شهادات ومذكرات

الشاعر الانجليزي جون كيتس 1795-1821

ذاق مرارة العيش بكل ما تعنيه الكلمة من معنى. فقد أباه ولم يبلغ التاسعة من العمر، وهجرته امه لتتزوج من اخر بعد شهرين من وفاة والده، ثم رجوعها للبيت مطلقة بعد ست سنوات من الزواج، فوفاتها بمرض السل، ووفاة اخيه وخاله بذات المرض، اضافة الى انتقال العدوى اليه هو، فأصبح جسده موئلا لفتك السل الرئوي الذي استشرى بين افراد العائلة. نصحه الاطباء بالخروج من هاتيك الديار برمتها، فقصد ايطاليا، عله يتحرر من براثن هذا المرض، إلا ان قدر الله كان الاسرع، فقد قضى في بلد الاستشفاء-ايطاليا- بعد شهور قليلة من وصوله اليها.

على الرغم من حياته البائسة؛ الفقر والجوع والمرض والحرمان والعوز، الا انه كان شاعرا رومانسيا عظيما. فقد قرأ أعمال هوميرس الاغريقي مترجمة على يدي ” جورج تشابمان “،فأحب الملاحم والاشعار والاساطير التي فاه بها شعراء الحضارة الاغريقية. أحب الجمال، والطبيعة الغناء، واتخذ من عشيقته ” فاني براون ” ملهما لاشعاره. وزادت حسرته كونه لم يستطع الارتباط بها بسبب مرضه وما يعانيه من خوار في الجسد. عشق الشعر واعتبره شيئا عظيما، ولا يمكن العيش بدونه، الا انه احيانا يعترف بأن الشعر لا يستطيع انقاذ البشرية مما تقع فيه، ومما تعاني منه، فهو نفسه ” كيتس ” قد ذاق مرارة الحياة، ولم يصلح الشعر حاله.

كتب المقطوعات القصيرة الرائعة والمعبرة. كتب عن الحزن، والخريف، ومقطوعة بعنوان” حسناء بلا رحمة”، وهي مخصوصة لتلك الحبيبة، وأنشودة ” الى العندليب” وأنشودة “الى جرة اغريقية”. كما كتب ملحمة” اندميون” يحاكي فيها النهج الاغريقي في الملاحم، وكان ذلك عام 1818. أما عام 1819، فقد كان عاما انطلقت كوامنه الشعرية مدوية في الافاق، اذ سكب روائع المقطوعات الشعرية. هاجمه النقاد بقوة، وأحيانا بالتجاهل والاحتقار، في محاولة لاخراجه من دائرة الشعر برمتها، ولكن الامر لم يثبط من عزيمته اطلاقا، فدافع وقاتل بضراوة ليبقى في

الميدان الشعري، وقد بقي فعلا. من ناحية أخرى، فقد امتدحه الشاعر “شيلي” لجودة شعره، واتخذه الشاعر”ألفرد تينيسون” مثالا للشاعر المبدع. ولم ينصفه من النقاد- فيما بعد- الا الشاعر والناقد “ماثيو أرنولد” اذ عده مع “شيكسبير “في الصف الاول من الشعر.

ومما تجدر الاشارة اليه هنا، أن “جون كيتس” و“أبي القاسم الشابي” و”بدر شاكر السياب” قد قضوا جميعهم نتيجة الامراض التي فتكت بأجسادهم. فثلاثتهم قضوا في ريعان الشباب، اضافة الى انهم لم يسعفهم الحظ في التمتع في قرب من هوت قلوبهم. فهذا الشابي يغيب الموت محبوبته، وجون كيتس لم يقدم على الارتباط ب” فاني براون ” بسبب مرضه، والسياب لم يكتب له ان يلتقي بمن تتخذه فارس الاحلام. جون كيتس مات في ايطاليا، والسياب في الكويت، وكلاهما مات بعيدا عن دياره.

وللوقوف على الشاعر جون كيتس الشاعر والانسان، فما على المرء الا الغوص في غياهب رسائله الشخصية. فهنا تظهر تجليات كيتس الابداعية ونضوجه الفكري، على الرغم من مرضة المتعب، وموته المبكر( 26عاما )، فهو يتحدث عن جودة الشعر وكنهه، ورقيه ورقته. فما أن أحس بدنو أجله، حتى اصبح يطلق صرخات الانين المدوية. وعليه، فقد طغت على رسائله سمة اللوعة والحنين والتشبث بالوجود الجميل من حوله. من أقواله: “الجمال هو الحقيقة، والحقيقة هي الجمال، هذا كل ما تحتاج الى معرفته “/ ” الحب استمرارية ونقاء، والكراهية موت وشقاء “/ ” الألحان المسموعة عذبة، والأعذب منها، مالم تسمع بعد”.

حلق بجناحي الخيال الى بلاد الاغريق التي لم يرها الا من خلال ما قرأه عنها من الكتب المترجمة. عشق الملاحم، والاساطير والبطولات التي تمتاز بها الاشعار الاغريقية. رقيق النفس والقلب معا، فهو شديد الاحساس بالبؤس الذي تعيشه بعض الفئات من المجتمع، هو نفسه شهد الفواجع في بيته، وبقي هذا الشعور يلازمه الى أن اغمض الاغماضة الاخيرة، وغيبه الموت غريبا، ودفن في روما. كتب هو بنفسه- وقيل أحد خلصاءه – على شاهد قبره عبارة: ” هنا يرقد شخص ما، كتب اسمه على صفحة الماء “.

 

في المثقف اليوم