شهادات ومذكرات

الأب سهيل قاشا: الرافديني المسكون بهاجس الحضارة

abdulhusan shaabanيقول مثل سومري "قلب حبيبتي قلبي وحبيبة سهيل قاشا هي العراق، بل والشرق العربي كلّه، فكيف إذا أريد سلب الحبيبة بكل ما تحتويه من فتنة وجمال وسحر وجاذبية وحضارة وتاريخ وثقافة. أكيد إن قلب سهيل قاشا الذي خفق دائما بحبّ حبيبته لأن قلبها يسكن في قلبه، سيتحطّم، ويقاوم ويتشبث بكل ما له صلة بالحياة، لا باعتبارها تاريخاً فحسب، بل باعتبارها حاضراً ومستقبلاً، بفضائها الذي لا حدود له وبأفق مفتوح حيث اللاّنهايات.

• الرافديني الأصول والمشرقي الهوى والانتماء، والإنساني النزعة والتوّجه، هو سليل الحضارات الستة التي سبقت الحضارة العربية الإسلامية، التي تلاقحت مع ما سبقها، في بلاد أوروك الأسم الأقدم للعراق.

• كان بلده يسمّى أيام السومريين " بلاد الشمس" ويطلق عليه " بلاد ما بين النهرين" (ميزوبوتاميا) أو بلاد الرافدين " بحر دجلة والفرات" كما كنّاه مؤسس بحور الشعر وأوزانه الخليل بن أحمد الفراهيدي. وهو من بلد شهدت ولادة أولى الحضارات وازدهرت بالأساطير والميثولوجيا، وكانت مهداً لتراث عريق.

• إذا كان لبلد من البلدان أن يفخر بأن لديه حضارة واحدة ، فما بالك ببلد له ستّة حضارات قديمة، إضافة إلى الحضارة العربية – الإسلامية، وما أن تتحدّث عن التاريخ والآثار والممتلكات الثقافية، حتى تقفز إلى ذهنك الحضارات السومرية والبابلية والآشورية. ولكن بألم وحزن يداهمانك، حين تشاهد كيف يتم سرقتها وتدميرها على نحو خبيث وهمجي ومتوحّش.

• كانت بغداد أيام العباسيين والحضارة العربية- الإسلامية حينها مركز الإشعاع الفكري والثقافي والعلمي والهندسي والعمراني والجمالي، وشهدت حركة ترجمة غير مسبوقة أيام عهد الخليفة المأمون، وكانت دار الحكمة تزخر بمئات المخطوطات النفيسة، حيث صانت تراث الفكر اليوناني من الضياع، وواصلت إتحاف العام بخير ما أنجبته البشرية.

• لا عجب أن يحتضن العراق أول برلمان قبل ما يزيد عن أربعة آلاف عام.

• إنه بلد الأبجدية الأول، الذي فكّ رموز الحرف وعرف نظام الكتابة، حيث أصبح الإنسان بفضله ولأول مرّة في التاريخ قادراً على حفظ ذاكرة أجيال وتاريخ أمم ومعتقدات شعوب وتراث وثقافة وأدب الإنسان.

• في العراق ولد أول مجمّع سكني في العالم، مثلما ولدت علوم الفلك والطب والرياضيات، التي أطعمت أوروبا على مدى قرون، ويقول الأب قاشا، كان في بغداد وحدها أيام ازدهارها في العهد العباسي أكثر من ألف طبيب، في حين كانت أوروبا تعاني من الأمراض المنتشرة وتغطّ في جهل مطبق.

• بلاد الشمس كانت موطن أول شريعة للقانون في العالم " مسلّة حمورابي" ذات الشهرة التي لا يضاهيها شيء.

• في العراق نصف مليون موقع أثري ومعلم تاريخي وحضاري، كلّها تؤشر إلى عظمة الإنسان في هذه البلاد الخصبة والغنية بالموارد والطاقات والعقول والإبداع. وقد تعرّضت الآثار والممتلكات الثقافية العراقية في العام 1991 في حرب قوات التحالف وبعد الاحتلال العام 2003 إلى أكبر عملية نهب وتدمير في التاريخ، وذلك يشكّل انتهاكاً فضّاً للاتفاقيات الدولية، وخصوصاً اتفاقية اليونسكو العام 1954 لحماية المواقع الأثرية والممتلكات الثقافية كجزء من التراث الإنساني والتي دخلت حيّز التنفيذ منذ العام 1956، إضافة إلى البروتوكول الإضافي لعام 1999 واتفاقيات جنيف لعام 1949 وملحقيها لعام 1977 ومجمل قواعد القانون الدولي الإنساني ذات الصلة.

• من يستطيع أن يتصوّر إن بلداً بهذه المواصفات العميقة الغور في التاريخ والمعرفة والتمدّن، سيقترن إسمه في عالم اليوم بأكبر جريمة بحق الإنسانية، تخصّ كل هذه الثروة التي بنتها سواعد الملايين من البشر وعقولهم، على مدى آلاف السنين، حين تداهمه عصابة من الرعاع باسم الدين، لتدمير حضارته وتراثه، أديرة وكنائس وجوامع وآثار ومتاحف، حيث دمّرت داعش النمرود العظيم وقامت بتجريف مدينة الحضر الخالدة.

