شهادات ومذكرات

مسيرة نادل من تونس

alarabi benhamadiهو حي حديث، تأسس منذ ما يقرب من عقدين، بناءه لم يكتمل بعد، يفتقر إلى عديد المرافق الحيوية، فضلات البناء منتشرة في غالب أرجاءه، غالب سكانه من الطبقة الوسطى، جزء منهم من الجالية المهاجرة، لذا فهناك عديد المساكن المغلقة أو المسوغة، ولولا قطار الاحواز و لولا قرب هذا الحي من البحر الباعث للحياة والزهو ولولا إطلالة جبل بوقرنين المكسو أشجارا خضراء أزلية والحافظ لإسرار أبدية لما تمدد هذا الحي في كل الاتجاهات وبقي منكمشا على نفسه. اخرج كل صباح من منزلي الكائن بنهج صغير تحت مسمى دمشق، قاصدا دكان تاجر صغير للمواد الغذائية، متقاعد منذ بضع سنوات من سلك الأمن، لاقتني صحفا وبعض المستلزمات الصغيرة إن لزم الأمر. أول ما يعترضني، على يميني، وانا ادخل نهج اللاذقية المتقاطع مع نهج دمشق، العم بشير، قابعا داخل دكانه المتفرع عن منزله حيث يقيم فيه صحبة زوجته المريضة بالسكري وابنه المتزوج من موظفة بالشركة العقارية للسكنى، ما يفسر، حسب ما يروج، وجود منزلهم في ركن يفتح على شارعين رئيسيين من الحي!. يجلس العم بشير، الشيخ الثمانيني، فوق كرسي ساعات وساعات وهو يحدق في أقفاص الطيور المعلقة في مدخل الدكان من جهة اليسار بينما تعبث يده بسبحته وبجانبه مذياع جامد في محطة إذاعة الزيتونة للقران الكريم، فتختلط أصوات العصافير بالقرآن المنبعث من راديو الترانزيستور، فهو مغرم بالطيور، يشتريها للمتعة والمتاجرة، ولا يبرح دكانه إلا ليدخل منزله أو يذهب للمسجد المحاذي، تاركا الباب مفتوحا إلا من كرسي يضعه في المدخل رغم سابقة سرقة احد عصافيره ... وقد اشتهر في الحي، كذلك، بصيانة الدراجات الهوائية التي جعل من دكانه ورشة لها. غير أن عدد زبائنه قليل للغاية، لعدم الاختصاص وفقدان الحيوية المطلوبة نظرا لكبر سنه واستفحال مرض السكري . وبقدر ما هو لطيف مع الجيران الذي يرد على تحياتهم بأحسن منها، فهو جاف مع الحرفاء، فلقد صرخ مرة من المرات في وجه أستاذ فيزياء جاء ليصلح دراجة ابنه قائلا: آلم تجد إلا هذا الوقت لتأتيني فيه، آلا ترى أننا نقترب من صلاة الظهر؟ ومرة قذف على طول يده بمنفاخ دراجة لأنه لا يضخ ما يكفي من الهواء، ومرة أخرى غضب على شيخ فقير لأنه لم يكن قادرا تسديد سوى دينارين عوض ثلاثة، مقابل رتق ثقبين بدراجته حيث توجه باللوم قائلا: لا تدفع لي شيئا ورح في حالك او ادفع ما تريد! مضيفا:لولا تعفن جو المقاهي والكفر وسب الجلالة داخلها، لما وجدتني هنا أمارس هذا العبث! ...وتردد بعض الألسن الطويلة أن العم بشير لا يحسن إلا رتق و نفخ الدرجات!. أصبحت أجالسه من حين إلى آخر، بعد أن كنت أمر مرور الكرام من أمام دكانه محيأ، فعرفت انه قضى زهرة شبابه وكهولته متنقلا بين مقاهي باب البحر بالعاصمة، كنادل، إضافة إلى فترة قضاها مع السيد الهادي نويرة الوزير الأول السابق كمساعد في نفس اختصاصه، وفترات أخرى متقطعة قضاها كحافظ خزينة بمقهى قبالة شارل نيكول ونادل في مطعم (لمباسادور) وغيرها . حدثني كذلك عما بقي في ذاكرته من أحداث الحرب العالمية الثانية، وهو في سن السادسة، قائلا، إن الألمان كانوا يشترون منا فطائر البباروني الموشاة بالسكر ويدفعون لنا المقابل وزيادة، متمثلا في أصناف من طوابع الشكولاطة، كما ينزلون إلى الأحياء الشعبية الريفية بمسقط راسي بحثا عن البيض سائلين: فاطمة هل لك بيض؟ ولا يخفي إعجابه بتصرفات وسلوك الألمان مقارنة بغيرهم، وهو شعور لمسته عند جل التونسيين الذين عايشوا فترة الحرب تلك. فالألماني في الخيال الشعبي، جنوبا وشمالا، هو رجل شجاع وذكي ومثالي في سلوكه والصناعة الألمانية هي الأفضل عالميا. قضى العم بشير، إذن، ثلث قرن متنقلا بين مقاهي باب البحر قبل الحماية بقليل وبعد ذلك. يقول كنت ادخل مقهى باريس بالعاصمة في مظهر جذاب كالعريس، واضعا رباط عنق نوع فراشة، وكأني متجه إلى حفل رسمي،أما غالب الحر فاء والرواد، في ذلك الوقت هم من الأوربيين أو اليهود الذين لا يبخلون عنا بالبخشيش الذي يغني في كثير من الأحيان عن مرتباتنا الشهرية، وكان مقهى باريس العريق لا يكتفي، في ذلك الوقت، بتوفير المشروبات المختلفة للزبائن بل يتعدى ذلك إلى عديد المأكولات الجافة المتكونة أساسا من أرقى أنواع اللحوم والسمك وغيرها مما لذ وطاب. لكن بقدر انضباط النادل في تلك المقاهي الفاخرة و التاريخية: مقهى باريس، الروطاند، شي لوناقر وغيرها، فانه لا يبخل على نفسه أثناء العمل من تذوق بعض المشروبات الروحية، من حين إلى آخر، كمقدمات، في انتظار الجلسة الرئيسية مع نهاية العمل. عندها يغير العم بشير هيئته بهيئة أخرى لا تقل أبهة، فتراه يتبختر بباب البحر في جبة قمراية أو استكرودة أو حرير، متوجها إلى حيث اللهو والشرب، وصرح انه في إحدى المرات ضبطني عرفي وانأ ارفل في لباسي الفاخر، فرفع صوبي يديه مازحا ومتوعدا:يا شقي انك تلبس أفضل من عرفك!. ولا يزال العم بشير يحتفظ على البعض من هذه الملابس إلى اليوم في خزانته، كما يواصل العناية بمظهره رغم انه دخل مرحلة العجز. يشكو ويتألم العم بشير من حال المسلمين، اليوم، الذين يقتلون بعضهم بعضا بتحريض من الأمريكان واليهود، فعوض قتل الكفار واليهود كما أوصى بها الرسول والدين، فهم يفجرون أنفسهم في بلاد الإسلام ويدعون أنهم شهداء، وهو بقدر ما يستنكر ما حدث في سوسة وباردو وغيرها من أعمال إرهابية، لا يرى حرجا مما يحدث من إرهاب في الدول الغير إسلامية، لكنه بالمقابل يُثمّن كرم اليهود التونسيين والأجانب في علاقة بممارسة مهنته طوال ثلث قرن كنادل في فلب العاصمة التونسية. هو لا يتخلف ولو دقيقة عن القيام بالصلوات الخمس، ساعده في ذلك، قرب المسجد الذي لا يبعد أكثر من خطوتين من منزله. وكلما يتذكر سنوات اللهو والمرح يردد: ربي يغفر ويسامح رغم أني لم اظلم ولم أمس أحدا بسوء، كل ما فعلته أنني عشت لنفسي ولم ابخل عليها بما توفره الحياة. والواقع أن مسيرته لا تختلف عن جل الناس الذين في سن معينة يغيرون مجرى حياتهم و ينتقلون من اللهو إلى العبادة، ففي حين تتصرف الغالبية منهم باعتدال وتسامح بقية أيامهم، ينقلب البعض منهم على أنفسهم فيصبح جزء من حياتهم عدو للجزء الآخر، وقد يكون هذا التغيّر عنيفا لدى البعض فيصبحون عدوانيين. عمي البشير لا يتمتع بمعاش كبير فهو يتلقى منحة شيخوخة محدودة نتيجة ثمرة عمل ثلاثة عشر سنة بمقهى الروطاند، أساسا، ما يفسر سعيه الى تحسين وضعه عبر صيانة الدرجات، ما مكنته صحته ومزاجه من ذلك الذي يطغى عليه الحمق بفعل السكري الذي قد يكون في علاقة مع طبيعة عمله بمقاهي باب البحر بالعاصمة طوال ثلث قرن. هذا الرجل قد يكون أفادني أكثر مما أفدته وقد يكون قد كشف عن المهم دون أن يفصح على الأهم. العربي بنحمادي كاتب من تونس

في المثقف اليوم