شهادات ومذكرات

وجع الماضي وجراح السنين

elmrazik almustafaوأنا في منتصف الخمسينات من عمري، لا زلت إلى حدود اليوم وفي كل المحطات السياسية والنضالية أقرأ وأعيد قراءة كتاب "حركة القوميين العرب"، للمناضل والمثقف العضوي والوحدوي باسل الكبيسي، العراقي- الفلسطيني، أحد كوادر الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين، الذي استشهد مغدورا في الاغتراب يوم 6 نيسان/ أبريل 1973 في إحدى شوارع باريس. تعلمت منه الثبات على المبادئ والقيم والصبر على الشدائد وتحمل المسؤولية مهما كان الثمن، ومبادئ العزة الوطنية والإيمان بالتحرر والبناء الاشتراكي.

كان الشهيد باسل الكبيسي، من بين من حملت نهجهم عل كتفي حالما بالمبادئ التي تدعو إلى تغيير الواقع القائم والحلم بمجتمع أفضل تسوده الحرية والمساواة والعدالة الاجتماعية.

وإذا كانت الدروس الأولى في النضال لم تكن مرتبطة بالمعتركات الايديولوجية والسياسية ولا بالثقافة الانتخابوية، فإن أغوار هذه التجربة استمرت لأزيد من 3 عقود، وكانت الجرائم الصهيونية ضد شعب فلسطين تحرك فينا عبق الإحساس بالسلم والسلام الذي لا يقوم على الإرهاب والتجويع والمحاصرة. كنا نؤمن بالأفكار المجردة ونجهل قواعد اللعبة السياسية، على عكس المناضلين الذين اختاروا الانحياز الإيديولوجي للمعسكرات التي كانت تطل علينا من مواقع مختلفة بالشعارات والبيانات والرسائل والمجلدات، لمقاومة الأنظمة الاستبدادية والماضوية والرجعية.

إن استحضارنا اليوم للشهيد باسل الكبيسي ولأستاذه في النضال المرحوم حكيم الثورة الفلسطينية جورج حبش (مؤسس حركة القوميين العرب والجبهة الشعبية لتحرير فلسطين) على سبيل المثال لا الحصر، هو استحضار لجيل كامل من رجالات حركات المقاومة والتحرر في العراق وفلسطين وفي سوريا ولبنان ومصر والجزائر وتونس والمغرب منذ نكبة فلسطين عام 1948. جيل كان يحلم بوحدة الشعوب وبتحريرها من ربقة الاستعمار، جيل ناضل من أجل الكرامة والحرية والعزة والعدالة الاجتماعية.

إنها مناسبة لطرح أسئلة متعددة حول ما الذي تغير منذ ذلك الحين؟

طبعا، ما حدث منذ ذلك الحين يفترض جهدا كاملا لفهم الماضي وربطه بالحاضر، ويتطلب مزيدا من التنوير واستعدادا كافيا للحاق بإيقاع المستقبل.

و إذا كانت كل التفسيرات والقراءات تحتاج إلى مقاربات متعددة التخصصات لفهم واقع المتغيرات التي شهدتها هذه المناطق التي يجمعنا معها أحلاما مشتركة، فإن أحداث كبرى وثورات عظمى شهدتها (هذه المناطق) عربيا ودوليا، أثرت في مسيراتها السياسة والاقتصادية والاجتماعية والثقافية والتكنولوجية. حيث كان لا بد أن تكون مثار بحث ونقاش بين فاعلين أساسيين ومدارس فكرية مختلفة. لكن ما يهمنا في هذه المناسبة هو الإقرار بالتحولات العميقة وبالمخاضات العسيرة التي غيرت معالم الرموز التاريخية المعروفة، وخاصة منذ ستينيات القرن الماضي إلى نهايته.

