؤدي إلى عواقب سلبية. وسواءً كان ذلك لتجنب إيذاء الآخرين أو عن طريق التقصير، قد يبدو الكذب أحيانًا أكثر ملاءمة. ومع ذلك، من المهم أن نضع في اعتبارنا الآثار طويلة المدى للكذب على الثقة والنزاهة الشخصية والجماعية. السؤال الأخير إذن هو: هل يمكننا العيش في مجتمع يُلزم فيه كل فرد بقول الحقيقة كاملة دائمًا؟ يبدو أن الإجابة مزيج دقيق من نعم ولا. فبينما تُعدّ الحقيقة جوهرية للتماسك الاجتماعي والأخلاق الشخصية، إلا أن قدرًا من المرونة وحسن التقدير مطلوبان لمعرفة متى قد يُسبب قول الحقيقة ضررًا أكبر من نفعه. في نهاية المطاف، يقودنا تناول مسألة ما إذا كان ينبغي للمرء قول الحقيقة دائمًا إلى تأمل أعمق في قيمنا الأخلاقية ونوع المجتمع الذي نرغب في العيش فيه.  فكما قال ارسطو في كتاب الميتافيزيقا "إذا كان كل البشر يرغبون بشكل طبيعي في المعرفة،" ... " فهل يمكن للعلم والفلسفة أن يلبيا حاجتنا إلى الحقيقة؟

***

د. زهير الخويلدي - كاتب فلسفي

 

هناك من يقول كلاّ مثل ستيف ستيوارت - ويليم(1)، لكن قبل الوصول الى هذا الاستنتاج سنتطرق الى عدد من الحجج والتفاصيل في هذا المقال. سواء شئنا ام أبينا لا أحد او ربما القليل ينكر ان نظرية التطور هي من أهم الافكار في التاريخ البشري. لا يمكن إنكار تأثيرها ضمن حقل البايولوجي. في الحقيقة، يرى المنظّر التطوري ثيودوسيوس دوبجاتسكي ان "لا شيء ذو معنى في البايولوجي من دون التطور". لكن تأثيرات النظرية لا تنتهي هنا. الفيلسوف دانيال دينيت وصف مرة نظرية التطور كـ "مذيب عالمي universal acid"، تسرّب تأثيرها الى كل مجال من مجالات الفكر الانساني. هذا يبدو أكثر وضوحا في عالم المعتقدات الدينية. من اللحظة التي كشف بها دارون المسودة الاولى لنظريته، كان واضحا انها تتعدى على الحدود التي كانت تقليديا ضمن منطقة الدين. مع ذلك، رغم ان البعض يرى نظرية التطور والعقائد الدينية غير منسجمين، آخرون ينكرون ان هناك أي تناقض أساسي بينهما.

الغرض من هذا المقال هو معالجة هذه القضية، والنظر خصيصا بمدى الانسجام بين نظرية التطور والايمان بالله.

التأثير الأولي لنظرية التطور

عندما نشر دارون أول مرة نظريته في التطور، أثارت عاصفة من الجدل. مؤرخو العلوم اعتبروا هذه معركة بين العلم والدين، الى جانب صراع غاليلو الشهير مع الكنيسة. العديد من الناس رأوا نظرية التطور كتحدّي أساسي للعقيدة المسيحية. هذا التحدي حدث في عدة مستويات. اولاً، النظرية تتحدى بوضوح التفسير الحرفي لقصة الخلق الواردة في سفر التكوين. العقيدة السائدة بين المسيحيين في ذلك الوقت كانت ان الله خلق الارض وكل الكائنات الحية قبل ستة الاف سنة فقط وان كل كائن حي كان خلقا منفصلا وثابتا. بالمقابل، أكدّت نظرية التطور على ان الارض كانت أقدم من ستة الاف سنة، وطبقا لدارون، تطورت الأحياء ببطء عبر عدة ملايين من السنين. علاوة على ذلك، آمنت النظرية بان الكائنات الحية الحالية تطورت من أنواع مبكرة واننا اذا عدنا للماضي بما يكفي سنجد أي نوعين من الكائنات الحية امتلكا سلفا مشتركا. هذه الافكار تناقضت بشكل مباشر مع نظرية الخلق المنفصل.

فوق كل هذا، أضعفت نظرية التطور واحدة من أكثر الحجج المقنعة بديهياً حول وجود الله وهي: حجة التصميم. المؤمنون يستخدمون حجة توما الاكويني بالقول ان التصميم المعقد الذي وُجد في الكائنات الحية هو دليل على المصمم، او الله. وقبل دارون بقرن، كشف الفيلسوف ديفد هيوم عن ضعف هذه الحجة. لاحظ هيوم، حتى بافتراض ان التصميم يعني وجود مصمم، لماذا نفترض ان هناك مصمم واحد بدلا من فريق، او ان المصمم كان تاما، قديرا، خيّرا، او حتى لايزال حيا؟

دارون غيّر كل هذا. نظريته في الاختيار الطبيعي قدّمت تفسيرا طبيعيا لأصل الانواع – وهو تفسير لتصميم بدون مصمم. النظرية مدهشة من حيث البساطة، على الاقل في خطوطها العريضة. انها تبدأ من مقدمة بسيطة وهي ان الافراد ضمن أي مجموعة سكانية يختلفون، وان بعض هذا الاختلاف يتم توريثه. اذا كانت السمة الموروثة في ضوء المتغيرات المتوفرة تزيد من احتمالية انتقال الجينات المحددة لها، فان هذه الجينات تميل الى الظهور بشكل متكرر في السكان.

القوة الواقعية للفكرة تأتي عندما يتم الاعتراف بمقدار ما توضح. طبقا للنظرية، التراكم التدريجي للتغيرات الصغيرة والمفضلة عبر افق شاسع من الزمن مسؤول عن كل من التكيّف (مثل العيون والاجنحة) وعن ظهور جينات لأنواع جديدة. لا ذكر للإله في النظرية. هذا أثار إمكانية غير مريحة: اذا لم تكن هناك حاجة لله لتوضيح تصميم الطبيعة – والذي اعتُبر أفضل دليل على المصمم- فان الله ربما غير موجود ابدا.

الدين والعلم: مجالان منفصلان؟

من غير المدهش ان العديد من الناس نظروا الى نظرية التطور باعتبارها غير منسجمة مع الدين. مع ذلك، رغم ان بعض المسيحيين لايزالون يرفضون نظرية التطور، لكن العديد منهم كيّفوا عقيدتهم الدينية معها. جوهر النظرية – فكرة ان الانواع تغيرت بمرور الزمن وانحرفت عن الأسلاف المشتركة – هي غير منسجمة مع التفسير الحرفي لقصة الخلق في سفر التكوين. كل منْ ينظر الى القصص الانجيلية باعتبارها مجازية فهو يؤمن ان الله خلق الحياة من خلال عملية التطور. كذلك، كما سنرى، لاتزال هناك عدة أسرار يدّعي المؤمنون انها تُظهر وجود الله. في ضوء هذه الاعتبارات، سيبدو ان نظرية التطور لا تصطدم بالضرورة مع الايمان بالله. هذا ينسجم مع الفكرة العامة بان العلم والدين مجالان منفصلان وغير متداخلين، ولذلك فهما ليسا غير منسجمين مع بعضهما البعض.

هذه التسوية مريحة، لكن هل هي دقيقة؟ اولاً، يجب ان نتذكر انه بالرغم من ان مجالي الدين والعلم ربما متداخلان قليلا اليوم، هذا جزئيا بسبب ان نظرية التطور أجبرت الدين على الخروج من منطقتها، لكن بالنسبة لاولئك الذين يقبلون التطور، فان الامر تطلّب تفسيرا غير حرفي للقصص الانجيلية. (انه تطلّب تفسيرا غير حرفي لتلك القصص التي تصطدم مع النظرية. هذا لايتسع لكل الانجيل، وبالنهاية، لازال العديد من المسيحيين يؤمنون ان قصة المسيح صحيحة حرفيا).

هذا لا يعني القول ان لا أحد فسّر القصص الانجيلية مجازيا قبل دارون، وانما فقط ان نظرية التطور جعلت هذا التفسير اكثر الحاحا واوسع انتشارا. كذلك، ليس واضحا ان مجرد التخلّي عن التفسير الحرفي للانجيل يكفي للتوفيق بين مجالي الدين والعلم. لننظر اولاً في الفكرة بأن الله خلق الحياة شخصيا عبر توجيه عملية التطور. رغم ان هذه منسجمة مع جوهر التطور، لكنها تصطدم مع مبدأ اساسي للنظرية الحديثة للتطور وهو: ان التصميم في الكائنات الحية نتاج لتراكم غير مدروس او نتيجة لحوادث عشوائية. وهذا مثير للإشكالية. التكيّف يبدو صُمم لإنجاح وتعزيز تكاثر الفرد. (هذا يعني ان التكيفات تُصمم لزيادة احتمالية مرور الجينات المحفزة لتلك التكيفات، سواء كانت هذه الجينات كامنة في الفرد الحائز على التكيف او في المقربين منه). انه امر غريب ان الله استعمل التكاثر الناجح للفرد كمبدأ مرشد، لأن هذا يعني انه اختار ان يصمم حياة الكائن الحي بمعيار يمكن تفسيره تماما كنتاج لعملية طائشة لإختيار الجين. كذلك، كل الانواع الحية فيها عيوب في التصميم ونواقص وهي دليل يدحض عملية الخلق بواسطة كائن تام سواء من خلال التطور او بطرق اخرى.

المشكلة التطورية للشر

هذه الصعوبات يمكن تجنبها لو افترضنا ان الله بدأ العملية ثم ترك الاختيار الطبيعي يأخذ مساره (شكل من الربوبية). لكن، سواء كان هناك تدخّل إلهي مباشر او غير مباشر، فان نظرية التطور تثير صعوبة اخرى، وهي شكل جديد من مشكلة الشر القديمة. الاختيار الطبيعي هو عملية دموية قاسية ومدمرة. جورج ويليم البايولوجي التطوري البارز، وصف تلك العملية بالشر. لكل متغير ناجح، هناك ملايين من الكائنات الحية تموت بشكل مأساوي. عملية الاختيار الطبيعي ليست وحدها لا ترحم، كذلك ايضا العديد من منتجاتها. الاختيار المرتكز على حسابات نجاح الفرد الجيني والتكاثر هو سبب العديد من الحقائق غير السارة حول الطبيعة. فمثلا، معظم الحيوانات التي تمارس رعاية ابوية تترك الذرية الضعيفة او المشوهة تموت. كذلك، عندما يفرض الاسد سيطرته على مجموعة من الاسود، فهو عادة يقتل الأشبال الذين ينتمون بايولوجيا لذكور آخرين.

القسوة الظاهرة في الاختيار الطبيعي لاتعني منطقيا عدم وجود الله. لكن وكما لاحظ دارون ذاته، انه من الصعب التوفيق بين المعاناة الناتجة عن الاختيار الطبيعي والايمان بإله قدير ورحيم. اذا كان الله خيّراً، يُفترض انه يرغب بازالة هذا الشر، واذا كان قديرا سيكون بمقدوره القيام بذلك. لذلك، يحتاج المؤمن بالله للقبول اما بان الله بلا قوة لمنع هذا الشر او ان الله هو الشر ذاته (وهو في أحسن الاحوال غير أخلاقي). الخيار الوحيد الآخر سيكون اللجوء الى ادّعاء الجهل، مثل الادّعاء بان الله يتحرك بطرق غامضة، وان ما يبدو لنا من معاناة غير ضرورية هي في الحقيقة جزء من خطة شاملة وان هذه الخطة جيدة. لكن هكذا ادّعاء يمكن استخدامه لتوضيح أي حالة محتملة من عدم الانسجام أو موقف محرج، ولذا هو طريقة غير مقنعة.

هل الصيغ الاخرى لحجة التصميم تتجاوز قيود التطور؟

من جهة اخرى، اذا أمكن تقديم برهان واضح على وجود الله، نحن ربما يجب علينا قبول مثل هكذا ادّعاء. البعض جادل ان هذا البرهان متوفر. وحتى لو أعفت نظرية التطور الله من دوره السابق كمصمم للحياة، لاتزال هناك العديد من الحقائق الاخرى للطبيعة يجادل المؤمنون انها تشكل اساسا لنسخة معدلة لحجة التصميم. سنذكر هنا ثلاث منها:

1- الاختيار الطبيعي يمكن ان يحدث فقط عندما يكون هناك شيء للاختيار، ونظرية دارون لم تقل أي شيء حول كيف بدأت الحياة في المقام الاول. هنا، دور للإله.

2- رغم ان التطور قد يوضح وجود أجسام، البعض يرى ان ذهن الانسان او الوعي ليس عرضة للتوضيح الطبيعي ويجب ان يُنسب الى الله.

3- حتى لو كانت نظرية التطور توضح بعض التفاصيل ضمن الكون، لكننا لانزال بحاجة لتوضيح حقيقة ان الكون موجود في المقام الاول وليس فقط التحجج بانه اذا اختلفت قيم ثوابت فيزيائية اساسية معينة حتى بمقدار قليل، فان الحياة ما كان يمكن ان تتطور. في كل من هذه المجالات، المؤمن يجادل اننا نمتلك دور للاله لاتستطيع نظرية التطور الإستحواذ عليه.

اذا كانت الحجج أعلاه صائبة، عندئذ نحن علينا القبول بوجود الله رغم أي تحفظات تُثار من جانب مشكلة الشر التطورية. المؤيدون لهذه الحجج قد يقللون من قيمة القوة التفسيرية لنظرية التطور. في فحص دقيق، النظرية تتحدى الحاجة لتوضيح ديني في كل من المناطق الجديدة التي راهن فيها المؤمنون على الله.

1- رغم ان التفاصيل الدقيقة لتطور الحياة من لا حياة دائما تبقى لغزا، فان البحث في هذه المنطقة يبيّن على الاقل ان لا حاجة هناك لافتراض وجود أي شيء عدى العملية التطورية. لأنه بالنسبة للذهن، من المنظور الداروني المادي، الذهن هو فعالية الدماغ والدماغ نتاج للاختيار، وهكذا، فان الذهن نتاج للاختيار.

2- بعض الفيزيائيين لا يأخذون بجدية بالغة الفكرة بان المبادئ الدارونية يمكن ان تفسر وجود وطبيعة الكون. التوضيحات الدارونية المعقولة، تتجاهل فكرة ان وجود الكون والحياة او الذهن يتضمن اننا يجب افتراض وجود الله. المؤمن يجب ان يواجه مشكلة الشر التطورية. هذه المشكلة تجعل الموقف يسير باتجاه الاستنتاج بان نظرية التطور هي غير منسجمة مع وجود الله، وبهذا غير منسجمة مع أي دين.

التصور الغير مجسم لله

هناك معارضة واحدة أخيرة يمكن ان يثيرها المؤمن في هذه النقطة. حتى الان افترضنا بدون تعليق تصور تقليدي لله ككائن شخصي – غير مادي، رحيم، عارف بكل شيء، خالق و قدير. مثل هكذا إله ليس مجسّما بشكل صريح كآلهة اليونان القدماء او الهندوسية – او الإله الأصلي لاسرائيل. مع ذلك، الاله التقليدي يحوز على مزايا ذهنية أشبه بالانسان مثل المعرفة، ويمكن النظر اليه ككائن أخلاقي، يشترك في فعاليات مثل الخلق والتصميم التي ينخرط فيها الانسان ايضا (رغم انها في نطاق متواضع). دائما يعترض المؤمن ويؤكد بان هذا التصور القديم والمبسط لا يصف الله الذي يؤمن به. العديد من الثيولوجيين حاولوا فهم الله كـ "كائن بذاته" و "الاساس النهائي للوجود". آخرون ينظرون الى الله كتوضيح للحقيقة الغريبة بان هناك شيء بدلا من لا شيء، وقبلوا بانه مهما كان هذا، فهو من غير المحتمل ان يكون أشبه بالشخص. او من جهة اخرى، ربما ببساطة يمكن التأكيد على ان الطبيعة الحقيقية لله هي وراء فهم الانسان ولهذا لا شيء يمكن قوله حوله.

مشكلة الشر التطورية ليست تهديدا للايمان بإله غير مجسم، لانه فقط عندما يكون الله كائنا اخلاقيا قديرا يصبح وجود الشر مثيرا للإشكال. بالنتيجة، التأثير الرئيسي للمؤمن الديني هنا هو، مثلما ان حقيقة التطور تجادل بتفسير غير حرفي للقصص الانجيلية، فان مشكلة الشر التطورية تجادل بتصور غير مجسم لله. هذه نتيجة هامة جدا لأن هناك ثمنا غاليا يجب دفعه لقبول هذا التصور لله. الاله المجرد من كل صفات الانسان ليس إلها يمكن للمرء إقامة علاقات شخصية معه او يستجيب لصلواتنا ورغباتنا، ومن الصعب رؤية هكذا إله يستطيع ضمان سيادة المعايير الانسانية للعدالة في الكون. ونفس الشيء، اذا عُرّف الله كاساس للوجود او كتوضيح نهائي للوجود، نحن سوف لانمتلك سببا للاعتقاد ان وجود الله يعني ان حياة الانسان لها امتياز في الكون او بالنهاية ذات معنى، او ان الكون اكبر واكثر قدسية لأن الله موجود بدلا من شيء آخر. يبدو ان المرء يمكنه ان يشعر بالراحة من هكذا تصور، واذا شعر المرء بالراحة من تصوره لله، فربما يُسأل ما اذا كان حقا يؤمن بإله غير مجسم بالضد من الاله التقليدي. كذلك، التصور غير المجسد لله ازيح من المعنى الاصلي للكلمة لدرجة أثار تساؤلا ما اذا كان ملائما استخدام الكلمة. برتراند رسل أشار مرة الى ان "الناس لايرغبون التخلّي عن كلمة الله قياسا برغبتهم في التخلي عن الفكرة التي لأجلها صمدت الكلمة حتى الان".

نظرية التطور قد لا تقنع كل الناس ليتخلوا عن كلمة الله. لكن، حينما يغير الناس معناها الى الحد الذي لا يمكن فهمه، حينذاك يمكن القول ان الله كان ضحية لنظرية دارون.

استنتاج

نظرية التطور لها تأثيرات هامة على مجالين رئيسيين من العقيدة الدينية وهما: الحرفية الانجيلية ووجود الله. في أعقاب النظرية، برزت أربعة مواقف رئيسية حول هذه القضايا. في الموقفين الثاني والثالث، كان التطور والدين منسجمين، في الموقفين الاول والرابع، لا انسجام بينهما.

1- يمكن للمرء الاحتفاظ بالايمان في الإله التقليدي وفي الحرفية الإنجيلية (نظرية الخلق). لكن هذا يلزم المرء بإنكار الحقيقة الأساسية للتطور.

2- اذا كان المرء يقبل الإله التقليدي لكنه يرفض الحرفية الانجيلية، يمكنه قبول حقيقة التطور. كذلك، اذا كان المرء يقبل ان الله بدأ العملية او سلسلة احداث الحياة لتستمر ولم يوجّه العملية شخصيا، هنا يمكن للمرء قبول النظرية الحديثة للتطور. في اية حال، لابد للمرء من مواجهة مشكلة الشر التطورية.

3- اذا كان المرء يرفض الحرفية الانجيلية ويستبدل التصور التقليدي لله بتصوّر غير مجسم، هنا يمكن للمرء تجنب مشكلة الشر التطورية. لكن هذا يختزل الله الى تجريد بعيد وغير شخصي، ويثير السؤال حول ما اذا كان هناك أي معنى لإضفاء اسم الله على هذا التصور.

4 - الخيار الأخير هو رفض كل من الحرفية الإنجيلية والايمان بالله بأي شكل من الاشكال. هذا الخيار هو الأقل إشكالية بعد دارون.

***

حاتم حميد محسن

.............................

Can An Evolutionist Believe in God? Philosophy Now 2004

الهوامش

(1) ستيف ستيوارت – ويليم، بروفيسور في السايكولوجي بجامعة نوتنجهام ماليزيا، مؤلف عدة كتب من بينها: كتاب دارون، الله ومعنى الحياة الصادر عام 2010.

 

(انا افكر اذن انا موجود)... رينيه ديكارت

(انا افكر حيث لا اوجد، واوجد حيث لا افكر)... جاك لاكان

(انا افكر في شيء ما اذن انا موجود)... ادموند هوسرل

(انا اتألم اذن انا موجود)... ميلان كونديرا

(انا لا افكر اذن انا موجود)... سورين كيركجورد

سبق لي ان كتبت مقالة ناقشت بها مفهوم هوسرل لكوجيتو ديكارت (انا افكر اذن انا موجود) نشرتها لي صحيفة المثقف الالكترونية الغراء بعنوان (هوسرل / علاقة الذات بالموضوع) ونشرها موقع كوّة الفلسفي المغربي تلاها غيره من مواقع عدة، لقد أخذ هوسرل عن استاذه برينتانو ان التفكير المنتج هو وعي قصدي. وانتشرت المقولة انتشار النار في الهشيم على صعيد الفلسفة خاصة الفرنسية والامريكية منها واستحدث عنها كتابات فلسفية امريكية بالخصوص لا حصر لها حول علاقة فلسفة اللغة بفلسفة العقل وكذا بفلسفة الوعي. لذا سأكتفي هنا بمناقشة عبارة جاك لاكان بضوء مقتطفات من كتاب نقد الحقيقة للمفكر علي حرب وتداخلهما مع تفكيكية دريدا. تاركا تفنيد كوجيتو ديكارت التي اضحت جثة هامدة في كلاسيكيات تاريخ الفلسفة.

لا أرغب مصادرة عبارة جاك لاكان بأن الوجود عنده أمنية الفيلسوف أن يوجد الانسان في وجود انساني أصيل غير ما هو فيه من وجود مجتمعي استهلاكي قطيعي زائف، وأنّ وجوده العياني الماثل هو وجود مجتمعي لا قيمة ولا نفع من التفكير من خلاله إنفراديا. اولا عبارة جاك لاكان سبقه بها عشرات من الفلاسفة ربما اشهرهم نيتشة، هيدجر، فوكو، هوسرل، سارتر، وفلاسفة اخرين بينهم امريكان. ورغم بهرجة وزهو العبارة الا انها لا قيمة حقيقية فلسفية لها اكثر مماتالته واستحوذت عليه..

 فهمي التأويلي التفسيري لعبارة جان لاكان (انا افكر حيث لا اوجد، واوجد حيث لا افكر) ولا يشترط ذلك أن غيري لا يقرأها بفهم وتأويل مغاير بتعدد وتنوع واختلاف القراءات. لكني اجد في تلك القراءات انها تماهي مع استعراض فلسفي غير مشروط بالفهم الخاص الذي اراده جان لاكان بعبارته الغامضة العصيّة التي تتقبل التناقض التفسيري كما نجد مثاله الصارخ عند مارتن هيدجر. الذي كان اوضح هذا التناقض بجدارة اكثر من فلاسفة سبقوه.

امّا لو اننا اخذنا عبارة علي حرب مثالا في تفسيره لعبارة (جاك لا كان) فهو يذهب الى تفسير نوع من العدمية التفكيكية المباشرة في الغاء أن يكون الانسان ذاتا مفكّرة في جوهرها، لأن كل ماهو في حجب الغيب ويمتنع الافصاح عن حقيقته يكون ذاتا غير مفكّر بها فتوجد حيث لا وجود وهذا دليل تفسيره في العبارة وفق استراتيجية ميتافيزيقية لا تنطبق في معناها الا على الذات الالهية فقط. وخارج هذا الحيّز لا قيمة لها ولا يمكنها التحقق منها وجودا من عدمه.

استعمالنا مفردات (منهجية تفكيكية عدمية) خطأ اصطلاحي فلسفي ومفهومي لا اعمل به ولا صحة منطقية فلسفية تحتويه. فتفكيكية دريدا، وهورمنطيقا بول ريكور، وحتى طروحات بعض فلاسفة البنيوية حول فلسفة اللغة وحتى خارجها، وعدمية فانتيمنو ليست فلسفات تقوم على منطق عقلي تعترف بالانسان كموجود محوري في مباحث الفلسفة ولا في الحياة. وتطرح هذه الاطروحات الفلسفية مثلا فلسفة اللغة نسقا يوازي الحياة والواقع ولا يتقاطع معها ولا يتكافل معرفيا معها من اجل تغيير حياة الانسان. كل اخطاء فلسفة اللغة التي بدأتها البنيوية بشخص دي سوسير عام 1905 كانت ميراثا ساحرا لتكريس الخطأ عند كل من بول ريكور في التاويلية (الهورمنطيقا) وجاك دريدا في التفكيكية.

فالتفكيكية على لسان جاك دريدا لا منهج لها كما وليست نظرية ولا فلسفة بل هي استراتيجية هدم وتقويض لبنية النسق اللغوي. كم ولا تثق بالعقل ولا تؤمن بالانسان محور مرتكز التفكير الفلسفي - (الانسان ما يريده او يعيه او يفكّر به، انه ذلك الشيء الذي يجهله ولا يفكر به بكلمة اخرى / انا اوجد حيث لا افكر، او افكر حيث لا اكون) عبارة جان لاكان ص137 عن كتاب نقد الحقيقة. عبارة تلتقي ما يعتمده علي حرب بكتابه نقد الحقيقة بتفكيكية دريدا واطروحة جاك لاكان على حد سواء..

يشرح علي حرب في كتابه نقد الحقيقة، أنّ هناك فجوة بين الوجود والفكر بضوء كوجيتو ديكارت (انا افكر اذن انا موجود) ودحض جاك لاكان فيلسوف البنيوية وعالم النفس لها في عبارته التي مررنا عليها اعلاه. واهمل علي حرب ذكره وكذا فيلسوف ماركسي ووجودي قام قبله ابطال منطقية عبارة ديكارت وتهافتها الفلسفي لعل هوسرل احدهم في ان وعي الذات هو الوجود وليس التفكير وحده يقرر الوجود. احد الفلاسفة الفرنسيين ذهب الى ان فعالية التفكير بالتفكير ذاته هي موضوع مستتر كاف لاثبات الوجود انطولوجيا. وبذلك اعفى ديكارت من مثلبة انه في عبارته انا افكر لم يذكر يفكر بماذا؟

يقول علي حرب (الهوّة التي تقوم في الاصل بين الوجود والموجود، أي الى نسيان الموجود للوجود، نعني نسيان الانسان لوجوده على مايذهب اليه هيدجر، وهذه الهوّة تجعل اللامفكر فيه سلطة على الفكر، اي هي الأصل في قيام مسافة بين ما يقوله القول وما لا يقوله (كتاب نقد الحقيقة ص26.كما يقول أيضا) ان الفكر الذي يتأمل موضوعه فهو يحمل صفة تأمل ذاته) ص118 من الكتاب.

صحيح ان الوجود كمفهوم ميتافيزيقي لا يمكننا ادراكه باكثر من ادراكاتنا موجوداته المحتواة داخله التي بغيرها لا يبقى لدينا وجود يمكننا ادراكه حتى حدسا من غير تعالقه بمحتويات موجوداته داخله. عبارة المفكر حرب الثانية ان الفكر الذي يتامل موضوعه يحمل صفة تامل ذاته سليمة جدا.

وبعد ان نقّر بوجود فجوة او مسافة بين الوجود البايولوجي العاقل للانسان والفكر الواعي المجرد، لكنما ليست بالضرورة بين الموجود والوجود على صعيد انتاجية وقراءة النص في مجال اللغة، قراءة بنيوية منهجية حديثة كما في حفريات المعرفة، أو قراءة تفكيكية متطرفة كما هي عند دريدا، وانما في المجال الانطولوجي الذي تتداخل فيه حقيقة الوجود العاقل واللغة بما يعرف بالقراءة الجديدة كما في طروحات شتراوس وفوكو والتوسير وغيرهم.

وما يفصل الوجود عن غير الوجود الاصيل، هو حالة وعي الذات لوجودها الحقيقي والعالم الخارجي (وهذا ما ناقشته الماركسية والوجودية باسهاب صائب). وغياب الوجود يكون في الموجود المجتمعي الذي لا يعي فيه الفرد ذاته كجزء فاعل من المجتمع، عندها يكون متعيّنا موجودا وليس متعيّنا وجودا، وفقدان وعي الذات لمجتمعيتها هو تغييب للوجود الاصيل للذات، والوجود الحقيقي الحر والمسؤول هو في وعي الذات وعيا ادراكيا عقليا مسؤولا بحرية المجتمع، يعمل في دائرة المفكّر به وهو ما يمليه العقل ويضطلع به مقصيّا تأثير اللغة الهامشي في توظيف تحديدات الوجود العاقل.هنا للفكر أسبقية على اللغة في ادراك الوجود، والعقل أسبق على الاثنين في وعي الوجود.

الوجود الظل ليس وهما فلسفيا

للحقيقة ان اول من اشار للوجود الثاني الحقيقي للانسان هو افلاطون ومثله فعل نيتشة. هذا الوجود الذي يقصي الموجود او الوجود العياني الزائف الذي لا يعي ذاته الحقيقية ولا حريته المسؤولة عن ذاته ومجتمعه، فهو يعيش نسيان الوجود ويكون وجودا هامشيا مجتمعيا طارئا .. وهنا يمكننا القول لكن بحذر شديد ان نسيان الوجود هو وجود ثان يدركه الفرد بفهم عميق وذكاء لا يجاريه فيه المجتمع واول فيلسوف اوضح هذا الالتباس في اطلاقه صفة اللامنتمي خارق الوعي الذكي الذي يعي وجوده والحياة والوجود من حوله بجديّة وذكاء اكثر مما ينبغي ومطلوب منه هو الفيلسوف الانكليزي كولن ولسون قبل ان ينهي كتاباته بروايات ونقودات لا ترقى لمستوى كتاباته الفلسفية المهمة الاولى بداية ستينات القرن العشرين.. وجود اللامنتمي (كموجود وليس كوجود مفهوم فلسفي) بغض النظر أن يكون وجودا حقيقيا أم وجودا زائفا فهو يعتبر حسب كتابات كولن ولسون الارستقراطية النخبوية في اختياره شخصيات اعماله، يعتبر توضيحا لما كان اشار له مارتن هيدجر في كتابه الزمان والكينونة ولم يستطع توضيحه كما فعل كولن ولسون في اكثر من اربع مؤلفات له تدور في هذا المنحى. ولم يكن تاثير مفهوم الوجود الظل الثاني مرتكز الروائي الفيلسوف التشيكي فرانز كافكا في رواياته الخالدة. مثل القلعة والمسخ وغيرهما غائبة عن تاريخ فلسفة الادب. ثمة روايات وكتابات فلسفية تناولت هذا الموضوع لا تحضرني اسماءها.

من الجدير الاشارة له سريعا هنا ان كولن ولسون عالج بطل موجود اللامنتمي في رواياته وكتاباته من منطلق (اغترابي) كما ورد عند ابن سينا وابن طفيل والسهروردي وعند اقطاب الصوفية الدينية عالميا كما بالهند والصين واليابان وكوريا وهكذا. اي ان العزلة المجتمعية واعدام اللغة الصوفية من قبل صاحب التجربة الصوفية مطلوبان لذاتهما وليسا مفروضتان مجتمعيا. وبهذا المعنى فلن يكون الاغتراب ظاهرة سلبية انكفائية جوّانية تدين المجتمع ولا تقوى على التحرر منه فتستسلم له قدريا.

هيدجر ونسيان الوجود

لكنا نميل الى أن نسيان الوجود او (الوجود الثاني الغائب الحاضر) يكون وجودا زائفا كما يذهب له هيدجر، فالوجود المتحقق ذاتيا كوجود أصيل لا يحتاج مفارقة وجوده في نسيان الوجود أي الاندماج في الكليّة المجتمعية الذي هو شرط تحقق الذات وجودها الاصيل حسب مذهب الوجودية والظاهراتية.

فالذات الحقيقية لدى هيدجر هي وجود – في – عالم وهو ما جعله يتخبط في كتابه باكثر من خمسين صفحة من مؤلفه الزمان والكينونة دونما قدرته اثبات صحة ما طرحه في عبارته التي استقى جذورها من استاذه هوسرل صاحب الظاهريات الذي اخذها عن برينتانو في مقولة (الوعي القصدي) التي دفنت كوجيتو ديكارت انا افكر اذن انا موجود الى غير رجعة. هيدجر رغم انحيازه لمقولة برينتانو واستاذه هوسرل الوعي القصدي هو الذي يجعل الفرد يعيش امتلائه النفسي والوجودي في وجوده – في – عالم . الا انه عجز اثبات ايا من الوجودين في تحقق الذات الانسانية امتلائها الوجودي الاصيل هل عندما تكون داخل مجتمع جزءا منه متفاعلة معه ام عندما تكون خارج المجتمع منفصلة عنه تعيش وجودا بذاته فقط.. الموجود خارج الوجود لن يتحقق في ظل سطوة الوجود هو ما نعيشه وليس ما نتخيله.

علي حرب والتماهي التفكيكي

اذا اردنا ان نناقش بعض المنطلقات الفلسفية لكتاب علي حرب نقد الحقيقة، نكون ملزمين في توخّي الدقّة والحذر ان لا ننزلق بين قراءة النص قراءة بنيوية نسقية على صعيد التشكيل اللغوي واللساني المحض، وتناصّه المتداخل مع الفلسفة، وهما النص الادبي والنص الفلسفي وان هما يلتقيان منهجيا كما في الفلسفة البنيوية الا أنهما في حقيقة الامر يمتلكان استقلاليتهما وخصوصية أحدهما عن الثاني على صعيدي التجنيس الادبي والتجنيس الفلسفي وعلاقتيهما المختلفة باللغة والفكر.، عليه ستكون مناقشتنا على صعيد قراءة النص الفلسفي وتعالقه مع لغة النص الادبي والشعري منه تحديدا، يقوم على الأخذ بنظر المناقشة أنهما يختلفان اختلافا كبيرا حتى وأن جمعتهما اللغة كوسيلة تعبيرية واستنطاق لفظي لكليهما.

ولتوضيح اكثر فأن النص الفلسفي هو غيره النص الديني او التصوفي وهما غيرهما في النص الادبي خاصة الشعري، فلكل واحد منهم مجال اشتغاله وميزاته بخصائص تفرّده الفني والجمالي والتركيبي.

(في الشعر كما في الفلسفة تستنطق الاشياء من جديد، ويعاد خلق العالم بالاسماء والكلمات، او بالفكر والمفهوم، فالشاعر والفيلسوف كلاهما يسعى الى الاستنطاق واعادة الخلق والانتاج، كل على طريقته) كتاب نقد الحقيقة/ علي حرب. ص119

ان الفجوة التي تفصل او تتوسط (الفراغ) الافتراضي بين الوجود الحسّي والفكر التجريدي، وهو افتراض قائم ادراكيا عقليا قبل ان يفهم او يحدس فكريا او لغويا، هي فجوة لا تتوسط وجودين ماديين أثنين، بل ان الوجود والفكر هما وجود حقيقي مادي واحد، بل هما كينونة الانسان بعلاقته الذاتية مع جوهره المثالي الأصيل الذي يرغب بلوغه.

علاقة الذات بجوهروجودها، بأغترابها وأنعزالها عن الناسيّة المجتمعية في الوجود على حد تعبير هيدجر، أي الاندماج فيما يطلق عليه هيدجر مفارقة الانسان لوجوده الحقيقي الاصيل من خلال اندماجه المتكيّف والتام بالمجتمع او اندماجه بالكلية حسب تعبير هيجل. (يلاحظ تناقض هيدجر فيما سبق لنا الاشارة له قوله ان الوجود الاصيل لا يكون الا ضمن الاندماج بالكية المجتمعية وما اطلق عليه نصا (الوجود – في- عالم) متماشيا مع هوسرل وسارتر.

أما في حال نشدان أوالتطلع لتحقيق الكمال المثالي في نزوع الذات تحقيق وجودها الفاعل الأسمى بالحياة او على الاقل في السعي نحو بلوغ مراتب تصاعدية في محاولة تحقيق مثل تلك الاهداف فهو نزوع نوعي وجودي لفرد او مجموعة افراد مستقلين عن الاندماج في مجتمع نسيان الوجود.

الناسّية في الوجود كما عّبر عنها هيدجر هي بتعبير مباشرعن وجود الفرد كينونة انسانية هامشية زائفة لا تملك الحد الادنى من الخصائص النوعية المجتمعية التي يحتازها الوجود الاصيل للفرد. بل هي تشترك بجميع المواصفات المجتمعية السطحية التي تبعد الانسان وتقصيه من الحصول على الوجود الاصيل بالحياة. والكليّة المجتمعية ما هي الا صهر الكيانات المتجانسة بالنوع مجتمعيا في معترك الحياة الرتيبة التي يتوزعها اشباع غرائز البقاء وغرائز اللذة فقط. عن هذه الحالة في نسيان الوجود الاصيل في معايشة الوجود الزائف يطلق عليها هيدجر توصيف قاسي جدا اذ يعتبرها الانحطاطية في الوجود.اي المجتمع هو ام كل الرذائل بحسب فهم هيدجر لتحقق الوجود الاصيل.

المجتمع او الموجود الجمعي لنسيان الوجود الحقيقي هو دائرة مقفلة تتقاذفها بلا انقطاع هواجس الحياة اليومية، ويملأها اشباع غرائز الحاجة البيولوجية الطعام والجنس والعمل والنوم، وجميعها عوامل تغييب الوجود الاصيل، في استبعاد الوجودات النوعية وليس الوجودات الهامشية المجتمعية المتكيّفة مع الكلية العامة. الوجود النوعي معناه وعي الذات جيدا بفهم اعلى نضجا من تفكير القطعانية الاستهلاكية بالحياة، ووعي الذات يقود لا محالة نحو الانفراد عن مجتمع الناسيّة، مجتمع نسيان الوجود، الوجود الاصيل الذي يتجسّد فيه وعي الذات، باغترابه عن مجتمعه في محاولته الوصول الى تراتبية أعلى في سلّم الحصول على صفات التمّيز والتفرّد النوعي في محاولة الوصول الى (مثل) قيم الانا العليا.، وهي نزوع مثالي في محاولة بلوغ مراتب الكمال، تشبه من حيث الغاية النزعة التصوّفية الاغترابية باختلاف الوسيلة والهدف، وكلاهما نزعتين لا يمكنهما التحقق واقعيا.

