شهادات ومذكرات

صحافيون عراقيون من خريجي الجامعات الروسية

ضياء نافعهم ليسوا بكثيرين، هؤلاء الذين درسوا في كليات الصحافة بالجامعات الروسية وحصلوا على شهاداتها، وعمل قسم منهم في الجامعات وبرزوا فيها، ولكننا نريد التوقف هنا عند بعض الاسماء العراقية المختارة بينهم، الاسماء التي برزت في العمل الصحفي التطبيقي بالذات، اي اصبحوا صحافيين محترفين فعلا بعد تخرجهم في تلك الجامعات، وهؤلاء هم - وحسب حروف الهجاء – كل من المرحوم د. جلال الماشطة والمرحوم سعود الناصري ود. سلوى زكو ومحمد كامل عارف . ان كل واحد من هؤلاء الصحافيين يستحق ان نكتب عنه مقالة تفصيلية خاصة به، كي نوفيه حقه ونتحدث بشكل موضوعي وشامل عن مكانته ونشاطه الصحفي الابداعي، ونرسم للقارئ صورة متكاملة عن دوره في مسيرة الصحافة والاعلام . ونبدأ بالمرحوم د. جلال الماشطة، ونقدم للقارئ موجزا عن مسيرته الصحفية الحافلة، ونأمل (عندما تسمح ظروفنا) ان نعود لاحقا للحديث عن الاسماء الاخرى من هؤلاء الخريجين الكبار في كليات الصحافة من الجامعات الروسية، الاسماء اللامعة في دنيا الصحافة العراقية والعربية ايضا .

نتوقف عند اسم المرحوم د. جلال الماشطة . قصة جلال مع الصحافة طريفة جدا، اذ لم يصل اليها رأسا، فقد درس اول الامر في معهد الطاقة مع أخيه صلاح الماشطة (صديق العمر بالنسبة لي منذ 1959 ولحد الان)، وكان طالبا متقدما في دراسته تلك، وكان واضحا انه سيكون مهندسا كهربائيا ناجحا، الا انه بدأ منذ دراسته في معهد الطاقة بالميل (بفتح الياء) نحو الادب واللغة والعلوم الانسانية عموما، وأخذ يقترب من جماعات طلابية عراقية كانت تهوى الادب والفكر، وقد ساعدت معرفته العميقة للغة الروسية على هذا التوجّه الادبي، وهكذا اصبح هذا النشاط الهاجس الاساسي بالنسبة لجلال لدرجة، انه بدأ يشعر بالندم لانه اختار دراسة لا تتناسق وهوايته هذه وميوله الفكرية، بل - و يمكن القول- حتى مع طموحه الشخصي، وهكذا وصل الى قرار شجاع سيغير مجرى حياته، وهو – ترك معهد الطاقة والانتقال الى الدراسة في كلية الصحافة رغم كل تلك السنين الناجحة دراسيا في ذلك المعهد. وقد كلّفه هذا القرار الرجوع الى العراق والعودة ثانية الى موسكو للبدء بتلك المسيرة الجديدة، ونجح بتحقيق رغبته رغم كل الصعوبات الهائلة التي عانى منها نتيجة لهذا القرار، الصعوبات الادارية والبيروقراطية ومواقف الآخرين وتدخلاتهم و(سيل نصائحهم !)، ويمكن القول الان – وبكل ثقة – ان جلال حقق آنذاك اول نصر باهر وكبير في حياته الشخصية، اذ انه اكتشف نفسه، وعلى اساس هذا الاكتشاف أخذ يبني مستقبله . وهكذا بدأ جلال بالسير في طريق الترجمة، مستخدما معرفته العميقة للغة الروسية، واصبح واحدا من ألمع المترجمين العراقيين في الاتحاد السوفيتي (انظر مقالتنا بعنوان – المترجمون العراقيون في الاتحاد السوفيتي)، وتخرج في الوقت نفسه في كلية الصحافة بجامعة موسكو (حصل بعدئذ على شهادة الدكتوراه في الصحافة والاعلام)، ثم اصبح مدير مكتب صحيفة الحياة في موسكو، وهكذا دخل عالم الصحافة من اوسع ابوابه، وبرز اسمه في هذه الصحيفة اللندنية الشهيرة باعتباره صحافيا موهوبا يغطي ما يجري في موسكو من احداث تخص مسيرة الاتحاد السوفيتي والعالم العربي. وعاد جلال الى العراق رأسا بعد الاحتلال الامريكي وسقوط نظام صدام، وتفاعل مع الاحداث السياسية الكبيرة المعروفة باعتباره صحافيا مرموقا، واصبح رئيس تحرير صحيفة (النهضة) البغدادية، والتي كانت واحدة من اوائل الصحف الجديدة الواسعة الانتشار بين القراء العراقيين في تلك الفترة، ثم انتقل جلال بعدئذ للعمل في الاذاعة والتلفزيون واصبح المسؤول الاول في تلك المؤسسة الاعلامية المهمة، ثم استقال احتجاجا على بعض الاعمال التي حدثت فيها، ثم اصبح مستشارا ثقافيا للرئيس جلال الطالباني، واخيرا اصبح سفيرا للجامعة العربية في موسكو، ولكنه رحل مبكرا عن الحياة مع الاسف الشديد نتيجة مرضه، وتم دفنه في موسكو.

جلال الماشطة ومسيرته الصحفية الحافلة تصلح ان تكون موضوعا للبحث في علم الصحافة بشكل عام، وفي تاريخ الصحافة العراقية بشكل خاص، موضوعا يمكن ان يكون كتابا خاصا او اطروحة جامعية للماجستير اوالدكتوراه، اذ ان مسيرته الثقافية في دنيا اللغات و الترجمة والصحافة وصولا الى المناصب الرفيعة التي شغلها تعني الحديث عن هؤلاء العراقيين الموهوبين، الذين شقّوا طريق نجاحاتهم بعملهم الذاتي البحت، عملهم العنيد والدؤوب، والذين استطاعوا اكتشاف طاقاتهم الابداعية و استخدموها للوصول الى اهدافهم .

 

أ. د. ضياء نافع

 

في المثقف اليوم