شهادات ومذكرات
مصدق الحبيب: منظرو الاقتصاد (7): كارل ماركس

Karl H. Marx (1818 –1883)
هذا هو كارل هنرش ماركس الذي ملأ الدنيا وشغل الناس. هو الفيلسوف والاقتصادي والاشتراكي الثوري الألماني صاحب الرؤى الثاقبة الذي تنسب اليه الفلسفة الماركسية ذائعة الصيت، وصاحب القول الذي دوت اصداؤه عبر الأرض قاطبةً: "لا يخسر الكادحون سوى اغلالهم، فيا عمال العالم اتحدوا" وهو مؤلف كتاب "رأس المال" بأجزائه الثلاثة ، الذي يعتبر اشهر كتاب في تاريخ الفكر الاقتصادي. يقول البروفسور نيهاينز، الاستاذ في جامعة جون هوبكنز في كتابه تاريخ النظرية الاقتصادية:
"ماعدا بوذا والمسيح ومحمد، لم يُذكر اسم عبر تاريخ البشرية أكثر مما ذُكر اسم ماركس".
فخلال تاريخ الفكر، لم يستطع أي مفكر غير ماركس أن يخلق ذلك الاندفاع اللاهب في عقول وأفئدة الشباب المتحمس للتغيير. فمنذ نشر البيان الشيوعي قبل قرن وثلاثة ارباع القرن، استطاعت افكار هذا الرجل ان تعزف على الوتر الحساس عند الملايين من العمال والمثقفين الذين خذلتهم وهمشتهم انظمتهم السياسية الفاسدة، بما في ذلك النظم الرأسمالية وشركاتها ومؤسساتها. ولقد أصبحت الماركسية ديناً يعتنقه الملايين من المحرومين والمعذبين في الأرض الذين يسعون الى استرداد حقوقهم المسلوبة من قبل حكام مارقين وأنظمة جائرة.
كان ماركس قارئا نهما وكاتبا مستفيضا. فقد قرأ وكتب في حقول كثيرة كالفلسفة والتاريخ والاجتماع والسياسة واللغات والنقد الادبي، ولكن الاقتصاد احتل لديه المرتبة الأولى. يقول البروفسور مارك بلوگ المتخصص في تاريخ الفكر الاقتصادي ان ماركس كتب في الاقتصاد وحده أكثر من 10,000 صفحة. وماركس هو الذي صاغ مصطلح "الرأسمالية" ومصطلحات أخرى عديدة نتداولها اليوم كالبرجوازية والبروليتارية وفائض القيمة والمادية التاريخية والرأسمالية الاحتكارية وغيرها كثير جعلها الادب الماركسي شائعة في الادب الاقتصادي والسياسي عموما.
ولد ماركس في الخامس من مايس عام 1818 في مدينة ترير Trier ضمن مقاطعة راينلاند في بروسيا التي أصبحت فيما بعد جزءً من ألمانيا الغربية. وكانت عائلته من الطبقة الوسطى وذات جذور دينية ملتزمة، حيث كان اجداده بطرفيهما من الحاخامات اليهودية، لكن والده كان محاميا لبراليا مثقفا يعشق مفكري وفلاسفة عصر التنوير وخاصة كانت Kant وفولتير Voltaire. علما انه لم يجد من مانع في ان يتحول الى المسيحية عام 1816، أي قبل ولادة كارل بسنتين، وذلك حين اقتضت ذلك مصلحته الوظيفية. وهكذا فقد جرى تعميد أطفاله التسعة، فعُمّد كارل بسن السادسة، إلا ان الأم لم تتمكن من ان تجرح مشاعر والدها المتدين فتهجر دينها وتعتنق المسيحية، الا بعد وفاته عام 1825. أمضى كارل تعليمه الابتدائي في البيت قبل ان يدخل الثانوية العامة في ترير ليذهب بعدها الى جامعة بون لدراسة الفلسفة والقانون.