لمناقشة علاقة الفكر بكل من اللغة والعقل، تكون المسافة التي تفصل بين الوجود والفكر هي علاقة الانسان بذاته لا غير، أي علاقة وعي الذات المحكوم بالتفكير والادراك العقلي. وان العقل وليس الفكر هو السلطة المتنفّذة في وصايتها وحمايتها للوجود الانساني الفاعل، وفي تغييبنا لهذة الأولوية للعقل من أجل فرض سلطة الفكر على الوجود نقع في مفارقة تراتيبية في الوظائف العقلية التي يرفضها العقل قبل رفض النسق المنطقي التجريدي لها، هذه المفارقة في تراتيبية النسق الوظيفي للعقل، يدفعنا الى التساؤل أيهما أسبق تاثيرا على الوجود العقل ام اللغة؟ طبعا يكون الجواب هو العقل منتج الفعالية اللغوية التي هي ملكة يعبّر بها الوجود عن حقيقته وواقعيته كوجود عاقل.أذ لا وجود اصيل بدون عقل، ولا وجود لغة او فكر من دونه ايضا. وعبارة جاك دريدا عبثية في محاولة انكار دور العقل وعلاقته بالفكر عندما يقول (العقل هو العدو اللدود للفكر). دريدا هنا ينكر العقل بسذاجة على انه ميتافيزيقا!!.

أن تعابير مثل المسكوت عنه واللامفكّر فيه والغائب في ماوراء النص كلها تعبيرات لا معنى لها من دون فاعلية العقل كمرجعية ثابتة في كشفها وعلاقته بهما (الوجود واللغة). اما في جعل اللامفّكر به بأنه يمتلك سلطة على الوجود في تغييب العقل نرى لا حاجة لمحاججته ودحضه كونه اخلالا وظيفيا في قدرات العقل الفسلجية وتراتيبية علاقته بكل من الوجود والفكر، مقارنة بفضاء اشتغالات واستعمالات اللغة. وتأثيرها في تحديد الوجود الزائف والوجود الاصيل. ومن حيث اللامفّكر به احتمالا او تأويلا يتعدد ويتجاذب ويتضاد، وقياسا به بسلطة (اللامفكّر فيه) في قراءة النص ومن ثم تأثير ذلك على الوجود هو محض قصدية في تجاوز والغاء دور العقل في الاستجابة الادراكية للوجود او تعطيله قبل تعطيل النص واللغة المتعالقتان معه.

يقول علي حرب (يبنى النص على الغياب والنسيان، لا على الحضور والتذكّر، والغياب هو غياب الجسد والدال، وهما الحقيقتان اللتان لا ينفك عنهما وجود الانسان) ص27

هنا نود تسجيل الملاحظات التالية:

ليس الجسد واللغة حقيقتا الوجود فقط، بل العقل واللغة هما حقيقتان تتقدمانهما، فقد يكون الجسد مفارقا وجوده العقلي والفكري معا كما في جسد الميت او المجنون او المريض بمرض نفسي عصابي او عقلي انفصامي، أن في تعطيل العقل لا يبقى لوجود الجسد ولا اللغة أي معنى او قيمة، و تنتفي في عطالة العقل فاعلية وحضور الفكر واللغة. على سبيل الفرض، فالجسد لا يمثّل الوجود، كما لا يتحدد الوجود بتلازم الجسد والفكر او في تلازم الجسد والروح فهما غير كافيان في اثبات الوجود بدون العقل. وقريب من هذا المعنى متداخل معه يعبر ناعوم جومسكي فيلسوف وعالم اللغات في اتجاهه اللغوي التوليدية معارضا الفهم البنيوي والتفكيكي قائلا: ان الانسان المتكلم هو المولّد للكلمات والعبارات، وله الدور الفاعل في صنع اللغة وإيجاد توليدات جديدة لا تنتهي، وبهذا فهو يقاطع البنيوية حسب دكتور صلاح فضل ويقاطع التفكيكية اكثر أيضا. يتوجب علينا الحذر كما اشرنا له سريعا سابقا من الانزلاق في الخلط بين قراءة النص الادبي او السردي وفق منهجية القراءة البنيوية او التفكيكية التحليلية في علوم اللغة واللسانيات الحديثة من جهة ونص الفلسفة من جهة اخرى، فقراءة النص الادبي تكون وظيفة اللغة فيه تداولية تعبيرية تنحصر في ثنائية (نص ومتلقي) وهنا يكون مجال اشتغال اللغة الثري في تأثيث علاقة النص بالتناص، بالظاهر والمخفي، بالمعلن والمسكوت عنه وهكذا من ثنائيات متعددة تخرج النص ان يكون نصّا فلسفيا في علاقته بالوجود الانساني من حيث هو وجود أصيل أم وجود زائف. النص المكتوب او المرئي او المسموع لا يحدد وجود الشيء بدون مرجعية العقل، بل يمكنه تحديد الفكر من خلال النص.وكل وصاية على اللغة او الفكر او الوجود الاصيل مردّه ومرجعيته وصاية العقل اولا واخيرا ولا وصاية قبلها تسبقه.

 ليس باللغة يتحدد الوجود الانساني ولا بالفكر، بل باللغة يتحدد الموجود كينونة انطولوجية، الذي لا يترتب عليه نسيان الوجود الحقيقي، وبحسب المفكر حرب، فقد وضعنا هو امام مفترق طريقين لا نعرف أيهما نختار، هل نأخذ بالغياب والمنسي والمسكوت عنه في النص، ام نأخذ حضور النص كما هو نص استقبالي مدرك واقعيا مستوفيا شروط تلقيه، وان كل مدرك واقعي يكون عقليا، تتعدد قراءاته وتتعدد وظائفه في تحديد الموجود،  وفي نقد النص او تأويله لغويا فقط لا نكتسب وجودنا، وبأي المعنيين اللذين ذكرناهما يكون تعاملنا مع النص سليما لغويا كوسيط تداولي او تأويلي فلسفي ملازم؟ من المعلوم المتداول ان اللغة ليس متعينا ثابتا بل هي فعالية ألسنية متغيرة ومتطورة باستمرار يمكن التعبير بها فقط. اللغة صيرورة معنى متغير على الدوام في تبعيته وملازمته حركة الواقع.

ورد ص24 من كتاب علي حرب (لقد تبدّلت حقّا النظرة الى النص الفلسفي تبدّلا كليّا، فلم يعد يقرأ بوصفه خطاب الحقيقة المطلقة، والماهيّات الازلية، والهويّات الصافية، واليقينيات الثابتة، ولم يعد ينظر اليه فقط من جهة صدقه العقلي، او صحته المنطقية، او تماسكه النظري، او تواطئه الدلالي، وانما ينظر اليه من جهة اختلافه او كبته، او سياسته وهيمنته، او ضلاله وتلاعبه.. الخ).

تعقيبنا أن خطاب الفلسفة منذ عصر الاغريق والرومان والى يومنا هذا لم يكن خطاب الحقيقة المطلقة، الفلسفة بكل تجلياتها لا تمثل الحقيقة بل تستثير التساؤل في كيفية الوصول لها. وليس جديدا ان لا يكون هذا الفهم كذلك بالامس واليوم ولا في المستقبل، ومن المؤكد ان الفلسفة على امتداد التاريخ لم تكن الحقيقة شيئا مسلمّا به لتعدد معانيها واختلافات دلالاتها ومحدداتها الهلامية للمعنى كمصطلح او كمفهوم.

فالخطاب الفلسفي شأنه شأن أي خطاب مبني اي (بنية نسقية) فكرية لغوية تداولية ذات منشأ بنيوي نسقي، خطاب يحمل كل تناقضاته الداخلية، وكل نقائصه وعوامل انحلاله الذاتية والموضوعية داخله، ولم يأت عصر عومل به النص الفلسفي كيقينيات غير مشكّك بها الى حد أن كلود بيرنار قال (أكاد اجزم أن العالم ينام على وسادة من الشك). وهي عبارة قيلت بعد ان كتب ديكارت (مقالة في المنهج) قبل قرن حول الشك. حتى القراءات البنيوية والتفكيكية الحديثة الفلسفية وحفريات المعرفة والتنّاص اللغوي، تعامل اليوم وتتعرض الى نقد لا ذع يستهدفها بالصميم، وسيطالها تجاوز لاحق، وتعامل كما هي اليوم لا يقينيات معرفية ولا يقينيات منهجية في الافصاح الفلسفي والتعبير الفكري وعلى صعيد اشتغالات اللغة وحفريات المعرفة السائدة اليوم أيضا، نحن اليوم نعيش في عالم يتغير بالدقائق على صعيد كل محمولات الحياة وليس النص الفلسفي استثناءا من هذا التغيير الحتمي.

أن في خروج النص عن وصاية المؤلف يقع تحت وصاية المتلقي وتعدد القراءات الاختلافية التأويلية له، لذا لا يمكن لنص يتداوله اثنان قرائيا لا يختلفان عليه مهما كانت نوعية تلك القراءة حرفية او منهجية او فلسفية او موضوعية او غيرها. وكل ما يمكننا قوله سبقنا غيرنا بقوله ربما بافضل منا، ولنا عليه شروحات وتفاسير واضافات جديدة ولا اكثر، وما نقرأه ونقوله اليوم سيأخذ السلسلة التراتيبية في التداول حاضرا وفي المستقبل بنفس مناهجية التداول المعرفي في التجاوز او الإلغاء في سنة الحياة التي يحكمها التبدل والتغيير الدائمين حتى وغن بدا لنا الامر تعاقب من العود الابدي النيتشوي.

***

علي محمد اليوسف / الموصل

.......................

* المصدر: كتاب المفكر علي حرب (نقد الحقيقة).

كنت طرحت على نفسي سؤالا لغويا استشكاليا متداخلا مفاده: هل صوت الحرف باللغة اية لغة من اللغات المعاصرة هو ابجدية نحوية؟ ام هو خاصية الافصاح عن معنى الصوت؟ هنا يكون رسم الحرف الابجدي النحوي كتابة يحمل دلالة خاصية المعنى المجرد من الصوت المنطوق جهرا.

الحقيقة التي لا يمكننا اغفالها هي ملازمة رسم الحرف للصوت والاختلاف النحوي بينهما هو في معنى الصوت سواء كان الصوت منطوقا غير مرسوم أو مكتوبا.

الفرق بين الحرف المكتوب ضمن نص طباعي لغوي مقروء تداوليا هو ملازمته لصوت له معنى. لا توجد ابجدية قرائية حروفها بلا صوت دلالي له معنى.

اما في رسم الحرف اللغوي على جدار او داخل لوحة فهو يمتلك التعبير المقصود واحيانا يكتسب الجمالية الفنية على حساب فقدانه الصوت الدال الخفي او المسموع. فالحرف داخل نص مكتوب طباعة هو غير الحرف داخل لوحة تشكيلية، فالحرف في كلا التوظيفين هو بلا صوت لا منطوق ولا صامت لكنما الدلالة فارقا كبيرا.

وجدت جوابي الخاص بي ان رسم الحرف غير التشكيلي يشير الى ابجدية نحوية يلازمها صوت له معنى. رسم الحرف بالابجدية اللغوية هو شكل رمز يحمل دلالة صوتية ذات معنى. الحرف الابجدي عماد الكتابة وكي يتوفر على هذه الميزة ضروري ان يكون مرسوما بشكل متفرد عن غيره من حروف لغة ما، والثاني ان يحمل الحرف الابجدي دلالة صوتية ايضا متفردة ليس شرطا صوتا منطوقا لسانيا، والثالث والاخير ان الصوت المدّخر الذي يحمله الحرف نطقا او صمتا يشير الى معنى محدد مقصود.

صوت الحرف عند الانسان هو من ضمن نحو لغوي بينما الاصوات التي تطلقها الحيوانات تحمل في بعضها فقط معنى وغالبية اصوات الحيوان لا معنى لها حتى داخل نوعها كونها تتسم بالعشوائية التي لا يحكمها تفكير عقلي كما هي عند الانسان.. هذا لا يعني ان جل الاصوات التي يصدرها الحيوان هي بلا معنى.

شكل الحرف اللغوي الخاص بالانسان سواء اكان مجردا من قيمته الجمالية الفنية داخل لوحة او عمل فني تشكيلي يؤطره. في انجاز تشكيل لوحة خط او لوحة رسم فنون تشكيلية. اي عندما نرسم الحرف كتابة ضمن نص مقروء او منطوق مكتوب، او نرسمه باسلوب فني كما هو في التوظيف التشكيلي الجمالي في رسم لوحات الخط او لوحات التشكيل او لوحات البوستر بالرسم على الجدران والامكنة العامة في مختلف اجناس الفنون التشكيلية الجمالية التي تحتاج توظيف رسم الحرف الصامت في اللوحة.1554 ABC

 بهذا النوع من الاسلوب التوظيفي الجمالي يكون رسم الحرف داخل لوحة يفقده خاصية الصوت حتى الصامت الملازمة لرسم شكل الحرف كوحدة ابجدية منفصلة او متصلة. كما يفقد بالضرورة الملزمة له خاصيته النحوية التي نجدها بالكتابة العادية التداولية. هنا كتابة حرف البوستر وخط اللافتات المرفوعة بالايدي او الثابتة في اماكن محددة لها لا تفقد الحروف ابجديتها الصوتية الصامتة ذات المعنى المراد المقصود بل يؤكدها قراءة.

الصوت بلا نحو عند الحيوان

الحيوانات لا تمتلك لغة لها ابجدية بل تمتلك اصوات اغلبها عشوائية وبعضها تعبّر عن مدلولات استعمالية محدودة. بمعنى ليس كل الاصوات التي تطلقها الحيوانات ذات مداليل قصدية داخل النوع الحيواني من جنسها باستثناء بعض الاصوات التي تكون مفهومة داخل النوع الواحد مثل التنبيه الى خطر محدق، ورغبة الجماع الجنسي، قدرة التنبؤ بالتغيرات المناخية الطارئة، وجود اكل يتشارك به القطيع والخ من حاجات مشتركة تبعد نوع الحيوان من الانقراض.

لماذا نقول الانسان يمتلك فرادة لغوية لا تشبه وغير موجودة لدى غيره من الكائنات بالطبيعة.؟ للاجابة فقد سبق لي ذكرها بمقال سابق منشور لي اختصرهنا بعض أهم نقاطه:

الانسان يمتلك ابجدية لغوي نحوية منتظمة لا يمتلكها غيره من الكائنات. الابجدية عند الانسان نظام لغوي قائم بذاته نسقيا في التعبير عن كل شيء يدركه العقل.

الصوت اللغوي الانساني صوت يحمل معنى محدد مقصود الدلالة. وهو صوت بدأ عند الانسان بتطور بايولوجيا استخدام الحنجرة صوتيا عنده بمساعدة اللسان على تمكنه اخراج اصوات لغوية تحمل معنى مشتركا لقوم من الاقوام يتشاركون العيش المشترك والمصير الواحد ولهم عادات خاصة بهم يقدسونها او يتفقون الحفاظ عليها معنويا...

ميزة الانسان انه امتلك لغة تداولية متفردة عندما تمكن من رسم الصوت اللغوي وتوزيعه على رموزذات اشكال محفورة او منقوشة على حائط او قطعة جلد او اي شيء اخر يتفق عليه داخل مجموعة من البشر يؤشر مداليل قصدية مشتركة لها اصوات تدل على معانيها.

لغة الانسان نشأت وبقيت لغة تجريد لفظي يحددها ويضبطها (التجريد) اللغوي الذي يمكنه التعبير عن كل شيء لكن ليس بمقدوره ان يكون متموضعا ماديا في كينونة مدركة او موضوعا يدركه العقل بمعزل عن ارتباطه بالمعنى. بمعنى ما لا تستطيع اللغة التعبير عنه لا يدركه العقل في فهم معناه. فالعقل تفكير لغوي تجريدي في التعبير عن معنى.

الصوت الصادر مجردا عن معناه اي بلا حمولة فكرية قصدية هادفة لا يكون ولا يصبح لغة. الصوت ليس هو اللغة فقط بل هو المعنى ايضا. وبلغ التضاد الاختلافي بين انصار علم النفس السلوكي اللفظي بزعامة فريدريك سكينر1904 - 1990 الذين يعتبرون دراسة الصوت باللغة له اسبقية الاهتمام على دراسة المعنى باللغة التي يقول بها انصار فلسفة اللغة وبعض علماء اللسانيات والتحول اللغوي ونظرية فائض المعنى.1555 ABC

 لغة الانسان تتسم بخلق جماليات لغوية صائتة وصامتة معا هي خارج الاستعمال الدارج على ان وظيفة اللغة تواصلية مجتمعية – معرفية متعددة الاستعمالات داخل مجموعة بشرية يجمعها تعايش مشترك دائم. مثال تلك الجماليات نتاجات الادب والفنون ومختلف الفعاليات من رسومات تبدأ بالكهفية البدائية وتشكيل ونحت في عصور لاحقة معاصرة التي يجري توظيف اللغة كمنظومة ابجدية جماليا فنيّا فيها خارج وظيفة التواصل اللغوي الحواري المباشر.

كما اشرنا له سابقا رسم شكل الحرف باللغة هو خاصية نحوية من جملة قواعد وضوابط في اختراع ابجدية لغوية متكاملة تحتوي عددا محدودا من الاحرف المنتظمة نحويا خاصة بقوم من الاقوام مثل اللغة العربية 28 حرفا اساسيا اضاف لها بعضهم الهمزة كحرف لتصبح 29 حرفا والانكليزية 26 حرفا والسامية 22 حرفا وهكذا مع تعدد اللغات بالعالم. لا حاجة التذكير ان شكل كل حرف في ابجدية لغوية لقوم من الاقوام او امة من الامم يختلف رسمه وصوته عن باقي الحروف الاخرى داخل منظومة القواعد النحوية.

لكن يبقى رسم شكل الحرف ناقصا يحمل مداليل تاويلية فائضة وقراءات مختلفة ويخلق تصورات متباينة لا يكتمل معناه الدلالي النحوي بالنسبة لكل فرد منفردا لوحده او ضمن مجتمعه الا بملازمة صوت معين لكل شكل حرف مرسوم او مكتوب متفق على اساسيات تحكمه مثل شكل الحرف ، صوته الدال عليه، معنى دلالة ذلك الصوت الخاص به.. الحرف خارج منظومة القواعد العامة التي ذكرناها لا قيمة حقيقية له كرسم لشكل معيّن متفرد.

مثال تاكيد ما ذهبنا له توظيف رسم شكل الحرف باللوحة التشكيلية الفنية او بلوحات انواع الخطوط كما عندنا بلغتنا العربية كرمز جمالي تكويني فني يدخل جزءا بصميم تكوين جمالية اللوحة لكنه مقطوع الصلة عن التنظيمية النحوية القواعدية لتلك اللغة.

حروف لوحات الخطوط العربية تطورت عبر العصور فنيّا جماليا وكان لدور رائد الخطاطين من غير العرب المعاصرين الشيخ ابو حامد الآمدي التركي دورا كبيرا جدا في تلمذة الخطاطين العرب على يديه واجازتهم ممارسة الخط العربي. لتستقرالخطوط العربية اليوم في ابرزها على عدد من الخطوط والاشكال منها خط النسخ، الثلث، الرقعة، الكوفي، الديواني، الجلي الديواني، الفارسي "التعليق"،خط الطغراء، خط الاجازة، والخط المغربي وخطوط رسومات حروفية اخرى تدخل في المنحى الجمالي. وتعتبر لوحات الخط العربي اليوم من نفائس تراثنا الثقافي العربي المتناقل عربيا وعالميا.

نحوية الحرف اللغوي

نحوية الحرف باللغة لا يحددها رسم شكله خارج الكتابة التداولية المطبوعة اليوم. بالكتابة الحرف لا يفقد ابجديته الدلالية في التعبير عن معنى يلازمه صوت خافت او منطوق. بل يفقد القيمة الجمالية الفنية في توظيفه الفني داخل تكوين رسومات ولوحات ما لا حصر له. الحرف بالكتابة المجتمعية اللغوي الخاصة بقوم من الاقوام (وظيفة) غير جمالية ولا فنية بمعيارية مقارنة توظيف الحرف بالفنون التشكيلية والمنحوتات واللوحات الجدارية والمتنقلة ولوحات الخط العربي عندنا وهكذا.

في اللوحة التشكيلية وتوظيف الحرف جماليا يفقد الحرف العربي قيمته النحوية القواعدية كابجدية منضبطة. رسم الحرف باللوحة هو (فن) ورسم الحرف بالكتابة اللغوية المعرفية والادبية هي (نحوية) ابجدية منتظمة. والحرف في التوظيف الفني باللوحة متحرر تماما من اي التزام لغوي سوى توكيد حضور الناحية الجمالية الفنيّة.

اي هو في الوقت الذي يشكل حضوره داخل تكوين عملية الابداع المهني باللوحة كقيمة جمالية لا يستهان بها الا ان الحرف الجمالي داخل اللوحة يفقد نحويته الابجدية القواعدية بسبب عشوائية التوظيف الحروفي داخل تكوين اللوحة.. حينما يكون شكل الحرف الفني الجمالي داخل اللوحة (ثابتا) كحيّز امتلائي كتلوي لسد فراغ في تقنية اللوحة فنيّا في سد الفراغات وتوزيع الالوان والكتل وغيرها.1556 ABC

 حين اشرنا سابقا قبل اسطر ان رسم الحرف داخل اللوحة هو بمثابة تحنيط نحتي له يحرره من كافة الالتزامات النحوية واللغوية حتى بالمعنى والصوت، فمرد هذا الاستنتاج ان توزيع اشكال الحرف داخل اللوحة يكون اعتباطيا عشوائيا يغلب عليه اللاشعور في طغيان الحس الجمالي المبهر له. فرسم شكل الحرف داخل اللوحة يستنفده توزيعه الكتلوي (المكان) وانتقالاته اللونية داخل اللوحة بكل اريحية فنية جمالية حسب اسلوبية الفنان.

متى ما اكتسب الحرف الصوت تحرر من المهنية الاسلوبية الجمالية ويخرج من تشكيل اللوحة ليعود الحرف الى حقيقته الاصلية على انه رمز لغوي نحوي له دلالة تعبير تجريدية داخل منظومة لغوية تحكمه خاصيتي الصوت والمعنى. الحرف صوت ومعنى من خلالهما وبهما يكتسب تراتيبية تسلسله ضمن القواعد النحوية للغة.لا توجد لغة صوتية ولا لغة كتابية رمزية لا تحمل التعبير عن معنى قصدي.

لغة الانسان نشأت وبقيت لغة تجريد لفظي يحددها ويضبطها (التجريد) اللغوي الذي يمكنه التعبير عن كل شيء لكن ليس بمقدوره ان يكون متموضعا ماديا او موضوعا يدركه العقل بمعزل عن ارتباطه بالمعنى.

***

علي محمد اليوسف

 

ثمة وهم متجذر لدى كثيرين مفاده أن الانتماء إلى فكرة، أو اعتناق عقيدة، أو الارتهان لإيديولوجيا ما، إنما هو ثمرة تأمل حرّ وبرهان عقلي نزيه. ولهذا ترى بعضهم يندفع بحماسة شبه "دعوية" أو "تبشيرية" لتأكيد "صحة" معتقده، كما لو أن أفكاره قد انبثقت من تأملات حرة.

شاهدتُ أحد أساتيذ الجامعة، وكان قد غيّر قناعته، وبدّل معتقده المذهبي. يتهامس بعضهم عن سبب ذلك، وكيف أن هذا الرجل قد انتقل هذه النقلة، وما هو الدليل العقلي أو الفلسفي الذي أقنعه لترك المذهب الحق، مع أن هذا الأستاذ ليس من أهل الفلسفة والفكر. فجلّ همّ هؤلاء هو تكشيف القناعة الفكرية.

مؤشر الاتجاهات المعاصرة في علم النفس المعرفي، والأنثروبولوجيا، وعلم الاجتماع، يكشف عن صورة أكثر تعقيدًا للانحياز البشري. فالقرار العقائدي أو الفكري، سواء أكان قبولاً أم رفضًا، لا يتأسس بالضرورة على حجج عقلية نقية، بل يتشكل ضمن شبكة كثيفة من المؤثرات أوصلها وليم جيمس إلى أكثر من ثمانية (في مقالة إرادة الاعتقاد): التنشئة الاجتماعية، الحالة السياسية، الوضع الاقتصادي، العقد النفسية، الطموحات المؤجلة، النكبات الجمعية، الإغراءات الرمزية، ومفاعيل الثقافة المضمرة و.

إنّ ما نعتقد أنّنا اخترناه بحرية، قد يكون، في كثير من الأحيان، ما اختارته البنى فوق الفردية نيابة عنا، ثم وشمته في وعينا بلغة "الاقتناع".

هذا التعقيد العميق في بنية الانحياز البشري، قلّما يُدركه الخطاب الفكري على اختلاف أطيافه. فحين يتصدى هذا الخطاب- مثلًا- للإلحاد أو للآخر الدينيَّ ـ بالمعنى الواسع للتمايز العقائدي. يميل غالبًا إلى اختزال المواجهة وتطويقها ضمن أدوات البرهان العقلي أو الجدال الفلسفي، كما لو أنّ الإنسان كائن منطقي محض، لا تعتريه رواسب التكوين ولا تداهمه ارتجاجات العيش ومفارقاته.

إنهم قلما ينزلون إلى تخوم البنية النفسية والاجتماعية للآخر، ولا ينحدرون في طبقاته الداخلية المسكونة بالخذلان أو الاغتراب أو القلق أو التوق إلى المعنى. وبدل أن يُفكك الإيمان أو الإلحاد كنتاج تاريخي-أنثروبولوجي، يُختزل في مسألة منطقية يمكن أن تُقنع أو تُدحض.

هكذا يُبقي الخطاب "الدعوي" ذاته أسيرًا لوهم العقلانية المطلقة، متجاهلًا أن العقيدة بما هي شكل من أشكال الاستجابة الوجودية لا تُختصر في البرهان، بل تُبنى في المسافة المضطربة بين الذات والعالم.

ولا ينبغي أن يُفهم من هذا النقد أنّني أُقلل من شأن الأدلة، أكانت عقلية فلسفية، أو نقلية نصوصية، أو تجريبية علمية. فهذه جميعها تمتلك قوة دافعية لا يُستهان بها، وقدرتها على التأثير في البنية الإقناعية للإنسان لا يمكن تجاهلها.

لكن ما أود التنبيه إليه، هو أن تضخيم دور البرهان وإضفاء مركزية مطلقة عليه، على حساب الطبقات العميقة: النفسية، الاجتماعية، الثقافية، والرمزية التي تشكّل نواة التفكير الباطني، يُعدّ ضربًا من الوهم التحليلي، بل شكلًا من التبسيط المخلّ بالرؤية.

إنه اختزال يخلع عن الظاهرة الاعتقادية تعقيدها الأصيل، ويفلت من بين يديه حلقات شديدة الأهمية في سلسلة التكوين الوجودي للفكر والاقتناع.

فإذا عدنا إلى سِيَر الكبار- من أفلاطون إلى فوكو، من الغزالي إلى نيتشه- وجدنا أن مواقفهم تشكّلت في خضم التوتر، وتخلّقت أحيانًا على هيئة تنازلات ضمنية، تندغم في النص،  أو تهمس بها اللغة تحت السطح.

وإذا أردت أن تتأمل في تجلٍّ مكثّف لهذه الحركة المتصدعة بين القناعة والتحوّل، فلا مناص من التوقّف عند سيرة أبي حامد الغزالي(ت505هـ)، بوصفه ذاتًا مأزومة خاضت تجربة الفكر على تخوم السلطة، والخوف، والرغبة في الخلاص.

لقد كان الغزالي في تجربته النظامية[1] أداة ناعمة في هندسة خطاب الدولة العباسية المتداعية. صعد كمثقف رسمي في كنف الوزير نظام الملك، وانفتح فكره في حقل مشحون: كانت الدولة تتآكل من الداخل، والإسماعيلية تُحاصر المركز العباسي بحرب رمزية وميدانية، وحركة الحشّاشين بقتلها الجوال تسفك الدم باسم تأويل باطني عميق.

وسط هذا كله، لم يكن بوسع الغزالي أن يُفكّر حرًّا. لقد دافع عن الدولة، وهاجم خصومها، وصاغ نقده للفكر الباطني- والشيعي ـ كما في "فضائح الباطنية وفضائل المستظهرية" ـ بلسان رجل يُناظر لا ليكشف، بل ليحمي بنية هشّة اسمها "الخلافة". لم تكن معركته معرفية خالصة، بل كانت مشبعة بحمولة سياسية واضحة، تستجيب للتكليف بقدر ما تدّعي الجدل.

لكن الغزالي انفجر من الداخل تلك الهزّة العنيفة التي دوّنها في كتابه" المنقذ من الضلال" لم تكن هزته مجرد أزمة نفسية، بمقدار ما كانت ساعة تشظٍّ حاد بين ما يُقال وما يُعتقد، بين الدور وما تبقّى من الذات. فاختار الانسحاب إلى صوت التصوف، إلى إعادة تشكيل الذات في أفق يتجاوز الدولة، ويتجاوز العقل الجدلي أيضًا.

ومع ذلك، حين عاد إلى ساحة الخطاب، لم يعد صوفيًّا خالصًا، بل عاد كما بدأـ أشعريًّا شافعيًّا، ولكن هذه المرّة بروح من خَبِر التمزق: لم يهجر العقل، لكنه كبّله، ولم يهدم المنظومة،       لكنه جرّدها من دعوى الاطمئنان. وكأن الغزالي قد دار دورة كاملة: عاد من حيث بدأ، لكنه لم يعد هو.

وثمة محطات أخرى يمكن تناوشها في هذا المعنى. أتذكّر أنني، في مرحلة البكالوريوس، سألت أستاذًا لي سؤالًا بسيطًا في ظاهره: لماذا يبدو الشيخ الطوسي(ت460هـ) في كتاباته-الفقهية- مشدودًا إلى تشنج مذهبي ظاهر، على نحو لا نراه بالحدة نفسها عند العلامة الحلي(ت726هـ)؟

أجابني، بما يشبه التأمل التاريخي أكثر من التحليل العقلي بما مضمونه: "ربما لأنّ الطوسي عاش أزمة السقوط؛ فقد اجتاح السلاجقة بغداد، ومضت ميليشياتهم في قتل عشوائي وتهديم ممنهج، حتى مكتبته أُحرقت. فلما اضطرّ إلى الهجرة نحو النجف(448هـ)، كان يحمل آثار الندبة. أما العلامة الحلي، فقد خاض تجربة تواصلية مختلفة، سمحت له بمقاربة الآخر تماسًا وتأثيرًا وإفادة، إذ تأثر بجملة مقولات[2] عند أهل السنة بعد أن تتلمذ على بعض علمائهم.[3]"

ورغم أن هذا التفسير لا يمكن اعتماده بوصفه تأريخًا دقيقًا، إلَّا أنّه وفق مؤشر الدراسات الحديثة لا يمكن تجاهله أو استبعاده. ذلك أن الفقيه، والمفكر، لا يتحرك في فضاء مطلق، بل يتنفس داخل شروط تاريخية ضاغطة، قد تُعيد تشكيل قناعاته دون أن تُغيّر خطابه بالضرورة. التشنّج المذهبي هنا ليس دائمًا تعبيرًا عن رسوخ ودليل، بل قد يكون أثر جرح، أو أثر خوف تكلّس في بنية الموقف. من هنا، لا يُمكننا قراءة الطوسي أو الحلي أو أي فقيه كائنًا من كان خارج سياقه الحيوي؛ فالقناعة ليست دائمًا ما نعتقد، بل أحيانًا ما نضطر إلى اعتقاده.

ومن بين اللمحات اللافتة التي وقفتُ عندها، ما دوّنه السيد محمد باقر الصدر[4] حين تناول الظاهرة الإخبارية في بنية الفكر الفقهي الشيعي، لم يقف عند حدودها كاختيارات معرفية محضة تجاه العقل ومنتجاته، بل تجاوز ذلك إلى مقاربة سيكولوجية تكشف البعد النفسي العميق الذي يحرّك هذا الموقف. لقد قرأ الصدر النزعة الإخبارية بوصفها ردّة فعل وجدانية، لا مجرد اجتهاد نظري، تنبع من خوف أصيل يسكن الأخباري- وهو في الغالب رجل متدين صادق- من ضياع الميراث النصي تحت وطأة العقل المؤلَّه. وهذا الخوف كان حصيلة مركّبة للشرط التاريخي والثقافي الذي انغرس فيه، إذ مثّل التوجس من العقل آلية دفاعية في وجه ما اعتُبر تهديدًا لمرجعية النص ومهابته. هكذا، تصبح النزعة الاخبارية، في تحليل الصدر، شكلًا من أشكال القلق الوجودي الذي عبّر عن نفسه بلبوس فقهي، لا مجرد موقف معرفي بارد.

***

أ. م. د. حيدر شوكان سعيد

قسم الفقه وأصوله/ جامعة بابل.

............................

[1] نسبة إلى إدارته للمدارس النظامية في عهد الوزير نظام الملك السلجوقي.

[2] لم يكن انفتاح العلّامة الحلي على بعض المقولات المنهجية لأهل السنة- كالتقسيم الرباعي للأحاديث- خضوعًا لتأثير خارجي أو تساهلًا معرفيًا، بل هو، في جوهره، تعبير عن عقل اجتهادي يعي أنّ الحقيقة لا تُحتجز داخل الطوائف، وأن استثمار أدوات "الآخر" لا يعني الذوبان فيه. في مقابل الاتهام الاخباري الشيعي الذي يرى في هذا الاقتباس مدخلًا للتنازل عن الهوية، يتكشّف الموقف الحلي عن براديغم مغاير: المعرفة لا تُؤخذ من حيث تُنسب، بل من حيث تُنتج.

لقد شكّل هذا الانفتاح منعطفًا تأسيسيًا دفع لاحقًا بشخصيات مثل الشهيدين الأول والثاني إلى خوض مغامرات معرفية موازية، إذ لم يتردد الشهيد الثاني، على سبيل المثال، في أن يستدعي علم الحديث السنّي بكل منظومته التقنية، ليُعيد تأثيث المشهد الشيعي بأدوات كانت، حتى ذلك الحين، موصدة أمامه. بهذا المعنى، لا يُقرأ هذا الانفتاح بوصفه استيرادًا بل كفعل تأويل: تأويلٍ للفكر الآخر، وللذات في آن، يُعيد تعريف حدود المذهب بما هو فضاء تأويلي لا نظام مغلق. ينظر: ترجمة الشهيد الأول، السيد محسن الأمين، أعيان الشيعة، 10/ 59- 62. والزركلي، الأعلام، 7/ 330. وترجمة الشهيد الثاني، الحر العاملي، أمل الآمال، 1/ 85- 89.

[3] درس العلامة الحلّي عند بعض علماء السنة مثل: الشيخ نجم الدين علي بن عمر الكاتب القزويني الشافعي، والشيخ برهان الدين النسفي الحنفي، والشيخ تقي الدين عبد الله بن جعفر بن علي الصباغ الحنفي الكوفي.. ينظر: السيد محسن الأمين العاملي، أعيان الشيعة، 5/ 401- 402. الحر العاملي، وأمل الآمال، 2/ 81.

[4] السيد محمد باقر الصدر، المجموعة الكاملة لمؤلفات السيد محمد باقر الصدر، الناشر: دار التعارف- بيروت، 1989م، 3/55. والمعالم الجديدة للأصول، 82- 87.

 

الاهداء إلى: الدكتور حمد سلطان والدكتور حيدر خالد والتشكيلي رياض غنيه

ما نقوله أو نكتبه أو نتحدث به أمام جمع من الأصدقاء هو لغة تم خزن مفرداتها وأفكارها وتم إعادة صياغتها بأسلوب جديد، فأفكارنا هي نسيج من عالم لاوعينا الذي استدعيناه بلغة شعرية، أو قصيدة، أو نص مسرحي عميق، أو رواية، أو لوحة فنية، أو منحوتة عميقة الرمزية، هناك القوى الخفية التي تدفع الإنسان إلى الفعل، أو القول بهذا المأثور وسنعثر حتمًا الجديد الذي يقال مما تم خزنه، فعندما نتكلم فإننا لا نقتصر على نقل المعلومات التي نعتقد أننا ننسجها حول الموضوع الذي نعتقد أننا نتكلم عنه لوحده، بل إنها صور من عالم بأجمعه من عوالم الفكرة، أو رمزية النص وما يراد قوله عند المؤلف أو صاحبه، فتكون لهذه الكلمات أصداء والافضل أن نقول لها تضمينات ملحمية كانت،  أم تراكم خبرات تم اطلاقها من جديد بصور شتى، فتكون وظيفة الكلمة، أو بشكل أدق ما هي وظيفة الدال، أو وظيفة ذلك الجزء من السلسلة الصوتية، أو الفكرة التي ينطق بها الإنسان، أو الكلمة التي نسمعها. ويرى "فيليب شملا " من المؤكد أن هذه الإمكانيات لا تعطي لنا على وجه العموم، فالكتابة أو السياق يسمجان لنا، في نهاية كل جملة، بإبراز معناها، ولكننا نعلم أن سوء التفاهم ممكن دائمًا ونعلم كيف تستخدم إمكانية المعنى المزدوج للتلاعب بالكلمات، ونعلم أن هذا الغنى الكامن في معاني الكلمات ضمن الشعر، وضمن الشعر المعاصر على الوجه الخصوص وهو ما يسمى تعدد المعاني يسمح لنا بالكثير من القراءات، وكذلك النحت برمزيته الذي هو نتاج فكري عميق من اللاشعور – اللاوعي كما عبر عنه صديقي النحات الشهير الدكتور حمد سلطان بمنحوتاته العميقة، أو لوحات التشكيلي  رياض غنيه والتشكيلي  حيدر خالد بنتاجاتهم التي تحمل الرمزية العالية، منبعها اللاوعي – اللاشعور بعمقه ونتفق بذلك..  إن الإنسان نتاج اللغة، بكل اشكالها وهو خطاب ترك بصماته خلال طفولة الإنسان، وتدلنا المعرفة النفسية أن اللغة، أو نتاج الفكر عندما تتكون لدى الفرد تكون وظيفتها هي تمثيل، أو بعبارة أدق حمل الرغبة البشرية. وهي بنفس الوقت ميل الذات إلى ترميز ما لا تستطيع الإحساس به إلا باعتباره تمزقًا ودراما، وإلى تكراره إلى ما لانهاية له كما عبر عنه "فيليب شملا" ويضيف قوله يمكننا القول إن الرغبات البشرية تتحقق دائمًا عبر موضوعات بديلة، أو عبر اللغة مرة أخرى، ونضيف عبر الاعمال الفنية ذات الرمزية العالية فهذه الرغبات لا تعبر عن نفسها حيث تعتقد الذات ذلك، إنه اللاوعي – اللاشعور الذي هو خطاب الآخر، ونتفق مع القول بأن الرمزي هو نظام الثقافة الذي يعتمد على التخيل، ويحق لنا القول إن اللغة والنتاج الفني والفكري هو شرط اللاوعي.