إن الأحداث السياسية الكبرى التي عاشتها مجتمعاتنا العربية، حملت في الوقت نفسه قلقا كبيرا ورؤيا جديدة لما نستطيع أن نسميه: "التحدي". فجيل الستينات تفتح وعيه على ثورات وتجارب العالم، ربما أكثر من اللازم. وفي فترة وجيزة خلق مساحة كبيرة من الوعي والنضج وبخار ورماد، وحلم انتهى به المطاف للعيش في دهاليز المعتقلات السرية والعلنية منها، لتبدأ معركة الصمود والمقاومة والتصدي مع جيل جديد لم يكن يملك إلا أقلاما ودفاتر شعر وأناشيد الثوار ضد الجمر والرصاص.

كانت نكسة حزيران هزيمة جيل كامل، وسقوط مرحلة كاملة من الزهو والصعود والبناء، وهو ما انعكس على نخبنا المناضلة التي صبت جام غضبها على جميع القوى الفاعلة في المجتمع، وانتهت للعيش المستدام في دوامة النقاشات الإيديولوجية والسياسية البعيدة عن الشعب، وإحصاء "المنشقون والمنسحبون والمجمدون والمطرودون والحائرون والخائنون وأنصاف الخائنين وكاتبو العفو والمشنعون عليهم وتيار العزة النفسية الشامخة..." (عبد القادر الشاوي، "كان وأخواتها").

ورغم محاولة انتعاش بعض الحركات السياسية اليسارية التي بنت نظرتها للماضي بغضب وسخط ونقد لاذع للنظام وكل القوى السياسية القريبة أو البعيدة منه، إلا أن هزيمة حرب أكتوبر واتفاقية "كامب ديفيد" ستطيح بكل ما تبقى من حلم القومية العربية التي كانت في أوج ازدهارها، وستتحول ( هذه الحركات) إلى حارس على البوابة اليسارية والتي لا بد لأي مناضل أن يمر من خلالها وعن طريقها، ومن يخالفها فهو لقيط وعدمي ومشبوه وقد ينعت حتى ب"السيخ" و"بيشمركة" وغيرها من التسميات. لكن ورغم ذلك، نهلت وغرفت القوى الصاعدة من كل التجارب ومن كتابات وإبداعات ودراسات الأجيال السابقة، وحملت معاناتهم وجراحهم المندملة إلى قمة النضال الحقوقي والديمقراطي، من دون أي عقدة نقص أو حقد أو تشويه في حق الجيل الأول من المؤسسين والقادة التاريخيين لهذه الحركات.

وعلى الرغم من فشل القوى اليسارية في مواجهة غطرسة القمع والخناق، وعدم قدرتها على تجاوز ضعف إمكانياتها الذاتية وما يتطلبه العمل في الشرعية من طاقات بشرية ومن كفاءات نسائية وشبابية وأطر ونخب، ظلت جزء لا يتجزأ من مسارات ونضالات قوى الحداثة والديمقراطية التي يجمعها شعب واحد: هو الشعب المغربي.

ورغم النكبات المتتالية، خاصة بعد موت الراحل جمال عبد الناصر سنة 1970 والتي كان لها الأثر الكبير على المثقفين العرب، استمر الحلم في المغرب يكبر، واستمر جيل السبعينات والثمانينات يتغنى بتضحيات وأمجاد جيل القومية والوحدة العربية ومن خرج من رحمها وأحضانها وفكرها، وينشد أغاني الثورة ويرفع الشعارات القومية والمدنية والحقوقية، غير مباليا بهزيمة أبناء الجيل الذين رأوا حلمهم ينهار أمام أعينهم.

