شهادات ومذكرات

حسن عبد الحميد: جنرال فلسفة العلوم

محمود محمد عليترجع معرفتي بالدكتور "حسن عبد الحميد عبد الرحمن " إلي منتصف تسعينيات القرن الماضي، عندما تم تعينني مدرساً مساعداً للمنطق وفلسفة العلوم بكلية الآداب – جامعة حلوان، وعقب استلامي للتعيين تقدمت بطلب لمجلس قسم الفلسفة بحصولي علي درجة الدكتوراه (والتي كنت قد ناقشتها قبل أن استلم تعييني بأيام سنة 1995)، وهنا بادر مجلس قسم الفلسفة برئاسة أستاذنا الدكتور "محمد حسيني أبو سعده"، في وضع تشكيل لجنة الفحص، والمكونة من الأستاذ الدكتور حسن عبد الحميد وكل من الأستاذ الدكتور علاء حمروش رحمه الله، والأستاذ الدكتور محمد فتحي عبد الله رحمه الله، وعقب هذا التشكيل طلب مني الدكتور أبو سعده (رحمه الله) أن أذهب لمقابلة أستاذنا الدكتور حسن عبد الحميد في مكتبة بقسم الفلسفة بآداب عين شمس لتسلميه الرسالة، وحين ذهبت إليه وجدته في كوكبة من تلاميذه بالسنة التمهيدية للماجستير، وطلب مني الجلوس حتي يفرغ من محاضرته، وبدأت أستمع إلي محاضرته، حيث كان يقوم بتدريس مادة "منهج البحث "، واستغرقت المحاضرة أكثر من ثلاث ساعات، ولقد أعجبتني جداً طريقة الدكتور حسن عبد الحميد في تدريسه، وعقب تسليمي له الرسالة استأذنته أن أحضر مع طلبة السنة التمهيدية للماجستير للاستماع إلي محاضرته للإفادة والتعلم فوافق علي الفور.

وبالفعل أخذت في مواظبة الحضور علي محاضراته العام كله والأعوام اللاحقة، واكتشفت منه أمراً مهماً، وهو أن أسلوب الدكتور حسن كان أكثر من رائع، فقد كان أسلوباً مفيداً وشيقاً، فقد لا حظت وهو يقوم بالتدريس أمام تلاميذه كأن تلاميذه أنداداً له، وليسوا مجرد طلبة تتلقي العلم علي يديه، وكان تواضعه الجم متناسباً مع علمه الغزير، فمن فرط أدبه العظيمين أنه كان يدلي برأيه من غير ما إصرار علي صحته، وكنت أراه يفصح عن وجهة نظره السديدة في الوقت الذي يطالبك فيه إبداء وجهة نظرك بكل صراحة ووضوح .

ولعل أول ما يجذبك – كما جذبني وغيري من شخصية الدكتور حسن عبد الحميد، سمة الهيبة والوقار الذي يكسو ملامحه الشخصية الظاهرة، ويكشف عن باطن ثري، يعمر بإيمان قوي، وثقة بالنفس، وعاطفة جياشة، وسريرة نقية، وقلب صاف عن الكدورات.

علاوة علي ذلك كانت لشخصيته تلك الجاذبية الخاصة والحضور الثري الذي يقيم بينه وبين تلاميذه وأصدقائه ومعارفه جسوراً من المحبة والاحترام والاحساس بالألفة العميقة . ومن هنا كان ذلك التأثير البالغ الذي تركه فيمن يحيطون به، والذي من الصعب أن يتحقق لو كان قد ترك من وراءه المئات من المؤلفات.

والأستاذ الدكتور حسن عبد الحميد هو من مواليد محافظة سوهاج – مركز المنشاة – قرية الحُريزات- سنة 1940، وهو يعد واحداً من أهم أساتذة الفلسفة المصريين الذين تخصصوا تخصصاً دقيقاً في مجال المنطق وفلسفة العلوم، وذلك منذ بدء حياته العلمية؛ فقد أرسلته جامعة عين شمس إلى فرنسا للحصول على درجة الدكتوراه في الآداب في المنطق من جامعة السربون بفرنسا في الفترة من عام 1964 حتى عام 1975.

وأثناء دراسته عمل باحثاً بالمركز القومي الفرنسي للبحث العلمي من عام 1968 حتى 1973؛ وقد كانت الفترة التي قضاها في فرنسا فترة مليئة بالزخم البحثي والعلمي، هي التي شّكلت تكوينه الفلسفي حتى حصل على الدكتوراه برسالة بعنوان "منطق الاستدلالات القانونية".

ويبدو أنه تأثر أثناء بعثته بالمدرسة الفرنسية في مجال المنطق ومناهج البحث العلمي والإبستمولوجيا (أو نظرية المعرفة العلمية)، كما يُطلق عليها الفرنسيون؛ فقد درس عن كثب فلسفات كل من جاستون باشلار، وجان بياجيه، وروبير بلانشيه، وتأثر برؤيتهم الجديدة للإبستمولوجيا التى تقابل مدرسة الوضعية المنطقية.