من المسلم به بأن من العناصر الرئيسة التي يقوم عليها التحليل النفسي هي نظرية في اللاشعور – اللاوعي فضلا عن فنيات العلاج الشهيرة بالتداعي الحر – الطليق، لذا فإن طريقة العلاج لا تستجوب الإنسان بذاته،  بل تلك المنطقة السرية التي تجعل أية معرفة عن الإنسان سهلة حينما نطرقها  بأساليب معينة،  بوساطة اللغة، ويرى " حسين عبد القادر" قوله: لقد أكتشف " فرويد " قيمة اللغة، بقدر ما أكتشف أن اللاوعي – اللاشعور لغة في الإنسان وحال في وجوده، ولم يتوقف عن تقويم معرفته وتطوير نظريته ومفاهيمه، مدركًا أن الإنسان عدوًا لما يجهل، وإن إزالة الجهل تتعارض مع قانون أقل الجهد الذي يحكم الطبيعة والأشياء، ونقول أن الجهد العقلي المتميز في الثقافة والفكر والرواية والقصة والأدب بمختلف نتاجاته من الشعر  ونتاج المسرح هو نبش للاوعي – اللاشعور، لأن للاشعور – اللاوعي لغة كما عبر عنها " جاك لاكان " بقوله: أن اللغة هي ما يحدد الإنسان، وهو بنفس الوقت إعلاء وتسامي لملحمة ما يدور في النفس لا سيما أن آلية التسامي كما يراها " فرويد " مؤسس التحليل النفسي تقوم على تحويل الطاقة في النفس البشرية من موضوعه الأصلي إلى موضوع بديل ذي قيمة ثقافية واجتماعية، ويقول فرويد: إن المنبهات القوية الصادرة عن المصادر الجنسية المختلفة تنصرف وتستخدم في ميادين أخرى بحيث تؤدي الميول التي كانت خطرة في البداية إلى زيادة القدرات والنشاط النفسي زيادة ملحوظة، تلك إحدى مصادر الانتاج الفني.

الثقافة يعبر عنها باللغة، العلوم الصرفة يعبر عنها باللغة بعد إثبات تجاربها أو نفيها، العلوم الإنسانية يعبر عنها باللغة، الفلسفة صلب فكرها وبحثها هي اللغة، وكل ما تقدم من نتاجات الإنسان يكون عبر اللغة، واللغة عبر الكلام، والكلام هو الوسيط الوحيد في ممارسة أي سلوك معلن، أو غير معلن إذا ما كان تكوين فرضي لفكرة بعينها، أو هفوة، أو زلة لسان، وما أكثر ما حدثنا عنه فرويد بتمعن عال وعميق عن هذه اللغة، وهي تصدر من اللاشعور – اللاوعي، ولا نغالي إذا اتفقنا مع القول التالي: ان أي نشاط إنساني إنما  تكون التخييلات هي بمثابة الطليعة التمهيدية له " السيد البدوي فتحي ".  اللغة هي قمة النشاط الإنساني وجوهره، وهي أيضًا فعل الدلالة للإنسان وكذلك العلاقات المتبادلة بين التخييلات.

ان النتاج الأدبي والفكري بكل اشكاله وانواعه هو نكوص يدل معًا على عودة الفكر إلى التمثيل المصور وعودة الإنسان إلى الطفولة ويرى " فرويد" أن هذا النكوص الشكلي، وهذا النكوص الزمني، نكوصًا من نوع آخر، النكوص الموقعي، أي رجوع فكرة، مخرجها الحركي مسدود من القطب الحركي نحو القطب الإدراكي على النمط الهلوسي. الكتابة وأسلوب استخراج الأفكار والأبداع هو نوع من الهلوسة تنتج إبداع عن نفس الإنسان، فالتمثل هو تصور أو مجموعة من التصورات التي تثبتت عليها الرغبة خلال تاريخ الشخص وتدون في النفس بوساطتها، فتلك التمثلات وهي في الأساس طاقة لم تجد لها منفذًا في حياة الطفولة لبعض الأطفال - الأشخاص ذوي الحساسية المفرطة، والتفكير العميق مع الرمزية الواسعة المصاحبة لها بالتخييلات، حيث يتم كبتها، أو المقاومة من الشخص لما يفرض عليه من الوالدين، أو بديلهما، فالطفولة هي مخزون البلوغ في السلوك والأفعال والعدوانية والتعصب والبخل والكراهية والنميمة وغيرها من سمات الشخصية التي تبدو بشكل كامل في تعاملاتنا مع الآخرين. أما من استطاع إلى تحويل تلك الطاقة المكبوتة والمشحونة بالطاقات النفسية التي وجدت لها منصرفًا مقبول اجتماعيًا، كان النتاج الأدبي والفكري والشعر وكل تلك النشاطات بما فيها أنواع الرياضة، وإن أختلفت بمسارها الواقعي في الإنتاج اللغوي والفكري.

تبين لنا الأدبيات النفسية وأطرها التحليلية بأن تلك الطاقة التي قاومت ولم تفلح يومًا ما لضعف قدرة الطفل على أن يمارس رغبته، ستظهر الحاجة من جديد، وسيكون ثمة شيء يدفع ذلك بفضل العلاقة القائمة بين انطلاق اندفاع نفسي سيوظف من جديد تلك الصورة التذكرية لهذا الإدراك نفسه مجددًا، أي سيكون وضع الاشباع الأول وتحقيقه، وهذا الاندفاع هو الذي نسميه " رغبة " فظهور الإدراك مجددًا هو انجاز الرغبة، والتوظيف الكامل للإدراك بوساطة إثارة الرغبة هو الدرب الأقصر لإنجاز الرغبة كما عبر عن ذلك "بول ريكور"، ونقول أن الرغبة تعمي الإنسان ليس ببصره بل في ما هو محيط حوله، فرغبة الفنان لا يمكن وصفها، أو قمعها وإن كلفته حياته، ورغبة الشاعر في الشعر لا يمكن كبحها، ورغبة الروائي في انتاجه لا يمكن منعها، وقول " جاك لاكان " الشيء الوحيد الذي يمكن أن تكون مذنبًا في شأنه، أقله من منظور التحليل النفسي هو أن تتخلى عن رغبتك، ونقول أن قمع الرغبة بكل أنواعها عند الإنسان هو أن تقوده بيديك إلى الجنون، وسواء كان هذا القمع من السلطة، أو المجتمع، أو الأسرة، أو الزوج أو الزوجة.. أو الدين.. الخ

***

د. اسعد الامارة

تمهيد: صوت اللغة تعبير خارجي وصمت الفكر رؤية لغوية داخلية لا صوت لها. وصمت الفكر وصوت حروف اللغة نسختان تحملان نفس الابجدية المنطوقة خارجيا والصامتة داخليا في ادراك الاشياء من حيث حقيقة التفكير هو تمثّل لغوي صوري. نسختان لابجدية تصويرية واحدة في التعبير عن المدركات المادية خارجيا والخيالية داخليا، فهما يمثلان تطابقا بالدلالة واختلافا بالمفهوم ماجعل فلسفة اللغة المعاصرة ونظرية المعنى تدوران في حلقة دائرية مغلقة مرتكزها اللغة بما هي ضوابط نحوية تراوغ التعبير عن المعنى. يكتنفها عدم وضوح التفريق في التعبير عن حقيقة واحدة هي ان اللغة ابجدية صوتية تجريدية تطابقها لغة تجريدية تحمل نفس الرؤية الخيالية هي الفكر الصامت في تعبيرهما- اللغة والصمت- عن تجريد تعبير اللغة عن المادة او الموضوع المستمد من مصنع الخيال الذاكراتي حيث يصبح الفكر واللغة دلالة لمعنى محدد لفهم الواقع او ابداع موضوعات الخيال.

ميزات لغة الانسان

اكتسب اختراع اللغة تعريفه الفلسفي المعاصر عند الانسان من صفة اللغة انها خاصية (أصوات) يحمل معنى ودلالة مصدره ما تطلقه حنجرة الانسان المتطورة فسلجيا عبر ملاييين السنين في ملازمتها اللسان التدريب على اطلاق صوت ذي معنى لا صوت حيواني تقليد لاصوات الحيوانات لا معنى له كما فعل الانسان قبل اختراعه اللغة، وباختلاف تدني قدرة وعي الحيوان تطوير اصواته الى نوع من لغة تواصلية لعدم ادراكه ان الصوت يمكن تطوره الى ابعد من اشباع حاجتي رغبة الجماع وحاجة تحذير نوعه من الخطر الذي يتهدد بقائه من استهداف الكائنات الاخرى للاضعف في الطبيعة... الانسان على خلاف الحيوان أستثمر الصوت في اكثر من بعدي رغبة الجماع الجنسي والتحذير من الخطر كما هو عند الحيوان الى جعله الصوت الانساني يتخذ شكل ومحتوى(صوت) متعدد الدلالات والابعاد الدلالية التي يحتاجها الانسان.

من ميزات تطور لغة الانسان وتحولها من اصوات حيوانية بلا معنى يقلد الانسان بها غيره من الحيوانات مقارنة باختلافها عن اصوات بقية الكائنات الحية:

- لغة الانسان ناتج تفكير عقلي صوتي يشير لمعنى يصدر عن شبكة اعصاب ترتبط بقشرة الدماغ. لها رموز وقواعد واحكام تضبطها منها الابجدية اللغوية في علاقة الحرف بالصوت. او المقاطع الرمزية المكتوبة في تعبيرات الدلالة التواصلية في فهم مشتركات الطبيعة مع الانسان ومدركاته لموجودات عالمه المادي والخيالي.

- لغة الانسان الصوتية والمكتوبة تحمل دلالة ومعنى لشيء محدد معين. لا توجد لغة صوتية ولا لغة كتابية رمزية لا تحمل التعبير عن معنى قصدي.

- لغة الانسان نشأت وبقيت لغة تجريد لفظي يحددها ويضبطها (التجريد) اللغوي الذي يمكنه التعبير عن كل شيء لكن ليس بمقدور ذلك التجريد ان يكون متموضعا في مدركاته ماديا او موضوعيا يدركه العقل بمعزل عن ارتباطه بالمعنى الصوتي.

- الصوت الصادر مجردا عن معناه اي بلا حمولة فكرية قصدية هادفة المعنى لا يكون ولا يصبح لغة. الصوت ليس هو إفصاح لغوي فقط بل هو المعنى ايضا. وبلغ التضاد الاختلافي بين انصار السلوك اللفظي بزعامة سكينر الذين يعتبرون دراسة الصوت باللغة له اسبقية الاهتمام على دراسة المعنى باللغة التي يقول بها انصار فلسفة اللغة وبعض علماء اللسانيات ونظرية فائض المعنى.

- لغة الانسان تتسم بخلق جماليات لغوية صائتة وصامتة معا هي خارج الاستعمال الدارج على ان وظيفة اللغة تواصلية داخل مجموعة بشرية يجمعها تعايش مشترك دائم. مثال تلك الجماليات نتاجات الادب والفنون ومختلف الفعاليات من رسومات وتشكيل ونحت التي يجري توظيف اللغة بها خارج وظيفة التواصل اللغوي الحواري المباشر. حتى لغة الجسد الايحائية في الطقوس والشعائر الدينية والرقص تدخل بهذا المجال. وكذا الحال في الباليه والمسرح الصامت.

- في تقريب نوضحه لاحقا تفصيلا ان الفكر لغة ابجدية تصورية تحمل معنى قصدي. ولا يمكننا تصور لغة لا يحتويها فكر قصدي هادف. بفارق من عدة فوارق ان اللغة صوت نشأ استجابة لاشباع رغبات يحتاجها جسم الانسان بايولوجيا داخليا وخارجيا ولا يختلف شكل الصوت اللغوي من حيث هو ابجدية بلا صوت عن الفكرالملازم لها من حيث كونه محتوى لغوي صامت لا قيمة له بدون لغة تعبيرصوتي في شكل كلام او ابجدية حروفية او مقطعية مكتوبة عنه. بعبارة مقتصدة اللغة التي بلا معنى توصيلي هادف لاوجود لها.

- ملازمة اللغة للفكر هو خزين تحتفظ به الذاكرة والذهن كحلقات في منظومة العقل الادراكية التي تبدأ بالحواس وتنتهي بالدماغ.. وفرق اللغة عن الفكر انهما كلاهما ابجدية لغوية واحدة تختلفان بالصوت فقط. اللغة تعبير عن صوت، والفكر لغة تعبير عن صمت.

- اللغة والفكر وحدة تعبيرية واحدة متكاملة يتوزعها السلوك والعمل والتعايش المشترك لمجموعة بشرية تجمعها خواص مشتركة ومصالح واحدة.

- لا اختلف مع احد ابرز الفلاسفة الاميركان المعاصرين وليفريد سيلارز قوله الحياة والوجود هو لغة فقط فهو مصيب تماما ان الادراك الشيئي او الخيالي هو لغة مجردة . كل الاشياء وموجوداتها وعلاقاتها لا يمكننا فهمها والتعبير المشترك والمنفرد عنها بغير تمثلات اللغة الصورية. الفكر صورة لغوية.

بخلاصة العبارة اللغة هي وسيلة فهم العالم وادراك الوجود . ولا وجود لعالم سليم له معنى يدركه الانسان بلا لغة او لغات تنظم ادراكاتنا لذلك الوجود. كليّة المنظومة الفكرية الادراكية العقلية بدءا من الحواس وانتهاءا بالدماغ هي (لغة) فقط. بهذا نجزم بارتياح لا يحتاج برهنة عليه هو ان العقل جوهر تجريدي ماهيته التفكير حسب تعريف ديكارت. هنا نحن نسقط خاصية التفكير على الدماغ ومن غيره لا يوجد تفكير معرفي. اي علينا الانتباه التفريق بين فيزيائية العقل كعضو فسلجي بيولوجي من مكونات الجسم وبين العقل كناتج تعبير لغة التفكير التجريدي عن الوعي بمدركاته بوسيلة اللغة. على حد تعبير ديكارت العقل جوهر ازلي خالد ماهيته التفكير. هنا المقصود بالعقل على انه جوهر ازلي خالد هو اللوغوس او لغة العقل التجريدية. والسبب ان العقل المقصود به عجينة الدماغ الذي تحتويه جمجمة الانسان هو فان يموت ويفنى بموت الانسان وفناءه. خلود العقل بالفكر وليس بخاصيته البايولوجية في ادارته جسم الانسان.

- حينما نقول فهم العالم يبدأ باللغة وينتهي بها هذا لا يعني ان العالمين المادي والخيالي للانسان غير موجودين بدون لغة. لغة التعبير عن الاشياء هو توكيد لوجود موجودات سابق وجودها على اللغة. وبغير تلازم اللغة مع الوجود لا يبقى لكليهما معنى انفصاليا عن بعضهما. اللغة بلا موضوع تعجيز عقلي غير صحيح ولا يمكن حدوثه.

الفرق والاختلاف بين الفكر واللغة

هذا العنوان الفرعي يستلزم منا تبيان مالفرق بين تفكير العقل صمتا داخليا، وبين تفكيره تعبيرا لغويا صوتيا خارجيا وما المقصود به وما دور الفكر واللغة في تحديد معنى الشيء المفكّر به كموجود.؟

كيف يفكّر العقل داخليا مع ذاته في موضوع خيالي ، وكيف يفكّر العقل خارجيا في استقلالية وجود مدركاته من الاشياء ماديا؟ بالحقيقة العقل في كلا التفكيرين الداخلي والخارجي يتمّان في توافقهما والتقائهما في مصدر التفكير الواحد الذي هو الوجود المادي او الموضوع الخيالي، فلا يوجد عمل تفكيري في العقل لا يرتبط بموضوع مدرك حسيّا او خياليا والا كان تفكيرا عقيما وهميا وعدما لا علاقة للعقل به ولا للموضوع علاقة بالعقل المدرك له.

التفكير لا يتم بغير موجود متعيّن هو الموضوع سواء اكان ماديا ام خياليا يسبق وجوده ادراك المحسوسات ومنظومة العقل الادراكية. من المهم تاكيد ان العقل تفكير لغوي لفهم وتفسير الحياة.لذا ادراك العقل لموجودات العالم الخارجي يسبق الوعي بها. الادراك الحسي هو انطباع اولي والوعي ادراك عقلي.

تفكير العقل خارجيا يتم بوجود شيء مدرك مادي محدد او (موضوع) يكون مادة للتفكيرتنقله الحواس ادراكيا للذهن ومن ثم للعقل على شكل انطباعات وقتية بالذهن، وقد تتعّطل مهمة الحواس هذه عندما نجد العقل يفكّر تخييلا وتخليقا عقليا بموضوع ذهني تستحضره الذاكرة من الخيال، لا علاقة له بالمادة ولا بالمحيط الخارجي للاشياء كأن يفكر الانسان خياليا في اشياء من الطبيعة او يتخيّل اي شيء او اية فكرة مجردة غير متعينّة ادراكا ماديا وجوديا امامه في الطبيعة او في الانسان كغيرها بما لا يحصى من الاشياء بالعالم الخارجي من موضوعات خيالية تنعش الذاكرة العقلية التفكير بها كمواضيع سواء في مواضيع الخيال العلمي او في مواضيع الخيال الفني والادبي والجمالي الابداعية وهي مواضيع لا وجود واقعي مادي لها يحدها واقعيا خارج تفكير العقل الحسّي بها. الخيال جوهر لغوي يوازي اللغة جوهرا عقليا.

كما لا تقوم الحواس المادية ولا من مهامها نقل موضوع التأمل الخيالي الى الدماغ وانما مخيّلة الانسان وذاكرته تستذكره في الذهن خيالا مجردا وتجعل منه موضوعا لتفكير العقل الذهني في تداعيات مخيالية منها مستمد من الذاكرة وبعضها الاخر تخليق خيالي لظواهر وكائنات وتصورات لا وجود واقعي لها.

يلي ذلك ان العقل قد يعبّر لغويا عن موضوعه الخيالي بعد تخليقه الجديد له في لغة الكتابة او اي نوع من انواع لغة التواصل، او لا يعبر عنه باللغة وانما بوسيلة توصيل جمالية تكون اللغة فيها في حالة كمون يقوم المتلقي استكشافها من خلال لوحة او فن تشكيلي او موسيقا او يوغا او باليه او نص مسرحي صامت. جميع هذه الفعاليات هي لغة غير صوتية يغلب الوعي العقلي المفهومي بها الادراك الحسي.

اذن في البدء علينا الاقرار الآلي الثابت انه لا يمكن للعقل الانساني ممارسة التفكير ما لم يكن هناك موضوعا واقعيا ماديا او خياليا يصبح مادة او موضوعا لتفكيرالعقل. ما ليس بمادة تفكيرية للعقل لا وجود حقيقي لها ولا اهمية لها. وعي العقل لموضوع معيّن يعني ان ذلك الموضوع يحمل قيمة يحتاجها وعي العقل لها.

وميزة العقل السوي انه لا يفكر في فراغ اوفي لا معنى ولا في لاشيء. وقلنا ايضا ان الحواس ليس من مهامها ولا من قدراتها نقلها موضوعا خياليا هو من ابتداع المخيّلة والذاكرة الذهنية للعقل ولا دور للحواس به، بل الدور كل الدور يكون للعواطف والوجدانات واللاشعور النفسي في التعبير عن الفنون والجماليات خياليا في لغة كامنة صامتة تتواصل مع المتلقي ايحاءا تأويليا تتعدد قراءاته في اللغة الجمالية. وان العقل من قدراته الذاتية المعجزة انه يفكر(خياليا) بموضوع او اكثر لم تقم الحواس او احداها بنقلها له. وان العقل يفكر خياليا بنفس اهمية وربما باكثراهمية من تفكيره بالاشياء كموضوعات في وجودها المادي في الطبيعة والعالم الخارجي.

هنا يأتي تساؤل أهم ان وسيلة التفكير العقلي للشيء المدرك داخل العقل تتم بماذا أو بأي كيفية يعقل العقل او الدماغ ذاته وموضوعه؟ وما هي آلية التفكيرالعقلي بالموضوع؟ لحد الان تمّكن العلم من معرفة كيف تعمل حاسة البصرالعين في رؤيتها الاشياء، وكذا مع حاسة السمع او الذوق او اللمس، اما كيف يعقل الدماغ نفسه ذاتيا بالتفكير الصامت، كما يعقل موضوعاته ايضا ، وفق أية الية يتم الادراك العقلي في تخليقه الاشياء المادية وتفسيرها فهو غير معلوم علميا اكثر مما تزودنا به الفلسفة وليس تخصصات علم طب وظائف الدماغ والاعصاب العاجزة ايضا على حد علمي من تفسير كيف يفكر العقل بذاته وفي الموضوعات..

لكن من البديهي ان عقل الانسان في كل لحظة من لحظات تفكيره يخلق لغة يفهمها هو ويفهمها غيره.ان يعقل الانسان ذاته معناه يصنع لغة تفكيره في ابجدية صورية تمثليّة لكل مدرك.

فالعلم يوّضح كيف ان آلية التفكيرالعقلي تنحصر في موضوع مدرك حسيّا وعقليا عن طريق الجهاز العصبي المرتبط بملايين الخلايا الدماغية التي تتناوب الادراك في عملية معقدة من اختصاص طب علم الدماغ والجملة العصبية وهو مجال لا تعلمه وتعمل به الفلسفة ولا باستطاعتها الخروج منه بنتيجة يرضاها العقل والطب العلمي. على حد تعبير عالم الفيزياء ستيفن هوكنج قوله لامستقبل ينتظر الفلسفة يوازي او يتقدم منجزات العلم. طبعا خطأ عالم فيزياء كبير مثل هوكنج في حكمه على نهاية مستقبل الفلسفة الحتمي كان بمنطوق علمي هو علم الفيزياء الفلكية وليس بمنطوق الفلسفة التي هي تجريد لغوي منطقي خارج تجارب العلم..

اما في توضيح الفلسفة فهو حين يعقل الانسان ذاته تفكيرا ماديا ام خياليا فهو يحتاج حتما لمادة او موضوع يدركه واقعيا او خياليا كما ذكرنا سابقا لا يخرج عن وصاية العقل في حال انعدام واسطة التعبيرالفكري – اللغوي عنه وبه. التفكير بشيء هو الاقرار البديهي المسبق بموجود موضوع سابق عليه.

اي بمعنى ان التفكير العقلي لفرد لا يدركه الانسان الآخر في ماهيته خارج العقل الا في حالة التعبير الفكري – اللغوي عنه خارج وصاية العقل عليه حين يكون موضوع التفكير العقلي متموضعا فكريا في الواقع المادي لوجود الاشياء.

اما ادراك شخص لما يفكر به شخص آخرعقليا جوّانيا في صمت دونما افصاحه عما يفكر به بالكلام او اللغة او الاشارة فهو محال.فالعقل لا يدرك ولا يعي ما يدورفي اذهان الاخرين، ولا ما يعتمل في دواخلهم من وجدانات وعواطف الا بعد إفصاحهم التعبير عنها بواسطة ادراك تواصلي مع الاخرين .

فاذا اراد العقل وجوب التعبير عن موضوعه المفكّر به للعالم الخارجي المستقبل له، توّسل لذلك الفكر – اللغة. واذا لم يشأ ذلك فانه اي العقل يجعل من موضوعه تفكيرا داخليا صامتا غير متاح ادراكه من غيره الذي هو (أنا) الفرد العاقل المفكّرمن نوعه (الانسان الاخر). بمعنى ان الفكرة واللغة المعبّر بها صمتا عقليا تنعدم في التاثير وفي الحضور في كيفية نقل تفكير مصنع الحيوية العقلية التخليقية للاشياء التي يقوم بها العقل ادراكا وتفكيرا داخليا. العقل لا يخلق الاشياء لكنه يقوم بتخليقها كموجودات سابقة الوجود على تفكير العقل.

فاللغة والفكر لا يحضران سوّية الا في محاولة تنفيذ ايعازات مصنع الحيوية العقلية بالاخبار الادراكي العقلي عن موضوع جرى التفكيربه ذهنيا واكتملت مهمة اعادته من الدماغ الى عالم الاشياء كوعي جديد بلغة جديدة وليس كموجود سابق مستقل في عالم الاشياء قبل ادراك العقل له.العقل لا يخلق موجودات الحياة القبلية بالفكر بل يخلق وسائل فهم وتفسير وعي تلك الموضوعات في إعطائها قيمة منظمة تخدم حياة الانسان وتقدمه .

ايعازات العقل الارتدادية الصادرة منه والواردة اليه بواسطة منظومة الجهاز العصبي المرتبطة بالدماغ في تخليقه لمواضيع جرى تفكيره بها انما تتم في تنفيذ اللغة او غير اللغة كأن تكون نزعة اشباعية بيولوجية يكون ايعاز العقل في اعادة الموضوع المفكّر به من العقل الى امكانية ادراكه في العالم الخارجي بفهم جديد عما كان عليه قبل ادراك العقل له، في توّسله اللغة التي هي الفكر ولا فرق بينهما في التعريف المادي او التجريدي بالموضوع في وجوده المستقل في عالم الموجودات الخارجي بعد تخليقه عقليا.الوجود الادراكي الحسي او العقلي المستقل هو وجود فكري لغوي كما هو وجود مادي مستقل في عالم الاشياء ايضا.

كيف تكون اللغة هي الفكر؟

التساؤل الآن كيف تكون اللغة هي الفكرحسب ما تذهب له جميع نظريات علم اللغة واللسانيات المعاصرة، (شكل ومحتوى) ولماذا يعجز ادراك العقل للاشياء التفريق بينهما اي بين الفكر واللغة.اذا كانا يحملان مدلولين متباينين مختلفين في تعبيرهما عن الموضوع الواحد باكثر من ادراك وتأويل واحد صادر عن العقل؟. سؤال يسبقه جوابه. لا يختلف شكل اللغة عن تعبيره عن الاشياء بمحتوى المعنى. لكن تراتيبية الفكر يسبق شكل اللغة في انتاجية العقل لهما (الفكر- اللغة).

هنا الفكر واللغة المتلازمان في تعبيرهما عن الاشياء ليس بمقدورهما تفسير وجود الشيء بمعزل احدهما عن الاخر اي بمعزل شكل اللغة عن محتوى التفكير، لأن في ذلك استحالة ادراكية تعجيزية للعقل....في امتناع الفكر واللغة التعبير عما يرغبه العقل التعبير عنه وجودا واعيا مدركا.

ان في عجز الفلسفة الخروج عن نظرياتها المفترضة شبه الثابتة ان الفكر هو اللغة المعبّرة عنه وبالعكس، او ان اللغة هي وعاء الفكر، او ان اللغة هي بيت الوجود.وأن اللغة مبتدأ ومنتهى ادراك وجود الانسان والطبيعة والاشياء في العالم الخارجي.

جميع هذه التعبيرات الفلسفية تفهم اللغة على انها فعالية ادراكية عقلية في تحديد الفكرة او الموضوع في تموضعهما بالعالم الخارجي كي يتم ادراك الشيء ومعرفته من قبل الآخرين من الذوات العقلية المدركة وهو صحيح الى حد كبيرولا يتوفر مجال أدحاضه في الاحتكام للعقل في ادراكه الوجود على وفق هذه الآلية التي ترى ان الفكر واللغة وجهان لعملة واحدة.ومن المحال ادراك الاشياء بالفكر دونما اللغة، ولا باللغة دونما الفكر.

في هذه الحالة حين تكون اللغة هي تعبير عن فكرة متموضعة داخل او خارج العقل، يستحيل الفصل بين اللغة والفكرة او الموضوع المعّبرعنه بهما. فبهما (الفكر واللغة) يصبح التفكير الذهني العقلي موضوعا ومتعيّنا وجودا في العالم الخارجي بعد تخليقه عقليا، وفي هذا الاسلوب يكون تفكير العقل خارجيا او بالاحرى من اجل فهم الوجود الخارجي للاشياء المستقلة.

حين نقول تفكير العقل الداخلي المقصود به هو التفكيرالذاتي الصامت، أما تفكير العقل خارجيا فهو عندما يجري تعبير اللغة عن موضوع تفكيرالعقل واقعيا ماديا كوجود مستقل في عالم الاشياء. وبالواقع ان هذا التفريق في تفكير العقل داخليا صمتا وخارجيا بوسيلة اللغة، انما هما في الاصل تفكيرلغوي واحد للعقل في موضوع محدد مشترك يتميّز به بمعزل عن كل موجود مادي او متخيل آخر.

أي أن العقل واللغة والفكر يجمعهم (وحدة وجود أسبقية الموضوع على تفكيرهم) المدرك في زمن واحد معيّن.وهكذا هي الحال في تناول اي موضوع او شيء من العالم الخارجي كي يتم تخليقه داخل العقل قبل افصاح الفكر واللغة عنه كموجود او شيء ماثل في العالم الخارجي.

ان ادراك العقل للاشياء الواردة له عن طريق الحواس بما لا يحصى في تنوعاتها وتوقيتاتها الزمنية، لايعقلها العقل دفعة واحدة، اويعطي الدماغ ردود الافعال الانعكاسية الارادية وغير الارادية عليها بعشوائية من دون تراتيبية يعتمدها العقل بفرز انتقائي..

ذهبنا الى استحالة فصل اللغة عن الفكر في حالة افصاح العقل عن فهمه وتعّينه لموجود او شيء مادي ما في العالم الخارجي.وهذا يختلف عنه في التفكير الصامت داخل العقل اذ يكون الفكر واللغة غير مدركين في التعبير عن شيء هو لا يزال موضوع العقل في التفكيربه صمتا داخليا. الصمت موقف في تعطيله تفكيرالدماغ وتعطيله تعبير اللغة على السواء.

انه من المهم تاكيد ان العقل في تخليقه اشياء الوجود الخارجي والوجود الخيالي الداخلي انما يتم في تفكير العقل باللغة المتكاملة مع الفكر.اي ان تفكير العقل بالشيء لا يكون بالفكر المجرد عن اللغة فهذا هراء غير ممكن، وكذا الحال بالعكس ان العقل لا يعقل الوجود باللغة دون الفكر ايضا فهو استحالة ادراكية.

هنا لابد لنا من القول ان اللغة (المفهوم) في اللوحة التشكيلية او في اي عمل فني، نجد اللغة فيه تلاشت في ثنايا اللوحة الصامتة لغويا لكنها اصبحت اللغة المفهوم هي لغة الكمون المزروعة في ثنايا نسيج واحشاء اللوحة او اي عمل فني آخر غير التشكيل. لغة المفهوم في الفن والجمال هي لغة الايحاء التواصلي بدلا من اللغة المنطوقة كلاما او المكتوبة.

تلازم وحدة الفكر واللغة في التفكير يعجز العقل عن اعطاء اسبقية احدهما على الاخر بصورة بائنة واضحة لكنها موجودة في اسبقية انتاج العقل للفكر التصوري على اللغة التداولية، لكنه- اي العقل- يستطيع بيسر وسهولة تحديد اسبقية الموضوع على كليهما (التفكير وتعبير اللغة)، فلا تفكير ولا لغة ولا عقل يعمل بدون موجود او موضوع يسبقهما في وجوده المستقل.

نذّكر أن علماء وفلاسفة اللغة واللسانيات جميعا يعتبرون اللغة والفكر هما وجهين لعملة واحدة ولا تفريق بينهما كما ذكرنا سابقا، فاللغة هي الفكر المعبّر عنه حسب ريكور وفنجشتين ودي سوسيروجومسكي وجميع فلاسفة وعلماء اللغة في اعتبارهم اللغة هي فعالية العقل في تعيين ادركاته للموجودات والاشياء الخارجية. وفي تخليق تصوراته الخيالية.

لكننا نجازف براينا بالمباشر ونقول انه يمكننا فصل الفكر عن اللغة عندما يكون تفكير العقل صمتا داخليا في التفكيربوجود شيء مادي او خيالي لا يحتاج لغة التعبير عنه افصاحا خارجيا بل يحتاج الفكر وحده لانه وسيلة تفكير العقل المعقدة الوحيدة في تخليقه لموضوعه بوسيلة الفكر لوحدها دونما الحاجة الى اللغة وسيلة تعبير لمواضيع العقل. ، وتكون اللغة تعبيرا صامتا داخليا متخيّلا ايضا في تفكير العقل لموضوعه الخيالي كوجود غير مادي، اي وجود خيالي لا يرتبط وغير ملزم التعبير اللغوي عنه بعد تخليق العقل له. لكن الحقيقة الصادمة التي لا يمكننا الافلات منها هو في استحالة امكانية العقل انتاج فعالية التفكير من غير تمثّلات شكل لغة التعبير الصورية عن المدركات والموضوعات.

تكون حاجة العقل في حواراته الداخلية للفكراهم واكثر فاعلية في عدم اعتماد اللغة التي تكون لغة استيعاب صوري لما يفكر العقل به. (الفكر) هنا وسيلة العقل في معالجة موضوعاته صمتا داخليا، وتكون (اللغة) وسيلة العقل في التعبير عن الموجودات والاشياء في العالم الخارجي. هذه العبارة التي ادرجتها خاطئة لسبب اننا اعتبرنا اللغة صوتا تعبيريا خارجيا وليس تفكيرا صامتا داخل العقل والجسم. والخطأ الثاني في العبارة السابقة هو تجريد اللغة الداخلية الاستبطانية انفصالها عن المعنى غير المفصح عنه بلغة الصوت. اللغة فكر له معنى يلازمه صوت يمتلك لغة منتظمة بقواعدها. وبغير ملازمة صوت اللغة لمعنى لا تكون هناك لغة يعقلها العقل. صمت التفكير اعمى من غير شكل من اشكال اللغة تحتويه.

الصمت تعبير لغوي

للتوضيح اكثر فالتفكير المادي الصامت هو في معالجته موضوع واقعي او شيء ما بالتفكير المجرد كمتعيّن موجود في العالم الخارجي، اما في تفكير الصمت العقلي او(الخيالي) غير المعبّر عنه باللغة فهو الهام تخييلي في انتاج الذاكرة العقلية موضوعا يدرك خارجيا بلغة جمالية خاصة هي في حالة من الكمون الموحي خلف فهم الوجود الجمالي للشيء، لم يكن ادراكه متيّسرا قبل افصاح العقل له وتخليقه جماليا، كما في خيال انتاج لوحة فنية او قطعة نحتية او اي ضرب من ضروب التشكيل الفني ومعالجات علم الجمال الذي من المتاح الممكن التعبير عنها بغير لغة الكلام او لغة الكتابة او الموسيقى او الاشارة. اللغة بالفن هي مفهوم وليست ابجدية لغوية.

التفكير واللغة تعبير واحد

نأتي الآن الى معالجة اصل امكانية فصل الفكر عن اللغة، على انها استحالة ادراكية في فهم الاشياء والمواضيع في حال وجودها في العالم الخارجي في استقلالية عن الانسان سواء كانت مواضيع تناولها العقل بالادراك واعادها باللغة والفكر ثانية الى عالم الواقع من جديد بعد تخليقها بوعي عقلي جديد، او لم يدركها في وجودها المستقل التي ايضا تستطيع الحواس واللغة التعبير عنها كموجودات واشياء.

من المهم جدا ان لا نتجاوز بديهية الادراك العقلي أن تفكير العقل لا يخلق اشياء ولا موجودات ولا موضوعات لكنه يخلق الوعي التأثيري بها. فالموضوع سابق على الادراك في المادة والخيال. يبقى عندنا ان التفكير العقلي الصامت ماديا او خياليا فأن آلية العقل في التفكير تستطيع فصل اللغة عن الفكر طالما هما حاضران ذهنيا في لحظات زمنية واثناء التفكيربموضوع ما داخليا، اي حينما يفكر العقل صمتا فهو يفكّر بالفكر ذاته كوسيط لموضوع مدرك في علاقته بالفكروالعقل الذي نقلته الحواس المدركة للاشياء او في موضوع ابتدعه الخيال ايضا ويحتاج العقل الفكر كوسيط في تخليقه واعادته الى عالم الاشياء باللغة المعّبرة عنه. وليس باللغة خارج موضوعه في التفكير الصامت. اللغة في تفكير العقل الصامت لا اهمية ولا وجود لها يتاح ادراكه من غير الشخص الذي يفكر بموضوعه عقليا منفردا مع نفسه وموضوعه ويبقى الفكر وحده وسيلة العقل في التفكير وتخليقه مواضيع الخيال العقلية والمادية ايضا.

وطالما كانت اللغة والتفكير معطّلان كوظيفة نقل ما يقترحه العقل عليهما نقله الى العالم الخارجي، اي بقاء العقل يفكر ذاتيا صمتا بمعزل عن نقل ما يفكر به لغويا عاديا، فان العقل وسيلة تفكيره الفكر ذاته فقط ولا يحتاج اللغة الا على انها جزء من الفكر وملازمة له داخل ادراك الدماغ او العقل في وجود الاشياء، التفكير بالفكر هو تفكير لغوي سواء جاء في الصمت او في الافصاح. لا فكر بغير لغة تؤطره وتحتويه.

ولا يدرك موضوع التفكير العقلي خارجيا من غيرصاحبه الا بواسطة اللغة فقط الناقلة للفكر من داخل العقل(الدماغ) الى واقع الوجود في عالم الاشياء. الصمت لا يكون كمثل اللغة واسطة تداول مشترك. بل هو تفكير يشير لخاصية العقل لدى جميع البشر الاسوياء.

وعندما يتجسد ويتعيّن الموضوع في عالم الاشياء الخارجي بالتعبير عنه لغويا او بأية وسيلة تعبير غير اللغة الصوتية او المكتوبة، فهنا لا يصبح فصل الفكرعن اللغة ذات اهمية كبيرة، ولكن تبقى اللغة في اثناء عملية تفكير العقل (صمتا) في مرتبة ثانوية بعد الفكر في مقارنتها باولويتها التعبير عن الموجودات والاشياء الخارجية في العالم الخارجي والطبيعة خارج هيمنة ادراك الحس والعقل بعد تخليقه لها، عندما تكون اللغة جزءا لا ينفصل عن موضوعها الذي عبّرت عنه في عالم الاشياء والموجودات.

