شهادات ومذكرات

في وداع حنا مينه وفي ومن وصيته

كاظم الموسويرحل اخيرا حنا سليم حنا مينه، سقط حامل الشراع وترك البحر وغادره وحيدا، يوم الثلاثاء، 2018/8/21، اول يوم من ايام عيد الاضحى، وكأنه يعيّد مع شعبه ووطنه ويغادر بعدها، عن عمر 94 عامًا، تاركًا رصيدًا ضخمًا من الروايات والأعمال الأدبية والمقالات ووصيته الاخيرة. بعد ان شاعت اخبار وفاته اكثر من مرة لسنوات خلت. وهو في وصيته التي كتبها قبل عقد من سنوات ايضا عرف ما يحصل له ولوداعه. شبع من الدنيا رغم انه يعرف ان «لكل أجل كتاب»، فهو من مواليد اللاذقية عام 1924. مثل الثلج الذي يدق على النافذة او الشراع الذي يواجه العاصفة سجل في الوصية، اختصارا لما عاشه وحكاه ورواه واشتهر به: "لقد كنت سعيداً جداً في حياتي، فمنذ أبصرت عيناي النور، وأنا منذورٌ للشقاء، وفي قلب الشقاء حاربت الشقاء، وانتصرت عليه، وهذه نعمة الله، ومكافأة السماء، وإني لمن الشاكرين.

عندما ألفظ النفس الأخير، آمل، وأشدد على هذه الكلمة، ألا يُذاع خبر موتي في أية وسيلةٍ إعلامية، مقروءة أو مسموعة أو مرئية، فقد كنت بسيطاً في حياتي، وأرغب أن أكون بسيطاً في مماتي، وليس لي أهلٌ، لأن أهلي، جميعاً، لم يعرفوا من أنا في حياتي، وهذا أفضل، لذلك ليس من الإنصاف في شيء، أن يتحسروا علي عندما يعرفونني، بعد مغادرة هذه الفانية."

عاش حنا "طفولته في إحدى قرى لواء الاسكندرون على الساحل السوري، وفي عام 1939 عاد مع عائلته إلى مدينة اللاذقية وهي عشقه وملهمته بجبالها وبحرها. كافح كثيراً في بداية حياته وعمل حلاقاً وحمالاً في ميناء اللاذقية، ثم بحارا على السفن والمراكب. اشتغل في مهن كثيرة أخرى منها مصلّح دراجات، ومربّي أطفال في بيت سيد غني، إلى عامل في صيدلية إلى صحفي أحيانا، ثم إلى كاتب مسلسلات إذاعية للإذاعة السورية باللغة العامية، إلى موظف في الحكومة، إلى روائي" معروف ومشهور..

فى آب/ أغسطس 2008، نشر وصيته فى الصحف الرسمية السورية موصيا "عندما ألفظ النفس الأخير، آمل، وأشدد على هذه الكلمة، ألا يُذاع خبر موتي فى أية وسيلةٍ إعلامية، مقروءة أو مسموعة أو مرئية، ...".

رغم وصيته هذه، نشر الخبر، اذيع في الاركان العربية وتبودلت النظرات، ويصلى على روحه علنا بحضور اهله وقرائه ومحبيه ورفاقه واعزائه، رسميا وشعبيا..

منذ ولادته عاش وكافح كثيرًا حتى شق طريقه إلى الأعمال الروائية. عاكسا فيها ومعبرا عما عاشه وشهده. وتنقل بين بلدان عدة، وسافر إلى أوروبا ثم إلى الصين لسنوات، لكنه عاد إلى الشام مواصلا ابداعه ورافعا قلمه سلاحا وحافزا..

كتب وحكى في معظم رواياته وقصصه عن البحر، ووصف حياة البحارة في مدينة اللاذقية، وصراعهم على متن المراكب والسفن وأخطار البحر او السجون والنضال الوطني، ليصبح علما بارزا في المشهد الثقافي العربي..