فبينما تؤكد الوضعية على التحليل المنطقي للمعرفة العلمية، نجد أن الفلاسفة الفرنسيين يستخدمون المنهجين: التاريخى النقدى والارتقائى النفسى ؛ وفى حين تأخذ الوضعية بنظرة تجريبية متطرفة، يهدف أصحاب المدرسة الفرنسية إلى نزعة عقلانية معتدلة لا تستبعد دور التجربة فى تشكيل المعرفة العلمية.

لقد عمل الدكتور حسن عبد الحميد مدرساً بقسم الدراسات الفلسفية بجامعة عين شمس عند عودته من بعثته (من عام 1975 ـ 1981)، ثم تمت ترقيته إلى درجة أستاذ مساعد عام 1981، ثم أستاذا عام 1993. وقد درّس إلى جانب ذلك فى قسم الفلسفة بآداب صنعاء، وقسم الفلسفة بآداب الكويت، وهو يشغل الآن وظيفة أستاذ متفرغ بآداب عين شمس.

وخلال عمله بهذه الجامعات قام بتدريس مقررات عديدة، فبجانب مقررات المنطق ومناهج البحث العلمي والأبستمولوجيا، هناك مقررات فلسفية أخرى، مثل مدخل إلى الفلسفة، والفلسفة اليونانية، والتفكير العلمي عند العرب، والفلسفة المعاصرة؛  كذلك إلى جانب خبرته التدريسية والبحثية الكبيرة فقد شارك في كثير من المؤتمرات العلمية، كما أشرف على عدد كبير من الرسائل العلمية فى مختلف تخصصات الفلسفة؛ وغنى عن الذكر أن كثيراً من تلامذته يعملون في الجامعات المصرية والعربية.

لكن من الأهمية بمكان أن نذكر بعض المؤلفات التي تجسد فكره الفلسفي وإسهاماته العلمية، ولعل من بين هذه المؤلفات الكتب التالية:

1- المدخل إلى الفلسفة، القاهرة، مكتبة سعيد رأفت، 1977.

2- فى فلسفة العلوم ومناهج البحث، بالاشتراك مع د. محمد مهران، القاهرة، مكتبة سعيد رأفت 1978، والطبعة الأخيرة، القاهرة 1999.

3- نظرية المعرفة العلمية (الإبستمولوجيا) ترجمة مع تقديم وتعليق (تأليف روبير بلانشيه)، الكويت، مطبوعات جامعة الكويت 1986.

4- La Logique des raisonnements juridiques, koweit University press,1988 (رسالة دكتوراه  )

5- مقدمة فى المنطق الصورى، القاهرة، مكتبة الحرية الحديثة، 1990.

6- المنطق القانوني، بالاشتراك مع د. محمد مهران، حقوق القاهرة، 1997.

7- مستويات الخطاب المنهجى فى العلوم العربية الإسلامية، القاهرة، دار النهضة العربية، 2003.

8- موجز تاريخ الفلسفة اليونانية، القاهرة، 2000 .

9- تاريخ التشريع من التقليد إلى التجديد، بالاشتراك مع أ.د. آمال كامل عبد الرحمن الزقازيق، مطبعة جلال، 2012.

فإذا أتينا إلي ميدان الترجمة عن اللغات الأجنبية وجدنا إسهاماته في هذا الميدان لا تقل عن إسهاماته الأخرى في ميدان البحث الأكاديمي المختلفة، ولعل المتابعين لأنشطة الدكتور حسن عبد الحميد يلحظون أن أهم ترجماته، وهو كتاب " الابستمولوجيا لروبير بلانشيه"، كانت من اللغة الفرنسية التي كان له ولع بها.

ويمكننا تقسيم الإنتاج العلمي للدكتور حسن عبد الحميد إلى ثلاثة أنواع (بشهادة تلميذه النجيب الدكتور عصام الدين بيومي) : فهناك رؤية متميزة لتاريخ مناهج البحث العلمي، ويوجد ثانياً تفسير إبستمولوجى جديد لنشأة العلم، ثم أخيراً تطبيق لتلك الرؤية المنهجية وهذا التفسير الإبستمولوجى على مجال العلوم الإسلامية ؛ وبخاصة علم أصول الفقه. وتترابط تلك الأبحاث حيث تؤيد نتائجها بعضها البعض، كذلك من حيث اعتمادها على المنهج التاريخي النقدي والمنهج الارتقائي.