ورغم أن جيل الثمانينات والتسعينات لم يولد من رحم الهزيمة ولم يلدها، إلا أنه شعر أن الهزيمة هزيمته، وأبدع أشكالا جديدة لمقاومتها خاصة في الساحة الجامعية وجمعيات المجتمع المدني، وكان هذا في كل أنحاء المغرب، وكلنا يتذكر عنفوان شباب في مقتبل العمر سقطوا شهداء في معارك الكرامة والممناعة من أجل الحرية والديمقراطية : أيت الجيد محمد بن عيسى (الذي تخلد اليوم عائلته الكبيرة والصغيرة الذكرى 23 لاستشهاده)، شباضة، زبيدة والمعطي وعادل، من دون أن ننسى كل شهداء الشعب المغربي.. إنها مرحلة النضال المستقل عن الأحزاب السياسية والتنظيمات اليسارية، مرحلة "التحدي" لواقع القمع والسلطة والتسلط.

 

خلاصة عامة لا بد منها اليوم وغدا

رغم المأزق السياسي العام الذي استمر فيه المغرب لعقود من الزمن، لم تتوقف مسيرة النضال رغم آلامها وانكساراتها وانتصاراتها.

لقد خلق جيل الممانعة ثقافة سياسية جديدة، وصنع تجربة متميزة في كل الحقول والتجارب، داخل المغرب وخارجه. جيل آمن بالحداثة والديمقراطية والحرية قبل الأوان، آمن بالنضال الديمقراطي النقدي. اهتم بالعمق الاجتماعي وانفتح على الروح النقدية العميقة التي تؤسس للرؤية المستقبلية. جيل يساري بمعنى النقد الاجتماعي لتغيير المجتمع وتجاوز الواقع، جيل مناضل بالمعنى المتطلع للأفضل والأحسن من أجل المستقبل.

هكذا كبر ونشأ هذا الجيل بعيدا عن لعب كبار السياسة، وبعيدا عن مواقفهم ولغتهم وانتخاباتهم ونجاحاتهم وإخفاقاتهم. والجميع كان يعرف تطلعات هذا الجيل الممانع ويعرف أحلامه وقوة انخراطه في الحركات الاجتماعية والنقابية والثقافية والحقوقي والإنسانية.

سجون المغرب كانت مليئة عن آخرها بأبناء هذا الجيل، مئات المعتقلين كانت تغص بهم سجون البلاد: فاس، القنيطرة، وجدة، مراكش، أسفي، الدار البيضاء، الصويرة، طنجة، الرباط والجديدة، الخ. لم يكن أحدا ينصت إلى آهاتهم وجراحهم وألام عائلاتهم ومن كان يعطف عليهم.

 الكل كان منشغلا ببوادر النظام العالمي الجديد وبسقوط الأنظمة الشيوعية المركزية: بولونيا، رومانيا، ألمانيا الشرقية، يوغوسلافيا، بلغاريا، البانيا، تشيكسلوفاكيا، والجزء الآخر كان يصفق ل"للمسلسل الديمقراطي" و"للسلم ألاجتماعيي" و"للمغرب الجديد"..

لم يكن أمام هذا الجيل إلا خيار الممانعة واّلإيمان بالمواجهة من دون دعم سياسي ولا تحالف استراتيجي. وبعد مرور 10 سنوات على انتفاضة 1981 و1984، وجد هذا الجيل نفسه على قارعة الطريق، من دون شغل ولا تغطية صحية، ومن دون سكن ولا كرامة. ورغم الحرص الذي أبداه شيوخ السياسة في محاولة لإعادة تنشيط اللعبة السياسية ببلادنا خلال السنوات العجاف خوفا من "السكتة القلبية"، إلا أن ذلك لم يمنع طرح أسئلة جادة ومبادرات مستقلة بشأن مستقبل أجيال بكاملها لم تنل حظها وحقها لا من خيرات البلد ولا من مؤسساتها، بل لم تجد لها مكان لا داخل ما تبقى من اليسار ولا داخل أعتاب الأحزاب التي نسميها بالتاريخية والوطنية.

