شهادات ومذكرات

قدرية إسماعيل: أيقونة الفنومنولوجيا في مصر والعالم العربي

محمود محمد عليالدكتورة قدرية إسماعيل إسماعيل.. هي واحدة من كبار الرواد في دراسة فنومنولوجيا هوسرل  بمصر، والعالم العربي، وقد استطاعت من خلال بحوثها ومؤلفاتها أن تنقل البحث في الفلسفة الفنومنولوجية من مجرد التعريف العام بها، أو الحديث الخطابي عنها – إلي مستوي دراستها دراسة موضوعية، تحليلية – مقارنة . وقد كانت في هذا صارمة إلي أبعد حد: فالنص الفلسفي لديها هو مادة التحليل الأولي، ومضمونه هو أساس التقييم، والهدف منه هو الذي يحدد اتجاه صاحبه.

وشخصية الدكتورة قدرية إسماعيل هي الأخرى متميزة بطابع الجدية . وقد كان الحوار معها من أصعب الأمور، وخاصة علي أولئك الذين لا يحسنون استخدام عقولهم . فهي لا تقبل هذراً ولا فوضي. والألفاظ لديها ينبغي أن تكون علي قدر معانيها . فالتزيد مرفوض، والفيهقة مستحيلة . لذلك كانت دائرة أصدقائها ضيقة جدا، ومعارفها قليلين . وصارت الفكرة التي شاعت عنها أن الصغار يخشون منها، والكبار يهابونها.

وهَبَت الدكتورة قدرية إسماعيل حياتها كلها للجامعة : تعليماً وبحثاً، وظلت اهتماماتها الرئيسية هي اهتمامات أستاذ جامعي يسعي إلي أن يرتفع بعمله إلي أعلي مستوي ممكن . وكانت تعتقد أن قدراتها الخاصة لا تقل بحال من الأحوال عن قدرات أي باحث مماثل لها في أوربا . لذلك فإن حوارها مع كبار الأساتذة في إنجلترا ( خلال البعثة في سبعينات القرن الماضي) أو الولايات المتحدة الأمريكية ( عندما زارتها في تسعينيات القرن الماضي)، كان يتسم بالندية . وكانت تصحح الكثير من آرائهم بالاعتماد علي المنهج العلمي الحديث في البحث والدرس الفلسفي .

إن مثل هذه الشخصية العلمية المتميزة كانت تحتاج إلي البيئة الملائمة لكي تقدم أطيب الثمار، وقد عملت الدكتورة قدرية إسماعيل في ظل ظروف غاية في الصعوبة، ومع ذلك استطاعت أن تؤكد ذاتها، وأن تحفر بأظافرها مجري خاصاً بها، بين دارسي الفلسفة المحدثين، وعلي الرغم من ذلك الجهد الجبار الذي بذلته في البحث والعطاء، فقد خلت حياتها تقريباً من لحظات التقدير التي يتلقاها العامل المجد، بل علي العكس : كان نجاحها هو سر مأساتها ! الغيرة والحسد، ومحاولات الوقيعة، ونشر الشائعات المغرضة : هي كل ما كانت قدرية إسماعيل تراه من حولها، في داخل كليتها. أما في خارجها، وعلي مستوي دارسي الفلسفة في مصر، فلم يكن هناك سوي الصمت المطبق عن جهودها البحثية، وكان هذا الصمت بمثابة عملية قتل بطئ .. والوحيد الذي مزق هذا الصمت كان هو (أستاذنا) الدكتور عاطف العراقي، حين تحدث عن جهودها وامكاناتها في الفلسفة الغربية، وتحدث عن منهجها، وبعد موت د. عاطف العراقي عاد الصمت واستمر النكران.

والدكتورة قدرية اسماعيل من مواليد 26/9/1941، بمحافظة الدقهلية، حيث حصلت علي  المرحلة الجامعة الأولي وهي ليسانس الآداب  من كلية البنات بتقدير ممتاز مع مرتبة الشرف الأولي، وذلك سنة 1962، وحصلت علي درجة الماجستير من كلية البنات في موضوع سنة 1969 في موضوع بعنوان  "فلسفة ليبنتز : الميتافيزيقا والإلهيات بتقدير ممتاز سنة 1969، وحصلت علي درجة الدكتوراه من كلية الآداب في موضوع عنوانه "مشكلة المعني في فلسفة اللغة " بتقدير ممتاز بمرتبة الشرف الثانية سنة 1979.

ولقد شهد لها زملاؤها ومعاصروها لها بالدقة، والأمانة العلمية، والثقافة الواسعة ..إلي جانب ما تتمتع به من خلق رفيع،. ولا غرو في ذلك فهي تمثل منظومة حافلة بالعطاء العلمي الجاد، والشموخ الإنساني المتميز، باحثة ومنقبة، محققة ومدققة، مخلفة وراءها ثروة هائلة من الكتب العلمية، والبحوث الاكاديمية الرصينة، وطائفة كبيرة من المريدين والاتباع الذين أعطتهم خلاصة فكرها وعلمها.