أي تكون اللغة وسيلة ادراك فهم الاشياء في وجودها المتعين المستقل عن تاثير العقل به بعد ان يصبح واقعا ماديا في عالم الاشياء. وباللغة وحدها لا بالفكر نفهم تفسير الموجودات المدركة في وجودها قبل تعبير الفكر عنها، لذا يذهب الجميع الى ان فصل اللغة عن الفكر محال وهو صحيح بالنسبة للشخص الذي يفهم الموضوع في وجوده المادي المستقل فهو يمارس تعبير لغوي يداخله المعنى الذي هو الفكر.بمعنى ان افصاح اللغة عن الشيء لا يسبق التفكير به.

بمعنى توضيحي اكثر ان اللغة لا تستمد فعاليتها داخل تفكيرالعقل الصامت جوّانيا بموضوعه مع ذاته وانفصال العقل والفكر كليهما عن العالم الخارجي، وانما تستمد اللغة اقصى فاعليتها في التعبير عن الاشياء في وجودها الخارجي المستقل خارج وعي العقل لها في زمنية محددة تلزم عقلا مفكرا واحدا في موضوع واحد، هو غير مدرك وجودا لغويا لدى غيره من عقول تختلف في ادراكها وتفكيرها والتعبير ربما في نفس الموضوع.

وحتى في هذه الحالة فالفكر وتعبير اللغة يبقيان قاصرين عن التعبير عن الموجودات المستقلة من دون ادراك العقل لها وتحديده نوعية الفكر ونوعية اللغة المعبّرةعنها.ويكون وعي الذات هي كينونة متشّكلة من الوجود المدرك، بالمحسوسات، ومن والعقل، وايضا من الفكر واللغة.

لذا عندما يكون تفكير العقل صمتا جوّانيا، يصبح التفكير بالشيء سابق على لغة التعبير عنه خارجيا. فالموضوع المفكّر به صمتا غيرلغوي يبقى حبيس وصاية العقل في التفكير به قبل اهمية انشغال العقل في التعبير اللغوي عنه.

ان اللغة اثناء وزمنية تفكير العقل بموضوعه صمتا داخليا، تكون ملازمة لعملية تفكير العقل ذاتيا، لكنها لا تتقدم تفكير العقل. فكل تفكير داخل العقل صمتا يلزم حضور اللغة معه لكنه يلزم حضور التفكير العقلي وحده في اسبقية حواره الداخلي مع موضوعه. فالعقل بلا تفكير لا قيمة له، والفكر بلا عقل يدركه ويتعامل معه يكون غير موجود، وكذا تتبعه اللغة ايضا. فالفكر واللغة لا ينتجان العقل الذي يفكر بهما، لكن العقل ينتج الفكر واللغة اللذين يتوسلهما في فهم الاشياء، والعقل بتفكيره الصامت بمقدوره تفعيل حضوره بلا لغة تعبير غير ملزمة لنقل تفكير العقل كما هو الحال في ابداعات الفنون وعلم الجمال.

***

علي محمد اليوسف - الموصل

 

الوجدان كمرجعية في تأسيس القيمة الأخلاقية

شهدت فلسفة الأخلاق عبر تاريخها الطويل نقاشات ثرية وجدلًا معمّقًا حول الأسس المعرفية التي تستند إليها القيم الأخلاقية، السؤال المركزي الذي ظل حاضرًا هو: ما مصدر إلزامية الأحكام الأخلاقية؟ وهل تستند في مشروعيتها إلى العقل وحده أم أن هناك مصادر أخرى تشارك في تأسيسها وتبريرها؟

لقد انطلق كثير من المدارس الفلسفية من العقل بوصفه المرجع الأعلى في الحكم الأخلاقي. مستندة إلى ما يُعرف بـ"العقل العملي" الذي يرى أن بإمكان الإنسان أن يدرك الخير والشر من خلال التأمل المنطقي المجرد، إلا أن هذا التصور العقلاني الصارم لم يخلُ من إشكالات، خصوصًا حين واجهت التجربة الأخلاقية واقعًا أكثر تعقيدًا، إذ تتداخل الانفعالات والدوافع الوجدانية وتفاعلات النفس البشرية، ومن هنا يبرز سؤال جوهري: هل يمكن للوجدان الإنساني أن يكون مرجعًا أصيلًا في بناء الحكم الأخلاقي؟ وهل الشعور الداخلي قادر على منح القيمة الأخلاقية معناها الحقيقي ومكانتها الإلزامية؟

في هذا السياق، يمكن الاستئناس برؤى عدد من المفكرين الذين تجاوزوا المقولات العقلية الصرفة، فديفيد هيوم، رائد التيار الحسي في الفلسفة الأخلاقية، يرى أن المشاعر والوجدان - وليس العقل - هي ما يحكم على الأفعال بأنها حسنة أو قبيحة، ففي كتابه "رسالة في الطبيعة البشرية"، يبيّن أن الأخلاق تُبنى على "انفعال الاستحسان" لا على استدلالات منطقية باردة، الشعور إذن، وليس التفكير العقلي المجرد، هو ما يحرك الإنسان نحو الفعل الخيّر أو ينفره من الفعل الشرير.

كما أن ابن سينا، من موقعه الفلسفي والطبي، لم يفصل بين الشعور والعقل، بل شدّد على ضرورة تفاعل الوجدان الداخلي مع العقل في الحكم الأخلاقي. فالسعادة والفضيلة، كما يرى، لا تتحققان إلا إذا امتلك الإنسان وعيًا باطنيًا يُعيد تنظيم قواه النفسية ويرشد سلوكه وفق تجربة حياتية متكاملة، انطلاقًا من هذا الفهم، يصبح من الممكن القول إن التفاعل الوجداني مع القيمة الأخلاقية يمنحها طاقة داخلية تتجاوز منطقية العقل وحده، وتفضي إلى غائية تتصل بعمق الوجود الإنساني واحتياجاته الوجودية والمعنوية.

إن الإنسان لا يحيا فقط بالعقل، بل هو كائن وجداني يعي ذاته من خلال الألم والفرح والحزن واللذة، وكلها مشاعر تُسهم في تشكيل حسّه الأخلاقي وتحديد مسارات سلوكه، ومن هنا تظهر أهمية نقل مركز الثقل في دراسة الأخلاق من مجرد البناء المفاهيمي النخبوي إلى واقع النفس الإنسانية وتطلعاتها للمعنى والقيمة، فحين نُعيد وصل القيمة الأخلاقية بوجدان الإنسان، فإننا نُقرّ بوجود نوع من "الشهود القيمي" الذي يُختبر في التجربة اليومية، ويسهم في كشف القيم الأكثر لزومًا وجدوى في سياقات الحياة المختلفة.

الواقع بوصفه مختبرًا للقيم:

تتبدّى أهمية "الواقع" كمجال أساس لاختبار القيم، فبدلًا من ترديد مفاهيم مجردة حول الخير والشر، يُمكن للفعل الأخلاقي أن يُفهم من خلال أثره في حياة الإنسان ومعنى حضوره في ظرفه الزمني والمكاني، هنا تتقدم الحاجة إلى التجربة الواقعية على التنظير العقلي؛ لأن الوجدان المتفاعل مع مشكلات الحياة اليومية قد يكشف عن حاجات قيمية ملحّة لا يعبّر عنها العقل بمفرده.

إن الفهم العميق للقيم الأخلاقية يُشدد على أهمية التجربة الفردية والجماعية، إذ تلعب الخلفيات الثقافية والاجتماعية دورًا حاسمًا في تحديد كيفية تفاعل الأفراد مع القيم، فكل ثقافة تحمل مجموعة من المبادئ والأخلاق التي تتفاعل مع الواقع بطريقة خاصة، ما يعني أن القيم ليست متجانسة أو عالمية دائما بل تتأثر بالبيئة.

البعد الوجداني في عصر التقدم:

واحدة من أهم النتائج المتوقعة من إعادة الاعتبار للوجدان في تقييم القيم الأخلاقية هي قدرة هذه القيم على الفاعلية في أزمنة متغيّرة وظروف متعددة، القيم الأخلاقية، وإن بدت من حيث الجوهر ثابتة، فإن الحاجة العملية إليها تتفاوت تبعًا لتحولات الحياة، على سبيل المثال، قد تتنامى الحاجة إلى أخلاقيات التضامن في أزمنة الأزمات، كما رأينا في فترات تفشي الأوبئة أو الكوارث البيئية، بينما تظهر أخلاقيات العمل والمهنية في زمن الازدهار الاقتصادي والتوسع التقني.

بذلك، فإن ارتباط القيم الأخلاقية بالواقع الاجتماعي والإنساني يُظهر كيف أن القيم تتطلب نمطًا من الفهم يعكس التغيرات المستمرة، وهذا يبرز أهمية الحوار بين الأجيال حول ما تحتاجه المجتمعات من قيم أخلاقية لتوجيه سلوكيات الأفراد واستجابتها للتحديات المعاصرة.

أزمة القيم في البيئات الإسلامية:

لكن التحدي الأكبر في هذا السياق يظهر حين تُستدعى القيم من التراث استدعاءً اعتباطيًا لا يُراعي واقع الإنسان ومتغيراته، وكما عبّر محمد إقبال، فإن كثيرًا من القيم في تراثنا ما زالت "أجنة"، لم تكتمل حيوتها، إما بسبب غياب تفعيلها في الواقع أو بسبب تحويلها إلى شعارات خطابية فاقدة للجدوى العملية.

ما يحتاجه الخطاب الأخلاقي المعاصر في بيئاتنا الإسلامية هو وعي نقدي تشخيصي قادر على قراءة الواقع لاجتراح القيم الأكثر فاعلية فيه، بعيدًا عن الانغلاق في سرديات الماضي أو استنساخ نماذج أخلاقية دون مراعاة لحاجات العصر.

تجربة الغرب: بين الفاعلية والنقص الإنساني:

وفي المقابل، تُظهر تجربة المجتمعات الغربية بعدًا مهمًا في استخدام القيم، إذ تم تفعيل قيم العمل والمهنية والانضباط لتحقيق التقدم الصناعي والتقني، غير أن هذا النجاح جاء أحيانًا على حساب جوانب إنسانية أخرى، مثل العلاقات الأسرية والاجتماعية، بينما احتفظت بعض البيئات العربية بقيم اجتماعية نبيلة، لكنها لم تُترجم إلى ديناميكية إنتاجية أو أخلاقيات مؤسسية قوية.

يمكن القول إن التفكير في القيمة الأخلاقية من خلال العقل وحده يُضيّق من أفق الفهم، بينما يمنحها الوجدان بُعدًا إنسانيًا حيويًا يجعلها أكثر التصاقًا بالتجربة الواقعية. وليس المقصود بالوجدان هنا العاطفة المنفلتة، بل تلك البصيرة الباطنية التي تتشكّل من خلال التجربة، والمعاناة، والتفاعل مع الحياة.

ومع الاعتراف بدور العقل في تحليل المواقف الأخلاقية، فإن استدعاء الشعور والوعي الوجداني يُعيد للأخلاق معناها الحيّ والملزم في آن واحد، والأخلاق ليست مجرد مجموعة من القواعد الثابتة والميتة، بل هي تشكّل مستمر يستجيب للتحديات الجديدة ويتفاعل مع التغيرات الاجتماعية، بالنحو الذي يعزز القيم الأخلاقية العليا الثابتة.. إذ أرجح أن القواعد الأخلاقية متغيرة، في حين تبقى القيم الأخلاقية العليا ذات ثبات فطري إنساني عصي على التغيير أو الإلغاء.

في الختام، نتبين أن الوجدان يشكل عنصرًا أساسيًا في بناء القيم الأخلاقية، مما يعكس عمق التجربة الإنسانية واحتياجات الأفراد والمجتمعات، فكلما نجحنا في ربط الأحكام الأخلاقية بوجدان البشر، كلما اقتربنا من إنشاء بيئة خُلقية أكثر وعيًا وشمولية، وعلينا أن ندرك أن الأخلاق تحتاج إلى زخم شعوري يساند المعرفة العقلية، لخلق مسار يتسم بالفاعلية والالتزام في عالم دائم التغير.

***

د. أسعد عبد الرزاق

مقدمة: تبدو الحياة بدون أصدقاء لا تُطاق. وقد اهتم الفلاسفة اهتمامًا بالغًا بالرفقة التي تُسمى الصداقة. تزدحم جداولنا بالاحتفالات: عيد الأم، عيد الأب، عيد الحب... ولكن لا شيء للأصدقاء، أولئك المنسيين. هل هم أقل أهمية؟ أقل فائدة اجتماعية؟ صحيح أن الأزواج والعائلات يُعتبرون أساس المجتمع، أصغر وحدته؛ بينما يبدو أن تجمعات الأصدقاء لا تُنشئ شعورًا بالانتماء إلا في التجارب الطوباوية أو مجتمعات الهيبيز. ومع ذلك، اعتبر الإغريق الفيليا (التي تُترجم اليوم على نطاق واسع إلى "الصداقة") الرابطة الاجتماعية المثالية. لماذا إذًا لا نحتفل بـ"أفضل الأصدقاء للأبد"؟ أحد التفسيرات المحتملة هو قلة إنتاجية الصداقة. ينبغي أن تكون علاقة نكران الذات: لا نتوقع من الصديق مكافأة عاطفية، ولا بناء أسرة بحد ذاته، ولا مالًا، ولا تقدمًا مهنيًا. لكن الصداقة تتطلب جهدًا كبيرًا للحفاظ عليها وإثرائها - على عكس العلاقات الاجتماعية مثلًا. فهل يُعقل إذن أن في عالمنا اليوم، ثمة قيود والتزامات كثيرة مقابل نتائج قليلة؟ هل تتراجع أهمية الصداقة في عالم يحكمه الاقتصاد والكفاءة؟  حتى لو أردنا الاحتفال بالصداقة، لا يزال يتعين علينا تعريفها. من العصور القديمة إلى يومنا هذا، أين تنتهي العلاقات الاجتماعية وتبدأ الصداقة؟

العلاقة التي تساعدنا على فهم أنفسنا بشكل أفضل

الصديق الذي يمكننا الاعتراف له بكل شيء، الرفيق الوفي الذي يفهمنا أفضل من أي شخص آخر، يُشار إليه عادةً باسم "الأنا الأخرى"، أي حرفيًا "الذات الأخرى". مع ذلك، احرص على فهم التعبير بشكل صحيح: الأنا الأخرى ليست شبيهتنا، ولا تشبهنا بالضرورة. أولًا، حتى لو كانت التنشئة الاجتماعية تُشجع على الشعور بالانتماء، وكثيرًا ما نخالط أشخاصًا ينتمون إلى خلفية اجتماعية أو مهنية أو فئة عمرية مماثلة، فإن هذا ليس هو الحال دائمًا. وبالتأكيد ليس بالضرورة ما نبحث عنه. ثانيًا، إذا كان الصديق ذاتًا أخرى، أي شخصًا مختلفًا عنا يشبهنا، فهذا لا يعني تطابقنا، بل بمعنى قدرتنا على التماهي معه. بما أن الهوية هي ثبات في الخصائص، مع مرور الزمن ("البقاء على حاله") أو في المكان (القلم الأزرق في يدي اليمنى مطابق للقلم الأزرق في يدي اليسرى إذا وجدت نفس الخصائص في كلا المكانين)، فيمكننا القول إنها مبنية على الشيء نفسه، بينما التماهي يفترض الاختلاف. إنه جمع عناصر مختلفة وفقًا لمعيار.

احذر من المبالغة في إسقاط الذات على الآخر

لذلك، فإن التماهي مع شخص ما لدرجة اعتباره أنا الآخر يتطلب إدراك اختلافه، ورؤية هذا الاختلاف صدىً لشخصيتك. في علم النفس، يُعتبر أنني إذا استطعتُ فقط التواصل مع من يشبهني، فأنا لا أتماثل معه: أنا أُسقط. ويتمثل الإسقاط في نقل عناصر من داخلنا، تنتمي إلى تجربتنا النفسية الداخلية، إلى الآخرين وإلى العالم. من الواضح أننا جميعًا نُسقط من حين لآخر. ولكن إذا كان من الضروري أن يتشارك الشخص الآخر نفس الأذواق أو الآراء أو التجارب معنا لنتمكن من إدراك ذواتنا فيه وتكوين علاقة، فإن إسقاطاتنا تكون مُفرطة، وتُنشئ حاجزًا بيننا وبين الشخص الآخر، ويختفي هذا الشخص تمامًا.

بتعلمي فهم صديقي، أتعلم أيضًا فهم نفسي والتعايش معه.

تُعبّر الصداقة عن نفسها من خلال الحوار

لذا، فإن وجود الأنا البديلة يعني إدراك اختلاف الآخر عن الذات، وهو اختلافٌ جوهريٌّ في بناء هوية المرء. هذا ما يشرحه بول ريكور في كتابه "عين الذات كآخر": فالصداقة، بالنسبة له، هي العلاقة الأمثل التي تسمح لنا بالانتقال من هوية لا تتضمن سوى الشيء نفسه (ما يُطلق عليه الهوية-التطابقية)، والتي يرى علماء النفس أنها لا تعمل إلا من خلال الإسقاط، إلى هوية تستمد من الآخر الوسيلة التي نفهم بها أنفسنا ونُعرّفها بشكل أفضل (الهوية-الذاتية). يؤكد بول ريكور أنه لهذا السبب، تُعبّر الصداقة عن نفسها بالكامل من خلال الحوار. لذا، فإن "استجواباتنا" على الشرفات ووجبات العشاء التقليدية مع الأصدقاء ليست تافهة، بل على العكس! إنها تتيح لنا مواجهة وجهات نظر مختلفة حول تجربة مشتركة أو متطابقة، أو، على العكس، الاتفاق والتفاهم حول تجارب بعيدة كل البعد عنا لدرجة أننا لم نتخيل يومًا أنها ستُخاطبنا. تكتسب هذه اللحظات أهميةً بالغة لأنها تُمكّننا من إدراك وجود الاختلاف والغرابة فينا. قد نكشف أحيانًا عن أنفسنا بشكلٍ مُفاجئ، بل وغير مفهوم أو مجهول. والصديق، هذا الأنا الآخر الذي، وإن كان مختلفًا تمامًا عني، إلا أنه يُشبهني في بعض النواحي، سيُعوّدني على التعايش مع هذه الغرابة.

احذر من العلاقة الاندماجية

بتعلمي فهم صديقي والعيش معه، أتعلم أيضًا فهم نفسي والعيش معها. ولكي تنجح، تتطلب الصداقة المُتصوّرة بهذا الشكل تمييزًا واضحًا بين الداخلي (تجربتي) والخارجي (العالم والآخرين). لكن الأمر ليس بهذه البساطة، خاصةً مع شخص نعتبره أنا الآخر! تُوضّح الفيلسوفة سيمون فايل، في نصوصها المُجمّعة في كتاب "الصداقة، فن الحبّ الجيّد"، أن مثل هذه العلاقة تُعرّضنا لتناقضاتٍ كبيرة، لا تظهر كثيرًا في علاقاتنا الأكثر توترًا. أولًا، الفهم الوديّ والتماهي الذي يُثيره الصديق فيّ يجعلني أرغب في التقرّب منه قدر الإمكان؛ لكن إذا دخلتُ في علاقة اندماجية معه، فإننا نندمج وأختفي. لذا، هناك دائمًا ما يُشعر بعدم الرضا في الصداقة: فالآخر لا يكون قريبًا بما يكفي، ولكن إذا أصبح قريبًا بما يكفي، فإنه يكون قريبًا جدًا ولا يسمح لنا بدمج الظواهر والاختلافات في داخلنا. تلخص الفيلسوفة ذلك قائلة: "الصداقة هي المعجزة التي بها يُوافق الإنسان على النظر من بعيد ودون الاقتراب من الكائن نفسه الذي هو ضروري له كالغذاء".

هل نستطيع الاستغناء عن الأصدقاء؟

إذا كان الصديق هو ذلك الأنا الآخر الذي يسمح لنا بفهم بعضنا البعض، فيبدو الاستغناء عنه مستحيلاً! من مسلسلي "ساينفيلد" و"فريندز" إلى مسلسل "أرجوك لا تُحبني" الأحدث، هل كانت المسلسلات التلفزيونية التي لا تُحصى والتي تُقدم شخصيات تتمحور حياتها حول الصداقة، بدلاً من العلاقات العائلية أو العاطفية، مُحقة؟ هل الصداقة هي العلاقة الأساسية الوحيدة في الحياة؟ هل شعار "الأصدقاء قبل الفتيات/الاشخاص" مبدأ جيد للحياة؟ بالنسبة للفيلسوف أرسطو، نعم! لأن الصداقة تُعلمنا، حسب قوله، أن نكون غير أنانيين، وأن نضع مصالحنا الشخصية في المرتبة الثانية، وهو أمر أساسي لاكتساب الأخلاق، وبشكل أكثر تحديداً، العدالة. ولكن كيف يُمكننا بناء علاقة غير أنانية كهذه إذا كان من مصلحتنا في الوقت نفسه إقامتها؟ الأمر ليس بهذه البساطة. يصوغ أرسطو هذه المفارقة في كتابه "الأخلاق النيقوماخية" (9، 9) بسؤاله عمّا إذا كانت الصداقة ضرورية، وخاصةً للحكيم الذي بلغ ما أسماه القدماء الخير الأسمى - أي اتحاد السعادة والفضيلة. أحد أمرين: إما أن يكون المرء سعيدًا (مثل الحكيم)، أو لا يكون سعيدًا ويسعى إلى ذلك. بالنسبة للحكيم، الذي يملك كل الخيرات والأفراح، تبدو الصداقة عديمة الفائدة تمامًا؛ وبالنسبة لمن لم يختبر هذه النعمة بعد، تبدو مستحيلة، لأنه إذا سعى إلى سعادته من خلالها، فلن تكون علاقة نزيهة. لذا، تكون الصداقة جوهرية للحياة، ولكنها في الوقت نفسه إما عديمة الفائدة أو مستحيلة!

لا يُلزمنا أي قانون أو واجب أخلاقي بحب أصدقائنا الذين نختارهم بحرية. لماذا نُكوّن صداقات؟ هذا ما يُسمى في الفلسفة بالتناقض الحقيقي، أي التناقض بين فكرتين متعارضتين. لحل هذه المشكلة، ميّز أرسطو بين ثلاثة أنواع من الصداقة، لا تزال تتردد أصداؤها في أذهاننا حتى اليوم. ويعتمد هذا التمييز على الدافع الذي ينشئ هذه العلاقة: هل يُكوّن المرء صداقة بدافع المنفعة أو المتعة أو الود، أم أخيرًا سعيًا وراء الفضيلة؟ يمكن تشبيه الصداقة النافعة بما نسميه اليوم "شبكة": شبكة من العلاقات الممتعة، لكنها في جوهرها تُشكّل وتُحافظ عليها بدافع المصلحة الذاتية. يرى أرسطو أن من يحافظون على هذه الصداقات أنانيون، بمعنى أنهم يُقدّمون مصالحهم الخاصة على مصالح الآخرين. ومثل من يُكوّنون علاقات لمجرد المتعة - وهو النوع الثاني من الصداقة - فإنهم لا يُحبّون إلا أدنى جوانب الإنسانية: الثروة، والشرف، والملذات الحسية. بينما من يهتم بالآخر لفضيلته يُحب في نفسه وفي الآخرين أسمى جوانب الإنسانية: تفوقه الأخلاقي.

الصداقة الفاضلة عند أرسطو

بالسعي وراء هذه الصداقة، يسعى المرء إلى الفضيلة، وهي السبيل الوحيد لأرسطو لتحقيق السعادة. لكن المرء يفعل ذلك لسبب نبيل. فالصداقة الفاضلة - وهي الأفضل على الإطلاق، وبالمعنى الدقيق للكلمة، الصداقة الحقيقية الوحيدة عند أرسطو - هي ما نحتاجه، بل وحتى ضروري للمجتمع، لأنها تضع مصالحنا الشخصية في المرتبة الثانية. إنها ترتقي بنا، بمعنى أنها تُعلّمنا وتُمكّننا من تجاوز ذواتنا (بإبعاد أنفسنا عن مركزية الذات). بالنسبة لأرسطو، لهذا السبب تحديدًا يُمكننا تعريف الصديق بأنه ذات أخرى: الصديق هو ذات أخرى لأنني أستطيع أن أتأمل فيه وأُقدّر فيه القيم الأخلاقية التي أشعر بها وأُقدّرها في نفسي. هذا النوع من العلاقات ضروريٌّ أكثر لأن أرسطو لم يكن مُدافعًا عن أخلاق مُجرّدة مُكوّنة من مبادئ ثابتة. فبالنسبة له، حتى لو وُجدت القواعد والقيم وتُشكّل معاييرنا، فإن الأخلاق مسألة توازن، يجدها كل فرد في كل موقف مُتفرد. لذا، فإن الصديق، الذي يُشاركنا قيمنا ويُمثّل مرآةً لأفكارنا وأفعالنا، ضروريٌّ لنا لتقييم هذا التوازن تقييمًا صحيحًا.

حدود الصداقة

لكن أليس تعريف الصداقة كعلاقة فاضلة مع ذات بديلة مجرد مثال أعلى؟ إذا كان المرء يجب أن يكون فاضلاً بأي ثمن ليحظى بصديق، فمن ذا الذي يدّعي حقاً استحقاقه؟ ألا يعني صداقة الآخرين، على العكس، قبول عيوبهم، سواءً كانت نقائص أو رذائل؟ أخيراً، إذا كان أرسطو يرى أن فضيلة الأصدقاء هي ما يُساعدنا على الارتقاء طوال الحياة، فهذا يعني أن الصديق، قبل أن يكون شخصاً فريداً، هو قبل كل شيء فرصة لنا لتطوير مهاراتنا الأخلاقية. ومع ذلك، يمكننا أن نرى بوضوح أن علاقتنا بالصديق ليست مسألة تربية أخلاقية فحسب - وأحياناً ليست كذلك على الإطلاق!. بعيداً عن كونها مجرد تدريب عام على حسن السلوك، فإن كل صداقة تتخذ شكلاً فريداً. بالنسبة للمفكر والكاتب مونتاني، يمكن تفسير ذلك بالاختيار: فعلى عكس ما يحدث مع العائلة، لا يوجد قانون أو واجب أخلاقي يأمرنا بحب أصدقائنا - فنحن نختارهم بحرية. ونحن نفعل ذلك ليس لوظيفتهم، بل لشخصيتهم الفريدة. لا يُلزمنا أي التزام رسمي بجهد العلاقة: لا عقد ولا قانون صريح، لا قانون ولا مؤسسة، على عكس ما يحدث بين الزوجين، أو أفراد الأسرة، أو رفقاء السكن، أو حتى الجيران. فهذه الحرية تُمكّن كل صداقة من احتضان تفرد أعضائها.

ومع ذلك، ورغم إطار الحرية الذي تتكشف فيه الصداقة، إلا أنها تنطوي على عنصر من عدم القدرة على التحكم. يُصوّرها مونتاني شغفًا، بمعنى الشفقة، أي ما نتحمله، وما يُثقلنا ويحملنا بعيدًا. تبدو الصداقة وكأنها تتجاوزنا كقدر، أولًا وقبل كل شيء لأنها تبدو غير قابلة للتفسير: لا يُمكن اختزالها أبدًا في مجموعة من المعايير المُناسبة، مثل الأذواق المشتركة البسيطة، ولا يُمكن توقعها. أحيانًا تكون الثنائيات الودودة هي الأكثر إثارة للدهشة. تجدر الإشارة، علاوة على ذلك، إلى أن عبارة مونتاني الشهيرة عن صديقه العزيز إتيان دو لا بويتي - "لأنه كان هو، ولأنه كان أنا" - تُشير إلى استحالة شرح معجزة الصداقة شرحًا وافيًا: "إذا اضطررتُ لشرح سبب حبي له، أشعر أنه لا يمكن التعبير عن ذلك إلا بالرد: "لأنه كان هو، ولأنه كان أنا". هناك، وراء كل حديثي وما يمكنني قوله عنه تحديدًا، قوة غامضة ومميتة، تُسيطر على هذا الاتحاد" (مقالات، الجزء الأول، المجلد الثامن والعشرون). يعتقد مونتاني أن الوفاء الودي يعني عدم وضع الصديق في موقف محرج. هل يُمكن لهذه القوة إذًا أن تُبالغ؟ بالنسبة لمونتاني، يُمكن للمرء أن يُفسد نفسه حتى بدافع الصداقة. وفي الواقع، من لم يخطر بباله أنه سيكون على استعداد لمساعدة أعز أصدقائه في إخفاء جثة إذا لزم الأمر؟ ولكن لأن صديقنا هو صديقنا تحديدًا، فلن يطلب منا ذلك. بالنسبة لمونتاني، لا يعني الوفاء الودي الحقيقي إفساد الذات أو تعريضها للخطر من أجل صديق، بل عدم وضع صديقك في موقف محرج كهذا.

خاتمة

يبدو أن الصداقة لا تتوافق مع الاستبداد. وجهة نظر يشاركها لا بويتيه: بالنسبة لهذا الأخير، لا يمكن لقوة الصداقة، مهما بلغت من القوة وخروجها عن السيطرة أحيانًا، أن تكون قوة استبدادية تُقيدنا لمصلحة الآخر. إن وُجدت مثل هذه العلاقة، لكانت علاقة سيطرة. تُعبّر خاتمة كتابه الشهير "خطاب حول العبودية الطوعية" بوضوح عن هذه الفكرة: حيثما يوجد الاستبداد، لا يمكن أن توجد صداقة؛ بل لا يمكن أن يوجد إلا التواطؤ. لكن التواطؤ قد يكون لعبًا أو جريمة...لذلك، يجب أن يكون الصديق أقرب إلى الرفيق، مهما كان ناقصًا، منه إلى الشريك. من الصداقة القديمة إلى الصداقات الحديثة، نرى أن الصداقة، دون أن تشترط منا أن نكون كاملين لنستحقها، تتطلب منا أفضل ما لدينا. لهذا السبب، فهي ليست مجرد رابط تعلق بالشخص، بل هي أيضًا أفضل إعداد للحياة الاجتماعية. إن عيد الصداقة هو سبب وجيه للاحتفال به أكثر!

***

د. زهير الخويلدي - كاتب فلسفي

 

عديدون الذين مرّوا باستخفاف امام مقولة هيجل (ميزة التاريخ اننا لا نتعلم منه شيئا).

غالبية النظريات وفلسفات التاريخ والمفاهيم الوضعية الحديثة وتفاسيرها في دراسة التاريخ البشري، تذهب الى ان مسار التاريخ التطوري تحكمه (غائية) او غائيات ضرورية مراحلية مصاحبة رافقته وقادته الى حتميات معدّة لتحقيق تلك الغايات، مرسومة له سلفا سعى التاريخ حثيثا الوصول لها. واكثر من ذلك عمد المؤرخون زرع محفزّات تطوّرية في ثنايا المراحل التاريخية، تشكّل ارادة ذاتية شغّالة تلهم ألتاريخ ألتقدم الى أمام على وفق حتميات متنوعة مرجوّة وغايات مطلوبة لاحقا. بمعنى اوضح انه صار بمكنة المؤرخ كتابة تاريخ آخر مغاير للوقائع التاريخية امامه حسب اجتهاده. او استنباطه قوانين شغّالة تحكم سيرورة وتطور التاريخ البشري في تطويع حقائق التاريخ لمنهجه.

وهذه غيرها القوانين الطبيعية التي تحكم المادة والوجود الانساني في الطبيعة وتعالقهما كمعطى ازلي تعمل بمعزل عن ارادة الانسان. خلافا للقوانين والنظريات التي يضعها الانسان في دراسة التاريخ والانثروبولوجيا، التي هي من صنعه أيضا (المناهج والفلسفات والنظريات والسرديات).

الحتميات والغائيات التطورية المراحلية للتاريخ القريبة منها والبعيدة جدا، التي تم اقحامها كمصاحبات حيثية رافقت المسار التأريخي، انما هي مغالطات واستنباطات لا تمتلك مقومات الصدق العقلاني ولا مشروعية التسليم بها في دراستها حركة التاريخ غير المنتظمة المليء بها التاريخ البشري من العشوائيات والمصادفات غير المحسوبة النتائج التي لعبت دورا محوريا مركزيا في وقائع ومجريات التاريخ، هذه المصادفات الجوهرية كان بعضها سببا في سلسلة من التراجعات والكبوات، وبعضها الآخر جاء عوامل مساعدة في تحقيق طفرات نوعية في المسار التاريخي غير المنتظم، وتلك القفزات الكنغرية التاريخية حققت حلقات من التطور والتقدم الى امام، نتيجة عاملي الصدفة العمياء غير المحسوبة، والعشوائية، مضافا لها ردود الافعال الانسانية في تصحيح مسار الانحرافات ومحركات النوازع السلطوية الحمقاء لدى الملك او الحاكم او البطل او الدكتاتور او اية زمرة خارجية متحكمة متطرفة وحشية، بعيدة عن منطق ونوازع الخير المتأصلة بالانسان.

ما كتبته واورثته لنا عشوائيات الوقائع وعفويات الاحداث التاريخية التي تحكمها الصدفة غير المتوقّعة المتوالية التي عالجتها الماركسية بالقول ان الصدف التي اثرّت في مسار التاريخ هي الصدف التي تحكمها الضرورة، كانت اكثر اهمية بكثير من محاولات تفسير وتحليل تلك الحوادث على ضوء حشر المحفزّات الذاتية والضرورة الذاتية كمحرك للتقدم التاريخي، التي حسب اجتهاد المؤرخين قادت وتقود التاريخ في مسار غائي تصاعدي تطوري حتمي منتظم الى امام وتحقيق الافضل في الحياة، بنوع من الفعالية الذاتية(روح التاريخ) بتعبير هيجل التي يستبطنها باحشائه ذاتيا، كغائية تحفيزية مطلوبة متوخاة او حتمية يبلغها التاريخ مرحليا ويتجاوزها الى مراحل متقدمة من غير ما الاخذ بنظر الاعتبار ارادة الانسان الفاعلة في صناعة التاريخ عبر العصور وهكذا.

اقطاب التفسير التطوري الحتمي للتاريخ جاء في اهم جنبة منه على وفق النظرية الماركسية في المادية الجدلية الديالكتيكية للتاريخ، باعتماد مركزية العامل الاقتصادي كبؤرة تحكم جدلية التاريخ ومراحله التطورية. واصبحت هذه النظرية الماركسية اليوم رغم ما تحمله من رؤى علمية منهجية وقراءة فلسفية معمّقة لواقع البشرية على امتداد تاريخ العصور الطويلة، وما حملته من تفسير مادي انثروبولوجي انسانوي متكامل، ثبت انها غير كافية لتفسير الانتقالات النوعية في المسار التاريخي المتطور من مرحلة الى أخرى متقدمة عليها ومتجاوزة لها. بدءا من مرحلة الصيد والالتقاط، تلاه عصر الزراعة، وليس انتهاءا بالمرحلة الاشتراكية والشيوعية والتنبؤ بنهاية الدولة وانحلالها لاحقا على المدى البعيد غير المنظور لكنه المتوقع تنظيرا ايديولوجيا ماركسيا.

وهم نهاية التاريخ شيوعيا ورأسماليا

ثبت أن التفسير المادي الماركسي للتاريخ شأنه شأن المناهج والدراسات التاريخية المضادة له المثالية المقاطعة الرافضة للجدل التاريخي، كالرأسمالية الديمقراطية والليبرالية وغيرها، ان الجميع يشتركون في حقن المراحل التاريخية تحفيزيات محركة ذاتية للوقائع والاحداث في تبرير انتقالات التاريخ النوعية مراحليا او ما يسمى الطفرات النوعية، في وصول التاريخ الى غائيات وحتميات سعى الى بلوغها في السيرورة التطورية المحكومة بأرادته الذاتية ونزوعه لخير الانسانية، مع عدم اهمال الماركسية لعامل الانضاج الموضوعي (الاقتصادي، الاجتماعي، الثقافي) المحايث لضرورة التقدم في الانتقالات والطفرات النوعية المراحلية عبر التاريخ.

كان هذا التفسير الجدلي الماركسي استقراءا واستنطاقا للتاريخ كماض اختط مساره، قبل اكتشاف قوانين المادية التاريخية وصياغة فلسفتها المعروفة، وتبلورها المتكامل في التطبيق الاشتراكي الشيوعي. على وفق ديناميكية تحفيزية ذاتية حملها التاريخ في مساره التطوري الطويل لآلاف السنين او يزيد، متجاوزة بذلك اية عشوائية او سلسلة مصادفات ان يكون لها سببا او تأثيرا سلبيا او ايجابيا في مسارتطور التاريخ عبر العصور. بمعنى أن التاريخ البشري كان محكوما-حسب الماركسية- بالتطور الذاتي والموضوعي الطبيعي قبل اهتداء الماركسية اكتشاف تلك القوانين المادية الجدلية. وأن هذه المراحل التطورية اخذت نصيبها في التطبيق المراحلي الانتقالي من مرحلة الى أخرى اكثر تطورا وتقدما في حياة الانسان ووجودها كحتميات تحكمها الضرورة يجب ان تحصل في التاريخ البشري عموما بمعزل عن ارادة الانسان وتصنيعها وحاجته لها. بمعنى ان الانتقالات المراحلية النوعية للتاريخ التي كان محركها الاساس قوانين المادية التاريخية، التي قادت التاريخ على وفق صراع الطبقات وتقسيم العمل وملكية وسائل الانتاج حصلت في قيادتها التقدم التاريخي الطبقي الاقتصادي بادراك من الانسان او بغير الادراك منه ورغبته وحاجته للتغيير من عدمها فهي حصلت بحكم الضرورة التي تقودها القوانين الشغالة.

ومن الجدير ذكره ان داروين في نظرية التطور والانتخاب الطبيعي للاصلح، استبعد فكرة الغائية التطورية والحتمية في الزام التاريخ البشري الانثروبولوجي السير بمقتضاها حسب النظريات التي ذهبت في هذا المنحى التطوري الحتمي. وان التطور الطبيعي للحياة والكائنات على الارض حسب نظرية داروين لا تسري ولا تنطبق في معطياتها على التاريخ البشري في ارتقائه التطوري. اي ان داروين انكر استنساخ الضرورة البيولوجية التطورية في الارتقاء الانتخابي الصاعد الحاصل في الطبيعة واسقاطه على الواقع المراحلي لانثروبولوجيا تطور الانسان.