في جامعة بون التقى ماركس بمجموعة من الشباب المتمردين الطائشين واشترك بنشاطاتهم وفعالياتهم الى ان انتهى به الامر ان يُعتقل ويمضي يوما واحدا في التوقيف بتهمة الافراط في شرب الكحول وتعكير صفو الحرم الجامعي. كان ذلك سببا ملحا لوالده ان ينقله الى جامعة برلين ذات الجو الجامعي الاكثر التزاما وهدوء.ً وفي جامعة برلين انظمَّ الى نادي الهيگليين الذي نظمته مجموعة من الشباب الجامعي التي اعتنقت فلسفة هيگل Hegel (1770-1831) وحولوها الى منصة ثقافية وسياسية راديكالية وفرت لهم متابعة ومناقشة القضايا السياسية والاقتصادية. من ضمن هذه المجموعة تعرّف ماركس على بعض الزملاء الذين سيصبحون فيما بعد اسماءً بارزة في الفكر والفلسفة كلودفگ فيورباخ وبرونو باور وأدولف روتنبرگ. وبتأثير هذه المجموعة بدأ ماركس يكتب مقالات نارية ضد الأوضاع السياسية والاجتماعية، مما سبب له مضايقات وتعقيدات كثيرة.
في عام 1836 تقدم ماركس لخطوبة جوّانة (جَني) فون وستفيلن، الفتاة الجميلة التي تكبره بأربع سنوات وله بها وبعائلتها معرفة وطيدة منذ الطفولة، مما اثار حنق والده، أولاً، لان ابنه أصبح راديكاليا، وثانياً لأنه توّرط بحب فتاة لا تتناسب معه لكونها من عائلة موسرة تعود جذورها الى طبقة النبلاء. لكن كارل وجني لم يأبها للفارق الطبقي وفارق العمر لانهما احبا بعضهما بصدق وحرارة. في عام 1841 حصل ماركس على شهادة الدكتوراه في الفلسفة من جامعة جناJena ، وكان راغبا بوظيفة اكاديمية لكنه لم يحصل عليها بسبب نشاطه السياسي وكتاباته الصحفية المحرضة. ولذا فقد استمر في عمله الصحفي وأصبح رئيسا لتحرير صحيفة الراين Rheinische Zeitung المحلية، لكن السلطات اغلقتها عام 1843 بسبب موقفها الراديكالي، فانتقل ماركس مع زوجته الى باريس.
في باريس استطاع ماركس ان يجد له عملا في الصحيفة السياسية Deutsch-Franzosische Jahrbucher ولكن بعد انجاز عدد واحد وجد نفسه على اختلاف حاد مع رئيس التحرير مما تسبب في ايقافها عن الصدور. ولكن سرعان ما اهتدت الصحيفة الى فكرة توفيقية من اجل الاحتفاظ بمساهمات ماركس الثمينة، وهي ان يعمل ماركس مع محرر آخر فجاءت بشاب يدعى فريدريش أنگلز (انجلس) Friedrich Angels الذي ابدا توافقا تاما وتعاونا مثمرا مع ماركس، حيث انجز الاثنان مقالات كثيرة كان من بينها ما خُصص لنقد فكر برونو باور الذي كان زميلا لماركس في الجامعة. وهكذا توطدت شراكة العمل بين ماركس وأنگلز لا كتشافهما الانسجام الفكري الكبير بينهما رغم الاختلاف الطبقي الواضح في نشأتهما. كان أنگلز ابن عائلة ارستقراطية معروفة تمتلك مصانع للقطن في ألمانيا وبريطانيا. لكنه كان مثقفا واعيا وسبق له أن نشر كتابا حول ظروف العمال في انگلترا. وهكذا فقد توثقت بينهما صداقة عمر حقيقية مخلصة لم يفصمها الا الموت، وقد أثر فيها أحدهما على الآخر تأثيرا كبيرا. كان أنگلز هو الذي اقترح على ماركس قراءة اعمال الاقتصاديين الكلاسيكيين مثل سمث وريكاردو ومِلْ. وهكذا فقد انتج هذا التقارب الفكري بينهما كتابهما المثير للجدل آنذاك والى اليوم بعنوانه الصادم وهو "العائلة المقدسة: نقد النقد النقدي"
The Holy Family: A Critique of the Critical Critique الذي قدما فيه نقدا لاذعا لمحاولة برونو وزملائه في المجموعة الهيكلية لتقديم نقدها "النقدي" أي الانتقادي الحاسم للتعاليم المسيحية.
