شهادات ومذكرات

عامر النجار.. غواص في بحور الفلسفة

محمود محمد عليقد لا أكون مبالغا إذا ذهبت إلي القول بأن الدكتور "عامر النجار" المفكر الإسلامي المرموق الذى قطع رحلة طويلة ‏عبر آفاق علوم الإسلام‎ ‎وفروعها المختلفة، واستطاع ‏باجتهاده أن يصل إلى تصور شامل للنظرية الإسلامية، ‏فلسفة‎ ‎وفكراً، وأحد الأساتذة الجامعيين الذين يقومون بتدريس الفلسفة الإسلامية من وجهة نظر إسلامية خالصة، بعد أن كانت تًدرس من خلال الدرس الاستشراقي الذي ربط الفلسفة الإسلامية بالتراث اليوناني، وأهم من نادوا بالبحث عن أوجه الأصالة والابتكار في الفلسفة الإسلامية، وهو بالإضافة إلي ذلك نموذج للأستاذ الجامعي كما ينبغي أن يكون سواء في التزامه بأداء واجباته الوظيفية الاكاديمية علي أحسن ما يكون الأداء، أو في ارتباطه بطلابه في علاقة انسانية رفيعة المستوي في هدي من التقاليد الجامعية التي يحرص عليها كل الحرص، إذ هي دستوره في كل معاملاته مع كل من هو في الوسط الجامعي .

يشهد علي ذلك زملاؤه بكلية الآداب فرع سوهاج جامعة أسيوط (سابقا) التي شهدت مولده الوظيفي في ثمانينيات القرن الماضي (قبل أن ينتقل إلي مثل وظيفته بكلية الآداب فرع الإسماعيلية– جامعة قناة السويس)، بل ويشهد علي ذلك زملاؤه وطلابه في كل الجامعات المصرية والعربية التي عمل بها استاذا ومحاضراً لسنوات عديدة . وما زال أمد الله في عمره يواصل العطاء في تفانِ وإخلاص نادر لطلابه في كل جامعات مصر والعالم العربي من مشرقه إلي مغربه.

كما يتميز الدكتور "عامر النجار" بأنه أكثر جرأة فى الرأي ‏وشدة فى اقتحام القضايا‎ ‎الأكثر حساسية مع تحليل خاص ‏للصحوة الدينية وتاريخ حركات الإصلاح الحديثة، ‏خصوصاً‎ ‎عندما يثور الحديث حول مرحلة التجديد التى ‏قادها الإمام "محمد عبده" تلميذ‎ "‎الأفغانى" ورفيق مسيرته، ‏ولسوف أظل أؤكد دائما أن الإسلام المستنير الذى يقدم ‏صحيح‎ "‎الشريعة" واعتدال "الفقه" هو الذى يحسم الصراع ‏بين الإسلام وأعدائه وكل القوى‎ ‎الفكرية المعادية له ‏والمتربصة به،‎ ‎

والدكتور عامر النجار، هو أستاذ ورئيس قسم الفلسفة الإسلامية بجامعة قناة السويس، ونائب رئيس جمعية التراث العلمي في الحضارة الإسلامية، وأحد المهتمين بالفكر الإسلامي وتحقيق التراث وعضو اتحاد كتاب مصر، وعضو لجنة تحقيق التراث بدار الكتب المصرية، وصدرت له مؤلفات عديدة في مجال الدراسات الإسلامية وتحقيق التراث من أبرزها: كتاب "الصلاة"، و" الطهارة في الإسلام"، و "التصوف النفسي"، و"في مذاهب الإسلاميين"، و"في تاريخ الطب الإسلامي"، و"علم الكلام عرض ونقد"، البهائية وجذورها البابية، القاديانية، تحقيق كتاب عيون الأبناء في طبقات الأطباء لابن أبي أصيبعة.، وتحقيق قوت القلوب في معاملة المحبوب لأبي طالب المكي، وتحقيق الجزء التاسع من مسالك الأبصار لابن فضل الله العمري، و" نظرات في فكر الغزالي .. وهلم جرا".