وأما عن تدرجها الوظيفي فقد تم تعينها معيدة بكلية البنات – جامعة عين شمس في نوفمبر سنة 1962،  ثم تعيينها مدرساً مساعداً عام 1971، وفي عام 1972 بدأت للتسجيل في درجة الدكتوراه وذلك تحت إشراف الأستاذ الدكتور فؤاد زكريا، وخلالها حصلت علي بعثة داخلية لمدة عامين، مكنتها للسفر إلي  إنجلترا من أن تقابل كبار الفلاسفة آنذاك، وعقب عودتها من البعثة كان الدكتور فؤاد زكريا قد سافر إلي العمل بجامعة الكويت، فأُسند الإشراف بعد ذلك إلي الأستاذ الدكتور نازلي إسماعيل حسين (التي أبت أن تناقشها لولا تدخل رئيس الجامعة في ذلك الوقت وهو الأستاذ الدكتور صلاح قطب "رحمه الله" )، ونوقشت الرسالة عام 1979.

وفي فبراير سنة 1980 تم تعيين الدكتورة قدرية إسماعيل مدرساً للفلسفة الحديثة والمعاصرة، وفي عام 1981 -1982،  سافرت إلي الولايات المتحدة الأمريكية في مهمة علمية لمدة عامين؛ حيث تمكنت من جمع مادة علمية لدراسة الفلسفة الفنومنولوجية .

وعقب عودتها بدأت تكثف جهدها للبحث في غمار فلسفة هوسرل، وكان أول عمل فلسفي لها هو كتاب  بعنوان " الجذرية في ظاهريات هوسرل "، وكانت فكرة البحث الرئيسة في هذا الكتاب هي؛ تأسيس فعل التفلسف وتحويل الفلسفة إلي علم دقيق بفضل استخدام المنهج المسمى بالمنهج الفنومنولوجي، حيث حدد هوسرل موضوع الفلسفة ومنهجها بأنه يقوم علي دراسة الماهيات . وبالتالي الفنومنولوجيا تعني نسق يتألف من أنظمة معرفية تنتج بواسطة استخدام ما أسماه منهج جديد للتفكير وهو منهج فلسفي أصيل، وهو المنهج الفنومنولوجي وقد صدر هذا الكتاب في حوالي 300 ورقة من القطع الكبير.

والكتاب الثاني كان بعنوان " تأملات في الظاهريات "  ويدور حول موضوعين رئيسيين، حيث تكشف لنا الدكتورة قدرية إسماعيل أبعاد الفنومنولوجيا من خلال موضوعين؛ الموضوع الأول الذي تناولته الباحثة ويدور حول المعني الدقيق للفنومنولوجيا ؛ حيث كشفت عن كيف نفهم فنومنولوجيا هوسرل؛ كما كشفت عن كيفية استخدام المعني الدقيق لفنومنولوجيا هوسرل من حيث: كيف تفهم أو كيف تؤول وكيف تستخدم . والموضوع الثاني كان ما أسماه هوسرل في كتابه أزمة العلوم الأوربية ( وهو آخر كتاب كتبه ولم ينشر في حياته لأنه توفي سنة 1938) ؛حيث تكلم عن امكان استخدام المنهج الفنومنولوجي في دراسة عالم الحياه اليومية، وهو العالم الذي نعيش فيه ونتصارع فيه ونموت فيه ...إلي آخره، وكان هذا الكتاب يقع في حوالي 120 صفحة من القطع الكبير.

وأما الدراسة الثالثة وهو بحث صدر بالإنجليزية بعنوان "مسألة أسس المعرفة في الفنومنولوجيا"، هل مصدر المعرفة براني أم براني، أو مصدر خارجي صرف أم خارجي وما هو دور الوعي الذي ركز عليه هوسرل، وخلصت الباحثة إلي أن عملية المعرفة عند هوسرل لها عناصر متعددة  وكان هذا البحث يقع في حوالي 43 صفحة .

والبحث الرابع وهو بعنوان " فكرة أخلاق فنومنولوجية، حيث أبرزت الباحثة كيف يمكن استخدام المنهج الفنومنولوجي في دراسة مسائل الأخلاق، والبحث هو تطبيق للمنهج الفنومنولوجي، وإشكالية البحث تدور حول أن ما يسمي بالمفاهيم الأخلاقية وهو أن أي مفهوم في الأصل يمثل خبرة معاشة فكوني أتصف بالأمانة أو الشرف أو الاجتهاد.. كل ذلك يكون من خلال معايشتي هذه القيمة أو تلك،  فاللص مهما أقسم فهو يعلم بداخله أنه لصا. وقد نشر هذا البحث بالمجلس الأعلى للثقافة بلجنة الفلسفة في ثمانينات القرن المنصرم.