كان ماركس خلال تلك الفترة ينشر مقالات سياسية اخرى في صحيفة Vorwarts المشبوهة سياسيا والمراقبة أمنيا من قبل الحكومة الفرنسية التي قررت نتيجة لمراقبتها ادبيات الصحيفة ان تطرد ماركس من فرنسا بسبب عمله فيها. عندذاك اضطر ماركس ان يغادر الى بلجيكا. ومن الجدير بالذكر هنا هو ان تلك الصحيفة وكادرها وقراءها هم من شكل بعد حين العصبة الشيوعية.
في بروكسل تعرف ماركس على المفكر الاشتراكي موسس هس Moses Hess واختلف مع طروحاته التي تعتمد على الصراع العنصري بدل الطبقي، لكن مناظرات ماركس هنا افادته ان يتعمق بمذهب الاشتراكية وينفصل عن تأثيرات منهج هيگل، ماعدا ما أخذه منه في موضوعة الدايلكتكDialectic . في هذه الفترة كتب ماركس أيضا ردودا داحضة على فيورباخ Feuerbach زميله السابق في جامعة برلين، حيث عُرفت تلك المناظرة فيما بعد بالإحدى عشرة اطروحة. كان اختلافه الرئيس مع فيورباخ يتلخص بان وظيفة الفلسفة هي تفسير الواقع وليس تغييره ذلك ان الواقع لا يتغير بالأفكار لوحدها انما يتطلب النشاط التطبيقي المادي الملموس. التغيير لا يحدث إلا بالعمل الواعي وعرق الجبين، على حد تعبير ماركس. كانت تلك الردود عبارة عن القاعدة التي انطلق ماركس منها لصياغة نظرية المادية التاريخية التي تعني بجوهرها ان البنية الاقتصادية للمجتمعات هي التي تقرر طبيعة تلك المجتمعات وترسم العلاقات بين الطبقات الاجتماعية السائدة، ذلك ان النظام الاقتصادي هو الاساس التحتاني الذي يسند النظام الفوقي المتكون من الفكر والسياسة والثقافة والاخلاق. ولذلك فقد استعار ماركس موضوعة الدايلكتك الهيگلية ووظفها في ماديته التاريخية. فكل نظام يحمل متناقضاته في داخله والتي ستؤدي بعد حين الى نهايته ونشوء نظام آخر بمتناقضات مختلفة. فالتطور، سواء كان طبيعيا ام اجتماعيا، يحدث حين تنجم التناقضات عن نتائج هجينة جديدة تستمد صفاتها كخليط من النقائض المتصارعة. وهكذا فان صراع النقيض Thesis مع نقيض آخر Antithesis سينتج بديلا مركبا مختلفا Synthesis والذي سيصبح فيما بعد نقيضا ليجد نقيضه ولتُنتج بدائل مركبة وهجينة أخرى، وهكذا هو منهج النمو والتطور.