وقد حصل الدكتور عامر النجار على ليسانس الفلسفة من كلية الآداب جامعة الإسكندرية عام،1968 وحصل على الدكتوراه في العلوم الإسلامية مادة الفلسفة الإسلامية من كلية دار العلوم جامعة القاهرة 1981م،، كما عين شيخا لرواق البحاروة بالأزهر عام 1965، ثم مدرسا بوزارة التربية والتعليم عام 1969، كما عين مدرسا للفلسفة الإسلامية لكلية الآداب (فرع سوهاج) – جامعة أسيوط، ثم أستاذا مساعد وأستاذا ورئيسا لقسم الفلسفة، وكذلك رئيسا لقسم الدراسات الإسلامية بكلية التربية بجامعة تعز باليمن في الفترة من 1989-1992، ومعارا إلى جامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية - قسم العقيدة والمذاهب المعاصرة بكلية أصول الدين بالرياض.

وفي عام 1999 حصل على جائزة أكاديمية العلوم التربوية بالاتحاد السوفييتي، وأكاديمية العلوم التربوية بالولايات المتحدة لجهوده وبحوثه التربوية كما منح درجة الكانديدات العالمية من أكاديمية العلوم التربوية 1999.

وخلال تلك المراحل نال طلاب الدراسات العليا بصفة خاصة اهتماما لا حد له من أستاذنا الدكتور عامر النجار، فارتبطوا به وسعوا إليه من كل حدب وصوب، إذ قد وجدوا فيه نموذجاً جديراً ورفيعاً في التزام الأستاذ وعطاءه النادر وإنسانيته الفائقة لكل حد، ولهم الحق .. فلقد نذر الأستاذ وقته وجهده، بل لا أبالغ إذا قلت وهب لهم حياته عن قناعة وحب، ونجح في أن يبث فيهم روح العمل والمثابرة ودافعية الإنجاز ليفجر فيهم طاقات الإبداع .

ولقد كان تلاميذه عند حسن الظن فيما يأمله الأستاذ فيهم بما قدموه من بحوث غطت في مجملها – بفضل اختياره – بعض مناطق في فكرنا العربي والإسلامي؛ وبصفة خاصة لدي صوفية الإسلام ذوي الطابع السني، كما تجلي في أبي الحسن الشاذلي وأحمد بن عطاء الله السكندري وغيرهما .

ولقد قدر لكاتب هذه السطور أن يكون واحدا من هؤلاء التلاميذ الذين تلقوا العلم علي يد الدكتور عامر النجار منذ أكثر من خمس وعشرون سنة عندما كان الأستاذ يدرسنا في مادة التصوف الإسلامي، ومادة علم الكلام بكلية الآداب بسوهاج. وأشهد – بحكم طوال الصحبة له  -وكما يشهد غيري من تلاميذه أن أحب الأوقات عند الدكتور عامر النجار هي تلك الساعات التي كان يجلس فيها ليناقش تلميذا من تلاميذه في مشكلات بحثه أو في مراجعته، مشجعاً له ومنتظرا بلهفة الوالد الحنون ميلاد بحث جديد لواحد من أبنائه الذين وسعهم قلبه جميعاً، رغم ما قد يكون بينهم من فروق . وليس لأحد أن يستكثر بعد ذلك -  غزارة  حب التلاميذ لأستاذهم فيهون من شأنهم بدعوي أن العبرة ليست بالكم، لكن ذلك لم يغب عن ذهن عامر النجار.

والحق الذي لا مراء فيه أن أستاذنا الدكتور عامر النجار يستحق كل تقدير واحترام، فقد كان – ولا يزال قمة في العطاء وشعلة في النشاط، فلقد قدم الدكتور عامر النجار عددا من الدراسات رفيعة المستوي، لا يمكن أن يتجاهلها – أو يتخطاها – أي باحث جاد في مجال الفلسفة الإسلامية، حيث أعطي الدكتور عامر النجار خلاصة جهده وفكره للإبانة عن اسهامات الصوفية المسلمين، كانت شرارتها الأولي دراسته للطرق الصوفية في مصر تحت إشراف الأستاذ الدكتور محمد كمال جعفر (أستاذ الفلسفة الإسلامية بكلية دار العلوم- جامعة القاهرة) التي حصل بها علي درجة الماجستير في سبعينات القرن الماضي؛ ومنذ تلك الفترة تكونت خيوط الحس الفلسفي لنزعته الصوفية التنويرية، ثم واصل الدكتور عامر النجار ما بدأه عن الطرق الصوفية في رسالته للدكتوراه، فاتجه يفتش من خلال المنظور النفسي عما كتبه الصوفية المسلمين، وبالأخص أبو الحارس المحاسبي، وسهل التستري، والحكيم الترمذي، وتمكن من أن يصوع لنا رسالته للدكتوراه في كتاب نشر بعد ذلك بعنوان " التصوف النفسي" .

