شهادات ومذكرات

ليوناردوا دافينشي والعبقرية الشاملة لعصر النهضة

محمود محمد عليشهد عصر النهضة ثورة فى الفن نتيجة اكتشاف "جيوتو" للبعد الثالث أو ما يسمى بقانون المنظور الذي به تأخذ المرئيات بعدها الثالث ألا وهو "العمق" (أو الارتفاع).. فلا تبدو المرئيات مسطحة بالطول والعرض وحدهما. وأساس هذا القانون هو أن الأجسام تبدو أصغر وأصغر ببعدها أكثر وأكثر عن خط النظر، وأن الخطين المتوازيين يبدوان أضيق فأضيق ببعدهما عن خط النظر حتى أنهما يلتقيان بالوهم عن عين الناظر إذا امتدا بالدرجة الكافية.

ونتيجة اكتشاف هذا القانون صار الأمر ممكناً للفن أن يقلد الطبيعة والحياة أو أن يبدع منهما الفنان إبداعاً خلاقا دون أن يتهم بالشرك أو الردة فى إقامة الأصنام. وقد أدت الرغبة فى تقليد الطبيعة والحياة إلى الاهتمام بدراسة العلوم البحتة والتطبيقية. وهنا أخذ الفن والعلم يتلاقيا شيئاً فشيئاً تلاقياً حميماً خلال عصر النهضة، لدرجة أنهما غالباً ما أصبحا قابلين للتبادل. وفى مرات عديدة لا يستطيع المشاهد الحديث القول بما إذا كان يجب النظر إلى رسم معين على أنه عمل فنى أم على أنه دراسة علمية. كذلك لسنا متأكدين دائماً مما إذا كان يجب " تصنيف" عبقرية فردية معينة على أنها عالم أم فنان .

ومن ناحية أخرى كان على الفنانين أن يغرسوا لا التمثيل الواقعى للتفاصيل الطبيعية ودراسة المنظور فحسب، بل كذلك تمثيل التشريح والحركة. كيف كان الناس يتحركون فى عالمهم، جاعلين أنفسهم فى دراهم، كان بالتأكيد جانبا بارزا من التوكيد الجديد ثلاثى الأبعاد، وربما كان من أهم الجوانب من الناحية الذاتية، إذ كان يزود المشاهد بنوع ممتع من التماهى – الذاتي ؛ وكان على التشريح أن يتعامل مع ثلاثية أبعاد الجسم الإنساني. فى مجالات مثل هذه عادة ما كان البحث العلمي فى الطبيعة وبهجة الفنان (المشاهد) الجمالية يقتربان من بعضهما إلى درجة التراكب فعلياً .

وقد أثمرت العلاقة الوثيقة بين الفن والعلم إلى بروز فكرة " الإنسان الشامل"  L`Uomo Universale.فقد كان تحول الفنان السهل من مقاربة جمالية إلى مقاربة علمية والعكس جزءً من تعدد المواهب الظاهر الذى أطلقه عصر النهضة من خلال مناشدته للطاقة الإبداعية.. فما الذى كان يمكن فى نهاية المطاف، أن يكون محفزا لتفتح مواهب المرء أكثر من مناخ ثقافي ينادى بالكشف عن جمال هذه الطبيعة وأسرارها الخفية؟ وجدت كل طاقة المرء نفسها فى صراع مع مغامرة العالم. واستنفز هذا التحدي الشامل للشخصية المبدعة كل شئ للفعل – الفن، والعلم والمهارات التقنية، وإجادة مختلف الوسائط، ومجالا عريضا من القدرات الذهنية. وأصبح التراوح بين مختلف الوسائط شائعاً شيوع التراكب بين الفن والعلم. وطوال كل عصر النهضة، كان الموهوبون يثبتون لأنفسهم – وللآخرين – أنهم موهوبون أكثر مما يتخيل أى شخص، ليس فقط فى مجالاتهم المختارة بل فى مهن أخرى كذلك .

وليوناردو دافنشى Leonardo Da Vinci (1452-1519) هو مجرد الحالة الأشد إثارة ضمن صف طويل من الفنانين – العلماء فى عصر النهضة. وقد أطلق عليه لقب " العبقرية الشاملة لعصر النهضة المبكر" . لقد كان أعجوبة عصره ومتقدماً فى فنه عن معاصريه بمراحل كبيرة، فكان مهندساً ومخترعاً للآلات الحربية وبارعا بعلوم التشريح والطبيعة وموسيقيا. بالإضافة إلى أنه كان مثالاً ومصوراً ومهندساً .

