شهادات ومذكرات

أيامٌ من القلق.!!(3)

صادق السامرائيأعيش حالة غثيان فكري وحيرة شديدة لعدم فهم كيف تم الإقتناع بمثل هذا القرار، وعلى أي المفردات إستند وإعتمد، وكيف تم حساب زمن التوقيت ...وهل أخِذت المتغيرات العالمية بنظر الإعتبار...

ورحت أسترجع بعض الأسئلة التي إحترت بها سابقا وأراني أربطها بالذي حصل ...ففي العام الماضي كان الرئيس في زيارة لممثلي الجمعيات الفلاحية في الموصل وطرح عليهم سؤلا غريبا عجيبا مفاده...ماذا ستفعلون إذا إستيقظتم في الصباح ووجدتم أنفسكم أغنى دولة في العالم...؟

إحتار الحاضرون في الجواب ...لكنه أضاف إنه الحل الأمثل لمشاكلكم...وما فهم أحدٌ ما يعني ...وقد قُتِل وزير الدفاع العراقي في حادث سقوط مروحية يحيطه الغموض ...وما فهمنا، لكننا اليوم نفهم...ربما لأنه كان معارضا لهذا القرار...وتوالت أحداث أخرى مبهمة ما فهمناها لأنها كانت مدثرة بالشكوك والغموض لكنها تتضح اليوم...!

أصبح علينا أن نلتحق بالخدمة العسكرية الإجبارية...لكننا لا زلنا منخرطين في الدراسات الطبية العليا، ولهذا سيتم تأجيلنا منها ...وقد إلتقيت بعدد من زملائي الذين نجو من الحرب المروعة بأعجوبة كما نجوت، فقد أكلت تلك الحرب المريرة معظمنا وما أبقت إلا القليل منا ...وكل منهم يقول للآخر لازلت هنا، وتحيرنا وتأسفنا وتألمنا وتحسرنا فالوطن يتدحرج كالجمرة الملتهبة، وكنا جميعا منهكين من حرب السنوات الثمانية التي أكلت أعز أيام شبابنا...وتهامسنا مع بعضنا مقرين بطيش ما حصل...

وقال زميل وهو يرتعد بعد أن أفشى ما في صدره: أهذه سياسة...أهذه حكمة ...إنه سلوك قبلي همجي لا تقبله أعراف اليوم!!

وصمتنا وكأننا لم نسمعه، وقد إطمأن منا، ومضينا في أحاديث السأم والتذمر والخوف من المجهول، والقلق يأكلنا...

ورحنا نفضفض بوجل وحذر منتظرين صدور كتاب إعفائنا أو تأجيلنا من العسكرية... والشمس تحرق الحديد ورؤوسنا معبأة بالمخاوف من الآتيات...وبأننا قد دخلنا في نفق مظلم وخانق وعلينا أن نركن للحكمة والعقل ونستفيق من وهمنا، وإلا فأننا قد وصلنا إلى حافات خطر النهاية المروعة...

فالكويت قد قُطعت من العراق لأسباب إقتصادية بحتة، أساسها النفط الذي عليه أن لا يكون في كف واحدة، بل أن يتوزع على دويلات ضعيفة، تتمكن الدول الغربية من إمتلاك أمرها، ولا يمكنها أن تسمح للعراق بإمتلاك أكثر مما عنده من النفط، ولو أن الظروف الجغرافية والإقتصادية والإجتماعية تسمح بتقسيم العراق لأقرته بريطانيا منذ بداية القرن العشرين، لكن الجغرافية الإجتماعية والإقتصادية والسياسية لا توفر المبررات المعقولة الربح للدول الكبرى، ولهذا بقي العراق على حاله بأخذ الكويت منه...وتحول الخليج العربي إلى إمارات صغيرة لا يمكنها إلا أن تذعن للقوي أو تستعين به ...ومضى القرن العشرون رغما عنا على هذا الحال وسيبقى كذلك في القرن الآتي...ولايمكننا أن نغير جغرافية المال والإقتصاد بهذا الأسلوب الساذج...لأننا نكون قد أحكمنا القبضة على الدول الكبرى، وهي لا تقبل إلا أن تكون المُسيطرة على مقدرات أمورنا...فمثلما لا يمكن للعرب أن يتوحدوا أو يقيموا أنظمة ديمقراطية أو يعيشوا بسلام، لأن ذلك يتسبب بعرقلة مصالح الدول الكبرى في المنطقة....

إنها ثوابت القرن العشرين التي أدركناها... ا لم يتم تحطيم الأنظمة الديمقراطية العربية وإقامة أنظمة عسكرية متسلطة ومستبدة إلى أبعد الحدود وبتفويض وإسناد منها...فالإرادة الغربية تتحقق في الأرض العربية، أما إرادتنا فأنها مصادرة تحت مسميات متعددة ...وأن مشاكلنا في تفاقم ونماء سريع ولا يوجد قرار حكومي أو عربي قد ساهم في حل مشكلة، بل أن القرارات تهدف دوما إلى تعقيد المشاكل وتفريخها، وزيادة تشابكها وخسائرها من أجل تحقيق أكبر قدر من الإستنزاف لطاقات الإنسان العربي في أي مكان...