وقد تقدمت الدكتورة قدرية بتلك الأبحاث للحصول علي درجة أستاذ مساعد، حيث كان قد قام بتقييم إنتاجها العلمي كل من أ.د/ نازلي إسماعيل، و أ.د/ أميرة حلمي مطر، و أ.د / محمد علي أبو ريان، وقد منحت علي درجة أستاذ مساعد في أكتوبر 1968، حيث أكدت أن هذا العمل يمثل انتاج متخصص في الفنومنولوجيا، وهذا أول مرة وأنه جدير بأن يرقي الدكتورة قدرية إسماعيل إلي درجة أستاذ مساعد.

وعقب حصولها علي أستاذ مساعد توجهت الدكتورة قدرية اسماعيل إلي مشروع آخر؛ وذلك في محاولة جريئة لكنها كانت مهمة بالنسبة لها، وهو كيف يمكن لها أن تستخدم مناهج التفلسف الذي تعلمته من إنجلترا والولايات المتحدة وكيف يمكن توظيفها في دراسة المسائل الفلسفية، فكان أول عمل لها في أبحاث الأستاذية يدور حول المنهج  المثالي (التراندسندنتالي) عند إرنست كاسيرر، وهو بحث مكون من 45 صفحة، وكان  البحث يدور حول "الشكل الرمزي عند إرنست كاسيرر- الجذور  والأصالة"، وقد ناقشت تلك الفكرة الرئيسية التي سيطرت علي كاسيرر؛ بحيث أنه قدم لنا أكبر مجلد في تاريخ الفلسفة الحديثة والمعاصرة، وهي فلسفة الأشكال (والذي صدر بعد ذلك في كتاب يقع في ثلاث مجلدات) - الفكرة نفسها-  أي المفهوم -وهو الشكل الرمزي، يدور حول كيف تكون الفكرة، وكيف يكون الرمز، وكيف طبقه  كاسيرر في فهم الواقع، سواء كان هذا الواقع حضارة،  أو واقع مادي... إلي آخره.

والبحث الثاني وهو كتاب بعنوان "منطق المفهوم العلمي من منظور مثالي تراندسندنتالي عند كاسيرر ؛ حيث يتحدث كاسيرر عن الفرق بين concept، conception ، إذ إن تلميذته سوزان لانجر قد أوضحت الفرق بين المصطلحين، حيث بينت الدكتورة قدرية كيف طبق كاسيرر المثالي التراندسندنتالي ( وهو المتابع لكانط ) وكيف طبقه كاسيرر علي مفهوم العدد، وهذا الكتاب يقع في 180 صفحة .

والكتاب الثالث وهو بحث مكثف  ودقيق، ويدور حول "الاستقراء من منظور نقد المعرفة العلمية"، وهذا البحث تناولت فيه الباحثة النقاش الدقيق بين العمليات المنطقية الأساسية في مناهج البحث العلمي، وهي عمليات التفكير، وقدمت من خلاله رؤيتين متقابلتين: الرؤية التجريبية والرؤية المثالي (التراندسندنتالي) لبنية العلم ووظائف العلم وما هي كفاءتها وعدم كفاءتها عند كل منهما، وشرحت الدكتورة قدرية اسماعيل فيه : ما الذي جعل الرؤية التجريبية عاجزة عند فلاسفة العلم الذين يتبنون الاتجاه التجريبي، ولماذا أضحوا عاجزين عن أن يفسروا مكونات العلم سواء كانت مفاهيم علمية أو فروض أو قوانين أو مبادئ أو أحكام علمية ... إلي آخره،  وخلصت إلي أنهم افتقدوا الرؤية المثالي التراندسندنتالي، وهذا البحث يقع في حوالي 120 صفحة من القطع الكبير.