فإذا جاز لنا التسليم من حيث المبدأ بأن الحوار بالنظرة الشاملة له، انقطع بين الأجيال منذ أكثر من 30 سنة، وإذا كان الحوار عمل حضاري، يتجاوز مجرد التعاون في ميدان واحد، بين قوم المناضلين، ليشمل كل الميادين، يمكننا القول أن القوى التي كان من المفروض فيها قيادة الصلح والحوار بين الأجيال، هي التي كرست التهميش وأوصدت أبوابها ونوافذها واعتبرت الفضاءات السياسية العمومية حكرا عليها وملكا لها.

و استنادا لهذه الرؤية، فقد أظهر النظام قوته في تجنيد الأعيان والمحافظين وتجار الدين والمرتزقة للدفع بعجلة خبراء الساسة المعروفين بالدهاء والنفاق والتسلط، لمقاومة "جيل العدميين" و"الفوضويين" المتمسكين بشعارات أكثر راديكالية منهم ومن حجمهم، ولنحر أحلام الشباب والاستهتار بمطالبهم واعتبارهم قاصرين وجب حظر عملهم السياسي والنقابي والرمي بهم في الشارع من دون تكوين ولا تأطير، وتشجيعهم على البطالة و"الحريك" عبر قوارب الموت وحاويات الشحن البري. إلا أن أحداث عديدة على كافة الأصعدة السياسية والاقتصادية والاجتماعية شهدها المغرب وطوال سنوات التسعينات من القرن الماضي، قلبت الموازين والحسابات الضيقة رأسا على عقب، وعجلت بفتح الحوار مع فاعلين حقوقيين ونشطاء من المجتمع المدني ونخبة من أولاد الشعب الذين لم تكن لهم حسابات سياسية يتفاوضون من أجلها كما جرت العادة في ستينات وسبعينات وثمانينات وتسعينات القرن الماضي(و نقصد مفاوضات القصر مع الأحزاب السياسية).

و إذا كانت انتخابات 7 شتنبر 2007، قد شكلت زلزالا سياسيا ونقطة تحول كبرى في مسار المسلسل الانتخابي المغربي والأحزاب السياسية التي تدعمه (هبوط تاريخي في نسبة المشاركة وصل إلى 37%)، فإنها كذلك كانت تعبيرا عن حالة اختناق سياسي وإدانة للفساد وبطئ الإصلاحات وتعثر الانتقال الديمقراطي وفشل التناوب التوافقي، كما أكدت في نفس الوقت اليقظة الجماهيرية لصالح النضال من أجل مشروع ديمقراطي حقيقي ينبثق من إصلاحات عميقة سياسية ودستورية تؤسس لانتقال ديمقراطي يعيد الثقة للمغاربة في المؤسسات السياسية ويشجعهم على تحمل المسؤولية والانخراط في النضال الديمقراطي من أجل التغيير. وهو ما عبرت عنه مطالب الحركات الاجتماعية في المغرب العميق (أنفكو، وبن صميم، وسيدي افني وصفرو، الخ).

ولعل ما أفرزه الصراع طيلة العقدين الأخيرين من أزمة ثقة ومن هجوم ممنهج على الفقراء والطبقات المسحوقة وذوي الدخل البسيط والمتوسط، شكل أرضية خصبة لجيل النضال الديمقراطي الذي وجد نفسه أمام مسافة زمنية مفصلية، تفصل بين زمن بداية الثورة الحقوقية الهادئة التي دشنها مسلسل الإنصاف والمصالحة وزمن نهاية القواعد الانتخابية التقليدية، والبحث عن أشكال وصيغ جديدة للمارسة السياسة. ولقد ساهم هذا الواقع في إعطاء فرصة جديدة للمؤسسة الملكية والأحزاب السياسية للدخول رأسا في معالجة كل الانتهاكات الجسيمة لحقوق الإنسان والاستجابة لكل الإنتظارات والتحديات، مثلما شرعن نضال جيل الثمانينات والتسعينات وبحثه عن آفاق جديدة تعزز مطالبه الاجتماعية والحقوقية في ارتباطها مع البناء الديمقراطي المنشود.

 

المريزق المصطفى/ باريس

 

في المثقف اليوم