284 حنا مينه

من أعماله الرائعة: المصابيح الزرق، حكاية بحار، نهاية رجل شجاع، الثلج يأتي من النافذة، المستنقع، الربيع والخريف، القطاف، الياطر، المرفأ البعيد، والرحيل عند الغروب.

مشيرا بكل تواضع الى ان: كل ما فعلته في حياتي معروفٌ، وهو أداء واجبي تجاه وطني وشعبي، وقد كرست كل كلماتي لأجل هدف واحد: نصرة الفقراء والبؤساء والمعذبين في الأرض، وبعد أن ناضلت بجسدي في سبيل هذا الهدف، وبدأت الكتابة في الأربعين من عمري، شرّعت قلمي لأجل الهدف ذاته، ولما أزل.

الم يقل هو ما يعنيه ان : «مهنة الكاتب ليست سواراً من ذهب، بل هي أقصر طريق إلى التعاسة الكاملة. لا تفهموني خطأ، الحياة أعطتني، وبسخاء، يقال إنني أوسع الكتّاب العرب انتشاراً، مع نجيب محفوظ بعد نوبل ، ومع نزار قباني وغزلياته التي أعطته أن يكون عمر بن أبي ربيعة القرن العشرين. يطالبونني، في الوقت الحاضر، بمحاولاتي الأدبية الأولى، التي تنفع الباحثين والنقاد والدارسين، لكنها، بالنسبة إلي، ورقة خريف اسقطت مصابيح زرق». والبحر الذي عشق وتمنى ان ينقل الى دمشق او تنقل له بعد ان استقر فيها؛ «إن البحر كان دائماً مصدر إلهامي، حتى إن معظم أعمالي مبللة بمياه موجه الصاخب، وأسأل: هل قصدت ذلك متعمّدا؟ في الجواب أقول: في البدء لم أقصد شيئاً، لحمي سمك البحر، دمي ماؤه المالح، صراعي مع القروش كان صراع حياة، أما العواصف فقد نُقشت وشماً على جلدي، إذا نادوا: يا بحر أجبت أنا! البحر أنا، فيه وُلدت، وفيه أرغب أن أموت.. تعرفون معنى أن يكون المرء بحّاراً؟»

واضاف في وصيته؛ لا عتبٌ ولا عتابٌ، ولست ذاكرهما، هنا، إلا للضرورة، فقد اعتمدت عمري كله، لا على الحظ، بل على الساعد، فيدي وحدها، وبمفردها، صفّقت، وإني لأشكر هذه اليد، ففي الشكر تدوم النِعم.

وختم رغبته، صرخته الاخيرة، التي لا يمكن ان تنفذ مع كل الاحترام والتقدير له ولوصيته:

أعتذر للجميع، أقرباء، أصدقاء، رفاق، قُرّاء، إذا طلبت منهم أن يدعوا نعشي، محمولاً من بيتي إلى عربة الموت، على أكتاف أربعة أشخاصٍ مأجورين من دائرة دفن الموتى، وبعد إهالة التراب علي، في أي قبر مُتاح، ينفض الجميع أيديهم، ويعودون إلى بيوتهم، فقد انتهى الحفل، وأغلقت الدائرة.

لا حزنٌ، لا بكاءٌ، لا لباسٌ أسود، لا للتعزيات، بأي شكلٍ، ومن أي نوع، في البيت أو خارجه، ثمّ، وهذا هو الأهم، وأشدد: لا حفلة تأبين، فالذي سيقال بعد موتي، سمعته في حياتي، وهذه التأبين، وكما جرت العادات، منكرة، منفّرة، مسيئة إلي، استغيث بكم جميعاً، أن تريحوا عظامي منها.

وداعا يا حنا مينه، حارس البحر ولسان فقراء الشام وصوت المعذبين على هذه الارض...

وداع اعتزاز ومحبة للكلمة والابداع

نم قريرا ولك الراحة الكاملة والسلام

 

د. كاظم الموسوي

 

 

في المثقف اليوم