وأمامنا فلسطين التي حاربنا كل قرار حكيم لحلها في مهدها، وتداعينا وراء القرارات التي جعلت منها مشكلة المشاكل المستعصية، ونحن ننزف ونفقد ما عندنا والآخر يحقق ما يريده، وما ربحنا شيئا بل خسرنا كل شيئ...وها نحن اليوم نعيد الكرة أمام مشكلة ممكنة الحل بأسلوب أخوي، وإذا بنا ننهج طريق التعقيد والخسائر والنزيف الدائب الأليم...

في الشهر الماضي إجتمع العرب في بغداد لحل الأزمات وإذا بهم يفجّروا أزمات...والعلة تكمن في أنهم عندما يجتمعون لا يفكرون بإيجاد صيغة تستوعب آراءهم وتؤكدها بأسلوب يرضي الجميع، وإنما يندفع كل منهم في طريق التمحور الإستبدادي حول ما يرى، ويحسبه صحيحا وفيه الحقيقة المطلقة وغيره إن لم يتفق معه يكون غريمه اللدود...وهذا سلوك بدائي قبلي في الحوارات

...وهو حوار اللامعقول، لأن الحياة لا تقر به وترفضه تماما وتسعى لغيره...إن الحياة تريد قاعدة يتحقق فيها الإختلاف بأسلوب جميل ومؤثر لصالح ديمومتها وتعزيزها، وهذا ما لا يعيه العقل السياسي العربي...

قال القذافي في مقابلة تلفازية بعد الإجتماع عندما سألوه عن نتائج القمة: "كنا في حالة الصفر والآن نحن تحت الصفر"!!

وما فهمنا قوله...لأنهم أخذوه بمحمل الإستهزاء....

إن مشكلة الحكام العرب الأساسية أنهم يجتمعون لكي يفرض الواحد منهم رأيه على الآخر، وما توصلوا ذات يوم إلى قرار جماعي يفيد الأمة يدفع بحركتها إلى الأمام...فمن السهل عليهم أن يختلفوا ويتشاجروا ومن الصعب أن يتفقوا...ذلك أنهم لا يأتون للإجتماعات وكل منهم يحاول أن يكتشف الوسيلة المناسبة لوضع الآراء في بودقة واحدة وصهرها لتصنع صوتا قويا كالسبيكة المعدنية...إن صهر الإختلافات في بودقة واحدة وتحويلها إلى رأي أصلب ما يحتاجه العرب في إجتماعاتهم، لا أن يتجادلوا فيما بينهم ويزيدوا في الشقاقات والخصومات...

إن الإختلاف قوة هائلة تؤكدها طبائع الوجود المطلق، وتستند عليها معايير الصيرورة الأقوى والإستمرارية الأبدية...ومن يتوهم بأن الإختلاف ضد الوجود القوي إنما هو في حالة جهل مروع... لو أن العرب تعلموا فن الإجتهاد في سبك الإختلافات وصياغة القرارات السبيكة لكانوا أقوى أمة، وأعظم شأنا مما هم عليه الآن بألف مرة ومرة...

إن الإختلافات تعني النظر إلى الأمر الواحد من عدة زوايا، وهذا يعني أنهم قد أوفوا الأمر غاية وعيه، وعلى القرار أن يكون شاملا وفعالا، لأنه مولود من الوعي والنظر المتعدد الزوايا...لكن العرب لا يزالون لا يقدرون رحمة ونعمة الإختلاف، ولا يجيدون إستثمارها لصالح الصيرورة العربية الكبرى...وهذا يدفع إلى المشاكل الوخيمة والأزمات الخطيرة، التي بدأنا نعيش أكثرها جسامة وماساوية في القرن العشرين...

إن هذه المشكلة من الممكن حلها بتفاعل سياسي حكيم وتجنب التطورات العسيرة، التي ستدفع الأمة ثمنها دما وأرواحا ومزيدا من الأضرار الإقتصادية والمادية والتراجعات الحضارية القاسية...

مضت الأيام الخمسة بذهول وحيرة وإستبطان وربما هذيان...الأمور لا تبدو إلى إنفراج ..بل على العكس تتحرك بوتيرة متسارعة نحو الجحيم، فالإعلام يصدح بقرارات منفعلة مدوية، ولا أحد يتكلم بعقل بل إنها الكويت وقد عادت لحضن الوطن...!!

خمسة أيام تساقطت فيها الأقنعة وإنكشفت المأساة والأضاليل والشعارات المزيفة والبراقع المبهرجة الألوان، فالقومية صارت دموية والوحدة فرقة والعربي سيقتل العربي بل بدأ بقتله، وإن الأمة بكل ما قدمته أحزابها عبارة عن مسرحيات زال الستار عنها...

أدركتُ أن القادم عظيم ووخيم ولا بد من تدوين الأيام وتصويرها والتحرر من قبضة العدم...!!

 

د. صادق السامرائي

 

في المثقف اليوم