وأما الدراسة الرابع فهي تطبيق المنهج الفينومينولوجي في دراسة علم الأخلاق من خلال الفيلسوف الألماني" شيلر"، واعتمدت فيه الباحثة علي المناقشات والاجتماعات والمؤتمرات التي حضرتها في جامعة هارفرد وكانت مركزة علي الفينومنولوجيا، وكان الجيل الرابع من علماء الفينومنولجيا كان موجودين في ذلك الوقت وكانت الباحثة توجد بينهم وتناقشهم. المهم تناولت فيه الباحثة ما يسمي بالحوار الساخن بين شيلر وبين وكانط، وكيف شَرحَ شيلر كانط في كتاب نقد العقل العلمي وفكرة الواجب ..إلي آخره , وقد سأل شيلر سؤال بسيط : هل يمكن أن ندرس المفاهيم الأخلاقية دون أن نراعي أن كل مفهوم أخلاقي هو يعبر عن خبرة معاشه، أي عن حال بشري - أي أننا نعيش عن حال بشري - أي خبرة نحن نعيشها سواء كوني صالحا أو طالحا .. الي آخره وبدأ يعطينا مواصفات هذه الرؤية ويخرج منها أنه لكي نؤسس علم الأخلاق بمفاهيمه ويكون علم أخلاق حقاً  لا بد أن يستند إلي القيم، وكل قيم ليست في عالم مفارق، بل نعيشها (فحين أقول عن فلان أنه إنسان صالح كونه صالحا فهو صالح لكوني أراه صالحا من خلال أعماله علي أنه كذلك). وبدأ يوضح شيلر كيف يكون الإنسان ذاتا أخلاقية ووضع لها شروط . والكتاب يقع في حدود  388 صفحة.

والدراسة الخامس هو بحث عن ألفريد إير عن اقتلاع فكرة الميتافيزيقا، ونشر هذا البحث تحت عنوان نصوص فلسفية ترجمة وتعلق ودراسة؛ حيث كشفت الدكتورة قدرية إسماعيل عن منهج التحليل الفلسفي عند إير، والذي طبقته الوضعية المنطقية، وإير كان من أعضاء دائرة فيينا، وهو قد إنفصل، وكان هناك خلاف علي أمور معينة، وشكلَ بعد ذلك التجريبية المنطقية التي تبناها بعد ذلك الدكتور زكي نجيب محمود، وكشف الباحثة أن الدكتور زكي قد تبني أفكار إير في كتابه نحو فلسفة علمية.

والدراسة السادس بحث بعنوان : "موريتس شليك : محاولة لرؤية أخلاق علمية" وفي هذا البحث تقول الباحثة أن مورتش شليك قد نجح في أن يقنعنا بأن ما هو معياري يصير علي أنه فعلي،  كما قدم نموذج شليك جديد لأخلاق العقل، فالأفكار التي قدمها شليك بينت كيف يمكن أن نحقق الانسجام والسلام بين البشر عن طريق الاهتمام المتبادل من المراعاة والسلام بين البشر .

ولم تكن الدكتورة قدرية إسماعيل ممن يحرصون علي غزارة الإنتاج، بل كان عملها العلمي يغلب عليه الكيف علي الكم، وكانت في ذلك متسقةً مع نفسها تمام الاتساق، فقد كانت تبحث دائماً عن النوعية من الحياة، وتعرف كيف تتذوقها وتُرضي بها حسها المرهف . ولكن لعل السبب الأهم في عزوفها عن الإنتاج الغزير، برغم قدرته عليها، هو أنها كان من ذلك النوع النادر من الأساتذة، الذين يلمعون ويمارسون أعظم تأثير لهم من خلال اللقاء المباشر بينهم وبين تلاميذهم، لا من خلال اللقاء غير المباشر عبر الكتب والبحوث .

وقد حصلت الدكتورة قدرية اسماعيل عن درجة الأستاذية سنة  1992، وترأست قسم الفلسفة والعلوم الاجتماعية حتي  بلوغ سن المعاش في عام 2001، وخلال تلك الفترة قامت بترجمة العديد من الكتب والدراسات الفلسفية، مثل كتاب مدخل إلي المنطق الرمزي لسوزان لا نجر، كما قامت بنشر الكثير الفلسفية في كثير من المؤتمرات والندوات والتي أفرزت العديد من دراساتها حول الفلسفة الفنومنولوجية، ونذكر منها علي المثال دراسة عن : الخطاب الفينومنولوجي -الماهية والمعني، والعنف من زاوية فينومنيولوجيا، وفينومنولوجيا الخلاف والاختلاف...وهلم جرا .

تحية طيبة للدكتور قدرية اسماعيل التي كانت وما تزال تمثل لنا نموذجا فذا للمفكر الموسوعي الذي يعرف كيف يتعامل مع العالم المحيط به ويسايره في تطوره، وهذا النموذج هو ما نفتقده بشدة في هذه الأيام التي يحاول الكثيرون فيها أن يثبتوا إخلاصهم لوطنهم بالانغلاق والتزمت وكراهية الحياة، وإغماض العين عن كل ما في العالم من تنوع وتعدد وثراء.

وتحيةً لامرأة عظيمة لم تستهوها السلطة، ولم يجذبها النفوذ ولكنها آثرت أن تكون صدى أميناً لضمير وطنى يقظ وشعور إنسانى رفيع وسوف يبقى نموذجاً لمن يريد أن يدخل التاريخ من بوابة واسعة متفرداً .

 

د. محمود محمد علي

 

 

في المثقف اليوم