الملفت للملاحظة ان التفسير الماركسي (قفل) التطور التاريخي بمرحلة افتراضية في حتمية ووجوب انحلال الراسمالية الامبريالية لتعقبها المرحلة الاشتراكية ومن ثم الشيوعية، وهكذا تتوقف دورة التطور التاريخي وهو ما لم يحدث. . بالمقابل نجد ان الرأسمالية (المعولمة) هي الاخرى (قفلت) التطور التاريخي بنهاية التاريخ عولميا عندها ومن جانبهاعقب استفادتها التاريخية المجّانية من تمزّق الاتحاد السوفييتي وانهيار النظام الشيوعي دراماتيكيا ونادت بعدها انه لا تاريخ بعد العولمة الرأسمالية وأن العولمة هي نهاية التاريخ وأفول نجم وعصر الايديولوجيات. (هنتكتون وفوكوياما).

لم يكن واردا في الاستقراء التنبؤي الماركسي ان ينهار النظام الشيوعي قبل انهيار الرأسمالية الامبرالية، هكذا كان التفسير الاستقرائي الماركسي للتاريخ القائم على مركزية الفهم ان التطور البشري منذ العصور الاولى للبشرية، كان محكوما بغائيات وحتميات وقوانين طبيعية تقود التاريخ قسرا وبمعزل عن ارادة الانسان، وقوانين ذاتية مصدرها الواقع المعيشي للبشر، ونضجهم الاقتصادي والاجتماعي والثقافي موضوعيا.

نخلص بايجاز ان تطور التاريخ ماركسيا بنوع من الغائيات والحتميات، كان مرتكزه التحفيز الذاتي الديناميكي الشغّال فيه باستمرارهو تطور الواقع الاقتصادي والاجتماعي ومن ثم الثقافي أيضا، هذا التفسير تم دحضه تاريخيا في بروز وانبثاق عصر العولمة وعدم انحلال النظام الرأسمالي الامبريالي، رافقه انحلال النظام الاشتراكي الشيوعي في منظومة الاتحاد السوفييتي القديم، وبذا تنتفي الحاجة لدحض ما سبق وتم دحضه تاريخيا واقعيا على الارض، في وجوب اعادة دحضه بالتنظير الايديولوجي او الفلسفي على صعيد الفكر والايديولوجيا.

من جانب آخر تلتقي العولمة مع الماركسية في اعتمادهما الغائية والحتميات في التفسير التاريخي من جهة وفي اقفالهما التاريخ المراحلي كلا حسب احتياجاته السياسية من جهة اخرى، الماركسية اوقفت التاريخ على رأسه بدلا من قدميه حين اعتبرت الشيوعية آخر مراحل تطور التاريخ البشري بعكس التنبؤ الماركسي الذي لم يتحقق، وكذا فعلت العولمة في اعتبار انها تمثّل مرحلة نهاية التاريخ ونهاية عصر الايديولوجيات وانه لم تعد هناك حاجة ولا ضرورة لمرحلة تاريخية تلي العولمة وتعقبها. (مقولات فوكوياما في نهاية التاريخ وافول عصر الايديولوجيات).

ان العولمة لا تمثل صيرورة تاريخية في وصولها لحتمية تاريخية أوجدتها ومهدّت في انبثاقها، كانت متوقعة ومحسوبة لا بد ان يصلها تطور التاريخ البشري، بل ولدت العولمة من صدفة عشوائية تطورية نوعية طارئة على الاستقراء التاريخي، ساهم بوجودها انهيار الشيوعية السوفييتية بشكل دراماتيكي غير متوقع. ولم تنبثق العولمة بعوامل تحفيز ذاتية اعتملت مع فاعلية الجدل الموضوعي بايجادها تاريخيا. اذ كان النظام الرأسمالي حينها يراوح بمشاكله ولا يزال في عصر العولمة، ولم تدب به الحركة الا بعد انهيار النظام الشيوعي، لتأخذ العولمة دورها المتفرد في الهيمنة في غياب الند والمنافس. وبدأ التنظير العولمي يذهب منحى اكثر راديكالية في التبشير ليس في نهاية التاريخ وحسب وانما في صدام وصراع الحضارات.

النظام العولمي الرأسمالي لن ينجو هو الآخر من التجاوز والمغادرة في تفسيره التاريخ على وفق المنطق الايديولوجي السياسي قصير النظر، ليلتقي بذلك مع الاخفاق الشيوعي في (اقفال) التاريخ مراحليا، حينما اعتبرت العولمة نفسها المحطة الاخيرة لوقوف قطار التاريخ البشري والانسان الجديد.

وبذا فان النظام الرأسمالي العولمي أدرك جيدا، بل أراد – خاصة الآن عولميا - ان لا يكون هناك غائيات وحتميات تطورية تعتمل داخل التاريخ الانساني يتجاوز العولمة وتقوده الى مراحل متقدمة جديدة بعد العولمة تفقدها مبرر وجودها تاريخيا.

كما اوضحنا ان كلا النظامين الشيوعي والرأسمالي قفلا التطور التاريخي سياسيا كلا من جانبه على أساس من حتمية تاريخية أصبحت الآن (اكسباير) منتهية الصلاحية التداولية والاستعمال على ارض الواقع البشري.

هذا الاقفال الافتعالي للتاريخ شيوعيا ورأسماليا في مرحلة تطورية من مراحله المستمرة، نجد فيه النظرية تسبق الواقع ولا تأتي تفسيرا له، وتسبق المسار التاريخي ولا تهديه او يهتدي هو بها، والنظرية تجرّ التاريخ وراءها وتتقدمه، لكن لم ولن تلبث هذه الدوغمائية الفجّة طويلا قبل الاصطدام بحقيقة ان التاريخ يصنع النظريات ويسحبها وراءه وليس العكس. وليس بمقدور النظريات والمناهج التحليلية كتابة تاريخ يمشي ويعيش على الارض تكون مادته الوجود البشري الارضي.

الحقيقة التي اثبتها التاريخ بمساره العشوائي اللاغائي وغير الحتمي في التطور انه لا التفسيرالماركسي ولا التفسير العولمي قادر على غلق مسار التاريخ وايقاف قطاره في محطة نهائية واخيرة لا تاريخ بشري تطوري بعدها. هذا مناف لحيوية وديناميكية الوجود الانساني على الارض. وخلاف ما استقتل من اجل ترويجه مارتن اندك واخرين عديدين.

كما ان التاريخ لم يستقم سابقا ولن يستقيم لاحقا في تصنيع (الملك الحاكم) للتاريخ وكتابته او البطل الخارق أو أية سلطة دينية او سياسية له، وسوف لن يستقيم وتلجم تطوره الى ما لانهاية المصالح السياسية والايديولوجية ايضا كما حاولت سابقا وفشلت. لأن التاريخ تحكمه العشوائية والصدف الطاردة للغائيات والحتميات، ولا وجود لصدف ضرورية تقود التاريخ حسب التفسير الماركسي، كما ان التاريخ هو متمرد وعسير ايضا في حركة تطوره المتلاحقة من السيطرة عليه ومصادرته من قبل الحكام والملوك والمتطرفين والابطال الخارقين. او من قبل اصحاب النظريات المسبّقة وايديولوجيا السياسة على حركة التاريخ ومحاولة سحبه وراءهم، ربما كان امكان حدوث ذلك في عصر او فترة زمنية. لكنها تبقى مرحلة مقطوعة وكسيحة في مسار التعميم، فالنظريات لا تصنع تاريخا ولا تقدر سحبه تابعا وراءها.

ان التاريخ في مجمل اخفاقاته وتراجعاته وقطوعاته وتقدمه، هو سلسلة من المصادفات العشوائية التي يتخللها ويعتريها التقدم الى أمام بأرادة انسانية (الفعل ورد الفعل في تصحيح الانحرافات التاريخية) وليس بقوى ذاتية غير منظورة محكومة بالضرورة السياسية او غيرها، الى جانب القطوعات والتراجعات غير المنتظمة التي أعاقت مسار التاريخ. وبحسب سارتر (فان جميع الامور تحدث بالمصادفة التي هي الصفة الاساسية المميزة للوجود). بمعنى لا وجود لتطور تاريخي تصنعه الحتمية التطورية مهما كان محايث تحريكها مقبولا.

كما ان عشوائية التاريخ وتأثير المصادفات فيه جعلت من تطوره لا يحدّه انتظام المسار ولا تحكمه غائيات غير منظورة يسعى بلوغها. ووصول مرحلة تطورية مجاوزة لسابقتها بعد انضاج عاملي الذاتية والموضوعية اللذين مصدرهما الفعل الانساني المتحقق على الارض وليس ديناميكية ذاتية شغّالة غير منظورة ولا محسوسة تلهم التاريخ وتقوده الى مراتب التقدم الى امام. مثال ذلك الثورات الشعبية والتمردات والكفاح المسلح والحركات الاصلاحية في مختلف مشاربها وغيرها هي التي كانت تصنع مراحل تاريخية متقدمة وتبديل حال سيء الى افضل منه وليس نظريات وفلسفات مكتوبة على الورق جربت حظها واخذت فرصتها في التطبيق وفشلت فشلا ذريعا. وفي هذا يبرز الدورللارادة الانسانية الفاعلة والجوهرية في تقدم التاريخ الى امام . ومن هنا نجد الفروقات التاريخية بين شعب وآخر او أمة واخرى في تصنيعها لتاريخها، وهذه الانجازات المتناثرة كجزرمعزولة ليس بمقدورها ومكنتها ان تحكم مسار التاريخ البشري بمجموعه بنوع من الغائيات المرحلية البعيدة المستقبلية. وصناعة تاريخ مرحلي في بلد او عدة بلدان لا يعني ذلك تخليص التاريخ البشري من مساره العشوائي والاعتباطي. وعشوائية المسار التاريخي وتأثير المصادفات ونتائجها غير المحسوبة التي لا وصاية ولادخل مباشر لارادة الانسان بها، فهي باقية ولا تنتهي، صحيح جدا ان الوجود الانساني سابق على التاريخ، وهذا الوجود وحده كفيل بأعطاء التاريخ معنى وهدف، لكن في المحصلة الانسان وحده يعمل على تصحيح المسار العفوي الشاذ غير المنتظم للتاريخ، ولكنه لا ينهي بذلك تلك العشوائية في التاريخ التي تنتظمه على الدوام نهائيا. كما انه لا معنى لتاريخ أوأي معطى انثروبولوجي او معرفي او وجودي من غير أسبقية فعالية الانسان عليه وتأثيره فيه وتعليل سبب وجوده وعلّة حصوله ايضا. وبهذا يقول ارتيجا (ان التاريخ يستوعب احداث الحياة الانسانية الماضية والحاضرة والمستقبلية، وما لا يتصل بالانسان ليس تاريخا، فالتاريخ هو الآنية في المحل الاول، يليها الطبيعة باعتبارها ميدان التاريخ).

التاريخ هو الحاضر وليس الماضي او المستقبل

ان التاريخ البشري الماضي والحاضر والمستقبل هو ما كان فقط وليس صنع ما سيكون، واي مسعى لأعطاء معنى قيمي هدفي تنبؤي للتاريخ في غير مساره العشوائي، هو نوع من دوغمائية الافكار والنظريات المتورّخة للمسار التاريخي، وهذا لا ينفي أبدا قدرة ورغبة وامكانيات الانسان من الوصول بالمسار المستقبلي للتاريخ الى(بعض) الاهداف المرسومة والمعدّة سلفا. وهذا يختلف عن دوغمائية الافكار التي تأتي لاحقا في دراسة التاريخ وتضع له اهدافا نظرية ومنهجيات عقب حدوث وقائعه، . دوغمائية الافكار في دراسة التاريخ هي محاولة الامساك بحركة التطور التاريخي وتجييره لحساب التنظيرات التي تسندها وترعاها اجندة سياسية، مسألة لا جدوى من الاعتداد والاخذ بها. وهذه الدوغمائية النظرية في تفسير التاريخ محكومة بالتضاد مع وقائع الاحداث الحية والسيرورة المتطورة للتاريخ ومع مساره العشوائي العفوي ايضا الذي تحكمه المصادفات التي تدخل على مسار انتظامه المتعثر باستمرار.

ان في الاستقراء السببي لوقائع التاريخ المدوّنة ومراحل سيرورتها التطورية، ومحاولة تطويع العشوائية والصدف المتتالية الى منهجية ايديولوجية تخدم السياسي، هي محولات تؤرخ لوضع نظريات واستنتاجات توفيقية – براجماتية قد تفيد توجهات سياسية - سلطوية او تفيد البشرية في مباحث الانثروبولوجيا او غيرها من المجالات البحثية. في دراسات انتقائية لعيّنات واهتمامات معينة تربط التاريخ بالفلسفة، او التاريخ بالاجتماع او التاريخ بعلم النفس، او التاريخ بحرب او حروب، او التاريخ ببطولة فردية، او التاريخ بقائد ونخبة ثورية او مع زمرة فوضوية وهكذا، وتوظيف ذلك مع ما تحمله العشوائيات والمصادفات في الوصول الى ايجاد تبريرات اقناعية لعوامل ومسببات حدوث تلك الوقائع. واهم انجاز لها انها تخلص الى نتيجة لماذا حصل هذا ولم يحصل ذاك؟

ميزة العشوائية في المسار التاريخي التطوري عبر العصور، هو تقاطعها مع النظريات والفلسفات والمناهج التي تريد دراسة تلك العشوائيات والمصادفات بيقين الغائيات ومنهجيات الحتميات التي يقحمونها في دراسة السيرورة التاريخية في قطع المراحل. ان حرية المسار التاريخي المتطور على الدوام هي حرية (فوضوية) غير مشروطة ابدا وغير ملزمة. وبهذا المعنى يقول سارتر (ان جميع الامور تحدث بالمصادفة التي هي ميزة لكل وجود). ونعتقد ان كلامه صحيح قبل ان يصدر عن فيلسوف مميز.

كما ان التنوع الهوياّتي في عصر العولمة مثلا يسعى الاسهام بصنع تاريخ حضاري جامع وموحد لحاضر ومستقبل البشرية، على وفق مبدأ ورغبة توظيف هذا التنوع الهوياتي العالمي ايجابيا، وارادة الشعوب الخالصة في نشدان استحضار مشتركات وتكامل يساهم به الجميع لخلق حضارة مشتركة جامعة. لكن يبقى هذا المحرك الذاتي يعمل الى جانب اشتمالات العشوائية وتوالي المصادفات الصادمة غير المحسوبة ولا المتوقعة تاريخيا، التي تعمل بالتوازي مع هذا المسار وتتقاطع معه احيانا. وكذلك تتقاطع مع جبروت الطغاة ونوازع السياسة والايديولوجيات في شن الحروب لاشباع رغبة التسلط والهيمنة وقهر الضعيف وحرف المسار التاريخي عن كل قيمة اخلاقية وتغليب نوازع الشر على الخير، وهذه الوقائع التاريخية بمجملها تحركها الظروف الاجتماعية والدينية المتطرفة والثقافية ومنهجيات السياسة والايديولوجيات وغيرها التي تنعدم معها حركة التاريخ الانسانية الواعية والمدركة المراد حضورها كغايات مرسومة سلفا لتخدم مصالح البشر قاطبة. وعموما يأتي الاصلاح لهذه الانحرافات الشاذة تاريخيا بتقديم الكثير من التضحيات بغية الاصلاح وارساء قيم الخير والحرية والانسانية والمساواة من قبل الشعوب لا من قبل الايديولوجيا ولا من قبل المنهجيات النظرية او السلطات السياسية الحاكمة.

التاريخ من غير الجهد الانساني لا يمتلك ارادة ذاتية حيّة تقوده الى امام، مالم يتوفرفيه الوجود الانساني الفاعل الذي يحاول سحب التاريخ الى مواقع متقدمة، وما يصنع التاريخ المستقبلي هو ما يقوم الانسان بانجازه وما يستطيع تحقيقه او الفشل به حاضرا، فالتاريخ المتحقق وغير المتحقق هو اولا واخيرا يبقى كيان معنوي يحضر او لايحضر، على وفق قدرات الانسان وطموحاته. انه لمن الصعوبة ايجاد تعميمات واحكام عامة مطلقة تصلح ان تكون قوانين يعمل بمقتضاها التطور التاريخي ملزمة له. ومن هنا تعددت الرؤى والافكار في ربط التاريخ بالفلسفة اوبالدين او بالسياسة والايديولوجيا اوبالانثروبولوجيا او بالاقتصاد او بالبيئة والجغرافيا او بعلم النفس او بالاجتماع او بالبطل والحاكم وهكذا.

هذا التنوع التناولي- التداولي في دراسة التاريخ يجعلنا امام حقيقة ان حوادث التاريخ البشري لا ينتظمها مسار ذاتي منتظم متطور واحد، كما لا توجد حتمية تاريخية يسعى التاريخ بلوغها بامكانات واستلهامات ذاتية محرّكة له بمعزل عن ارادة الانسان الواقعية في تغيير حوادث التاريخ نحو الافضل.

لابد لنا من تثبيت ما ذهبت له فلسفة الحداثة في ادانتها الحتمية التاريخية الى التشكيك في مراحل التاريخ الرسمي(الكلاسيكي)، تاريخ الايديولوجيات الثلاث، الايديولوجيا الماركسية، وايديولوجيا الراسمالية الليبرالية المعولمة، واخيرا ايديولوجيات العالم الثالث الهجينة.

يوجد مسارات تاريخية متعددة شابها الكثير جدا من الكبوات والاخفاقات والفجائع الكارثية، ربما كانت خاصة بمجموعة بشرية او عدة مجموعات في زمن معين ومكان محدد، في قطر او عدة اقطار ربما كان يجمعها نوع او اكثر من التجانس الاجتماعي والثقافي او الديني، وكل مسار من هذه المسارات التطورية له دوافعه واسبابه ومبرراته التطورية المعزولة كجزر متفرقة لا يجمعها رابط او جامع ذاتي غائي تطوري يصلح للتعميم يقرر حاضر ومستقبل التاريخ البشري.

ولما كان التاريخ وقائع الماضي، اي بنية ماضوية بمعنى مقاربة تراثية، تصبح حينها قيمته محدودة متراجعة في محاولة تسييرها الحاضر ورسمها المستقبل. واستنباط العبر والدروس من التاريخ، والمسكوت عنه وغير المفكّر به، ووقائعه واخفاقاته وانتصاراته لا تلغي عشوائية التاريخ ولا تقلل من اهمية المصادفات غير المتوقعة ولا المحسوبة في نتائجها وتأثيراتها. وفي اختطاط التاريخ مسارات بعيدة له عن الاماني الغيبية او الغائيات المسبقة او الحتميات المفترضة المرجوة والمطلوبة لكنها لا تتحقق في اعتمادها ذاتية التاريخ الشغّالة بمعزل عن ارادة وعمل الانسان على الارض.

كما ان توظيف تعالق التاريخ بالدين او تعالقه بالسياسة والايديولوجيات القائدة والخادمة له بمحاولات دوغمائية تضع الماضي في صورة المستقبل الجديد والزاهر المستمد من روحية الماضي محكومة بالفشل وسوء تقدير حركة التاريخ ومحاولة حصرها قسرا تحت هيمنة السياسي ورغائبه (كتابة التاريخ باجندة الحاكم السياسية وايديولوجيا السياسة).

بدأ التاريخ بالاساطير والميثولوجيا وانتقل الى ثيولوجيا الدين ومرّ بسّير الملوك والحكام والابطال ليصل مرحلة الايديولوجيات السياسية ويصطدم اخيرا بالعلم التجريبي- العقلاني الذي وضع خطوطا حمراء امام كل توجهات السرديات الماضوية الكبرى والانساق الفكرية والمنظومات الثقافية، ان يكون لها دور حقيقي تستطيع ان تلعبه في ترسيم الحاضر او المستقبل. وان النظرة الاحيائية للتاريخ كماض لم تعد تعني المستقبل بشيء الذي يحكمه العلم والتكنولوجيا المتطورة باستمرار. التي جعلت من العلم والتاريخ مساران متوازيان لا يلتقيان. (ليس المقصود بهذا هنا العلوم الانسانية والتاريخ جزء منها).

ان تاريخ الدول والملوك والحكام وابطال الحروب الكارثية والتطرف والفتوحات والهيمنة الغاشمة التي سادت ثم بادت كانت عوامل اشتغالها وديناميكية محركاتها هي النزوات الفردية المنحرفة والانانية والوحشية والحماقات والرعونة في اختلاق المنازعات وسفك الدماء لا غير. وبهذا النوع من التاريخ ورثت البشرية الاوراق الساقطة التافهة، لما تم حجبه عن معاناة وكوارث ملايين البشر في الحياة التي لا تواسيها ولا تعطيها حقها كل هالات التعظيم والخلود.

ان تحقيق المؤرخ للمدونات واعادة تفسيرها ودراستها واختراع النظريات التحليلية ووضع المناهج لها، وما يكتشفه من الخفي غير المعلن والمستور في حوادث التاريخ، لا يمنح التاريخ اية مصداقية على ان مساره ذاتي استلهامي تطوري في تغليب نوازع الخير والقيم والانسانية فيه على الدوام، وانما كانت جدوى التصحيحات تأتي من فاعلية اناس صححوا المسار المنحرف لمرحلة او مراحل من التاريخ، وقدموا تضحيات كبيرة لتحقيق هذا الهدف، ولم يكن للتاريخ اي قدرة ذاتية او امكانية ان يصحح مساره الخاطيء بقواه غير المنظورة وحده.

غالبية الموروث من التاريخ هو انحرافات الحاكم وحب الهيمنة والسيطرة والتوسع الامبراطوري، او بروز حركات وحشية همجية تتلذذ بسفك الدماء باسم امتلاكها الحقيقة الدينية او الحقيقة التاريخية، كل هذا وعلى شاكلته ورثت البشرية عامة تاريخا بائسا، تداخلت حوادثه مع المسار الاعتباطي والمصادفاتي للتاريخ. ويؤكد هذا ان التاريخ في جميع مراحله الماضية لم تكن تحكم مساره الغائيات والحتميات المرسومة الاهداف سلفا، للارتقاء بالانسانية في معارج التقدم والازدهار. والعلامات المضيئة المشرقة التي جاءت على شكل طفرات نوعية مرحلية محدودة في منطقة دون اخرى بالعالم، كانت ردود افعال الانسان التصحيحية ورفع ظلم وجور وقائع تمت ازالتها بارادة وتضحيات قوى انسانية مغيبّة عن صناعة التاريخ الحقيقي على حساب تلميع صورة الحاكم المتنفذ. وما حصل في هذا التطور ليس من حكمة الحاكم ولا من حكمة التاريخ في ان غائية انسانية مثلى تعيش باحشاء التاريخ وتأخذ بمساره الانساني المتقدم. . . فالتاريخ بداية ومنتهى هو من صنع الانسان فقط في علاقاته وتطور وسائل عيشه (الانسان) اجتماعيا واقتصاديا وثقافيا، وحبه لقيم الحرية والعدل والمساواة.

اقصى افادة لنا من التاريخ وحوادثه ووقائعه هو استذكار ومراجعة تفيدنا بالعظة والتحسّب في اجتناب تكرار الخطأ والاخطاء مرات عديدة. وما نظريات وفلسفات ومنهجيات التاريخ سوى فذلكات عابرة لاكاذيب سابقة لها في التجّني على التاريخ دينيا ولاهوتيا وايديولوجيا، سادت قرونا من عمر البشرية والتي ابهضت التاريخ بما لا يحتمل.

ان فلسفة الوجود الانساني هي فلسفة تاريخه (تاريخ الانسان) لا غير، وهي أسبق في توليدها علامات استفهام وتساؤلات بلا نهاية تحفيزية تغييرية تكون اجاباتها في التطبيق الواقعي في الحياة هو خلق تاريخية متطورة على الدوام. ولا يحق ولا بمقدور تجربة امة من الامم او شعب من الشعوب ان تسحب تجربتها على امم وشعوب اخرى تمتلك تمايزات جمّة واختلافات عديدة عنها، ومنهج دراسة تاريخ شعب له خصوصية ومرحلة تاريخية مميزة، تؤكد استحالة تعميم تلك التجربة على الآخر المختلف عنها.

والتاريخ من غير المفيد اخضاعه لقوانين طبيعية تعمل بمعزل عن ارادة الانسان وفاعليته في مصنع الحيوية البشرية، قوانين التاريخ الحقيقية هي القوانين الوضعية المستمدة من التحقيب الزماني والمكاني التي تنطلق من الوجود الانساني الفاعل وتنتهي به. وان التاريخ خلال مساره الطويل لم يكن يتقدم بحوافز غائية تخلع عليه من قبل المؤرخ او الدارس، كما ان التاريخ لا يهتدي بنظريات منظورة او غير منظورة تسحبه خلفها. ولا يوجد حتميات يصلها التاريخ من دون وعي وادراك ومسار يصنعه ويقوده الانسان، فالحتميات والاهداف نتيجة عاملي الارادة الذاتية وملائمة الظروف الموضوعية وهذا ما لا يتوفر عليه التاريخ ذاتيا في مساره العفوي قبل دخول الارادة الانسانية عليه. فحركة التاريخ حركة عشوائية ومصادفات غير محسوبة، تتداخل بها ومعها ردود الافعال الانسانية ونفسيات الحاكم او القائد المتنفذ والدين والايديولوجيات والنزوات المريضة ونوازع الخير ويقظة الضمير وحب الانسانية وغير ذلك كثير.

***

علي محمد اليوسف - الموصل

 

تمهيد: اود ايجاز بعض التوضيح في ما يخص هذا المبحث (التاريخ البدائي والنزعة الانسانية في الفلسفة البنيوية)، اني استقصيت ابرز عاملين او مرتكزين اعتمدتهما البنيوية لدى فلاسفتها ليفي شتراوس الاب الروحي للبنيوية، والتوسير، ولاكان، وفوكو، ودي سوسير وغيرهم. وسنأتي عليهم لاحقا.

كما اود الاشارة ان المقصود بالانسان هنا، ليس الكائن النوعي المتفرد عن جميع الكائنات الاخرى في الطبيعة، كائن انثروبولوجي- بيولوجي وحسب ميزته المتفردة (العقل واللغة)، وانما يعني في هذا المبحث (النزعة الانسانية) بمعناها القيمي والفلسفي في صنع الانسان لتاريخه التطوري الحضاري، وليس كموجود انساني غير فاعل كما هو في مراحل بدائية سحيقة من عمر البشرية.

من الجدير بالذكر ان الانسان اكتسب فرادته النوعية وانسنته بالطبيعة متميزا عن بقية المخلوقات والكائنات الحية على الارض بامتلاكه وحده خاصية الذكاء العقلي واللغة والخيال.

العاملان اللذان اعتمدتهما البنيوية هما:

اولا التاريخ البدائي للاقوام البشرية او ما يسمى علم الاثنولوجيا، وهو علم اجتماعي يدرس الجماعات البشرية البدائية قبل اختراع الانسان للتدوين، اعتمدته البنيوية، فحواه ان تلك الاقوام لا تاريخ لها بالمعنى البنيوي والتطور الخطي الحتمي الحضاري للتاريخ، اذ تعتبر البنيوية تاريخ تلك الاقوام البدائية تاريخا ساكنا في ثباته ومحدوديته في تفكير الانسان. ان هذا التاريخ البدائي الانساني توقف تطوره مراحليا في عصور اكتشاف الانسان للزراعة سبعة الاف سنة قبل الميلاد.

ان عصر اكتشاف الانسان للزراعة اعقب عصر الصيد والالتقاط البدائي، وهو بداية صنع الانسان للحضارة الانسانية، فقد عرف تخزين الحبوب الفائضة عن حاجته، وراقب بدقة تغّير الفصول وموسم سقوط الامطار، واستوطن على شكل مجموعات قرب الانهر والترع، وعرف كيفية تدجين الحيوانات الاليفة والاستفادة منها، وعرف ايضا الوسائل البدائية في الري. وعرف ايضا اهمية تخزينه للحبوب.

لكن الاهم من اكتشاف الانسان للزراعة هو اختراعه ابجدية الكتابة اربعة الاف سنة قبل الميلاد في وادي الرافدين (الكتابة المسمارية) عند السومريين، ومثلها 3200 قبل الميلاد عند الفراعنة المصريين (الكتابة الهيروغليفية). هنا مع اختراع الانسان الكتابة بدأ تاريخ جديد للبشرية اذ اصبح التدوين كتابة متاحا على الواح الطين واوراق البردي وجلود الحيوانات وغيرها، وكل المراحل التاريخية التي سبقت الكتابة تعتبر تاريخ بدائي غير مدوّن ولا معروف توثيقيا سوى آثاريا تنقيبيا فقط، واصبحت تلك الاقوام التي عاشت تلك الاحقاب بلا تاريخ او خارج التاريخ الإنساني المدوّن.

العامل الثاني هو (النزعة الانسانية) مرتكز الفلسفتين الماركسية والوجودية. مع اختلاف المعنى المفهومي بينهما. الذي انكرته البنيوية جملة وتفصيلا.

ان البنيوية تيّار فلسفي معاصر نشأ قبل الحرب العالمية الاولى في مؤلفات توبتسكي وجاكوبسون واعمال هوسرل، في فرنسا معقل الفلسفة العقلانية والحداثة التي ارساها رينيه ديكارت في القرن السابع عشر (العقل والعلم)، مقصّيا الميتافيزيقيا من مباحث الفلسفة معتبرا اياها لغوا فارغا باستثناء ماكانت الكنيسة تريده بعصره . كما ان العديدين يصنفون شتراوس فيلسوف البنيوية الرائد بانه وريث مدرسة فرانكفورت النقدية الالمانية، والبنيوية هي اقرب الى فلسفة الحداثة التي يقودها الفيلسوف المعاصر يورغن هابرماس.

والبنيوية تيارات فلسفية متشعبة تأثرت اول الامر بالماركسية والوجودية قبل ان تنقلب عليهما. (معظم فلاسفة البنيوية والوجودية كانوا في بداياتهم ماركسيين شيوعيين).

وقد عنت البنيوية على يدي دوسوسير ولوفيدج فنتجشتين بعلم الصوتيات واللغة. ويوضح شتراوس:ان الوقائع التجريبية لا معنى لها في ذاتها، ولكن متى وضعناها في نسق فكري له معنى او نموذج اكتسبت معنى علميا.

كما اجد ضروريا التنويه ان تيارات الفلسفة المعاصرة اصبحت مفاهيمها الفلسفية متداخلة في خطاباتها الرؤيوية الفلسفية والمعرفية، بحيث لم نعد نمتلك معه القدرة الكافية على تمييز تلك الفواصل والفروقات المتباينة في ما بين تياراتها بيسر وسهولة، فمثلا نجد فلسفة الحداثة تتداخل مع تيار ما بعد الحداثة بحيث صار بعض الفلاسفة ينكرون فواصل الاختلاف الكبيرة بين الفلسفات المعاصرة، فمثلا التداخل نجده مع ابرز فيلسوف الحداثة يورغن هابرماس الذي تحسب الكثير من افكاره الفلسفية الى البنيوية، فقد اختلف ايضا في مقالة مهمة له بعنوان (الحداثة مشروع لم ينجز بعد) مع ابرز فلاسفة مابعد الحداثة فرانسوا ليوتار الذي يعارض تلك الفكرة بقوله (ان مشروع مابعد الحداثة مشروع مختلف عن مشروع الحداثة التي هي وليدة عصر النهضة والانوار الواجب مجاوزتها. وانها استنفدت اغراضها).

في حين يصر هابرماس ان فلسفة وعصر الحداثة لم يستنفدا اغراضهما ومهامهما بعد. عديدة هي الانتقادات اللاذعة التي واجهتها تيّارات الفلسفة البنيوية، من فلاسفة ومدارس عديدة مناوئة لطروحاتها الفلسفية، كونها (البنيوية) أثارت اشكاليات في الفكر الفلسفي جديدة غير مسبوقة في تاريخ الفلسفة، استلزمتها واحتاجت معها الى نقودات متباينة معها او ضدها، جاءت في مقدمتها من مفكرين وفلاسفة ماركسيين وغير ماركسيين، تلاهم بالتزامن معهم فلاسفة الوجودية الحديثة لعل أبرزهم كان سارتر، في مسألتين او منحيين اثنين نسلّط الضوء عليهما دون غيرهما من قضايا اشكاليات البنيوية المتعددة التي لا تزال وستبقى لفترة غير محدودة مثار نقاش وحوار فلسفي مستمر.

الاول: التاريخ البدائي:

التركيز البنيوي تاريخيا على ( الاثنولوجيا) دراسة تاريخ الجماعات البشرية البدائية، التي اعتمدها أبرز اعلام الفلسفة البنيوية بمختلف الاختصاصات (شتراوس) في دراسة تاريخ انثروبولوجيا الحضارة، (التوسير) في نقده الماركسية وكتاب رأس المال، (لاكان) في علم النفس، (دو سوسير و فنتنجشتين) في علم اللغات واللسانيات، (فوكو) في تاريخ الجنسانية وتاريخ الجنون وهو صاحب مصطلح (اركيولوجيا المعرفة) او مايسمى تعريبا حفريات المعرفة، ويعتبر كتابه الشهير (الكلمات والاشياء) من اشهر كتب الفلسفة في القرن العشرين، و (جان بياجيه) في علم النفس ايضا مع جاك لاكان وهكذا.

أعتبرت البنيوية أن دراسة الاقوام البدائية تمتاز بأنها تعنى بأقوام، كانت تعد خارج التاريخ البشري، ولا تمتلك تاريخا مدّونا وليس لها تاريخ بالمعنى التاريخي المتغّير والمتطّور، التاريخ الخطي في مراحله الحضارية والمتعذّر رصد تغييراته المتسارعة أسوة بغيره كما في تاريخ شعوب ما قبل التاريخ التي عرفت بمراحل تاريخية طويلة بدءا من العصور الحجرية البدائية، وبعدها عصر الصيد والالتقاط تلاها العصور الزراعية والصناعات المعدنية البرونزية اليدوية بأبسط اشكالها واشتمالاتها، وأعتبرت البنيوية تلك المراحل البدائية، مقارنة بالتاريخ الانساني لمراحل ماقبل التاريخ المدّون والموّثق تنقيبيا وآثاريا اركيولوجيا بعد ظهور الكتابة المسمارية في بلاد مابين النهرين والهيروغليفية في مصر القرن الرابع ق. م، على ان ما سبقها تعتبر مراحل اللاتاريخ البشري كما اشرنا له سابقا.

كما أعتبرت البنيوية التاريخ البدائي (تاريخ ساكن) بحكم طبيعة العقل البدائي في ثباته ومحدوديته، وبالتالي أصبح هذا التاريخ أنموذجيا في التناول المنهجي البنيوي البحثي المتعدد التيارات، الذي تخدمه (حالة الثبات والسكون) التي تعتري التاريخ البدائي وتقعده عن الحركة التطورية السريعة المتلاحقة مثلما حصل بعد اختراع الكتابة.

ان هذه المسألة التي اعتمدتها مرتكزا اساسيا الفلسفة البنيوية، أثارت حفيظة الماركسيين من الذين عابوا على البنيوية انها لم تجد في التاريخ الانساني، الا المجتمعات البدائية ما قبل التاريخ، لدراسة تاريخها على وفق منطلقات أسمتها (قطوعات التاريخ) ميزتها ثبات وسكون تلك المجتمعات تاريخيا ومراحليا بما يفتح المجال الى دراستها وتحليلها الانثروبولوجي بدقّة وتناول أيسر. للمفكر مطاع صمدي عبّر عن هذه القطوعات بما اطلق عليه مراحل من غياب التاريخ.**

واذا كانت البنيوية نجحت في اقامة بناءات نسقية معرفية تحت مسمى (التكوين الثابت) للانسان، وتشابه قضايا الانسان في مختلف الازمان والعصور، ليس على صعيد الحقب التاريخية البدائية السحيقة وحسب، وانما على صعيد التاريخ الساكن للانسان في مختلف المراحل التاريخية، لأن مشاكل الانسان كانت وبقيت ثابتة ومتشابهة لم تتغيرجوهريا على حد زعم البنيوية. لكن ما يلحظه الدكتور الباحث فؤاد زكريا وآخرين عديدين غيره من باحثين ماركسيين ووجوديين، أن البنيوية تغاضت واخفقت معا ولم تنجح في تعليل التقدم التطوري والتاريخي انثروبولوجيا الى حد اعتقادها بان ما يدعى التقدم البشري بفعل الاشكاليات البشرية المتنوعة والمتتالية هو محض خرافة ووهم، وان التحديات التاريخية سراب خادع ولم تكن في يوم من الايام عاملا لتقدم حضاري من أي نوع كما ذهبت له البنيوية في ادبياتها البحثية والفلسفية.

ولقد ذهب فوكو الى أبعد من ذلك في قوله: انه يتجنب الخوض في/ ومع كل ما له صلة بمقولات التحّول والتغيير، ولا يرى في كل مرحلة تاريخية الا (ثوابتها) فحسب، ووصل الحد به الى التشكيك بالانسان نفسه، واسقاط التاريخ البعدي القديم والحديث والمعاصر من الحساب الفلسفي البحثي البنيوي نهائيا باستثناء الوقوف عند مراحل اللاتاريخ الذي تمثله الاقوام البدائية باعتبارها مراحل بشرية خارج التحقيب التاريخي الخطي في التطور البشري انثروبولوجيا.

لقد انساق خلف هذه المنطلقات الفلسفية البنيوية العديد من الذين انشقّوا عن الماركسية، ربما كان ابرزهم (التوسير)في استهدافه المادية التاريخية وكتاب رأس المال في انتاجه ماركسية خيالية وتجريدية تعتمد خطابات غامضة واقامة بنى نسقية لا تمّت بأدنى صلة لها مع الواقع العيني ومعالجة مشاكله، وعجزت عن دحض الاسس المادية والجدلية التي قامت عليها الماركسية. وأكثر من ذلك نجده عند اقطاب البنيوية الذين سقطوا في الذهان التجريدي الفلسفي، وخلقوا أنساقا معرفية خارج اهتمام مركزية الانسان وجعلوها حقائق في مواجهتها الفكر المادي والماركسي تحديدا. ان البنيوية تجاهلت الطبيعة الاجتماعية للانسان وحوّلت الانسانيات نحو مملكة التجريد اللغوي. لكن في اعتماد اللغة وعلوم اللسانيات هذه المرة، واعتماد اللغة كمحور ارتكاز في مراجعة جميع مواضيع الفلسفة تجريديا لغويا. ***

و من أبرز الامور في هذا المنحى البنيوي، أن غالبية مدارسها أستقت ينابيع تفلسفها من التاريخ الاسطوري والميثولوجي، الذي أعتبرته البنيوية الأنموذج الأمثل لدراسة القطوعات التاريخية الساكنة التي لايحكمها التغيير او التطور والتبديل. وبذلك تسهل وتتوفر دراستها، وفي اعتمادها الاساطير كما يعتمدها علم النفس الفرويدي على انها حلم جماعي لاشعوري لدى جميع الشعوب قبل وبعد التاريخ، متجاهلة تماما أن ارتباطات مثل اللغة والاسطورة والدين والطقوس والمجتمع او القرابة و القبيلة، والزواج جميعها مرتبطة بالانسان ووجوده الارضي بعرى وثيقة جدا لا ينفع معها المكابرة في تقليل اهميتها في دراسة أي منحى تاريخي او معرفي او فلسفي مبتور لغرض الحصول على استنباطات تعميمية خاصة فقط بالاقوام والقبائل البدائية . ربما كانت تلك المفردات الحياتية بعيدة جدا عن سياقاتها الاجتماعية والانسانية والتاريخية كما حصل في التوظيف البنيوي لها في قراءاتها فلسفة العصر.