• أهي نقمة السماء وتناقض الأشياء، حيث الخير العميم والموارد الوفيرة ومعهما طغيان خارجي وقابلية داخلية على الاحتراب، كما عبّر عنها مالك بن نبي، حين قال: " القابلية على الاستعمار"، أي القابلية على قبول الأشياء والامتثال لها.

• منذ أن تدفّق النفط من حقل باباكركر، العام 1927، انفتح الجرح العراقي عميقاً ليصبح شلال دم، حروب واستبداد وحصار واحتلال، حيث يُقذف الجميع في جوف الحوت، ليعلو الصراخ بعدها كي تبتلعه بهدوء، ربّما يريدها البعض بمهرجان أو حفل تنكّري، فيتم فيه تبادل الوجوه والأقنعة والأدوار.

• كلّ ذلك يواجهنا ونحن نقدّم عالماً ولد في بلدة بخديدا العام 1942 (شرق الموصل) التي تستولي عليها داعش الآن.

• سهيل قاشا باحث ومثقف موسوعي ومفكّر مجدّد، بدأ مشواره بالتأليف العام 1963 حين نشر في بغداد بحثاً فلسفياً لاهوتياً بعنوان" أنت من أنت؟".

• إنه متعدّد الاختصاصات والانشغالات، فإضافة إلى دراسته للغة العربية، فقد كتب في التاريخ والفكر والفلسفة والاجتماع السياسي والثقافة والأدب، كما كتب في المسرح وله عدد من المسرحيات التي تنتظر الطبع، كما كتب الرواية أيضاً.

• من القضايا التي تميّز بها قاشا هو موضوع مناهضته للصهيونية، فقد أدرك خطورة هذه العقيدة العنصرية الإلغائية الاستيطانية على المنطقة وتاريخها وحضاراتها وتراثها وأديانها، وهو ما يذكّرنا بقرار الجمعية العامة للأمم المتحدة رقم 3379 والصادر في 10 تشرين الأول (اكتوبر ) العام 1975 الذي ساوى بين الصهيونية والعنصرية، واعتبارها "شكلاً من أشكال العنصرية والتمييز العنصري"، وهو القرار الذي ألغي في العام 1991 بعد اختلال موازين القوى على المستوى العربي والعالمي، أي بعد انحلال المعسكر الاشتراكي في أواخر الثمانينيات وفيما بعد سقوط الاتحاد السوفييتي وإقدام القوات العراقية على غزو الكويت في 2 آب (أغسطس) العام 1990.

• انشغل قاشا بالحوار المسيحي – الإسلامي، وانصرف بشكل خاص إلى دراسة المشتركات في التراثين. وسلّط قاشا الضوء على المسيحية المتصهينة التي يمثّلها المحافظون الجدد، والتي تعبّر عن آيديولوجيا الهمينة في الإدارة الأمريكية.

• الصهيونية حسب رأيه تستهدف المسيحيين الشرقيين، لأنهم عنصر مقاومة لمشاريعها التهويدية، لهذا فهي تسعى إلى تهجيرهم من مشرقهم : من فلسطين والعراق وسوريا ولبنان، لكي تكون الأراضي مباحة للتوسّع وصولاً إلى "إسرائيل الكبرى"، والهدف هو تغيير طابع الصراع من وطني وعروبي، إلى ديني إلغائي بين المسلمين واليهود، وبذلك تحاول الظهور بمظهر "الحمل الوديع"، في مقابلة البحر الهائج من المسلمين، الذين يؤلفون نحو مليار ونصف المليار إنسان، مقابل بضعة ملايين من اليهود.

• الرافديني الذي سمّي كاهناً عن السريان الكاثوليك في الموصل، والذي أحبّ بيروت والبحر، وكتب عنهما "القيثارة النارية" العام 1994، يقدّم محاضرته اليوم وهي بعنوان: "العراق: نور لا ينطفئ وحضارة لا تنضب": هو إبن آوروك، حيث اكتشف أجداده العجلة كأحد أهم الاكتشافات التاريخية في تقدّم البشرية، مثلما اكتشفوا التقويم اليومي والزراعي والساعة الزمنية لقياس الزمن، فاعتبر الشهر 30 يوماً، وقُسّم اليوم إلى 24 ساعة والساعة إلى دقائق والدقائق إلى ثواني وهكذا.

• وفي الاقتصاد عرفت بابل أول قوانين الأرض التي حدّدت سعر الفائدة، مثلما وجِدَ أول مصرف في العالم حينها، وهو "مصرف الوركاء"، وعرفت معناها " باب الله" القيد المحاسبي.

• إبن هذه الحضارة العظيمة، يتحدّث إلينا في هذه الأصبوحة المشمسة الجميلة، بلمعته الإيحائية في هذا الصباح الشفيف والريح المعطّرة التي تسبق المطر، وبدعوة من الملحقة الثقافية العراقية في بيروت الدكتورة أحلام الباهلي، وأمام هذا الجمع المتميّز والمهتم بالحضارات العراقية والتراث العراقي، بل والمستقبل العراقي.

 

يقول محمد عبد الجبار النفري:

وقال لي بين النطق والصمت

برزخ فيه قبر العقل

في المثقف اليوم