يرى ماركس ان تاريخ البشرية عبارة عن سلسلة من الصراعات الطبقية. ففي الرأسمالية مثلا يتجسد ذلك الصراع بين الطبقة المتنفذة التي يسميها البرجوازية التي تسيطر على وسائل الانتاج والطبقة العاملة التي يسميها البروليتاريا التي تكدح وليس لديها سوى عرق جبينها وعملها الذي تبيعه من خلال عملية الانتاج. وحين تتركز الثروة بيد الطبقة الاولى ويزداد بؤس الطبقة الثانية، ستثور طبقة الكادحين هذه من أجل تغيير النظام ومحو الفوارق الطبقية. وباستخدامه لموضوعة الدايلكتك خلص ماركس الى ان النظام الرأسمالي القائم على الصراع المستمر بين تلك الطبقات يحمل بذور انهياره في داخله. فحين تتهيأ الفرصة للانهيار سينشأ نظام آخر ليكمل سلسلة تطور المجتمعات عبر تاريخ البشرية من المشاعية الى العبودية الى المركنتيلية فالرأسمالية والاشتراكية واخيرا الشيوعية. على ان شكل وطبيعة طرق ووسائل الانتاج هي التي تحكم طبيعة المجتمعات وترسم العلاقات بين افرادها في اي مرحلة من مراحل التاريخ.
من دراسات ماركس الأخرى ما كتبه في نقد الايديولوجيا الالمانية التي شرح فيها نظرية المادية التاريخية لكنه لم يجد في حينها اي ناشر مستعد لقبول هاتين الدراستين فبقيتا على الرف ولم ينشرا الا بعد وفاته. كما كتب ماركس نقدا شديدا لطروحات المفكر الاشتراكي الفرنسي پيير جوزيف پرودن Proudhon. ولقد تعمد ماركس ان يعنون دراسته هذه بعنوان ساخر مثير هو "بؤس الفلسفة" التي اراد منه ان يتهكم على كتاب پرودن الموسوم "فلسفة البؤس" الذي حاول فيه ان يوفق بين متناقضات الرأسمالية كالمنافسة والاحتكار في حين كان ماركس مصرا على ان ليس هناك اي مجال للتوافق بين تلك المتناقضات لانهما يسيران باتجاهين متعاكسين، ولذا فان ماركس انكر انكارا تاما امكانية حدوث التوازن الاقتصادي الذي يتأمله پرودن في ظل مساومة الاطراف من اجل الصالح العام، ووصف تحليله بأنه ناجم عن تفكير البرجوازي البائس العاجز عن فهم حركة التاريخ وقوانينه.
في عام 1846 أسس ماركس نادي المراسلة الشيوعي الذي تمت من خلاله المواصلة مع الشباب الاشتراكيين المتحمسين في أوربا والذي افضى الى تأسيس العصبة الشيوعية عام 1847 التي عقدت مؤتمرها الاول في لندن وأوصت فيه ان يتولى الثنائي ماركس-أنگلز كتابة بيان المؤتمر الذي سمي بالبيان الشيوعي. وحين نشر البيان عام 1848 تسبب في طرد ماركس من بلجيكا، فعاد الى فرنسا لكن فرنسا اغلقت الحدود بوجهه فحاول ان يعود الى وطنه الأم ألمانيا لكنه رفض ايضا. عندذاك جرب ان يذهب الى انگلترا التي رفضت ان تمنحه المواطنة لكنها سمحت له بالإقامة، فاتخذ من لندن مقامه الأخير الذي مكث فيه لاكثر من ثلاثة عقود ولحين وفاته. وهنا في لندن استمر نشاطه السياسي والفكري، وكذلك عمله الصحفي حتى انه عمل مراسلا لصحيفة الديلي تربيُن الامريكية في نيويورك لمدة عشر سنوات، من 1852 الى 1862. اضافة الى انجازه لكل ما يحصل عليه من اعمال صحفية من اجل العيش فانه بدأ بالتركيز على دراسة الاقتصاد التي تمخضت عن اهم منجزاته الفكرية. فهنا خطط لإنجاز دراسة اقتصادية معمقة ومطولة توزعت على ثلاثة اجزاء سماها "رأس المال" Capital. وقد أكمل ونشر الجزء الاول منها عام 1867 ثم واصل أنگلز تنقيح ونشر الجزئين الثاني والثالث بعد وفاة ماركس.