ومن الجدير ذكره ان مركزية الانسان في الفلسفة قديمة، ورائدها هو الفيلسوف السفسطائي بروتوغوراس، القرن الرابع قبل الميلاد في مقولته الشهيرة (الانسان مقياس كل شيء). واعقبه فلاسفة الوجودية جميعهم، سورين كيركارد، وهيدجر، ومارسيل جبريل، وصولا الى سارتر وكامو واخرين من فلاسفة البنيوية خرجوا من عباءة الوجودية في الغائهم محورية الانسان كمعيار كل منجز معرفي او حضاري، من دون ادنى تانيب ضمير ولا اسف على الانسان الذي اعتبرته الماركسية اثمن راس مال في الوجود يصار الى الغائه ومصادرة حضوره باكمله.

كما ان الاسطورة التي هي حلم جماعي لا شعوري لدى الشعوب البدائية كما يذهب له علم النفس الفرويدي، الذي يختلف دلالة ومضمونا مع مفهوم البنيوية له، ففي علم النفس الفرويدي يكون المحلل النفسي أعلى مرتبة تمييزية عن المريض، ويعد الطبيب النفسي نفسه، أعلى مرتبة انسانية عن الشخص المعالج، مادام يستطيع كشف أبعاد أعمق من تلك التي يبوح بها الشخص له عن تجاربه العفوية. اما في البنيوية في اتجاهها التحليلي البنيوي السايكولوجي عند (جان لاكان) فان المحلل النفسي (لا يعتبر نفسه سوّيا وسليما بالقياس الى من يقوم بتحليله، كما لا يتخّذ منه اي موقف مميز عنه)1. وبهذا التفريق الافتعالي بين الفهم الفرويدي للاسطورة من جهة، وفهم الفلسفة البنيوية لها في التحليل النفسي من جهة مغايرة، لا اجده يشكل مسألة فلسفية جديرة بالاهتمام والاختلاف حولها. كما اجد ان انحسار المد الفلسفي عن معالجة أمور حقيقية تهم معاناة الانسان في الحياة المعاصرة، واعتبار مسائل اللغة محورا مركزيا في معالجتها كل المسائل الفلسفية، سيجعل من الفلسفة هراءا لا طائل من ورائه وهو يحتضر اليوم سريريا.

الثاني: النزعة الانسانية:

البنيوية بحسب النقاد الماركسيين لها، يلازمهم ومعهم (سارتر) وأقطاب الوجودية الحديثة مثل هيدجر، (فقط بمنطلقات متباينة مختلفة كما سيتضح معنا لاحقا)، يجمعون على ان البنيوية ألغت في فلسفتها مسألتين على جانب كبير من الأهمية في تاريخ الفلسفة، (الذات / والانسانية) واقصتهما نهائيا من التفكير الفلسفي ب (المطلق)، بما يترتّب عليه نسف التاريخ الفلسفي السابق على البنيوية. ان لم يكن نسف ضرورة ذلك التاريخ في عزل البنيوية الانسان كمحور وجودي مركزي في جميع وعلى امتداد تاريخ الفلسفة القديمة والمعاصرة.

قبل التطرق لرد البنيوية على الماركسيين والوجوديين، نرى انه من المتعذّر لأي جديد في الفلسفة الغاء (الذات) والغاء (النزعة الانسانية) من الفلسفة، وماذا يتبقى منها بعدئذ؟ ولمن تخاطب او تكتب من أجله أو له؟ معظم تاريخ الفلسفة في أشد تجريداته وميتافيزيقيته الفلسفية لم يكن محور الانسان غائبا ولا مغيّبا منها، كمحور مركزي في التفلسف (مرسل ومتلقي) (فاعل ومنفعل) (وجود وقضايا) (كينونة وجوهر) (حياة وموت) (خير وشر) وهكذا، ليقوم العقل بعدها وحقول المعرفة والعلوم في اختصاصات الاجتماع، علم النفس، الاقتصاد، السياسة، وامور عديدة لا حصر لها بدورها المكمّل أو المفارق، وفي مختلف شؤون الحياة المتعالقة بالفلسفة.

علما ان الوضعية المنطقية حلقة فيّنا هي الاخرى كانت سبقت البنيوية في تجاهلها موقع الانسان المحوري في الحياة والوجود. وفي معرض دفع (سيباج) هذه المثلبة عن البنيوية يقول (ان كل ما ينتمي الى مجال الانسان لا بد ان يكون من صنع الانسان، ثم لا يصح ان نتصور البنيوية على انها نظرية تجعل أصل الانساق التي تفسر بها الظواهر الانسانية خارجا عن نطاق الانسان)2، بمعنى ان البنيوية لا تلغي الاهتمام بالنزعة الانسانية من قاموسها الفلسفي.

كما ان الوضعية المنطقية في رائدها الفيلسوف اوجست كونت (1798 – 1875) اهتمت بدراسة الظواهر الواقعية المادية فقط، متبنية شعار (ما لا يمكن رصده لا وجود له) رافضة كل تفكير في الغيبيات واعتبرت الميتافيزيقيا لغو فارغ لا معنى له، وان الوضعية هي التي تلتزم العلم في فهم الظواهر الطبيعية والبشرية.

وفي هذا الشعار للوضعية المنطقية يظهر جليّا تناقضها المثالي وفي تطرفها ايضا (رغم ما تدعيه من عقلانية واقعية)، ولا ارغب العودة وتكرار خطر وخطأ التفكير المثالي في اعتماد ان الفكر سابق على الوجود ومنتج له. ناقشت هذا الموضوع سابقا في (اللغة والاشياء) وفي اكثر من موضع.

ان كل تجاوز ونفي للنزعة الانسانية فلسفيا، يجعل من تاريخ الفلسفة قبل البنيوية، تراثا كميّا استذكاريا لا نفع له، ولا علاقة صحّية تربطه بالانسان كوجود نوعي في الحياة التي نحياها على الارض. وأن تاريخ الفلسفة مدموغا بعدم الفاعلية الانسانية، انما تريده البنيوية خطابات من السرد التجريدي المنطقي، وأنساق فارغة أجترارية لمفاهيم موغلة في التجريد من جهة، وموغلة في الغياب من الاسهام في تغيير العياني الواقعي، والتي استنفدت جميع متبنيّاتها ومجالات تناولها البعيدة عن تحقيق حلول حيوية ماثلة في حياة الانسان المعاصر. ارتكبت البنيوية خطأ لم تتمكن تصحيحه بالفلسفة هو عندما قام ليفي شتراوس في عام 1905 من التبشير بنظرية التحول اللغوي وفتح باب اللسانيات وفلسفة اللغة على مصراعيه واخفقت البنيوية تكملة ذلك المبحث الهام الذي يمثل اكبر انعطافة في تاريخ الفلسفة من الانحراف الذي ورثه بول ريكور في الهورمنطيقا وجاك دريدا في التفكيكية.

مؤكد اننا ليس بمقدورنا ان نصادر منطلقات فلسفية تشغل الباحثين عقودا طويلة مثل الفلسفة البنيوية قبل ان نتبيّن ردودها ووجهة نظرها وتعليلها لمثل تلك التوجّهات المصادرة للذات والنزعة الانسانية، خاصة ان ماتدّعيه البنيوية بانها بصدد قلب جميع المفاهيم الفلسفية السابقة عليها من اجل خلق انساق وبناءات لخدمة العلم وتقدم الحياة الانسانية وهذا التوجه لا يخدم الغرض المعلن عنه بوسائلها المحدودة القاصرة على الاقل. . . وليس من الواقع في شيء ان تخرج البنيوية الفلسفة من ذاتيتها الانسانية مهما كانت الذرائع التي ترفعها، على صعيدي التفلسف، وصعيد التلقي الاستقبالي. ويطلق شتراوس على الذاتية انها احد اشكال الوعي البرجوازي التجريدي لذا فهو يرفضها.

كانت البنيوية موفقّة في ادانتها لوجودية سارتر انها فلسفة مغرقة في ذاتيتها غير الانسانوية على مستوى المجموع، وهو شيء لا تنفرد به البنيوية عن سائر منتقدي وجودية سارتر، المغرمة بالتشاؤم والعدم، واللاجدوى، وان الانسان قذف به بمحنة الحياة، حاملا حريته المسؤولة عن ذاته وعن الاخرين الذين هم الجحيم، وعليه خلاص نفسه بقواه الذاتية منفردا من المأزق الوجودي كما في دعوة بوذا (ابحث عن خلاصك وحدك).

كما أعتبرت ذاتية سارتر الفلسفية ذاتية متضخّمة ومتطرّفة لكن ماهو مهم اكثر، وجوب التفريق بين تأكيد سارتر (للذات الانسانية) التي يحاجج بها البنيوية ويحمّلها مسؤولية اضاعتها، وبين (النزعة الانسانية) التي تطالب الماركسية بها البنيوية لأضاعتها لها. فالنزعة الانسانية التي يدّعيها سارتر في فلسفته هي غيرها النزعة الانسانية التي تريد الماركسية حضورها في الفلسفة البنيوية وتفتقدها لديها.

أن البنيوية مهما سعت وبذلت من جهد في ربط منطلقاتها الفلسفية بعلم النفس او الانثروبولوجيا اوالتاريخ، اوعلم الاجتماع او اللغة او علم النفس وغير ذلك فهي بالنتيجة عاجزة عن تحقيق منجز تدّعيه بصدد اقامة (بناءات نسقية) تدّعم مسار العلوم وتساهم بتطويرها وتقدم الحياة بالتزامن مع اعلانها الفلسفي المتشدد ان دور الوجود الانساني في التاريخ اصبح خارج مقولات البحث الفلسفي والمعرفي.

محاورة جان بياجيه:

هنا نعيد قبل ان نعرض محاججة (جان بياجيه) على أدعاءات كل من الماركسيين وسارتر المختلفتين حول (الذات، والانسانية) وتقاطع واختلاف سارترحول النزعة الانسانية الذي اشرنا له سابقا مع البنيوية، عنه في تقاطع واختلاف الماركسية في فهمها النزعة الانسانية المصادرة فلسفيا عند كل من البنيويين وسارتر على السواء.

يذهب بياجيه في رده على نقد سارتر للبنيوية، وتأكيده أهمية محورية الذات الانسانية في فلسفته الوجودية، التي أتهم سارتر بها البنيوية العبور عليها ومجاوزتها

بافتعال غير مقبول او مبرر، فكان رد بياجيه: (ان الذات الانسانية التي يؤكدها سارتر لا تشيّد بناء العلم بحكم طبيعة عملها انها تجريدات لا شخصية، لا يمكننا الاستدلال عنها الا من خلال هذه التجريدات فقط)3. وليست هي (ذات) فاعلة يعتد بها من واقع تأصيل النزعة الانسانية كفاعل تنموي في مجرى الحياة.

هنا بياجيه في رده على سارتر يضع نفسه، بالمثل الدارج فاقد الشيء لا يعطيه، فاذا كانت الذاتية الانسانية عند سارتر تجريدات غير شخصانية، فالبنيوية لا تعتمدها وتلغيها هي اصلا ولا تعترف بها على لسان فوكو بشيء عياني تتمحور الفلسفة حوله وحول قضاياه ومشكلاته ذلك هو الانسان (كذات)، وحتى على لسان شتراوس وفوكو فهما لا يقرّان بأن للانسان تاريخ حضاري أوصله الى مانعيشه اليوم.

وان قضايا الانسان واحدة وتطلعاته لم تتغيرعبر العصور لذا يكون كافيا دراسة تاريخ الاقوام البدائية فقط لنفهم التاريخ البشري بمجمله، بمعنى تعميم منجزات الجزء على الكل. ومن الجدير ذكره ان المفكر الكبير محمد عابد الجابري في دراساته وفلسفته القيّمة حول صياغته لمشروع عربي نهضوي استبعد البنيوية وتحفّظ على التسليم بالكثير من منطلقاتها، لانها وبحسب ادانته لها عملت على تعميم منجز الجزء على الكليات وهو سبب كاف لرفضه.

ويمضي بياجيه في التوضيح أكثر انه يوجد فرق كبير بين العلاقات الشخصية التي تختفي من خلالها الذات الانسانية، كنزعة فطرية (انسانية مجتمعية)، وبين ما يطلق بياجيه عليه (الذات الانسانية في مجال المعرفة)، وهذا بحسب بياجيه فرق كبير وهام، اذ يجده بياجيه التخلي عن الذات الانسانية في مجال المعرفة، انما يحررنا في تخلّينا عن اتجاهنا التلقائي في التمركز حول انفسنا، و (نتحرر من ذاتية العلاقات الشخصية، ولا يكون هناك بعدها للذات وجودا بوصفها ذاتا عارفة، الا بمقدار ترابطاتها المتداخلة التي تتولد منها البناءات)4. رد تجريدي يتلاعب بالالفاظ فقط.

ونكمل مع بياجيه توضيحه: ان البنيوية تفرق بين (الذات الفردية) التي لا تأخذ منها موضوعا للبحث الفلسفي على الاطلاق، وبين (الذات المعرفية) أي تلك النواة التي تشترك فيها الذوات الفردية كلها على مستوى واحد، وهي موضوع الفلسفة ان صح التعبير، كذلك تفرّق البنيوية بين ما تحققه الذات بالفعل، وما بين ما يصل اليها وعيها، وهو محدود بطبيعته، وما تركّز البنيوية عليه هو اهتمامها بتلك العمليات التي تقوم بها الذات وتستخلصها بالتجريد من افعالها الذهنية العامة. 5

ان ما يلاحظ على حجة بياجيه تجاه درء تهمة اغفال البنيوية النزعة الانسانية، ركيزة الفكر الفلسفي الماركسي انها لم تكن مقنعة بما فيه الكفاية، اذ عمد بياجيه باسلوب تجريدي صرف تفنيد مقولات فلسفية تاريخية علمية ومادية صلبة لا تزال تمتلك حراكها العملياني الواقعي المقبول ليس لدى الوجودية والبنيوية، وانما في الماركسية، فهي تمتلك حضورا انسانيا فاعلا في مجرى الحياة وتداخلها معها. ولم يكن بياجيه الوحيد الذي وقع بمطب التجريد الفلسفي المسرف في مناكفة وتضاد مع الماركسية حتى احيانا من دون تسميتها، اذ نجد ان (ألتوسير) كان أنشطهم وأبرزهم تأثيرا في نقده المادية التاريخية وكتاب راس المال كما اشرنا له سابقا*.

وقبل ان نختم مبحثنا هذا نشير الى ان البنيوية ترى ان الكلام يسبق الكتابة، وان الحقائق التاريخية تثبت ان اقدم نظام كتابي يرجع الى خمسة الاف سنة قبل الميلاد، وانه لا يمكن لأي مجتمع الوجود من غير اللغة الكلامية، لذا يكون من المنطقي ان نفترض ان الكلام يرجع الى بداية ظهور المجتمع الانساني، وعلى العكس من البنيوية ترى التفكيكية ان الكتابة تسيق الكلام وان الكلام ولد من رحم الكتابة، وينعتون الكتابة بالعدم والكلام بالوجود ومنطقيا فالعدم يسبق الوجود.

كما ان النص في الفلسفة التفكيكية يظل دائما يحمل عوامل اندثاره وتلاشيه بحسب الباحثة والناقدة سارة كوفمان من رواد الفلسفة التفكيكية، وتجد ان التفكيكية تتعامل مع النص اللاهوتي المتعالي، بانه نص يحمل اسباب تفككه ومغادرته احتكار مركزية خطاب النص، الى ان تصبح حسب رأيها جميع النصوص نسبية الوجود ونسبية التلقي ومتعددة القراءات. كما ان الفيلسوف الانثروبولوجي جيمس فرايزر يذهب الى انه كما استطاع الدين ابطال عمل السحر، فان العلم في طريقه الى ابطال لاهوت الدين.

***

علي محمد اليوسف /الموصل

........................

الهوامش:

** لتوضيح اكثر يراجع كتابنا (العولمة بضوء نهاية التاريخ وصدام الحضارات وبروز ظاهرة الارهاب.

*** لتوضيح اكثر حول محاولة التوسير نقد كتاب راس المال تراجع مقالتنا بعنوان (التوسير وكتاب راس المال).

1. توضيح اكثر انظر، فؤاد زكريا، افاق الفلسفة صفحات 363-365

2. المصدر السابق ص 360

3. نفس المصر السابق ص 366

4. نفس المصدر السابق ص 368

5. نفس المصدر السابق ص 364

تُعد التفكيكية، من أهم الحركات ما بعد البنيوية، فضلاً عن كونها الحركة الأكثر إثارة للجدل أيضاً، فالتفكيكية ردُّ فعل على الإسراف البنيوي، تهدف إلى التخفيف من غلوائها وتوضيح رؤيتها الداخلية بالطريقة المثلى، فقد كرّس (جاك دريدا) في بعض مقالاته مهمة تفكيك مفهوم (البناء)، والتي تخدم تجميد التلاعب بالمعاني في النص وتقليل ذلك إلى نطاق يمكن السيطرة عليه. وذهب أيضاً إلى ضرورة تفكيك مركزية العقل، إذ يجب إيجاد وضع جديد للكلمة، وذلك من أجل إسقاطها وانتزاع تسلطها الكامل كأصل ومركز للغة.

ويعد كتاب (لسان التفكيك) لجاك دريدا بمثابة لسان التفكيكية، على أن البحث الذي يتقصى دريدا ونظريته في التفكيك تواجهه عقبتان رئيسيتان، الأولى أوجدها دريدا نفسه المتسم بإثارة الحيرة فضلاً عن مصطلحاته ومفاهيمه، أما الأخرى فهي سلسلة الآراء النقدية التي تعد تأويلات غير وافية أو سوء تأويلات محتملة، على الرغم من الضوء الذي تسلطه على بعض المفاهيم الصعبة التي شكلها دريدا.

ومما لا شك ان التفكيك هو المفهوم المركزي في فلسفة دريدا. فماذا يقصد به؟ في رسالة له (الى صديق ياباني)، اعترف دريدا بان التفكيك كلمة عصية على التحديد والتعريف والتدقيق والضبط لان كل تعريف وتحديد في نظره يحتاج الى تفكيك ويتطلب على الاقل الشك والظن في الكلمات والمفاهيم التي صيغت بها تلك الكلمات التي الفنان والتي تسكن اي لغة كانت خاصة اذا علمنا انه لا وجود للغة بريئة فكل لغة مشكلة من قرارات ومن اشكال من الاقصاء التي يجب العمل على ادراكها وفهمها.

يؤكد (م.هـ ابرامز)، أن أبرز جزء في نظرية دريدا هو: 1-إنه ينقل بحثه من اللغة إلى الكتابة، النص المكتوب أو المطبوع. 2-أنه يتصور النص بطريقة محددة غير اعتيادية... أما (نيوتن غارفر) فيشدد على أن دريدا واحد من فلاسفة اللغة، وأنه يؤكد على أسبقية البلاغة على المنطق، فيقول: ينضوي دريدا تحت لواء الحركة التي تنظر إلى الأثر الذي تلعبه الملفوظات في الخطاب الفعلي على أنه يمثل ماهية اللغة والمعنى، والذي يسبب ذلك يعد المنطق مستنبطاً من المسوغات البلاغية... ويذهب (هيليس ميلر) إلى أن التفكيك بحث في الإرث الذي يخلفه المجاز والمفهوم والسرد في أحدهما الآخر، ولهذا السبب يعد التفكيك حقلاً معرفياً بلاغياً... ويعتقد (موراي كريغر) أن دريدا بنيوي نقدي تغلب على البنيوية وقهرها، وربما يكون قد أبطلها أيضاً، وإن الهجوم الذي شنه دريدا، يعد شكلاً أكثر حداثة لذلك الهجوم القديم الذي شنه أفلاطون على الشاعر بوصفه خالق أساطير... ويؤكد (فريدريك جيمسون) أن فكر دريدا وهم تخطى الميتافيزيقا والهرب من النموذج القديم لغرض تمحيص الجديد وغير المكتشف.

ويتميز التفكيك بنوع من الانتباه واليقظة تجاه الكلمات والبنى التي تسكن فيها الكلمات، والانتباه بوجه خاص الى تلك البنى والى ضرورة الشك فيها بما انها تحيل الى نزعة كاملة هي البنيوية التي تحتاج الى تفكيك، وهذا يعني اننا في حاجة الى ما أسماه بـ ما بعد البنيوية، ويعتبر دريدا من الفلاسفة الأوائل الذين صاغوا عبارة ما بعد البنيوية لتدل على التيار الناقد والمعارض والمتجاوز للبنيوية، وهو ما بينه في كتابه الكتابة والاختلاف، وخاصة في نصه النقدي لميشيل فوكو حول تأويل هذا الأخير لنص ديكارت عن الجنون، ونصه حول ليفي شتراوس أو البنيوية والعلوم الإنسانية.

من هنا نعرف أن التفكيك، ومنه فلسفة دريدا التفكيكية، تعبير عن مرحلة جديدة في الفلسفة المعاصرة على العموم والفلسفة الفرنسية على وجه الخصوص، وذلك تحت اسم ما بعد البنيوية، التي تتميز بنقدها لفكرة البنية الموضوعية والمحايثة للأشياء... وليست التفكيكية منهجاً أو نظرية تسمح بالكشف عن البنى الخفية للأشياء، وإنما هي ممارسة ونشاط وعملية انتباه ويقظة وحذر دائم، التفكيك ليس نظاماً فلسفياً واضح المعالم ولا منهجاً يقوم على قواعد وخطوات معلومة، وإنما هو عبارة عن توجه فلسفي في قراءة النصوص وطرح القضايا، خلفيته المباشرة نقرؤها عند الفيلسوف الألماني هيدغر الذي قام بالهدم.

على أن دريدا، رغم صعوبة التعريف ولبس المقولة، حاول مرتين على الأقل الإجابة على السؤال عن معنى التفكيك، المرة الأولى كانت في كتابه مذكرات من أجل بزل دي مان، حيث قال: التفكيك باختصار شديد، سأقول ذلك من دون جملة، أنه أكثر من لغة. لكن ماذا يعني دريدا بهذا القول: بحسب الزواوي بغوره، أنه إذا أردنا تحليل هذا التحديد، أو بلغة الفيلسوف تفكيك هذه الصيغة، فإن أصعب كلمة في تلك الصيغة هي من دون شك كلمة: اللغة، فماذا يقصد دريدا باللغة، وهو الذي انشغل طول حياته باللغة، وأسس فلسفة لغوية خاصة به، فعن أية لغة يتحدث دريدا؟. ومفاد هذا الرأي، الآتي: يشير القول إلى ضرورة الانتباه إلى الكلمة وليس إلى اللغة، إذ من المعروف أن رائد اللسانيات الحديثة سوسير، قد ميز بين اللغة والكلام، أو بين الدال والمدلول، وكان لهذا التمييز أثره الفاصل في تأسيس النزعة البنيوية في اللسانيات ثم في الانثروبولوجيا على يد شتراوس والتحليل النفسي عند (جاك لاكان) والنقد الأدبي عند رولان بارت. وبالتالي فمن الممكن أن دريدا يقصد باللغة الكلام، الذي تجاهلته البنيوية عندما ركزت على البنيات الأساسية للغة، أو أنه كان يشير إلى كل ما يمثله الصوت وبالتالي ضرورة الاهتمام بالاذن والاستماع، وإلى من يتكلم وإلى ان الكلمة تقول دائماً شيئاً آخر غير الذي تصرح به. وهذا يحيلنا إلى خطاب الآخر وماذا يقول؟ ولقد مثلت التفكيكية محاولة فلسفية أصيلة في فهم الآخر، وذلك لما تضمنته من تقنيات التحليل النفسي والتحليل التأويلي.

ومن الجدير بالذكر، أن الكتابة والكلام كلمتان محوريتان يمكن أن يبدأ بها فهمنا، وتتمتع اتان الكلمتان بدلالة خاصة في المفاهيم التقليدية للغة، إذ أن هذه المفاهيم تنص على أسبقية الكلام وأولويته على الكتابة، وإن الكلمة المنطوقة (صوت) كلمة غير خارجية ولها القدرة على المحو الذاتي، كما تعرف الكلمة المنطوقة بأنها صورة صوتية (سمعية) وظيفتها هي استحضار المفهوم الذي تمثله الصور الصوتية ، وتتلاشى الكلمة المنطوقة أو الصورة الصوتية في سيرورة استحضار المفهوم، ولهذا السبب فإنها بوصفها دالاً تطفئ نفسها في سيرورة التدليل على المدلول الذي يكون هو الأكثر أهمية من أي شيء آخر، ولا يمكن تصور هذا المدلول إلا من خلال الصورة الصوتية التي هي الدال، ومن الممكن أن نلاحظ هنا أن ثمة شيئاً أشبه بالثالوث في هذه العلاقة: الذهن الإنساني، الدال (الصورة الصوتية)، المدلول (المفهوم).

وهناك رأي آخر لتفسير عبارة (أكثر من لغة)، تفيد وجود أكثر من لغة، وإن شرط التفكيك مقرون بالتعدد والاختلاف، وإن خطاباً واحداً مهما كانت قدرته لا يمكن أن يكون خطاباً اختزالياً، على أن ما يثير السؤال في صيغته تلك هو أن دريدا لم يقل اللغات، بل قال اللغة، أي أنه تحدث عن اللغة بصيغة المفرد لا بصيغة الجمع، وهذا يعطي دلالة خاصة لمعنى اللغة، فهل يتعلق الأمر بالضغوط التي تمارسها اللغة على محدثيها؟ إننا عندما نتحدث أو نعبر أو نكتب بلغة معينة فإننا نشعر دائماً بضغوط اللغة، وبعدم قدرتنا على التعبير، وإننا نعاني من أسر اللغة، لذلك وجب تجاوز اللغة إلى ما بعد اللغة، أي إلى كل ما يشكل العلامة، وبالتالي وجب الشك في كل مقولات اللغة والتركيب والنحو، كما دعا نيتشه إلى ذلك، وضرورة الانتباه واليقظة مرة أخرى إلى كل ما لا تستطيع اللغة قوله والإشارة إليه. أي ضرورة الانتباه إلى الصمت وإلى الحياة ذاتها، تلك الحياة التي لا يمكن نقلها إلى اللغة، أو لا تستطيع أن تصبح لغة، نتيجة لعجز اللغة عن التعبير... من هنا وجب القيام بالتفكيك على أساس التعدد والاختلاف، واستعمال أكثر من لغة وعلامة، أملاً في التحرر والانعتاق من أسر البديهيات والأمر الواقع للغة الخاصة.

وآخر ما يجدر الإشارة إليه، أن مفهوم الكتابة الجديد الذي صاغه دريدا يستند إلى ثلاث كلمات معقدة جداً، وهي الاختلاف، الأثر، والكتابة الأصلية الأولى...

1-الاختلاف يشير إلى فعلين: أ-أن يختلف، أن لا يكون متشابها. ب-أن يرجئ ويؤجل، وينبغي الانتباه إلى أن الأول مكاني والثاني زماني، ويرى دريدا أن كل علامة تؤدي هذه الوظيفة المزدوجة: أي الاختلاف والتأجيل، ولهذا السبب تكون بنية العلامة مشترطة من قبل الاختلاف والتأجيل، وليس من خلال الدال والمدلول، بمعنى إن بنية العلامة هي الاختلاف الذي يعني أن العلامة شيء لا يشبه علامة أخرى، وشيء غير موجود في العلامة على الاطلاق.

2-الأثر: إن ما هو كائن في العلامة يحرك الذهن باتجاه ما هو غير كائن فيها، ولهذا السبب فإن ما موجود في العلامة يحمل أثر ما هو غير موجود فيها، وتستطيع العلامة أسر الذهن لأن بمقدورها أن تذكرنا بما هو غير موجود فيها، وتستطيع عبر هذا التذكير تحفيز الذهن ودفعه إلى الحركة.

3-الكتابة الأصيلة: أطلق دريدا هذه التسمية على الفرق بين مفهوم الكتابة هذا ومفهوم الكتابة المبتذل الضيق، وتعمل الكتابة الأصيلة في التعبيرات الكتابية وغير الكتابية، والكتابة بمعناها الضيق تعتبر كتابية، أما في النظرية التفكيكية التي حدد دريدا أبعادها، فقد أصبح لصفة الكتابية معنى مختلفاً عن المعنى الذي كان متداولاً في الاستعمال التقليدي.

***

د. حيدر عبد السادة جودة

ما يؤلمني حقًا هي نفسي، لم أجد الكلمات التي أستطيع أن اعبر بها بلغة مفهومة عن ما يدور بداخلي، داخلي الصاخب بموجودات لا تقبل أن تزيح نفسها بنفسها عن طريقي وتفكيري، فسلبت كل ما لدي من طاقة متاحة، لم تعد اللغة مفهومة كما أريد، لا أدري هل هذا بسبب الألم، أم خليط غير متجانس من الأفكار، وتدلنا كلمات الشاعر الكبير محمد مهدي الجواهري،

لم يبقَ عنديَّ ما يبتزه الألم،

حسبي من الموحشات الهمُ والهَرمُ،

*

لم يبقَ عنديَ كفاءة الحادثات أسىً،

ولا كفاءة جراحات ٍ تضجُّ دمُ،

*

وحين تطغى على الحران جمرته،

فالصمت أفضلُ ما يطوى عليه فمُ

.ويمكننا القول بأن الصمت هو أيضًا لغة. ونستشهد بقول المحلل النفسي الفرنسي "جاك ميلر": اللغة لا تشرح المتعة هنا، بل تجرحها، الجسد يحتفظ بالأثر، بالندبة، بالمتعة كصمت غير قابل للقول. رغم أن "جاك لاكان" المحلل النفسي الفرنسي يقول خصوصية الإنسان هي أن يكون كائنًا متكلمًا، وعند " ارسطو " اللغة هي نظام أساس من الرموز التي تمكن البشر من التواصل والتفكير والتأمل في العالم، الكلمات هي تمثيلات رمزية للمفاهيم، وهذه المفاهيم نفسها تمثل الأشياء في العالم. إذن هي اللغة التي تعبر فيها النفس عما يدور في داخلها، حتى وإن لم تعرف كنهها، أو عن ما هو موجود فعلا، وإن خرج بتفوه وبكلمات وأفكار لها دلالتها وعمق معانيها، ولكنها ليست كل ذلك، فما بقي وخفي كان أعظم، ويرى " أرسطو " بأن الرموز " بما في ذلك اللغة " لا يمكنها نقل جوهر الحقائق المعقدة والمجردة بشكل كامل، على الرغم من أن اللغة أداة قوية لتمثل ومناقشة هذه المفاهيم، إلا أنها تظل غير كاملة ومحدودة بطبيعتها الرمزية، ومع ذلك يعرض لنا " جاك لاكان " بقوله ان اللغة البشرية تتميز بأن الاشارات التي تتكون منها، تكتسب قيمتها مع علاقتها مع بعضها البعض.

أن هروبنا نحو الحلم فهو يحمل لغة أيضًا ما لا يمكن قوله في حالة الوعي، يمكن قوله في حالة اللاوعي بوساطة الحلم حيث يكون بعضه ظاهر – سطحي، والآخر عميق له معنى كامن، وهو مؤشر لمعرفة ما يدور في النفس وفي اعماقها دون أن يعلن صاحبها عما يدور بداخله، أليس هذا الشخص يبحث في داله على مدلول مفقود، وكما تعلمنا أن الدال هو المكون الواعي واللاواعي للغة، لم يجده في حياته اليومية منه فهرب به دون أن يدري إلى عالم آخر تقل فيه الرقابة وينام الرقيب ليس عمدًا، بقدر ما هو تحايل على ما يرغب به، وهذه الرغبة جائحه غير مقبولة، ربما يعرف إنها مؤلمة، ولكن لا يستطيع أن يقاوم شدتها وعنفها على نفسه، فهرب بها إلى الحلم وظهرت لغة الحلم، كما يؤكد لنا " لاكان " الفرق بين اللغة كمجال رمزي وبين حواره الداخلي، وإن عبر عنه لاكان عن حساسية المريض في الجانب المعقِلن " لاكان، الذهانات، ص 152".

ألم يقل لنا فرويد ومن جاء بعده بأن الحلم هذاء قصير الأمد؟ ألم يظهر اللاشعور – اللاوعي ويعود بلغة قل على المشتغلين بالعلوم النفسية الآخرى إدراك كنهها؟ وهي حقيقة واقعية.

ألم يعلمنا التحليل النفسي أن عملية التكلم عند الإنسان هي الوسيلة لمجابهة الأكتئاب والضيق والحصر؟ ألم يذكرنا فرويد حينما يطلب الطفل من خالته في الغرفة الأخرى أن تتكلم لأن الغرفة مظلمة وهو يخاف من الوحدة؟

أَولم تكن تلك الكلمات بسحرها لوصف العاشق لمعشوقته في غيابها هو دليل حضورها ولو على مستوى التخييل، يعيد لنفسه نوعًا من الطمأنينة في غيابها فيكون هذا النمط من اللغة نمط إفراغي يبعد عنه دقائق نوبة الحصر وربما تؤدي إلى الكأبة. ما تقدم يؤكد لنا أهمية اللغة ونحن في حالة الوعي، وهو الأمر ذاته في حالة اللاوعي وهو الحلم بلغته، فالوجود يتحدد بوجود الكلام، بالتحدث مع ذاته ليعبر عن ما يدور في داخلها، ولا ننسى تأوهات الإنسان المريض وآنينه، وهي لغة لا تقل أهمية عن لغة العاشق الولهان وإن أختلفت مسارهما ولكن تتفق في بعدها النفسي الداخلي العميق.. ويحق لنا أن نسميها لغة اللاشعور – اللاوعي. لغة المتكلم الذي يبحث عن وجوده فرحًا أو متألمًا، وليبرهن لنا " جاك لاكان " نوعية الترابط ما بين الواقعي والمتخيل والرمزي، إنطلاقًا من أن دخول الإنسان عالم اللغة، أعطى تحقيقًا لوجوده، وهو ما عبر عنه بكلمة المتكلموجودي، أي الوجود مرهون بالكلام.

أن اللغة كما ذكرنا هي مرهونة بالوجود بكل أنواعه، ومنها الوجود الاجتماعي، حيث تعيد للإنسان حضوره، هذا الحضور القائم على الأنس والمؤانسه، حضور يتكيف به الإنسان مع مجتمعه، بلغة التواصل الذي يعتمد على التفكير سواء التفكير التجريدي مثل النكته، أو الفكرة المرمزة لقائلها، أو النكتة السياسية في الشارع، في المجتمعات التي تسجن صاحبها لعدة سنوات في غياهب المطامير وخلف الشمس حتى يطلب منه السجان أن يفقد ذهنه ويحاول محو القدرة على التفكير في العمليات الذهنية التي تميز به الإنسان عن الكائنات الحية الأخرى، وأفضل ما نستشهد به في هذا الموضع هي السجن الانفرادي المفروض على روبنسون كروسو حينما وجد نفسه وحيدًا في جزيرة صغيرة بعيدًا عن كل ما هو بشري واجتماعي، فلجأ "كروسو " أن يتواصل مع اللغة بطريقة مختلفة في عملية تخاطب، هي في الحقيقة مخاطبة للذات، وهي تمامًا يمثل فيها المرسِل والمرسَل إليه في آن معًا، ويقول " بسام بركة " وكأن أطراف العالم الاجتماعي كله قد ضاقت لتنحصر في حدود ذاته ويضيف أيضًا أن " كروسو" يشعر في الفشل في هذه المحاولة، ذلك أنه كما تؤكد نظريات التحليل النفسي ينحصر المستوى الواقعي الخارجي بين المستوى الرمزي " أي اللغة بشكل خاص " وبين المستوى الخيالي. والذات لايمكن أن تحافظ على كيانها، أو تعبر عن مستوياتها إلا بوساطة اللغة، كما يقول " لاكان " – هي ما يصدر عن الكائن الحي بفعل اللغة، والرغبة عند الإنسان هي بالتالي " رغبة في الآخر " وإنشداد نحو الآخر.

***

د. اسعد الامارة

 

تلخيص: موضوعة الجدل او الديالكتيك في التاريخ والفلسفة، قضية جوهرية معقّدة وحاضرة بقوّة على صعيدي الفلسفة والايديولوجيا، مبتدأها في الفلسفة مثاليا بسيطا، يمكننا ارجاعه الى زينون الأيلي وهيراقليطس وصولا الى كانط وهيجل وفويرباخ وأخيرا عند ماركس وأنجلز وفلاسفة ومنظّري الماركسية، بعدهم سارتر في الوجودية وفلاسفة البنيوية شتراوس والتوسير وغيرهم.

ونقر منذ البداية ان هذا المبحث اخذ حيّزا واهتماما بالغين ليس على صعيد الادبيات اللينينية والستالينية والتروتسكية الماركسية، وانما على صعيد ما استجد على الساحة الفكرية والفلسفية بالذات في تناولهم الجدل الماركسي بقسوة تنظيرية غير بريئة في مراميها نهايات القرن العشرين، بدءا بالوجودية ومن ثم البراجماتية الذرائعية العملية الامريكية عند اقطابها الثلاثة المؤسسين تشارلزبيرس، وجون ديوي ووليم جيمس. تلاهم في القرن العشرين الفلسفة البنيوية، والتفكيكية، والتاريخية، والعدمية الخ.