ولم يكن الدكتور حسن عبد الحميد ممن يحرصون علي غزارة الإنتاج، بل كان في عمله العلمي يغلب عليه الكيف علي الكم، وكان في ذلك متسقاً مع نفسه تمام الاتساق، فقد كان يبحث دائماً عن النوعية من الحياة، ويعرف كيف يتذوقها ويُرضي بها حسه المرهف . ولكن لعل السبب الأهم في عزوفه عن الإنتاج الغزير، برغم قدرته عليه، هو أنه كان من ذلك النوع النادر من الأساتذة، الذين يلمعون ويمارسون أعظم تأثير لهم من خلال اللقاء المباشر بينهم وبين تلاميذهم، لا من خلال اللقاء غير المباشر عبر الكتب والبحوث .

لقد كان الدكتور حسن عبد الحميد نموذجاً فذاً للمفكر الموسوعي الذي يعرف كيف يتعامل مع العالم المحيط ويسايره في تطوره، وهذا النموذج هو ما نفتقده بشدة في هذه الأيام التي يحاول الكثيرون فيها أن يثبتوا اخلاصهم لإسلافهم بالانغلاق، والتزمت، وكراهية الحياة، وإغماض العين عن ما في العالم من تنوع وتعدد وثراء .

وأما عن علمه الغزير فحدث ولا حرج، فلطالما لاحظت أن تبحره في الميثودولوجيا وفلسفة العلم، كان يدفع به إلي الدخول في تفاصيل كثيرة حول أسهل القضايا وأبسط الموضوعات، وذلك علي نحو نشعر إزاءه بوجود استكمال جوانب معرفتنا حول أمور كنا نظن أننا نعرفها كل المعرفة .

وقد شهد له كل من عرفه بأنه كان يخلص في العمل، ويتفاني في أداء واجباته، ويقرن إخلاصه في كل ذلك بالإعلان عن الرأي بوضوح، ومن غير أن يخشي في الله لومة لائم. وكما حظي الدكتور حسن بتقدير عظيم وبإعجاب بالغ في ندوات فكرية، وفي مؤتمرات علمية، أو حلقات نقاش، استهدفت الكشف عن الجوانب الابستمولوجية في كل العلوم والمعارف الأخرى .

لقد حظي الدكتور حسن عبد الحميد بكل ذلك التقدير والإعجاب والإكبار نظراً لما كان يتميز به من خلق رفيع، وأسلوب منطقي هادئ ورصين في عرض الحجج والآراء الفلسفية، فضلاً عن استلهام الدين في دفع الشبهات عن العقيدة السمحاء.

كان الدكتور حسن عبد الحميد رجلاً فاضلاً ذا خلق رفيع، قبل أن يكون رجل علم ذا معرفة وافرة وثقافة واسعة، ولا أظن أحد ممن عرفه يري في ذلك أي غرابة، فلقد ترعرع في بيئة إسلامية صالحة وتشبع – منذ صغره – بتعاليم الدين الحنيف، فكان ذلك خير معين له علي التماس طريق الحق والصواب في الفكر والسلوك، وخير زاد له علي بلورة نظرته الفلسفية حول الكون والإنسان والحياة .

وإذا ما جئنا لنكشف ما تميز به الدكتور حسن من علم وافر وثقافة واسعة، وجدنا صيته في هذين المجالين يتجاوز نطاق العالم العربي والإسلامي إلي ما هو أوسع وأرحب . ولعل الذي أعان علي انتشار صيته وازدياد شهرته، ومعرفته المتنامية باللغات الأجنبية الحية من انجليزية، وفرنسية، وألمانية وغيرهم . وغني عن البيان أن هذه اللغات، التي كان يعرفها الدكتور حسن عبد الحميد، لها شأن كبير في تشكيل تيارات الفكر والثقافة في عصرنا الحاضر . ناهيك عن أنه كان ضليعاً بلغته العربية – لغة القرآن الكريم – وعارفاً بالمصطلحات الفلسفية اليونانية واللاتينية.

تحية طيبة لأستاذنا الدكتور حسن عبد الحميد الذي كان وما زال يمثل لنا نموذجا فذا للمفكر الموسوعي الذي يعرف كيف يتعامل مع العالم المحيط به ويسايره في تطوره، وهذا النموذج هو ما نفتقده بشدة في هذه الأيام التي يحاول الكثيرون فيها أن يثبتوا إخلاصهم لوطنهم بالانغلاق والتزمت وكراهية الحياة، وإغماض العين عن كل ما في العالم من تنوع وتعدد وثراء.

وتحيةً أخري لرجلٍ لم تستهوه السلطة، ولم يجذبه النفوذ ولكنه آثر أن يكون صدى أميناً لضمير وطنى يقظ وشعور إنساني رفيع وسوف يبقى نموذجاً لمن يريد أن يدخل التاريخ من بوابة واسعة متفرداً.

 

د. محمود محمد علي

كلية الآداب – جامعة أسيوط

 

في المثقف اليوم