في "رأس المال" يقدم ماركس نموذجا اقتصاديا يختلف عما قدمه الكلاسيكيون من قبله. فهنا نرى تحليلا لعملية الانتاج في النظام الرأسمالي مع التركيز على قيمة العمل وفائض القيمة والاستغلال والاغتراب وتراكم رأس المال والاحتكار وتناقص الارباح والانهيار. ويمكننا القول بان نظرية ماركس الاقتصادية تستند على ثلاث ركائز: 1) نظرية قيمة العمل، 2) تركيز الثروة، 3) تناقص معدل العائد الربحي.
في نظرية قيمة العمل الكلاسيكية ووفقا لسمث وريكاردو وآخرين، تتحدد قيمة السلعة بموجب كمية العمل المبذول في انتاجها. كان ماركس قد انتبه الى الخلل الذي يقود الى التساؤل: كيف للمنتج ان يحصل على ارباحه إذا كانت قيمة ما ينتج من سلع تعود للعامل الذي بذل الجهد المساوي لها؟ فالاستنتاج المنطقي اذاً يقود الى ان الامر قد يحدث بحالتين: أما المنتج يعطي للعامل أقل مما يستحق، أو يجهده بساعات عمل أطول مما يجب! وفي الحالتين يكون المنتج قد استغل العامل وغمط حقوقه المشروعة. وهنا علينا ان نعرف ان هناك قيمتين للسلعة:
- القيمة الاستعمالية التي تشير الى مدى الفائدة منها او قابليتها على سد حاجة المستهلك وتحقيق اشباعه،
- والقيمة التبادلية التي تشير الى سعر بيعها في السوق.
يوضح ماركس ان لا غموض في جانب القيمة الاستعمالية انما ما يحمل الالتباس هي القيمة التبادلية وخاصة بمعناها النسبي، أي علاقة سعر السلعة بسعر ما يمكن تبادلها معه. وهنا يأتي دور ما بذل فيهما من جهد. يؤكد ماركس ان العمل هو عنصر الانتاج الوحيد من بين عناصر الانتاج الاخرى (الارض ورأس المال والتنظيم) القادر على انتاج قيمة أكبر من الاجر الذي يتقاضاه ولذا فهو يسمي العمل "رأس المال المتغير"، فيما يسمي العناصر الاخرى "رأس المال الثابت". ويخلص الى ان الفرق بين ما ينتجه العامل من قيمة وبين ما يستلم من اجور هو ما يسميه "فائض القيمة" الذي يذهب للمنتج كربح.
يواصل ماركس فیشیر الى ما يترتب على ذلك، وهو ان نمو الاقتصاد في النظام الرأسمالي وتطور الصناعة وتقدم التكنولوجيا اضافة الى زيادة السكان وتخصص القوى العاملة سيزيد من استخدام رأس المال الثابت على حساب استخدام رأس المال المتغير(العمل) مما سيجفف من منابع فائض القيمة الذي يؤول بمرور الزمن الى تناقص ما يستحصله المنتجون من أرباح، وبالتالي الى تفاقم الازمة الاقتصادية التي ستفضي الى تقويض النظام. كما يؤكد ماركس على ان النتيجة المباشرة لاستغلال العامل في ظل النظام الرأسمالي هي عدم حصوله على ما يستحق من اجور، لكن النتيجة الاعمق التي تتحقق على المدى الابعد هي الاغتراب Alienationعلى صعيد الفرد والمجتمع. والاغتراب هو انفصام الفرد عن واقعه وجوهر ما يميز نوعه وطبيعته. يحدث الاغتراب على أربعة أوجه: اغتراب العامل عما ينتجه، اغترابه عن عملية الانتاج ذاتها، اغترابه عن الاخرين، واخيرا اغترابه عن نفسه، أي عن كيانه وطبيعته وجوهره كانسان! ولا يعزو ماركس الاستغلال لاي طبيعة ذاتية متعلقة بالأفراد والجماعات، انما يؤكد انها ظاهرة موضوعية متمخضة عن طبيعة النظام الرأسمالي. تولد معه وتلازمه طالما تستمر عجلات النظام بالدوران. وبهذا فهو لا يوجه اللوم لأي طرف انما يؤكد بان المنتج الفرد يأخذ دوره المرسوم في النظام بغض النظر عن عواطفه تجاه هذا وذاك، والعامل في الطرف الآخر يأخذ دوره ايضا، حتى لو أدرك مدى الاستغلال والاغتراب المتضمن في ذلك الدور. ذلك