أن مرتكز الجدل المادي التاريخي وبؤرته في الفلسفة الحديثة وعلوم المعرفة هي عند الثلاثي (هيجل، فيورباخ، ماركس) أي في التوليفة المادية الجدلية التي اشترك بأيجادها وصياغتها هؤلاء الفلاسفة الثلاث حصرا، فقد أخذ فويرباخ (المادية)عن هيجل، وأخذ ماركس عن هيجل أيضا(الجدل او الديالكتيك)، بعدها عمد ماركس وانجلز باستقلالية تخليص مادية فويرباخ من تأمليتها الدينية التصوّفية غير الجدلية، وتخليص الجدل الهيجلي من مثاليته المقلوبة غير المادية، ليخرج ماركس بعدها بما عرف بقوانين المادية الجدلية التي تحكم المادة والتاريخ ومظاهر الحياة وايديولوجيا السياسة، وعلم الانثروبولوجيا وهي:

1. قانون وحدة وصراع الاضداد

2. تحوّل التراكمات الكمية الى كيفية(نوعية)

3. قانون نفي النفي

ومن هذا السبق الفلسفي تشظّت تيّارات فلسفية ومعرفية عديدة في تبنّيها أو في مناوئتها وفهمها المغاير للجدل الماركسي، ليس بمعنى عدم أمكانية تفنيده وحسب، وانما بمعنى الخروج عليه ونقده كما فعل سارتر واقطاب البنيوية شتراوس والتوسير وآخرون. وربما نستبق الامور في الحكم على ان تلك المحاولات في دحض الديالكتيك الماركسي باءت بالفشل.

ان اهم نقطة يتمحور حولها هذا المبحث، ليس مناقشة الديالكتيك الماركسي وتفنيده كبنية فلسفية معرفية لا علاقة لها بالتطور التاريخي الانثروبولوجي لمراحل وجود الانسان، او مع الوقع الميداني التطبيقي الذي اعتمده الجدل الماركسي على المادة وعلى الواقع السياسي وفي الاقتصاد والتاريخ كما جرى في التجربة الشيوعية في الاتحاد السوفييتي القديم، كما الماثل الى الآن في تجارب مثل الصين وكوبا وفيتنام وكوريا الشمالية وهو الاهم براينا هنا، اننا نريد توضيح هل كان حقا للديلكتيك التطوري التاريخي فاعلية في التقدم الحضاري البشري المنسوب للماركسية ام لا؟

الجدل او الديالكتيك في الفلسفة الغربية المعاصرة:

كما ونجد تداخلا مفهوميا مربكا في تناول الجدل الديالكتيكي بين تلك التيّارات والمذاهب الفلسفية، فعبارة سارتر على سبيل المثال(ان المادة حقيقة بشرية تكتسب معناها وخصائصها بفعل الانسان فقط). انما تمثل مداخلة خلفيتها واضحة مستمّدة من الجدل الماركسي. وهذه عبارة لا تغني عن كتب ومؤلفات عديدة تفصح تداخل الوجودية مع الماركسية ليس على صعيد الجدل فقط وانما على مستوى جميع القضايا التي تهم الفلسفة والتاريخ والمعرفة والعلوم.

ويقول سارتر في مقدمة كتابه (نقد العقل الجدلي) ان (الماركسية هي فلسفة العصر، وان الوجودية ليست سوى ايديولوجيا تعيش على هامش الفلسفة الماركسية). هذا بمعزل عن القول ان سارتر كان ماركسيا منتميا للحزب الشيوعي الفرنسي قبل انسحابه وقطع علاقته بالماركسية متبنيا الفلسفة الوجودية، وبقيت الافكار الشيوعية حاضرة في خلفيته الفلسفية حينما حاول من دون جدوى خلق فلسفة توفيقية تأخذ عن الماركسية أشياء، ومن الوجودية اشياء اخرى، في محاولته خلق نوع من توليفة فلسفية فيها من التكامل او التجديد في الماركسية وفشلت محاولته تلك. وكان نقده للماركسية لا يخلو من تهمة توجيهه الدوغمائية الفكرية لها حين يعتبر الماركسية تنطلق من مسلمات يقينية قاطعة جاهزة تلبسها وقائع الحياة والتاريخ الانساني قسرا.

واذا كان سارتر قد اخذ على الماركسية اقرارها بوجود جدل الطبيعة واغفالها الانسان في بعده الوجودي، فان سارتر حسب حبيب الشاروني يذهب الى ان الماركسية الحقيقية هي المادية التاريخية حيث التفسير الصحيح لحركة التاريخ.

وفي الوقت الذي يقر سارتر صحة الجدل في تفسير التاريخ، فهو ياخذ على هذا الجدل ملاحظتين، الاولى ان الجدل التاريخي يجب ان لا يلغي الدور الوجودي للانسان بوجوب اذعانه للحتمية التاريخية. الثاني ياخذ سارتر على الماركسية اهتمامها بتفسير الانسان وليس فهمه انثروبولوجيا، ويقصد الجانب النفسي والقيمي.

انه لمن المهم الاشارة الى ان التزييف الذي جعل من الماركسية عقيدة دوغمائية، هو عدم الفهم الصحيح لتاريخ في مؤلفات ماركس. وفي الوقت الذي اكد ماركس ان التاريخ هو من صنع الانسان فان الماركسية المعاصرة قلبت المقولة في جعلها التاريخ يحتم على الفرد ان ينخرط به في حتميته الضرورية التطورية شاء أم أبى .

وفي المنحى ذاته نجد جيرالد كوهين، في كتابه (المادية والصراع الطبقي ص17) ينسب لسارتر تهمة الدوغمائية في ادانته الماركسية: (انه بدون الحاجة الى اعادة بناء الماركسية من الفكرة النقدية، ان الماركسية اصبحت نوعا قبليا وعقائديا من المعرفة التي تضع الاحداث داخل اطار مفاهيمي قبل دراستها، فهي قررت مقدما ماذا يجب ان يكون عليه كل شيء) وفي هذا التعبير تكون الماركسية اضحت من السرديات الكبرى التي يتوجب مراجعتها بنقد معرفي وفلسفي قوي وشفاف، وبذلك اعطى الراية بيد اقطاب البنيوية لتنفيذ ما دعا له.

وقول هيجل (ان الفكرة بدون واقع هي فكرة صورية فارغة لا معنى لها، وتصبح الفكرة حيّة ولها امتداد من خلال الواقع فقط) هي مقولة لا تخرج عن الفهم المادي الجدلي الماركسي المنبثق اساسا من التفكير الديالكتيكي المثالي الذي ادين به هيجل.

لكن هذا لا يعني ان سارتر الوجودي المنشّق عن الماركسية أو التوسير البنيوي المنشّق هو الآخر عن الماركسية لا يعاديان الماركسية بضراوة، فالوجودية والبنيوية كلتاهما فلسفتان تناهضان الجدل الماركسي وتعتبرانه من مخلفّات الايديولوجيا والسرديات الكبرى التي لم تعد صحيحة ولا صالحة في دراسة التاريخ تحديدا وان عبارة أنجلز (ان انهيار جميع الانظمة الفلسفية التأملية أمر حتمّي) هي عبارة أكثر من استفزازية لدى متبنّي الطروحات المثالية ومن بعدهم الوجودية والبنيوية في التزامهم المنهج النقدي المثالي في مواجهة الماركسية بماديتها العلمية الجدلية الرصينة ايديولوجيا.

كما يشن ارتيجا نقدا لاذعا على تبني الماركسية حتمية التطور الخطي للتاريخ قائلا: (الآنية الزائفة، - في اشارة الى الذوات الماركسية المفكّرة -، التي تحدثت عن حتمية تاريخية تخضع الاشياء والبشر لقوانينها، باعتبارهم ضمن اشياء العالم).

يلاحظ الربط الفكري والتعبيري المشترك في تلاقي سارتر مع ارتيجا في نقدهما الماركسية من نفس منطلق انها اصبحت نظرية دوغمائية تحاول الباس الواقع مفردات النظرية الجاهزة المعدة سلفا، وتطويع مراحل التاريخ لمنطلقاتها الفلسفية.

استهداف الجدل الماركسي:

هناك مقولات عديدة فلسفية صدرت عن سارترحول ادانة الجدل الماركسي كانت مثار نقاش فلسفي حاد وعنيف بين الماركسيين والوجوديين والبنيويين على السواء. فقد أصدر سارتر كتابه (نقد العقل الجدلي) وأصدر شتراوس كتابه (التفكير المتوحش) وأقتفى أثره لاكان في كتابه (كتابات) وأستقر المقام مع اكثرهم ضراوة عدائية للماركسية التوسير في كتابه (نقد راس المال) كما اصدر فوكو كتابه (الكلمات والاشياء).

ان المرتكز الاساس في هذه المؤلفات وغيرها العديد كانت جميعها تدين الفهم الجدلي الماركسي ليس من خلال التفنيد النقدي المباشر، في التحليل المادي للتاريخ محاولين (تحويل مفهوم البنية المادية للوجود والاشياء الى مفهوم ميتافيزيقي مثالي) وتسويق الجدل برؤى مثالية بعيدة عن علاقة التأثير المتبادل مع الواقع العيني للمجتمعات البشرية. أي ابعاد الجدل عن محيطه الشغّال في الحياة الاجتماعية والطبيعة والمجتمعات كما سبق لهيجل ذلك قبل تصحيح ماركس جدله المثالي. واعتبار الجدل الماركسي اصبح من كلاسيكيات الفلسفة المعاصرة.

وحين يوجّه النقد من البنيوية والوجودية الى الماركسية في صلب مرتكزها أن العامل الاقتصادي المتداخل بالحراك الاجتماعي هو مبعث التطور الذي يقود الى التغيير والتطور التاريخي، فان البنيوية تعمّدت من جانبها ايضا أعتماد (علم اللغة) الذي يقوم في مختلف توجهاته اعتماد مثالية فجّة في النقد السطحي للمادية، في فلسفتها كبنية محورية لها الدور الحاسم في احداث التطورات التاريخية.

وأهتم كلود ليفي شتراوس باللغة على انها ظاهرة ثقافية تميّز الانسان عن الحيوان – وهي مقولة مقتبسة عن ديكارت وقبله وبعده عشرات من الفلاسفة – وان علاقة ارتباط اللغة الوثيق بالانثروبولوجيا تعتبر المرتكز الاساس الذي بموجبها يمكننا فهم التطور التاريخي، وليس الجدل الديالكتيكي الذي تعتمده الماركسية الذي اصبح من مخلفات السرديات الايديولوجية التي تمت مغادرتها حسب الادانة البنيوية.

وقد كانت لافكار فنجشتين عالم وفيلسوف اللغة، ودي سوسير، وجاك دريدا، ورولان بارت وآخرين، الاثر الكبير في محاولة اعتماد مركزية اللغة في مراجعة وتصحيح تاريخ الفلسفة عموما، وكان اكبر الفلاسفة المعارضين لهذا التوجه هو فيلسوف المنهج التحليلي العلمي الانجليزي براتراند رسل وريث التجريبية العقلانية عن جورج مور وجون لوك وديفيد هيوم، في ادانتهم ان تكون مركزية الفلسفة هي اللغة كما تفهمها البنيوية والتفكيكية على السواء معتبرا ان الاشتغال على اللغة تفكيكيا بلاغيا في ادانة الفلسفة محاولة غير مجدية ويمكن ان تكون هذه الفلسفات قواميس في اللغة لا علاقة لها بقضايا الفلسفة.

كما يجد شتراوس ان التاريخ هو منهج لا ينتسب اليه موضوع بعينه، لكنه يبقى رغم ذلك ضروريا لفحص تكامل العناصر في اي بناء انساني او غير انساني، ونعت التوسير بدوره الايديولوجيا الماركسية بانها ليست افكارا وانما هي اكاذيب جميلة في محاولة عجز فلسفي وهروب من دحض الافكار الماركسية علميا وفلسفيا.

ولتكريس هذا النمط من التفكير المثالي واحيانا التجريدي غير المادي يذهب شتراوس الى أن (التاريخ كعلم ينبغي فهمه من ان طبيعته لا تختلف عن طبيعة الاسطورة). ويفهم من هذا أن التاريخ هو مجموعة أحلام جماعية أسطورية للشعوب والجماعات البدائية لا ينتظمها قوانين تحكمها تطوريّا، لكنما لا تخلو من عقلانية سحرية، وانها مراحل لا تاريخية تتقبّل الشروحات المتباينة الكثيرة عنها وفي دراستها.... بمعنى أكثر تكثيفا أن شتراوس أراد أن يخرج التاريخ من تاريخيته التحقيبية التطورية والحضارية المادية تحديدا وينقله الى مصاف الاساطير والميثولوجيا والسحر، في دراسة التاريخ الانساني في نموذجه البدائي على شكل قطوعات ساكنة لا يحكمها التغيير المتسارع، لذا تكون هذه القطوعات التاريخية بلا تاريخ، او بتعبير ادق خارج التحقيب التاريخي الذي بدأ مع اختراع الانسان الكتابة.

وتاكيدا لهذا المعنى من جانب آخر يذهب (برنانوس) الى ان الانسانية مجردة من اساطيرها ودياناتها، ومستسلمة الى لغة العلم والقوة، انما هي مهددة بالموت بردا، وقد اختفت الميثالوجيا عندما تم اخضاع هذه القوى بالواقع.

الجدل والوجود غير الموجود:

يميّز سارتر بين نوعين من الجدل التاريخي، الاول ويطلق عليه(الجدل الحقيقي) وهو الذي يعتبره خاصّية المجتمعات التي لها تاريخ انثروبولوجي مدوّن، والثاني يطلق عليه (الجدل التكراري) القصير الأجل وهوما تختّص به المجتمعات البدائية التي لا تاريخ لها كما اوضحناه في عبارات سابقة. (1) تاريخ الشعوب يؤرخ بمعرفة الانسان للتدوين.

كما أن سارتر يقارن بين الاثنولوجي، والمؤرخ في فهمهما جدل التاريخ: (اذ يرى الاثنولوجي – اي المؤمن بالتاريخ البدائي- في التاريخ حركة تعرقل الخطوط – يقصد المسارات الحركية التطورية للتاريخ – في حين يجدها المؤرخ في دوام واستمرار البناءات) (2) اللاشعورية والشعورية المستنبطة من دراسة التاريخ بمنهج تأملي واحيانا في تجميع احصائي ميداني يفيد في تعميم خلاصة نتائج الجزء على الكل والخاص على العام وبالعكس.

ويطرح سارتر من خلال الجدل التاريخي اشكالية فلسفية معقّدة، هي الذات الانسانية والوجود الفردي للانسان منطلقا من (ان حقيقة الانسان تكمن في انه الموجود الوحيد الذي يسأل عن وجوده باستمرار، أوهو الموجود المتحقق براكسيا. )(3)أي بالفعل الميداني المنتج.

بمعنى أن الانسان يتساءل عن وجوده المقلق مرّة باعتباره موجودا كمعطى طبيعي انثروبولوجي - بيولوجي، وكينونة انسانية تاريخية متفردّة نوعيا، والتي تكون تساؤلاته الدائمية قرين وجوده المادي البيولوجي المفارق، ومرّة اخرى يكون الانسان هو الموجود المتحقق براكسيا (بالفعل والعمل) كناتج وجوده في الطبيعة وفي تناقضاته الوجودية الدائمة المستمرة مع وعيه لذاته ومع الاشياء والمحيط.

أن هذا السبق الجدلي يعود لصاحبه هيراقليطس الأب الروحي للجدل والتغييرفي مقولته: انك لا تعبر النهر مرّتين، وعبارته الجدلية (ان الوجود واللاوجود شيء واحد موجود وغير موجود) وكما هو مثبّت في تاريخ الفلسفة أعتمد هيجل كثيرا على آراء ومقولات هيراقليطس التغييرية المتحركة، هريقليطس له الفضل والاسبقية الاولى في ان كل شيء بالوجود في حال حركة دائمية مستمرة، وهو المحرك الاول في اختراع هيجل الجدل او الديالكتيك المادي، ومنها هذه العبارة التي مرّت بنا سنوضحها وقد وضّحها هيجل بقوله (ان حركة الشيء تفصح عن ان الشيء موجود وغير موجود ايضا، ) اي ان هيجل يقصد طالما ان (الحركة) تحكم كل شيء موجود، فيصبح حينها وجود الشيء متحركا لا يختلف عن وجوده ثابتا، فهو ثابت ومتحرك في نفس الوقت، لذا هو موجود وغير موجود في محكومية الحركة المستمر له، والحركة تجعل من الموجود (الثابت) غير موجود في وقت واحد او بتعبير اوضح في(آنية) واحدة.

نلاحظ بالعودة الى سارتر انه يعبّر عن رؤى فلسفية ماركسية لم يستطع الخلاص منها لازمته في مرجعية تداعيات فكرية لم يستطع الخلاص من تاثيرها عليه، بأن الوجود الانساني يتحقق بالفعل الانساني(براكسيس) الذي يفارق به حياة الحيوان، كما نجد نفس هذه المداهنة مع الماركسية لدى ليفي شتراوس الاب الروحي للبنيوية قوله (ان للتاريخ والانثروبولوجيا موضوعا واحدا فقط مشتركا، هو الحياة الاجتماعية وان هدفهما الواحد فهم الانسان بشكل افضل واحسن). (4)  معظم فلاسفة الوجودية والبنيوية وغيرها من تيارات فلسفية كانوا جميعهم ماركسيين وشيوعيين لذا نجد صعوبة خلاصهم من خلفياتهم الفكرية التي لازمتهم لاشعوريا .

أن المنهج الجدلي الصارم (انما يفترض احلال المقولات التاريخية، محل المقولات المنطقية وبدلا عنها) (5) بمعنى ان دراسة الانسان تاريخيا في صيرورته المتغيّرة على الدوام، اي في واقعه، العملي والاجتماعي العيني هو ما تؤكد عليه الماركسية، بدلا من دراسة الانسان تاريخيا (صوريا تجريديا وظاهراتيا) في مقولات فلسفية منطقية يجري تداولها على مستوى الفلسفة وعلوم المعرفة.

أي أن تلك المفاهيم المثالية هي التي تقوم عليها ادبيات الفلسفتين الوجودية والبنيوية والتفكيكية والعدمية، في التسليم ان الفكر التأملي التجريدي هو الذي يخلق للانسان تواريخه (مراحل التاريخ) على مدى العصور، التي تنعدم معها الصلة بالانسان كواقع عيني وجودي حيوي متغيّر ومتطّور غير ساكن. اي ان الانسان لا يصنع تاريخه بنفسه نتيجة حراكه الدائم طبقيا اجتماعيا. وهي منطلقات فكرية مغرقة في مثاليتها الى أبعد الحدود. فليس هناك تاريخ انساني لا يصنعه الانسان.

من هنا نرى أهمية عبارة دي لاكروا (ان عصرنا يشهد نهاية المنهج المنطقي في تفسير التاريخ). ليس بتأثير العلم وانجازاته العظيمة فحسب، وانما بأتجاه تأكيد أهمية تغيير الوجود الانساني نحو الافضل على صعيدي المعرفة والفلسفة على السواء. أي ( نهاية الجهد الانساني الذي يحاول الامساك بالعلاقات الثابتة بين افكار محضة تخرج عن الصيرورة التاريخية للفرد والانسانية) (6).

واذا كان المنهج المنطقي الوضعي يفترض أمكانية معرفة الانسان والعالم من الخارج، فأن منهج الديالكتيك يكتشف النفس الانسانية وهي تعي ذاتها تدريجيا او عندما تخلق ذاتها من خلال تناقضاتها وايجاد حلول ومخارج منها لتطوير ذاتها. (7)

أنه مع الاقرار بالاختلاف أن الانسان لا يمتلك طبيعة واحدة بيولوجية، فيزياوية، نفسية لا تختلف وغير متغيّرة او شبه ثابتة، أو طبيعة مشتركة ثابتة لا تتغيّر مع غيرها من نوعها على مّر العصور، نجد البنيوية وقعت في مطب يحسب عليها لا لها، عندما حاولت تأسيس انثروبولوجيا نسقية معرفية تصورية استنباطية، في محاولتها الغاء الجدل المادي التاريخي، وشطب الغائية الحتمية في تطورية التاريخ مراحليا حسب التفاوت الطبقي المتصارع على الدوام في رغبته تحقيق مصالحه الطبقية كما تذهب له الماركسية، سواء في النظر الى دراسة المجموعات البشرية المتعددة من خلال التزامن البنيوي وليس التحقيب التاريخي الذي تعتمده الماركسية، أي أن البنيوية درست مراحل تاريخية لعيّنات قبائلية واقوام بدائية كقطوعات تاريخية ساكنة، وليس من منطلقات التحقيب التاريخي الماركسي والحضاري للصيرورة التاريخية المراحلية المتغيّرة على الدوام في تظافر عوامل عدة تكون سببا في احداث تلك التطورات التصاعدية في التاريخ.

وعلى الرغم من الاختلاف في الطبيعة الانسانية بين الجماعات البدائية من جهة، وبين المجتمعات المعاصرة من جهة اخرى فانه (من الممكن – حسب البنيويون – ان يقوم هناك اتصال حقيقي، وتفاهم ايضا متبادل بين الفريقين المتمايزين. )(8) والمقصود بالتبادل والتفاهم هنا هو ايجاد استنباطات دراسية مستخلصة وفلسفة بناءات تجمع القضايا التي كانت تهم الجماعات البدائية مع المجتمعات المعاصرة من حيث ان البنيوية تذهب الى ان المشاكل والقضايا التي كانت تشغل الانسان قديما وحاضرا هي قضايا مشتركة تقريبا، ولا توجد فروقات جوهرية كبيرة بينها. ومن هذا الفهم والتبادل المقصود بين عدم وجود طبيعة انسانية واحدة ثابتة غير متطورة، وبين الاتصال الممكن الدائم بين شعوب وجماعات الجنس البشري، أعادت انثروبولوجيا البنيوية بصورة متجددة مسألة ايديولوجيا الوجود في تفسير تاريخ الجماعات والاقوام، لكن ليس بالاقتراب من الفهم الايديولوجي الماركسي الذي جرى نبذه وتحريم الأخذ به في الفلسفتين الوجودية والبنيوية.

ولما كانت نقطة الضعف في الفلسفة الوجودية، هي الانطلاق من مسلمة (امتناع التواصل بين الذوات) الانسانية المنفردة، نجد سارتر يستنجد بايديولوجيا الوجود ايضا للخروج من مازقه الوجودي ان الانسان وجود لذاته بدلا من وجوده بذاته الذي اعتمده ولم يستطع تحققه.

نماذج من التلفيق الساذج:

في ندوة للأحتفاء والترويج لأفكار التوسير المعادية للجدل الماركسي اثبّت هنا نموذجين من الابتذال الفكري احدهما لكاتب اسمه علي الرحال في جلسة من اعمال ندوة أقامتها مؤسسة مؤمنون بلا حدود تاريخ 16/5/2016 يقول فيها (يفهم التوسير الجدل على صعيد الايديولوجيا انها بنية جوهرية ومجموعة من الصور والتمثّلات التي تلقي الضوء على المعاناة الانسانية في الواقع المعيشي – ولا يلبث ان يناقض نفسه اي الكاتب مكمّلا على لسان التوسير – وان الايديولوجيا مجرد تصورات فكرية عن عوالم وهمية، رافضا وبشدة مقولة ماركس في وجوب ربط الايديولوجيا بالوعي).

قبل التعليق على ماورد على لسان المنتقد علي الرحال أنتقل الى نفس الكلام في ادانة الماركسية وفي نفس الندوة بعنوان:التوسير.. اعادة قراءة الماركسية بعيون بنيوية، للكاتبة نزهة صادق تقول (دعت البنيوية الماركسيين الى اعادة قراءة الماركسية بعيون بنيوية، وانكار مبدأ الحتمية، وعدم اعتبار العامل الاقتصادي اساس الحركة التاريخية، والاعتراف بدور الدين والثقافة والفكر بحركة التاريخ)

وفي نفس الندوة شارك آخر ثالث بما أطلق على موضوعه (كوميديا الماركسية) التي تسبب له الماركسية السخرية والكآبة !!، ولم أجد في كل ماذكره جملة واحدة او عبارة تستحق الوقوف عندها.

أصحاب هذه الافكار من حقهم التعبير بما يعتقدونه صوابا بالنسبة لهم فقط ولا يلزم ما يعتقدونه غيرهم الوقوف عنده الا من باب أن لا يمّر التشويه الفكري في تحميل الماركسية ما لم تقله وليس بها، وتعليقي ليس دفاعا عن الماركسية الغنيّة عن الدفاع عن منطلقاتها الفلسفية التي لا يدحضها تقادم الزمن بسهولة، ليس لأنها معصومة من الخطأ، ولكن لأن دعاة الطعن بها ومريديهم من المثقفين يبنون تصوراتهم المخطوءة من منطلق الدفاع عن افكار فلسفية مثالية تجريدية غير علمية وهو مايناقض الماركسية ولا يدينها.، يقّر اصحاب تلك الافكار المثالية غير الواقعية بالعجز امام الكثير من الافكار الماركسية المادية التي تؤيد سلامتها مسيرة العلم وتقدم الحياة.

ففي مقابلة مع باحثة متخصصة بافكار التوسيرلا يحضرني اسمها من امريكا اللاتينية(المكسيك) سألت الباحثة التوسير من ضمن اسئلة عديدة، هو انك متهم نتيجة نقدك الماركسية، انك انتجت مجموعة من الخيالات الوهمية والافكار التجريدية التي لا رصيد حقيقي لها تاريخيا، أمام المنهج العلمي ألذي تتمتع بها الماركسية، وكان جوابه المحرج وهو كذلك وليس عندي ما أرد به لتفنيد هذا الادعاء!! اي أنّه بدأ يعي او لايعي، هل أن ماجاء به كان صوابا مقنعا لغيره أم كانت هذاءات فلسفية لا يجمعها رابط تحليلي علمي منهجي يعتّد الأخذ به في ادانة الفكر الماركسي. وبحسب نقاد التوسير فهو اراد تقديم ماركسية بدون ماركس، ومادية تاريخية بدون تاريخ.

أجد من السذاجة الفكرية ان نقّر ان ماركس اعتبر العامل الاقتصادي والاجتماعي المرتبط به، هو العامل الاساس الوحيد الذي تقوم عليه الماركسية في التطورالجدلي المادي للتاريخ في كتاب راس المال، وقد اكّد انجلز ذلك، وأنما أعتبر التناقض والتفاوت الطبقي يتصّدر أولوية عوامل الحراك مع غيره من عوامل في تحقق جدل التغييرالتاريخي، وان الدين والثقافة والفنون(بنى فوقية) لكل واحدة منها دورا تاثيريا متبادلا، ويرتبط بعلاقات جدلية لا يمكن اغفالها مع البنية الاقتصادية والاجتماعية (البنية التحتية)، وهذه البنى الفوقية الثقافة والدين والفنون مفروزة عنها لكنها لا تعدم التاثير والتاثر بها ومعها في احداث جدل التغيرات التاريخية.

ومن نافل القول ان نقول في هذا المجال وان لم يكن هو موضوع دراستنا هذه، بأن الاديان منذ بدء الخليقة والى يومنا هذا لم تلعب دورا تقدمّيا في حياة البشرية حتى نعتبر الدين عامل مهم في دراستنا التطور التاريخي، ونحمّل الماركسية مسؤولية أغماط او مصادرة دورالدين في المقولة المنسوبة لماركس (الدين افيون الشعوب) .

من الصحيح أن الدين أكل من تاريخ البشرية آلافا من السنين لكنه لم يكن بالضرورة عامل تقدم ايجابي في التقدم التاريخي الانساني على المستويات، العلم، التاريخ، والحضارة، بل كانت الاديان والى يومنا هذا عامل حراك في استثارتها لنوازع التقدم المتقاطعة معها من عوامل تحريك التاريخ حضاريا. وأن التقدم التاريخي والحضاري الذي حصل هو من نتاج منجزات العلوم حصريا ولم يكن للاديان اي اسهام به يذكر.

الحتمية التاريخية الماركسية ومابعد الحداثة:

كذلك مسألة الحتمية التاريخية التي تعتمدها الماركسية في المادية التاريخية، وهي مسألة تحتمل النقاش المستفيض، الا انه من المؤكد لا البنيوية ولا الوجودية ولا غيرهما من فلسفات حديثة، أعطت دحضا بديلا منهجيا علميا مقنعا يمكن الأخذ به في اعتبار الحتمية التاريخية التي جاءت بها الماركسية عفا عليها الزمن وأصبحت من مخلفّات الايديولوجيا. فلا تزال ساحة الفلسفة والفكر والمعرفة خالية من نظرية تاريخية تلغي وتبطل النظرية المادية التاريخية علميا وفلسفيا. وبهذا الصدد اشارت الباحثة الامريكية (كميل باليا) بان البنيوية في حجاجها الماركسية أثبتت انها فاقدة الصلابة الفكرية الفلسفية امامها.

وأن من المهم جدا الاشارة له أن الحتمية في التقدم التاريخي لم تكن حكرا على الماركسية فقط، بل أن فلسفات الحداثة وما بعد الحداثة، التي تعارض الوجودية والبنيوية على السواء في منطلقاتها الفكرية، فهي تلتقي مع الماركسية حول الحتمية التقدمية للتاريخ، طبعا من منطلقات لا تعترف بأهمية الجدل في المادية التاريخية حسب التنظير الماركسي التقليدي لها، في تحريك التاريخ نحو الامام.

وتذهب هذه المنطلقات الفلسفية ما بعد الحداثية من واقعة أن الانسان بطبيعته مسكون بتغيير حياته ونشدان تحقيقه الأفضل على الدوام، وبحسب (جيدنجز)، وهو من فلاسفة الحداثة صاحب النظرية الخطيّة العلمية في التطور التاريخي يذهب(أن التاريخ الانساني يصعد من مرحلة الى أخرى صعودا غائيا ارتقائيا دائميا)9 وهي نظرية الحداثة في تطور التاريخ. واضح ان مابعد الحداثة تذهب الى التطور الغائي للتاريخ بفعل ما يشبه (الروح المطلق ) الذي دعا له هيجل مثاليا، ومأخذ الحداثة على التطور الماركسي للتاريخ هو من مصدر الأدانة الايديولوجية الماركسية في تفسير التطور الغائي من منطلقات ثورية طبقية في مسار التغيير التاريخي.

أن نقد تيارات الحداثة وما بعد الحداثة التي تدين التطور الغائي المتصاعد للتاريخ، كما دعت له الماركسية من منطلق الادانة الايديولوجية للتفسير الغائي، وليس الفلسفي حصرا كما تفهمه وتدعو له فلسفات ما بعد الحداثة، وأبلغ تعبير عن ذلك يأتينا من ( يورغين هابرماس) أبرز فلاسفة الحداثة المعاصرين قوله وبنبرة قاطعة (ان أنساق التفكير الكبرى – السرديات الكبرى – قد سقطت ولم يعد لها وجود )10، الحداثة وما بعد الحداثة لا تخفي رفضها وتشكيكها بالتاريخ (الرسمي) المعاصر القائم على اختلاف (الايديولوجيا) الذي كانت تتوزعه ثلاثة اقطاب ايديولوجية، أيديولوجيا الفكر الشيوعي، وايديولوجيا الفكر الرأسمالي، وفكر أوايديولوجيات العالم الثالث بمختلف تنوعاتها الهجينة التلفيقية. هذا هو مجمل الايديولوجيات المؤثرة سابقا والى اليوم في ترسيم التاريخ البشري والحضاري للانسانية.

واضح أن هابرماس يقصد الانساق الكبرى هي سرديات الايديولوجيا التي تتصدرها ايديولوجيا الماركسية. (التي لها حجج تنبؤية بالمستقبل وسقطت سقوط الانساق الفكرية المغلقة، والدعوة موجهة اليوم الى انساق فكرية مفتوحة تتلاقى فيها الافكار المتباينة المختلفة). 11وهذا تأكيد أدانة صريحة هدفها الاساس النيل اكثر من (الايديولوجيا) الماركسية. الا ان ما يحسب لهابرماس في دعوته فتح قنوات التواصل امام الجميع تحمل الكثيرالمطلوب مما يحتاجه العصر والحضارة العالمية.

لكن أدانة التطور الغائي حداثيا لم يسلم هو الآخر من نقودات لاذعة خارج مدارات التفلسف والايديولوجيا، في ( أعتبار أن حكاية التاريخ الصاعد في المجتمعات المختلفة كلام باطل، والا لماذا ظهرت الفاشية والنازية لو أن المسألة تتعلق بالارتقاء الصاعد كما يزعم انصار الحداثة، فالحقيقة ان التاريخ ليس صاعدا على الدوام بل قد يرتد ويتراجع ومن ثم يتقدم، ونظرية التقدم التاريخي المطلق قول لا اساس له من الصحة)12.

وهذه الانتقادات اللاذعة هنا تدين الارتقاء الايديولوجي للتاريخ وحصرا ايديولوجيا الماركسية، بنفس وقت ادانتها للارتقاء التاريخي (الفوضوي) الذي تنادي به الحداثة وما بعد الحداثة. علما ان البنيوية لا تؤمن أصلا بوجود تاريخ كانت لارادة الانسان دورا في تشكيله وانبثاقه. وبذا تبقى الغائية او الحتمية التاريخية تدور في دائرة مغلقة لا يعرف أمدها ولا مبتغاها يوصل الى اين.

***

علي محمد اليوسف

.............................

الهوامش

1. عبد الوهاب جعفر/ البنيوية في الانثروبولوجيا وموقف سارتر/ص204

2. المصر السابق نفسه ص 199

3. المصر السابق ص 211

4. المصدر السابق ص 216

5. المصدر السابق ص 222

6. المصدر السابق ص 225

7. المصدر السابق ص 231

8. المصر السابق ص 237

9. ا. سيد ياسين، نقلا عن ندوة فكرية، الحداثة وما بعد الحداثة، ص 19

10. نفس المصدر السابق ص 20

11. نفس المصدر ص 20

12. نفس المصدر ص21

يمكن القول ان مفهوم الحكمة لا يتناسب بشكل مريح مع مجتمع المساواة المضاد للنخبوية. في عصر تهيمن عليه المادية والاستهلاكية والعلم والتكنلوجيا، والتخصص وتقسيم العمل، سيكون المفهوم فضفاضا جدا وكبيرا جدا وشديد الغموض. حينما تكون رؤوسنا معلقة في التلفونات الذكية والاجهزة اللوحية، ومنشغلين بالفواتير والكشوفات البنكية، سوف لن يكون لدينا وقت او مساحة ذهنية لمفهوم الحكمة وحتى للفكرة. لكن الاشياء لم تكن دائما بهذه الصورة. ان كلمة "حكمة" ظهرت 222 مرة في العهد القديم، الذي يتضمن جميع كتب الحكمة السبعة: ايوب، المزامير، الأمثال، الجامعة، نشيد الانشاد، كتاب الحكمة، وسفر سيراخ.

هنا بعض ما ورد في سفر الجامعة (الواعظ) Ecclesiastes 7:12:

فالحكمة هي دفاع، والنقود دفاع: لكن الحكمة كأعلى شكل للمعرفة تحفظ حياة منْ يمتلكها(1).

 ان كلمة "فلسفة" تعني حرفيا "حب الحكمة"، والحكمة هي الهدف الشامل للفلسفة، او على الاقل، الفلسفة القديمة.

في حوار ليسز لافلاطون، يخبر سقراط الشاب ليسز بانه بدون الحكمة سيكون بلا قيمة لأي شخص آخر: ولذلك، ايها الولد، اذا كنت حكيما، كل الناس سيكونون اصدقائك وعشيرتك، لأنك ستكون مفيدا وجيدا، لكن اذا لم تكن حكيما، سوف لن يحبك ابوك او امك ولا عشيرتك او أي شخص آخر.

الراعية إلهة اثينا، مدينة ليسز، هي إلهة الحكمة، التي تنبثق من جمجمة زيوس. رمزيتها، ورمزية الحكمة، هي البوم، الطير الجارح الذي يشق طريقه اثناء الظلام.

في الحقيقة ان "الحكمة" تُشتق من أصل هندو- اوربي بدائي، "يرى". في الاساطير الاسكندنافية، قام اودين بقلع احدى عينيه وقدمها الى ميمير مقابل شراب من المعرفة او الحكمة الجيدة، رمزيا يعني استبدال نمط من الإدراك بنمط آخر أعلى منه.

الحكمة كمعرفة

لكن ما هي بالضبط الحكمة؟ الناس غالبا ما يتحدثون عن "المعرفة" و "الحكمة" كما لو انهما شيئا واحدا. هناك احدى الفرضيات بان الحكمة معرفة، او كمية كبيرة من المعرفة. اذا كانت الحكمة معرفة، عندئذ يجب ان تكون نوعا معينا من المعرفة، كما في تعليم سجل التلفون او أسماء جميع الانهار في العالم، ربما تُعد حكمة. واذا كانت الحكمة نوعا معينا من المعرفة، عندئذ هي ليست معرفة علمية او تقنية، وسيكون كل شخص معاصر أكثر حكمة من الفلاسفة القدماء. سيكون أي شاب تارك للدراسة في القرن الواحد والعشرين أكثر حكمة من سينيكا او سقراط.

لنتذكّر: ان معبد الالهة أعلن ان سقراط هو اكثر الناس حكمة ليس لأنه عرف كل شيء وانما لأنه عرف مدى ما لايعرف.

لايزال، يبدو ان الحكمة اكثر من "المعرفة السلبية"، او بدلا من ذلك انا ربما اكون مشكك للغاية حول كل شيء ومع ذلك اعتبر نفسي حكيما به. او ان الحكمة تعتمد على امتلاك معايير ابستمية عالية، امتلاك معيار عالي للاعتقاد بشيء ما، وحتى معيار عالي لتسمية تلك العقيدة معرفة.

الحكمة كرأي صحيح

في حوار مينو لافلاطون، يلاحظ سقراط ان الناس ذوي الحكمة والفضيلة يبدون فقيرين جدا في نقل تلك الخصائص. ثيموستوكلس كان قادرا على تعليم ابنه كليفانتوس مهارات مثل الوقوق منتصبا على ظهر الحصان ورمي الرماح، لكن لم ينسب احد قط الى هذا المسكين أي شيء من حكمة والده، ونفس الشيء يقال عن ليسيماخوس وابنه ارستيدس، وبيركليس واولاده. اذا لم يكن بالامكان تعلّم الحكمة، حتى بواسطة احكم شعب أثينا، عندئذ هي ليست نوعا من المعرفة.