وفي هذا الكتاب تمكن الدكتور عامر النجار أن يقدم لنا رائعة عظيمه من روائعه التي حاول أن تضم إرهاصات علم جديد من خلال الآراء النفسية لدى صوفية القرن الثالث الهجري في ضوء علم النفس الحديث. وإذا ما تعاملنا مع الكتاب نجد أنه يمثل أطروحة أكاديمية سعى مُؤلفها لنيل درجة علمية، ومؤكدا أنه طوّف بجوانب معرفية مُتعددة، تعني أن صاحبه بذل جهداً بحثياً كبيراً. علاوة علي أنه في هذا الكتاب ركز الدكتور عامر النجار علي فكرة العلاج النفسي وطرح آراء فلاسفة القرن الثالث الهجري، وقال إن التصوف عانى عداء تيارات فكرية لتعمقه في دراسة النفس الإنسانية أكثر منها ما دفعها لشن حملات عديدة عليه.

إن قيمة الدكتور عامر النجار لا تكمن في عدد الدراسات التي كتبها ولا المقالات والبحوث التي سطرها قلمه الرائع قلمه الرائع، وإنما تكمن قيمته الحقيقية  بوصفه مفكرا رفيع المستوي وصاحب رؤية صوفية تنويرية؛ ليس هذا فحسب بل إنه يدافع عنها بكل ما أوتي من قوة في كل دراساته الجادة الرصينة، وفي كل مشكلة تناولها، وكل شخصية عرض لها، وكل قضية فكرية أو مجتمعية تصدي لها ودافع عنها في كل فترة من فترات حياته .

ويبدو ذلك واضحاً في مسرحيته الشهيرة " سارتر وأنا "، حيث تعد المسرحية من نماذج المسرحيات الإسلامية التي صدرت مؤخراً في ثمانينات القرن المنصرم، وتشتبك مع الواقع وقضاياه المتشابكة مسرحية "العودة" للدكتور عامر النجار، وتتناول قضية الإلحاد في الفكر الوجودي (متمثلاً في سارتر وأتباعه من فلاسفة الوجودية المُلحدة، وقد أُذيعت المسرحية في إذاعة البرنامج الثقافي بعنوان "سارتر وأنا"، ولكن المؤلف حين أراد طباعتها وضع لها اسماً آخر هو "العودة"، وقدّم لمسرحيته بكلمة عن سارتر قال في نهايتها:" وعند سارتر أن قولنا "الإنسان حر" مرادف لقولنا "الله غير موجود"، لأن وجود الإنسان عنده لا يخضع لماهية أو طبيعة محددة، بل هو إمكان مستمر على الإنسان أن يحققه؛ فالإنسان في رأيه يوجد أولاً، ثم يظل يخلق ماهيته بما يختار لنفسه من أفعال، فليس الإنسان إلا ما يُريد ويختار لنفسه من أفعال، ومن خلال هذه المسرحية نعرض خلافنا مع سارتر".

إن إطلاله علي دراسات الدكتور عامر النجار تكفي شاهدا علي ما نقول، إذ تتبدي الرؤية الصوفية التنويرية عنده في عدد من القضايا الساخنة علي ساحتنا الفكرية في العشرين سنة الأخيرة من القرن الماضي.

تحيةً لأستاذنا الدكتور عامر النجار الذي لم تستهوه السلطة، ولم يجذبه النفوذ، ولكنه آثر أن يكون صدى أميناً لضمير وطنى يقظ وشعور إنسانى رفيع وسوف يبقى نموذجاً لمن يريد أن يدخل التاريخ من بوابة واسعة متفرداً متألقاً راضياً.

 

. محمود محمد علي

مركز دراسات المستقبل – جامعة أسيوط

 

 

في المثقف اليوم