لأنه الخيار الوحيد المتاح للجميع في ظل النظام القائم ووفقا للأدوار المرسومة لهم. وهكذا تستمر عجلة الاستغلال والاغتراب بالدوران مع دوران عجلة النظام. وهو هنا يخالف اطروحة الاقتصاديين الكلاسيكيين القائلة بتناغم وانسجام النظام الذاتي ودور اليد الخفية في التوازن الاقتصادي التي تقود عناصر النظام كما يفعل مايسترو الاوركسترا وعلى نحو يخدم المجتمع ككل. يصر ماركس على ان النظام يخدم القلة القليلة ويؤول الى استغلال الأغلبية الساحقة، على ان الامر يتفاقم أكثر كلما تركزت الثروة بيد تلك القلة.
ليس هناك أكثر من الإحصاءات الأمريكية الرسمية يأتي مصداقا لما تنبأ به ماركس في تركيز الثروة بيد افراد قلائل هم أصحاب الشركات الكبرى في النظام الرأسمالي. ففي عام 2023 كانت ثروة متوسط العائلة الامريكية 1.09 مليون دولار، في حين كان متوسط العائلة في الواحد بالمئة من السكان 1% تملك ثروة قدرها 33.4 مليون دولار. أما متوسط العائلة في الـ 0.1% من السكان فثروتها قدرت ب 1.52 بليون دولار. يقول روبرت رايش وزير العمل السابق في حكومة كلنتن أن متوسط العامل الأمريكي يحتاج الى 4 ملايين سنة لكي يحصل على ما يملكه رجل اعمال واحد مثل إيلون مُسك Elon Musk صاحب شركة تسلا للسيارات ومنصة أكس للتواصل الاجتماعي الذي قدرت ثروته ب 200 بليون دولار، وكذلك جَف بيزوس Jeff Bezos صاحب شركة أمازون الذي يملك 201 بليون دولار. والاغنى منهما برنارد آرنو Bernard Arnault صاحب سلسلة من شركات السلع الباذخة الذي يملك 211 بليون دولار.
يلخص ماركس خطايا النظام الرأسمالي بمسألتين:
- الطبيعة الذاتية والفوضوية لنظام المنافسة وحرية السوق، و
- الاستغلال الطبقي الذي يهيمن فيه صاحب العمل على العامل ويستحوذ فيه على فائض القيمة
ومع ذلك فلم يفت ماركس ذكر ايجابيات النظام الكثيرة كتميزه بالنمو الاقتصادي وزيادة الانتاجية وفرص التصنيع، والتمدن، والتقدم العلمي والتكنولوجي. ويذهب ابعد لوصف طبقة الرأسماليين بانها الطبقة الاكثر ثورية في التاريخ من منظار امكانيتها في خلق الحوافز وزيادة الاستثمار وتطوير وسائل الانتاج، لكن كل ذلك من اجل المصلحة الخاصة فيما تبقى فائدة المجتمع بالنسبة لها عبارة عن نتيجة عرضية ثانوية. يذكرني هذا بما سمعته مرة قبل أكثر من ربع قرن وبقي یرّن في ذهني. کان ذلك في محاضرة للاقتصادي الامريكي الليبرالي جون كينث گالبريث استاذ الاقتصاد في هارفرد الذي وصف المقارنة بين ما تستفيد فيه العامة وما تستفيد فيه القلة من الشعب الامريكي، وهم نخبة رجال الاعمال وأصحاب الشركات الاحتكارية الكبرى، قائلا: “عندما تُطعم الحصان لحد التخمة سيلقي فضلاته على قارعة الطريق! عندذاك ستقتات العصافير على الحبوب غير المهضومة في برازه"
عاش ماركس اغلب سنوات عمره فقيرا معوزا ومتشردا. وقد عانى اطفاله الحرمان وأمضت معه زوجته المتفانية أقسى سنوات حیاتها وهي بنت الخیر والنعيم. وفوق هذا وذاك فقد أمضى ثلثي حياته تحت رادار السلطات التعسفية، تراقبه وتتحين الفرص للإيقاع به. ولم يستطع تحصيل ما يسد تكاليف معيشة عائلته لولا المساعدات السخية المتواصلة من رفيقه الميسور أنگلز، وكذلك من عائلة جَني زوجته. كما انه أمضى السنوات العشر الاخيرة في صراع مع المرض والفاقة والحزن لفقدان خمسة من اطفاله السبعة بسبب سوء التغذية وقلة الخدمات الصحية التي أدت أيضا الى مرض ووفاة زوجته عام 1881.