وعلاوة على ذلك فقد كان واحداً من أعظم فناني عصر النهضة الذين اهتموا بالمنهج العلمي قبل فرنسيس بيكون " (1561-1626)، فقد أكد على أهمية الملاحظة والتجربة فى كشف آيات الطبيـعة والوقوف على أسرارها، كما دعا الباحثين في بحوثهم إلى تدوين ملاحظاتهم والقيام بتجاربهم، ونادى بأن التأمل النظري أمر عقيم لا يليق بالإنسان، وحث على التروي فى الملاحظة والتأني فى التجربة، وحذر من التسرع فى التعميم واستنباط القوانين .

كما كان واحداً ممن أثروا العـلاقة الحميمة بين الفن والعلم، فالفن عنده علم واسع الحدود، والعلم عنده أمر لا ينفصل عن الفنون. ولذلك نجده لا تفارقه محاولاته وتجاربه العلمية، فهو يمارسها في الوقت الذي يمارس فيه الفنون، وهو يعالج موضوعاً علمياً كان قد بدأه ويريد متابعة تجاربه فيه أو موضوعاً جديداً يجرب نفسه في دراسته أو يحاول له العلاج ليصل إلى نتيجة أفضل .

ولم يكتف دافنشى بذلك؛ بل نراه يبحث عن أسرار كل شئ، ويعمد إلى الكشف عن الألغاز الغامضة، ويتحرى عن العمليات والنظريات وظواهر الطبيعة. وتنوعت ميوله وهوايته حتى دفعته إلى التعلق بكل ما يحيط به ويقع تحت عينيه، فلم عناصر الأعشاب الطبيعية ومظاهر حركات الأجرام السماوية ومدار القمر وطبيعة الشمس وعلم التشريح…الخ .

ولم يعكف إنسان بقدر ما عكف دافنشى على العمل مواصلاً البحث العلمي للقضاء على الأسرار الغامضة وتنوير العالم بالاكتشافات التي نشر فيها الملاحظة والتجربة .

وقد شهد له بذلك بعض أساتذتنا المعاصرين؛ فنجد الدكتور " زكى نجيب محمود" يقول عنه: " لا أحسب أحد فى تاريخ الفكر كله يلخص عصره تلخيصاً جامعاً مانعاً بقدر ما لخص ليوناردو دافنشى عصره !. وأي عصر !. إنه عصر النهضة الأوربية التي انبعثت فبها الحياة انبعاثا، أوشك ألا يترك نحواً من أنحاء الأرض ولا رجا من أرجاء السماء إلا أرتاده .ولعلك قد سمعت به مصوراً فناناً، فهو صاحب "العشاء الأخير" – صورة رائعة رسمها في أحد أديرة ميلان أثناء مقامه بتلك المدينة فناناً رسمياً لقصر الأمير لودوفيكو سفورتزا، وهو صاحب " الجيوكندا " الموجودة الآن في متحف اللوفر بباريس رسمها وهو في فلورنسا إبان عهد قيصر بورجيا. ثم لعلك قد سمعت به مهندساً في قوى الماء، وفي ابتكار الآلات لشتى المناسبات. وقد تكون سمعت به أيضاً عالماً في الجيولوجيا والنبات. ولكن القصة التي تروي لك شيئاً من تفصيلات حياته تلك التي كانت كأنها مائة حياة لمائة عظيم اجتمعت كلها في رجل واحد. ستثير فيك العجب ما لا يثيره إلا قلة قليلة من أحداث التاريخ ورجاله .

كما وصفه الأستاذ " يوسف كرم بأنه : " ثمرة من خير ثمار عصر النهضة. اشتغل بالتصوير والنحت والموسيقى فكان فناناً عظيماً، وتبحر في التشريح والمعمار والميكانيكا فكان عـالماً مبرراً واستخلص من أبحاثه أصول المنهج العلمي، ومن مشاهداته للناس عوامل سيرتهم فكان فيلسوفاً مذكوراً . تناول علم الميكانيكا حيث تركه " أرشميدس " ونهج فيه نهجه، فوصل إلى نتائج تختلف عما كان وصل إليه الأسميون الباريسيون في القرن الربع عشر، وكان مقتنعاً بأن العلم ابن التجربة، وأن النظريات التي لا تلقي تأييداً من التجربة نظريات باطلة . فكان يرمي الكيميائيين والمنجمين بأنهم دجالون أو مجانين. وليست التجربة عنده مجرد الإدراك الحسي، بل البحث عن العلاقة الضرورية بين الأشياء، ووضع هذه العلاقات في صيغ رياضية تخلع على نتائج التجربة يقيناً كاملاً وتسمح باستنتاج الظواهر المستقبلية من الظواهر الراهنة.

 

د. محمود محمد علي

كلية الآداب – جامعة أسيوط

 

 

في المثقف اليوم