يسأل مينو، اذا كانت الحكمة لا تُعلّم هل ظهر اناس طيبون في أي وقت مضى؟ يجيب سقراط بان الفعل الصحيح ممكن تحت اشراف من هو ليس صاحب معرفة: الفرد الذي لديه معرفة بالطريق الى لاريسا (مدينة في ثساليا) ربما يعطي ارشادا جيدا، لكن الفرد الذي لديه فقط الرأي الصائب حول الطريق، ولم يكن يعرف عنه ابدا، ربما يعطي وبنفس المقدار ارشادا جيدا. طالما لايمكن تعليم الحكمة، فهي لا يمكن ان تكون معرفة، واذا لم تكن معرفة، فهي تكون فقط رأي صحيح – هذا يوضح لماذا لم يتمكن حكماء مثل ثيمستوكلس و ليساماتس و بيركلس من نقل حكمتهم حتى الى اولادهم . الناس الحكماء لايختلفون عن العرافون والانبياء والشعراء الذين يقولون العديد من الاشياء الصحيحة عندما يستلهمون دينيا لكن لا معرفة واقعية لديهم بما يقولون.

الحكمة كفهم للأسباب

ارسطو يعطي فكرة اخرى في الميتافيزيقا عندما يقول ان الحكمة هي فهم الأسباب. لا واحدة من الحواس الخمس تُعتبر حكمة لأنها رغم انها تعطي معرفة حسية موثوقة، لكنها غير قادرة على تمييز الاسباب البعيدة لأي شيء.

ونفس الشيء، نحن نفترض الفنانين اكثر حكمة من الحرفيين لأن الفنانين يعرفون سبب الشيء، ولهذا يمكنهم التعليم، بينما الحرفيين لا يستطيعون ذلك. بكلمة اخرى، الحكمة هي فهم العلاقات الصحيحة بين الاشياء التي تستدعي مزيد من المنظورات البعيدة المُزاحة، وربما ايضا القدرة او الرغبة للانتقال بين المنظورات.

في نزاعات توسكولان، يقتبس شيشرون نموذج حكمة لفيلسوف ما قبل سقراط اناكساجوراس الذي حين اُبلغ بوفاة ابنه قال، "كنت أعلم اني سأموت". بالنسبة لشيشرون، الحكمة الحقيقية تعتمد على إعداد المرء نفسه لكل الاحتمالات لكي لا يندهش او يؤخذ على حين غرة. ومن الصحيح ان الحكمة، التي هي فهم الاسباب والارتباطات، ارتبطت الى الابد بكل من الفهم العميق والاستشراف.

طريقة للرؤية

باختصار، الحكمة ليست نوعا من المعرفة بنفس المقدار الذي تكون فيه كطريقة للرؤية. عندما نتخذ خطوات للوراء، مثل عندما نستحم او نذهب في إجازة، نحن نبدأ في رؤية الصورة الأكبر. في اللغة المشتركة، "الحكمة" لها مضادان: "السخافة" و "الحمق"، واللذان كلاهما مشتقان من الكلمة اللاتينية follies، وتستلزم على التوالي، النقص وفقدان المنظور.

في غرس منظور اوسع، من المفيد، بالطبع، ان يكون قابل للمعرفة، ولكن ايضا من المفيد ان يكون ممكن التفكير فيه، مفتوح الذهن، وغير متحيز – ولهذا يبحث الناس دائما عن نصيحة "مستقلة".

فوق كل ذلك، من المفيد ان يكون المنظور شجاعا لأن النظرة من الأعلى، مع انها قد تكون مبهجة، وبالنهاية محررة، لكنها قبل ذلك هي مخيفة ... لأنها تصارع مع الكثير مما تعلّمنا الاعتقاد فيه. الشجاعة، طبقا لارسطو، هي اول الصفات الانسانية لأنها هي التي تتوقف عليها كل الصفات الاخرى.

Psychology Today, May23, 2025

***

حاتم حميد محسن

.......................

الهوامش

(1) في تفسير للعبارة هي انها تسلط الضوء على الفوائد المتفوقة للحكمة على مجرد المعرفة. انها تعني ان الحكمة الحقيقية ليست فقط في تراكم المعلومات وانما في ما يمكّن الفرد في النهاية من عيش حياة هادفة ذات معنى ومنجزة.

 

المدخل: غالبا ما تعتبر الأسطورة باللبنة الأولى للفكر الإنساني، لكنها تزخر بالخصوبة رغم بساطتها وبرائتها الجذابة. ولكونها ولیدة التماس مع الواقع والطبیعة، فانها تعكس خفایا الشعور واللاشعور معا. لذا یقتات الأنسان علی مر العصر منها معاني ودلالات حول ما كان، وما هو كائن وما یكون.  فالسردیات الأسطوریة لیست ولیدة الماضي، بل ان الدول والنزعات الطائفیة والعرقیة والأیدولوجیة، او ماتسمی بنظریة المؤامرة تستند الی اساطیر وسردیات مفبركة.

لذا، اعتقد 'كاسیرر' في كتابه ' مقال عن الإنسان: مقدمة لفلسفة الثقافة الإنسانية '، بأن ' العالم الأسطوري يبدو عالمًا مصطنعًا، ذريعةً لشيء آخر'. ویقتبس رأي 'مالينوفسكي' بأن "كل أسطورة تمتلك كنواة أو حقيقة نهائية بعض الظواهر الطبيعية أو غيرها، منسوجة بشكل متقن في حكاية إلى حد يكاد أحيانًا يخفيها ويمحوها". أو كما یری 'فریزر' بأن "للأسطورة وجهان. فمن جهة، تُظهر لنا بنية مفاهيمية، ومن جهة أخرى، بنية إدراكية". 

كذلك، تُعدّ الأسطورة والدين من بين جميع ظواهر الثقافة الإنسانية، أكثر عصيانًا على التحليل المنطقي المحض...إن كان هناك ما يميز الأسطورة، فهو كونها "بلا نسق ولا منطق". مع ذلك، یر كاسیرر أنه "لا توجد ظاهرة طبيعية ولا ظاهرة من ظواهر الحياة البشرية لا يمكن تفسيرها بشكل أسطوري ولا تستدعي مثل هذا التفسير".

I- المشهد المرعب للكون

عندما جابە الانسان الأحداث والتغیرات البیئیة والتحولات الطبیعیة والكونیة/ السمائیة، حاول الإحاطة بها وفهمها ضمن نسق فكري عالي بسیط. وذلك من خلال ربط النتائج بما تخیل لە كأسباب موضوعیة أو ذاتیة.

فالقلق الذي اغمر الانسان البدائي جراء الوصول الی اجوبة مقنعة وملموسة، أرغمه علی التفكر والتفلسف. لأن الدافع الذاتي للبحث عن الاجوبة ومعرفة مصیره في الحیاة وتحدید اسباب الموت والتباین بین الوجود والعدم، دفعە نحو تفسیر اسطوري وسردي لمجریات الامور. 

ومن هنا، توجد علاقة متینة بین الاسطورة والفلسفة. فبنیة العلاقة، تتشكل في السؤال الوجودي للانسان البدائي ان صح التعبیر، حول الكون، الحیاة والموت، والخلود والسعادة والخ. لذا، اعتقد (باول رادین) بان الانسان البدائي بمثابة فیلسوف1.

فإذا أمعنا النظر في 'الكون' كمسرحا للاحداث، تبدو كمشهدا مرعبا لجریانات الطبیعیة وتحولاتها المستمرة. لذا فمنذ القدم، استقرت الظواهر في الفكر البشري وارغم هواجسە علی التعاطي مع الأمور وفهمه.

ولما كان الفهم محدودا، كان الخیال ثریا ومتجاوزا. لذا كان مستوی الوعي في فهم العلل والاسباب وراء الاحداث والتغیرات بدائیا، اناط الامر بالخیال السردي. ولأن الحاجة الماسة الی اجوبة مقنعة، كانت الهاجس المهیمن، صاحب الخیال القلق أيضا.

والاجوبة المكتسبة، كانت إما ملموسة وعینیة أو مجردة وعمومیة. فصعب علی العقل فهم الاجوبة المجردة اللاعینیة بدون تجسیدها علی هیئة حیوانات أو كائنات فائق القدرة وخارقة للطبیعة. فلذلك وجدت للأجوبة موطنا في الخیال وفي التفسیر الأسطوري سبیلا.

لكن العقل/التفكیر الذي سلك الطریق الملموس والأسلوب المیكانیكي- ان صح التعبیر-، ارغم الانسان علی التفلسف. لكون الفلسفة آلیة واعیة لمجابهة التغیر وفهما جذریا. لذا ادی الفهم الفلسفي الی التفلسف، اما الخیال الی التدین في شتی انواعه. لكن قوة التخیل للانسان البدائي، للقوی الماورائیة سعی الی تجسیدها في هیئات مرئیة 'طوطمیة'.

II- خصائص ووظائف الفكر الاسطوري:

لقد اعتبر 'اوغست كونت' الفكر الاسطوري أولی ارهاصات الفكر لانساني. لكن، اذا نظرنا الیها من خلال 'العودة الأبدیة' للأسطورة حتی في المجتعات المعاصرة، یمكننا إضافة ادوار للإسطورة في الحیاة.

علی الرغم من ان الباحث المشهور 'جوزیف كامبل' لخص دور الأسطورة في أربعة أمور: الوظيفة الصوفية- الميتافيزيقية- تلهم الفرد شعورا بالرهبة والامتنان تجاه غموض الكون. الوظيفة الكونية، تقدم صورة للكون من خلال ربط المعرفة المحلية والتجربة الفردية. الوظيفة الاجتماعية، تثبت معايير المجتمع وتدعمها وتطبعها في الفرد. وأخیرا، الوظيفة النفسية-التربوية- ترشد الفرد خلال مراحل حياته، ضمن سياق تلك الثقافة المجتمعیة. (كامبل قوة الاسطورة ٥٦).

لكننا، نضیف وظائف أخری لها:

- الوظیفة التعلیلیة، أو التعبیریة؛ تكمن في ارجاع الاحداث والتغیرات الی علة ما.

- الوظیفة الابداعیة التخیلیة: الخیال والتخیل لتجاوز حدود الواقع الملموس والطبیعي للحیاة.

- الوظیفة الترانسندتالیة؛ تجاوز لما هو واقع وكائن.

- الوظیفة الأونتولوجیة: لماذا الوجود وماهو، ومن اوجده.

- الوظیفة السردیة: تأریخ الاصول والازمنة عبر السرد اللازمني.

- الوظیفة الرمزیة؛ ترمز الی معضلات الحیاة كالبٶس، الموت، الجوع والخ...

- الوظیفة السلطویة؛ تبریر سلطة جماعة، أو ملك وسن القوانین الاخلاقیة باسمه.

- الوظیفة التذكیریة؛ التذكیر بأمور ومأل الاحداث او بمثابة الذاكرة الجمعية.

- الوظیفة السایكولوجیة: تجسید للخوف، القلق، العدم والحزن والأسی. او تعبیرا للفرح والمباهج وانبعاث الدهشة كرد فعل داخلي للانسان تجاه الخارج.

- الوظیفة الثقافیة: كیفیة التعاطي مع الآخر وتحدید هویة الغیریة (الامم والثقافات) والتي تطفو بین حین وآخر علی مسرح الاحداث المتمثلة  في الحركات الشعبویة، الیمینة والدینیة المتطرفة.

- الوظیفة التفسیریة: مثلا فسر افلاطون حرب طروادة بالتفسیر المیتافیزیكي واخلاقي، لكي یوظفها في افكاره الفلسفیة أو كأسطورة الكهف والخ...

III- الفرق بین الیونان والشرق

الخلاص والنجاة من 'الدنیوي' من خلال التأویلات الاسطوریة لما یأتي مستقبلا، تخیل الآخرة تظهر في كافة الآساطیر تقریبا. لكن الیونان مثلا، لم یعتقدوا حرفیا بتلك الاساطیر كما یقول المفكر الفرنسي (بول فاین). بل تعاطوا معها كمنبع للذة والتمتع.

أما الأساطیر في الشرق فقد استخدم كالعلم والفن، ولكن لأغراض میتافیزیكیة، أخروية. أي  لمطلب عملي، هو الخلاص ولأجل الوصول الی الاخرة، الحیاة الأبدیة مابعد الموت. في حین استخدمه الیونان لمطلب علمي ونظري بذاته .

لانبالغ اذا قلنا ان العقل الیوناني، رغب في الاسطورة بدافع التلذذ والمتعة والخیال في السردیات الاسطوریة. لأنها رأت فیها القوة التولیدیة المحركة للخیال والسرد وتجسیدا للعوالم الخفیة بلغة الرموز والاشارات. التخیل كمفاعل التمثیل والمحاكاة لعلاقة الانسان بالعالم والطبیعة.

فالأسطورة الیونانیة علی الرغم من انها تحتوي علی اشارات میتافیزیقیة لمعركة الآلهة، الا انها ترمز بشكل مباشر الی الانسان ولیس اله كما هو في الاساطیر الشرقیة.

فكانت غایة الأسطورة في السیاق الیوناني؛ تأسیس لعلاقة الانسان مع ذاته من خلالها، ولیس الوصول أو التوسل الی قوی خار‌قة خارج الطبیعة. وسمة أخری كتابة وتدوین الأساطیر حصل بالفعل. في حین أن النص الأسطوري في الشرق بقی شفویا متنقلا بین الشعوب.

IV- الخلاصة

الأسطورة، رحم الادیان والفلسفة والعلم والادب والفن أیضا. فانها تجسد الواقع/الطبیعة بلغة رمزیة. كما أنها اثرت في النص المسرحي والفلسفي والشعر الملحمي وحتی العلمي أیضا. كما أن النص الاسطوري عبارة عن وعاء ثمین، یقتات الفیلسوف منها وینهال من الرموز والخیالات الواسعة، لتأسیس نظریة فلسفیة.

 فالرأي القائل بأن الاسطورة مجرد نتاج اوهام وتخیلات أولیة للبشریة في المراحل البدائیة، سطحي نوع ما. فعلی الرغم من أن التطور طرأ علی الحیاة المعاصرة، تطفو الأساطیر علی السطح وتظهر خبایا حیاة الانسان.

وهذا یعود الی حقیقة بسیطة: أن الانسان كائن اسطوري ومبتكر الاسطورة أیضا. فالاساطیر لم تنزل من السماء، إنما معراج الفكر الأنساني من الارض الی ماوراء الطبیعن بأشكال مختلفة.

وعلی الرغم من ان التعبیر والترتیب الزمني للمرویات الأسطوریە، لا یشكل التأریخ الفعلي للعصور، الا انها تدل وتعكس حقیقة العقلیة والحالة النفسیة وخفایا النظم الاجتماعیة والسیاسیة والدینیة للمجتعات عبر التاریخ.

فالانسان المعاصر ابتكر العدید من الاساطیر عن الحیاة والموت، اوحی الفن والموسیقی والادب. اذن، الاسطورة موروث ثقافي وحضاري لكل المجتمعات البشریة.

***

د. نوزاد جمال

باحث واستاذ في الفلسفة الحدیثة / سلیمانیه- اقلیم كردستان العراق

.....................

1- Paul Radin: Primitive Man as Philosopher 1927

 

لا يبدو لي مازقا لا يمكننا تجاوزه والخلاص منه حينما يقول فولتير "الارادة ليست حرة اما افعالنا فهي حرة". هذا التناقض البادي منطقيا يلزمنا القول الارادة هي وعي الذات بموضوعها. والارادة ليست غفلا طارئا يحددها الموجود المدرك موضوعا وكينونة مستقلة. الارادة هي الوعي القصدي الذي يلازمه هدفه المسبق قبل التوجه الوصول لموضوع ادراكه. هذا ما قال به هوسرل في فلسفة الظواهر حول الوعي القصدي وناقشت هذا الرأي الاحتمالي القابل للدحض في غير هذا المقال..

وهذا يحيلنا الى مفارقة تناقضية اكبر من الاولى حول الارادة تلك هي اذا كان الوعي القصدي يلازمه هدفه المعرفي معه قبل ادراكه لموضوعه الخارجي المستقل عنه. فمعنى هذا ان موضوع الادراك بالنسبة للوعي هو الذي يكتسب خاصيته المعرفية الهادفة التي يتوخى الوعي القصدي أن يجدها في موضوع ادراكه ولا يحملها معه وهو خطا. اي ليس هناك حاجة لادراك موضوع لا يكتسب فيه الوعي معرفة مضافة له نتيجة ادراكه لموضوعه. الوعي جوهر عقلي لا يدرك شيئا ليس له قيمة معرفية تضيف له خبرة مكتسبة او على الاقل تخارج معرفي بين الوعي ومدركاته.. فالحواس والعقل لا يشتغلان على شيء هو موضوع يدركانه لا معنى معرفي له. الموضوع قيمة ومعطى في الطبيعة والعالم الخارجي. أي الوعي لا يخلق موضوع إدراكه بل الموضوع يخلق الوعي به. الوعي غير محايد بل هو يدخل بعلاقة تكامل معرفي مع موضوعه. ثم الموجود كموضوع ليس له حظوظ الحضور الادراكي الذي يلفت اهتمام العقل التفكير به الا اذا كان يحمل خبرة معرفية مدخرّة فيه. الموضوع المجرد عن مضمون يعيه العقل خبرة مضافة لا وجود ولا قيمة له.. ولا يمكن تحقق موجود شكل بلا محتوى.

خطأ هوسرل في الفينامينالوجيا فلسفة الظواهر هو ان الوعي القصدي يحمل هدفه الادراكي معه لينقب ويبحث عنه كي يجده في موضوعه. الوعي القصدي الحامل لهدفه لا يحتاج ادراك موضوع يتخارج معه معرفيا. لذا مقولة هوسرل الوعي القصدي يحمل هدفه الادراكي الذي يبحث عن تكامله الوجودي في الموضوعات التي يدركها خطأ. الوعي القصدي على مستوى التفكير الانفرادي المجرد هو لاثبات الوجود الانطولوجي - المعرفي كما جاء به ديكارت في الكوجيتو انا افكر... اما الوعي القصدي على صعيد الادراك التخارجي معرفيا مع موضوعات العالم الخارجي فهو ليس التفكير لاثبات الوجود الانطولوجي للفرد الذي يفكر بل هو التكامل المعرفي في وعي موضوعه. الوعي القصدي اختراع فلسفي بالضد من ديكارت حين اعتبر التفكير مجردا من التعريف بموضوع التفكير هو ضرب ناقص من الوهم. الحقيقة التي سبق لنا اثباتها ان لا وجود لفاعلية تفكيرية خالية من موضوع يحتويه التفكير.

هنا نصطدم بتساؤل إلتباسي معقد بعض الشيء هو هل الخاصية المعرفية جوهرا يدركه الوعي موجود بموضوعه أم الخاصية المعرفية موجودة بالوعي القصدي الذي يحمل هدفه معه قبل ادراكه لموضوعه كما يعبّر عنه هوسرل ويرغبه !؟ الذي بدوره أي الوعي العقلي يخلع معرفته السابقة على موضوعه المدرك. كلتا الاجابتان عن التساؤل سوف توقعنا بالخطأ. لماذا؟

بداية الوعي بالاشياء والموضوعات هو ليس الانطباعات الاولية التي تنقلها الحواس بل الوعي هو رد فعل تفكير العقل بالموجودات والمواضيع. الوعي حين يختار موضوعه فهو يمتلك خبرة عامة عن موضوعه اي تصورات قبل ادراكه لكن هذا لا يعني الوعي يمتلك هدفا متكاملا يقصده في ادراك موضوعه. فالموضوعات الغفل الصدف وما اكثرها التي يواجهها الوعي اول مرة ويتعامل معها لا تخضع للمعيار التي سبق اشرنا له. اي تكون الموضوعات مادة خام لا يعرف عنها الوعي شيئا مسبقا قبل مواجهته لها. وليس معنى ذلك ان موضوعات الصدف الغفل يمنحها الوعي القصدي معرفة مضافة. بل الوعي بالمدركات هو عملية تخارج معرفي احدهما يغني الاخر ويثريه. الوعي فعالية عقلية هي رد فعل الدماغ عن مدركاته، بمعنى الوعي يمتلك تصورات عقلية سابقة لعملية ادراك الموضوعات الحسية وليس الموضوعات الغفل موضوعات الصدف.

قبل الاجابة عن التساؤل هل معرفة الشيء تتم بالادراك الحسي ام بالوعي؟ اود تثبيت ان الوعي القصدي الذي اخترعه برينتانو واخذه عنه تلميذه هوسرل في منهج الفلسفة الظاهراتية بدعة خاطئة ابتدعوها فلاسفة الفينامينالوجيا من بينهم سارتر وهيدجر وميرلوبونتي في الرد على الكوجيتو الديكارتي انا افكر... وسبق لي مناقشة هذه البدعة في اكثر من مقال منشور لي .

بضوء ما ذكرناه الاجابة الصحيحة ستكون علاقة الوعي القصدي بموضوعه علاقة تكاملية تخارجية معرفيا وليس علاقة جدلية ديالكتيكية تقوم على قانون نفي النفي في استحداث المركب الجديد في الظاهرة المستحدثة. فوعي الموضوع لا ينفي وجوده بل يتكامل معرفيا مع الوعي الانفرادي له. بابسط تعبير علاقة الوعي بموضوعه أخذ وعطاء. العقل لا يعي ما ليس له معنى و قيمة والوعي العقلي غير محايد. ادراك الوعي بخلاف ادراكات الحواس التي تكون محايدة بل وقاصرة في نقلها الانطباعات الاولية بصدق عن المحسوسات.. حين نقول وعي الموضوع هو عملية تخارج معرفي انما نقصد به (التغيير) في كليهما الموضوع والوعي معا. فالوعي لا يعي مدركاته لمجرد الوعي المحايد لها. الوعي هو تفكير تجريد العقل في تعبيره عن مقولاته في الموضوعات وحين يدخل الوعي في عملية تكامل وتخارج مع موضوعه فكلاهما الوعي والموضوع يتبادلان التغيير المعرفي التخارجي التكاملي بينهما. نفس هذه العلاقة تربط الفكر بالمادة فالفكر الذي يغني المادة يكون بالضورة المعرفية التخارجية يغتني ويتطور هو ايضا بالمادة.

من هنا نجد فرق ادراك الحواس لموضوعاتها هو ادراك محايد (نقل انطباعات) لا تربطه علاقة تفاعل وتخارج معرفي بين الحواس والمواضيع التي تدركها فهي أي الحواس ناقل الانطباعات الاولية الادراكية التي هي الاحساسات للذهن فقط.. باختلاف ادراك الوعي لموضوعاته ليس ادراكا محايدا بمعنى واسطة نقل الاحساسات التي يكتسبها من موضوعاته بعلاقة محايدة كما هو في دور الحواس غير تخارجية وتكاملية معرفية. بل علاقة الوعي بموضوعه هو عملية تداخل معرفي بينهما. هذا معنى اشار له كانط ان العقل يتناول موضوعه باثنتي عشر مقولة من مقولة العقل وهذا يوضح قولنا الوعي ليس محايدا في ادراكه وتعامله مع موضوعاته فهو يدخل بعلاقة تخارج معرفي وليس تخارج ديالكتيكي. ويكون الوعي مزودا بمقولات العقل الاثنتي عشر مقولة عن الموضوع المدرك حسبما اجملها كانط. الوعي بكل شيء لا ياتي من فراغ ولا يحدده الموضوع بل مصدره العقل وهو الذي يحدد وظيفة الوعي ايضا. ملاحظة مهمة العقل لا يخترع موضوعاته بل المحسوسات التي مصدرها الحواس تزوده بها.

الادراك العقلي بمعنى التفكير ليس من اجل اثبات وجود الذات انطولوجيا كما ذهب له ديكارت انا افكر اذن فانا موجود وليس مهما في الكوجيتو كيف تمت عملية معالجة الوعي لمدركات التفكير المجرد. بل العقل يهمّه الاصطدام بالحقيقة المباشرة هو لماذا تختار الحواس والذهن والدماغ هذه الموضوعات دون غيرها.؟ صحيح يصادف العقل احيانا الاصطدام بموضوعات طارئة غفل مصادفة عشوائية غير متوقعة ولا مناص للوعي من التعامل معها مع الحذر الشديد الوعي ليس هو العقل بل الوعي وسيلة العقل في معالجة موضوعات ومدركات العقل.. لكن اغلب مدركاتنا من الاشياء في اختيار الموضوعات مسبقا يكون مصدرها المحايثة الموجودة في الوعي في أهمية ما تختاره الحواس والعقل من موضوعات للمعالجة التغييرية وماذا يقول العقل او بالاحرى بعض خلايا الدماغ بشأنها..

الارادة فلسفيا

عندما يقول فولتير الارادة ليست حرة بل هي مقيّدة بمعيقات وكوابح الاعاقة في الوصاية عليها امر يحمل وجهات نظر مختلفة عديدة متباينة. فالارادة خاصية جوهرية للذات التي تقود الوعي القصدي نحو تحقيق اهدافه. الذات حرة بالفطرة البيولوجية فمثلما يكون الانسان كائنا عقلانيا وكائنا ميتافيزيقيا وكائنا لغويا وكائنا زمانيا فهو كائن حر ايضا بالطبيعة البيولوجية الفطرية لتكوينه (متى استعبدتم الناس وقد ولدتهم امهاتهم احرارا؟) يسعى لاسترجاع حريته بكل وسيلة في حالة استلابها منه. لكن هذه الحرية لا تسري على الارادة في اتخاذ قراراتها الانفرادية بسبب كوابح ومعيقات عديدة. الارادة امتلاك فردي غريزي بيولوجي تصبح موضوعا للمجموع متى ماجرى الافصاح عنها بالفكر او في السلوك. بمعنى تحول الارادة الى فكر او سلوك نفسي عملي يفقدها خاصيتها الانفرادية لتصبح ملك المجموع.

شوبنهاور في عنونة كتابه المعروف "العالم ارادة وتمّثل" كان يرى صدقية وحرية الارادة أنها معطى بيولوجي فطري بمعنى ليس هناك من تاثير كبير في الوصاية التي تحد من حرية الارادة اتخاذها القرارات. وأجد في عنوان كتاب شوبنهاور خطا تراتيبي فالتمّثل يسبق الارادة عليه كان الاكثر معقولية ان يعنون شوبنهاور كتابه "العالم تمثل وارادة" فالعالم الموجود يسبق الفكر عنه. من حيث اننا نحتاج تمّثل عالمنا الخارجي استيعابا معرفيا كي يكون كفيلا ان يقودنا الى ارادة حرة باتخاذ قرارات متحررة هي ناتج تراكم خبرة صائبة تقينا الوقوع بالخطأ. خطأ شوبنهاور كان في اعتباره الارادة حرة بالضرورة / بينما الحقيقة تقول الارادة غير ذلك ولا يوجد تمثيل تناوبي تكاملي بين الارادة والحرية بل في الغالب يوجد احتدام متقاطع بينهما.

الحرية مسؤولية

الحرية بمفهومها الفلسفي الانفرادي وليس بمعناها الايديولوجي السياسي الجمعي. هي ممارسة الوعي السلوكي المنضبط بوعي الذات ورقابتها الانسانوية الاخلاقية. والحرية جوهر انساني مسؤول وملتزم بالضرورة. كما والحرية بمفهومها الفلسفي تكون انفرادية ولا تشكل ظاهرة عامة الا في المنظور السياسي لها فقط.

سارتر كما طالب ان يكون الادب ملتزما بالضرورة الاجناسية هو طالب ايضا الحرية الفردية تكون ملتزمة ومسؤولة عن هموم وقضايا الاخرين. الفرد الذي تحكمه الحرية المسؤولة ليست من اختياره الطوعي بل تأتيه مفروضة من المجتمع عليه كفرد ضمن مجتمع. كيف؟ الفرد الذي يمتلك وعيا انفراديا ناضجا متعاليا اكثر من محصلة وعي المجموع الذي يغلب عليه طابع التعبوية هو الذي يشعر حريته مرهونة بحرية مجتمعه ولا خلاص انفرادي امامه يلزمه لوحده ولا يلزم غيره مجتمعيا. لكنه مع هذا يسعى لرفع مستوى وعي المجتمع لمستوى وعيه الانفرادي المتعالي. واذا ما اخفق ووصل الطريق المسدود فليس امامه اختيار غير الانغماس في الكليّة المجتمعية القطعانية حتى لو فرض عليه الصمت كموقف من المجتمع والحياة.

قلنا ونحن نناقش هنا الحرية بمفهومها الفلسفي وليس الايديولوجي السياسي التي يكون فيها الالتزام يحكمها جمعيا وليس انفراديا كما في الفلسفة. المجتمعات البشرية غالبا ما تكون في وضعية (نسيان الوجود) او الناسيّة الكليّة كما يصفها هيدجر.

لذا يمتلك الحرية الانفرادية الحقيقية الشخص الذي يمتلك وعيا اعلى من مستوى الوعي الجمعي الذي يحكم المجتمع فتكون الحياة بمجملها في المجتمع تستنفدها امور واشباع الحاجات الاساسية البيولوجية والغرائزية التي يشترك بها المجتمع مثل الدوام بالوظيفة والعمل ومشاغل الاسرة في اشباع غرائز الجسم البيولوجية بانواعها ومختلف تجلياتها المفروضة على الحياة التي تجعل من المجتمع فردا بصورة مجموع.

هنا حين تكون الحرية غائبة او هي استنفدت نفسها في الكليّة الناسيّة في نسيان الوجود الجمعي الحقيقي المسؤول عن حريته في اتخاذ قراراته الصائبة. تبرز لا اراديا أهمية أن يتمتع الفرد المنفصل اللامنتمي للمجموع بالحرية الانفرادية المسؤولة الملتزمة حتى عندما يجد نفسه منفردا منعزلا متمردا عن القطعانية الغفل التي تحكم الوجود الجمعي بحكم العادة والاعتياد في الانغماس التام في روتين الحياة الاستهلاكي...

التساؤل ماهي كوابح ومعيقات حرية الفرد المتعالي في وعيه ويمتلك حساسية من نوع خاص خارج القطعانية المجتمعية ومتمرد على الانقيادية الاذعانية في الانغماس الضائع مجتمعيا في كليّة نسيان الوجود الحقيقي. هذا النموذج المتمرد يصطدم بالمعيقات الكابحة لطموحه في التالي:

- يعيش الانكفاء الانعزالي بمعنى الاغتراب المسؤول عن قضاياه وقضايا مجتمعه.- هنا غالبية الدراسات التي تعنى بالاغتراب تعتبره حالة انكفاء جواني هروبي سلبي من مشاكل المجتمع بينما الاغتراب لدى الشخص المكتمل وعيا ونضجا بالحياة فهو ليس فردا هاربا امام التحديات بل فردا يرغب ترك مسافة رصد ومعاينة لمشاكل وقضايا المجتمع الذي يعيش فيه. بمعنى يختار الحرية الازدواجية التي يرى فيها جوهر حريته الحقيقية هو في تحقيق حرية المجموع كما يتصورها هو لا كما اعتادها المجتمع تحت سلطة وصاية القانون وتخلف الوعي الجمعي.

- الانقلابية على الذات ليس في منظور ان حريته التي يتصورها لا قيمة مجتمعية لها بل هي محاولة الفرد الخلاص من جحيم الاخرين وجحيم الحياة. وهو ما تؤكد عليه الادبيات الفلسفية للوجودية الحديثة كما هي عند سارتر وهيدجر وياسبرز وجبرييل مارسيل.

- البحث عن القوانين الوضعية التي ترفع من الوعي الجمعي وتنصاع لما يحقق الصالح العام وإشباع الحقوق الاساسية بالحياة. في حق العمل والتامين الصحي والتعليم والضمان الاقتصادي والتمتع بمعطيات الحرية في سلوك منضبط قانونيا ومجتمعيا. هذا متحقق بما لا يستهان به في النظم الديمقراطية الليبرالية.

فولتير والحرية

" ارادتنا ليست حرة اما افعالنا فهي حرة" فولتير

من المفروض ان تكون عبارة فولتير واضحة لا تحتاج زرع الاشكالية التناقضية بها من حيث بدايتها تناقض تكملتها. واذا اردنا البحث عن تخريج منطقي يضفي عليها صواب تمريرها فلا نجد امامنا غير لغة المجاز تسعفنا بهذا المجال. دائما بالفلسفة تكون اللغة غير الواضحة في التعبير كما ارادها فيلسوفا الوضعية المنطقية جورج مور وفينجشتين هي ليس فقط قصور اللغة التعبير الدقيق عن معنى الاشياء و الموضوعات وانما هي ايضا نوع من المجاز اللغوي الذي يتلاعب باللغة في تمويه الافصاح الواضح عن الفكرة. في ايهام الدلالة العميقة الكاذبة في ما وراء اللغة العصيّة على التلقي.

لا الارادة الانفرادية المتمردة على الواقع المجتمعي المنقاد بطواعية التساؤل الملازم هو كيف يؤمن الانسان ويصنع مستقبلا افضل له ولعائلته.؟ ولا الارادة الجمعية التي استهدفتها العادة الاستهلاكية اليومية وافرغتها من عضوية مصنع الحيوية البشرية فاصبحت سطحية الحضور بحكم الاعتياد في الركض وراء تامين متطلبات المعيش في الاشباع الاستهلاكي المؤقت الخادع. كلا النموذجين من الحرية هو زائف غير حقيقي يعيشهما الفرد والمجموع بنوع من نسيان الوجود الضائع في الكليّة الناسّية والتكيّف الكاذب مجتمعيا.

رب قائل يقول هذه هي حقيقة الحياة ولا يستطيع الانسان ان يعيشها باكثر من الابعاد التي تحكمها العادة المترسخة بالتقادم الزمني على انها حياة الاشباع الاستهلاكي تحت رقابة القانون ودرجة وعي المجتمع. ومن المتعذر جدا نمذجة المجتمع بنوع من الحياة هي خارج المالوف المعتاد الذي اتفق عليه المجموع كما جاء به روسو بما أسماه (العقد الاجتماعي). فانت ملزم التنازل عن الكثير من الامنيات التي تطمح لها المحروم منها من اجل تحقيق صالح المجموع الخادع.

طبيعي جدا ان تكون مهمة الفرد المنسلخ عن مجتمعية الناسية بالوجود املا في تحقيق وجوده غير الزائف بالحياة صعبة ومؤلمة له ولامثاله من النخبة المجتمعية لذا تكون معاناة النخبة التي تمتلك وعيا متقدما على الوعي الجمعي المتكيّف استهلاكيا مهمتها غير متحققة لا على صعيد الازدواجية الذاتية الارادية المنقسمة على نفسها ولا على صعيد التخلي عن  مسؤوليتها تجاه مجتمعها المضلل المقهور بالنزعة الاستهلاكية التي تجد بالحياة عبئا ابتليت به الناس في روتين قاتل من النمط المعيش..

الارادة والحرية

الارادة ليست هي الحرية باتخاذ القرارات كما فهمها شوبنهاور. فغالبا ماتكون الارادة مثلومة امام قيد الحرية ذاته. اذا ما وضعنا بنظر الاعتبار الكوابح والمعرقلات المعيقة التي تصطدم بها الارادة قسرا وواقعا مفروضا عليها. فالارادة الانفرادية تقاطع ارادة المجموع في جوانب متعددة بضرورة التكيّف الالزامي الجمعي الزائف.. لذا نجد الفرد الذي لا يتمتع بارادة ذاتية حقيقية يسعى بالنهاية الانصياع المتكيّف بالناسّية المجتمعية متنازلا مكرها عن جميع احلامه ورغائبه المشروعة. اما ان تكون افعالنا حرة بخلاف ارادتنا فهو تناقض لا يقوم على سند فلسفي منطقي. من حيث الارادة هي السلوك المعلن والخفي. ومن المتعذر أن نجد ارادات انفرادية تاخذ حيّز التطبيق والتنفيذ في تقاطعها الحتمي مع غالبية ارادة المجموع التي انصهرت اجتهاداتها بفيتو منع القانون الوضعي. الارادات التي نتوهم قراراتها حرة نجد يصادر حريتها القانون الوضعي الذي يرى على الاقل مصالح المجموع اولى من مصالح الفرد وتتقدم عليها. عليه يكون التكيّف والانخراط في المجموع مايعّبر عنه فولتير(بالطاعة الضرورية). لكن غالبا ما نصطدم به عند التطبيق والتنفيذ الذي يجاهر به القانون في حقوق المجتمع تعلو حقوق الفرد انها ادعاءات فارغة باسم الطاعة الضرورية الملزمة.

يطرح فولتير جملة من عبارات غالبا ما يكون فيها وضعيا متماهيا مع سلطة القانون في مصادرته فوضوية الارادات المشتتة المختلفة تعسفيا. وقبل الاستشهاد ببعض من هذه العبارات التي يلبسها فولتير مخاتلة تعبير اللغة الغامض على انها تحمل كنوز مابين الاسطر وهي مغالطة فارغة.

اقول القوانين الوضعية تحكمنا بحجة صحيحة نسبيا انها الضمانة الوحيدة المتاحة في لجم الارادات الفوضوية والرغائب المنحرفة الانفرادية التي تحاول تخريب سلطة القانون والنظام. وفي وضع حد للنزعات المنفلتة التي تجد مصالحها في التخريب والممارسات التي تقاطع حياة المجتمع الطبيعية ولو في حدودها الدنيا المتاحة.

من اقوال فولتير وديدرو" من التناقض ان يكون في استطاعة مايجب ان يكون الا يكون" من هو الذي يقرر ما يجب في استطاعته ان يكون؟ لا يوجد غير الايمان بقدرية لا ادرية الافضل منها ان سبب ما يجب ان يكون لا يكون هو تقاطع بعض امور الحياة بالمصادفات العشوائية وحدوث ما هو غير متوقع حدوثه.

تعبيره الاخر " الحرية هي النتيجة المعروفة لعلة مجهولة" وقوله ايضا"كل شيء غارق بالنسبة لنا في هوة من الظلمات" لا اجد في طلاسم فولتير اللغوية ما يشي ويشير الى مضمون فلسفيي مدّخر فيما وراء اللغة المفككة العصّية. يوجد العديد من العبارات مثل هذه لم اتطرق لها فهو مضيعة وقت اجده بعيدة عن معنى التفلسف الجاد الهادف الذي يسير نحو فتح نوافذ رؤيوية متجددة بالحياة.

***

علي محمد اليوسف

...........................

ملاحظة: الاقتباسات الجملية المحصورة بين مزدوجتين مصدرها كتاب جان فال /الفلسفة الفرنسية من ديكارت الى سارتر / ترجمة فؤاد كامل.

 

في المثقف اليوم

في نصوص اليوم