وأخيرا حين أنهكه تعب السنين وكثرة المصائب والامراض التي فتكت به وبعائلته، جلس ماركس على كرسيه المعهود وغط َّ في غفوته الأخيرة التي لم يفق بعدها. كان ذلك في 14 مارس1883. وهكذا انتهت حياة هذا المفكر وهو مغترب في لندن، دون أرث ولا وصية، ودون هوية مواطنة، لا من بلده الام ولا من البلدان التي منحته اقامات موقتة!
حضر مراسيم الدفن التي جرت في مقبرة هاي گيت الانگليزية، ابنتاه أليانور ولورا وهما ما تبقى من جميع اطفاله. كما حضرها عشرة من أصدقائه، اضافة الى أنگلز الذي كتب جزءا كبيرا من ثروته باسم ابنتي ماركس اللتين اصبحتا يتيمتين وحيدتين. وكانت ثروة أنگلز قد قدرت آنذاك بما يساوي 4.8 مليون دولار بأسعار 2011.
في عام 1956 قام الحزب الشيوعي البريطاني بإعادة دفن رفات ماركس وتشييد قبر جديد له يعلوه تمثال جميل.
***
ا. د. مصدق الحبيب
.......................
مصـــادر مختـــارة
Blaug, M. (1986). Great Economists before Keynes. Cambridge: Cambridge University Press.
https://en.wikipedia.org/wiki/Karl_Marx
https://mlpp.pressbooks.pub/introphil/chapter/marx/
https://monthlyreview.org/product/karl-marx-and-the-birth-of-modern-society/
https://plato.stanford.edu/entries/marx/
https://www.britannica.com/biography/Karl-Marx
https://www.cla.purdue.edu/academic/english/theory/marxism/modules/marxideology.html
https://www.econlib.org/library/Enc/bios/Marx.html
https://www.econlib.org/library/Enc/Marxism.html
https://www.investopedia.com/terms/k/karl-marx.asp
https://www.investopedia.com/terms/m/marxism.asp
Hunt, E.K. (2002). History of Economic Thought: A Critical Perspective. NY: M.E. Sharpe Publications.
Marx, K. and Engels, F. (1844). The Holy Family: Critique of Critical Critique (1975) Progressive Publishers.
Marx, K. and Engels, F. (1848). Manifesto of the Communist Party. Wilder Publications ( 2018)
Marx, K.(1847). The Poverty of Philosophy (1992) International Publishers.
Marx, K. (1845). Theses on Feuerbach. Union Books
Marx,K. (1867). Capital: A Critique of Political Economy, Vol.1. Translated by Ben Fowkes(1977), Vintage Publishers.
McLellan, D. (1996). Marx: His Life and Thought. Easton Press.
Skousen, M. (2009). The Making of Modern Economics: The Lives and Ideas of the Great Thinkers. NY: M.E. Sharpe Publications.