شهادات ومذكرات

منظرو الاقتصاد (30): فرانكو موديلياني

مصدق الحبيب(1918 – 2003) Franco Modigiliani

هو الاقتصادي الايطالي – الامريكي الاستاذ في MIT لمدة 43 عاما، الذي عُرف بدراساته المستفيضة في نظرية الاستهلاك والادخار واقتصاد المالية واقتصاديات الشركات الكبرى. وهو الذي ينتمي لجيل من الاقتصاديين الذين اطلقوا على انفسهم الكينزيين الجدد لإيمانهم بفلسفة ومنهج الاقتصادي البريطاني جون مينرد كينز، لكنهم وبموجب ما تفرضه اختلافات العصر، وجدوا لزاما عليهم تنقيح وتعديل اركان معينة من الكينزية الكلاسيكية.

يعتبر مودلياني نفسه محظوظا جدا لتمكنه وزوجته التي كانت ماتزال ببدلة العرس ان يغادروا ايطاليا في بداية الشباب. كان ذلك قبل ايام قليلة من نشوب الحرب العالمية الثانية التي اكتسحت أوروپا كالفيضان الهادر. كانت مغادرتهما عام 1939 عندما كان فرانكو في الواحد والعشرين من عمره وقد تزوج تواً من صديقته سرينا كلابي الناشطة الطلابية ضد الحكم الفاشي آنذاك الذي تزعمه بنيتو موسليني. كانت سرينا قد رأت بوعيها الثاقب تلك الايام حبلى بالاحداث وتنبأت بالخطر القادم فقررت هي وعائلتها مغادرة روما الى باريس ودعت فرانكو ان يرافقها، فوجدها فرصة ثمينة ان يبقى مع سرينا وكذلك يغادر الظروف الصعبة والخطرة في روما.

عند جلسة تأبين مودلياني عام 2003 روت سرينا حدثا طريفا:

قالت: " في عام 1938 عندما ازهر الحب بينهما كانت قلقة جدا على فرانكو في تلك الايام الخطيرة، ايام الاعتقالات الواسعة النطاق والاغتيالات العشوائية، فالتمسته انه لو كان يمشي في الشارع وسمع أحد يناديه باسمه من الخلف، فعليه ان لايلتفت لأنه قد يتعرض الى اطلاق النار عند التفاتته الى المنادي! تواصل سرينا: بعد أربعين عاما بالضبط على تلك الايام وفي عام 1978 ذهب فرانكو الى روما للاشتراك في ندوة سياسية تلفزيونية. وعندما خرج من الاستوديو ذاهبا الى الفندق سمع خطوات تتبعه، ثم صوت رجل يناديه، مستر مودلياني، مستر مودلياني! فارتعشت اوصاله وتذكر وصية سرينا، فحث الخطى دون ان يلتفت! لكن الخطوات المجهولة تسارعت خلفه، ثم شعر بيد صلبة تمسك بذراعه! واذا به رجل بسيط يعمل اسكافيا في منطقة الاستوديو وكان حاضرا الندوة. أراد ذلك الرجل البرئ فقط ان يقول: من بين كل المتحدثين في المناظرة التلفزيونية، انت الوحيد ياسيدي الذي قلت كلاما وطنيا معقولا".

ولد فرانكو مودلياني عام 1918 في روما لعائلة يهودية من الطبقة الوسطى. كان ابوه طبيبا للاطفال معروفا في ركن سكنه في العاصمة الايطالية، وكانت امه معروفة ايضا لكونها متطوعة في دائرة الرعاية الاجتماعية. كان فرانكو تلميذا مجتهدا في المدرسة لكن وفاة والده المفاجئة وهو بسن 13 عاما سببت له صدمة نفسية عميقة اهمل من خلالها واجباته المدرسية فتراجعت درجاته، مما دفع بوالدته ان تنقله الى مدرسة اعدادية عالية المستوى في امل ان تحثه للعودة الى اجتهاده المعتاد. نجحت الخطة وتمكن فرانكو ان ينهي كل متطلبات الدراسة بسنة أقل ويدخل جامعة سابينزا في روما وهو بسن 17 عاما. ولكن خلافا لما أرادته والدته ان يدرس الطب، اختار فرانكو دراسة القانون مع اهتمامه المتزايد بموضوع الاقتصاد! حتى انه كتب مقالة اقتصادية وهو في السنة الجامعية الثانية واشترك بها في مسابقة طلابية ففاز بالمرتبة الاولى حتى على طلاب الاقتصاد. كان ذلك الفوز دافعا له لكتابة ونشر المزيد في الشأن الاقتصادي الايطالي، وخاصة فيما تعلق الامربفكرة التخطيط المركزي للاقتصاد الذي تبنته الحكومة الفاشية على غرار ماكان يجري في دولة الاشتراكية الاولى وحكومتها في موسكو. إلا انه بعد صدور القوانين العنصرية ضد اليهود أوقف فرانكو كتاباته والتحق بالمنظمات الطلايية المناوئة للحكم الفاشي، والتي من خلالها تعرف على زميلته سرينا كلابي وأحبها، فكانت هي التي اغرته لمغادرة روما بصحبة عائلتها المهاجرة الى فرنسا. في باريس دخل فرانكو جامعة السوربون Sorbonne Universite’لكن دروسها ومنهجها لم يرق له فقدم هو وسرينا على الهجرة الى الولايات المتحدة وتم قبولهما فسافرا الى نيويورك عام 1939.

في نيويورك تمكن من الحصول على زمالة دراسية من الكلية الجديدة للبحث الاجتماعي The New School for Social Research التي فتحت ابوابها تواً وكانت ترحب بالطلبة الاوربيين المهاجرين وخاصة اليهود منهم الذين هربوا من المجتمعات التي مارست التمييز ضدهم. كان فرانكو يدرس مساءً ويعمل بائعا للكتب خلال النهار وكان اثناء السنوات الثلاث التي امضاها في هذه الكلية قد رزق بطفلين.4067 مودلياني

في عام 1941 حصل على وظيفة تدريس في كلية البنات في نيوجرسي، ثم انتقل الى كلية بارد Bard التابعة لجامعة كولومبيا في نيويورك، فيما واصل دراسته لسنتين اخرى في الكلية الجديدة للبحث الاجتماعي فحصل على الدكتوراه في الاقتصاد عام 1944، ونشر في نفس العام ملخصا باطروحته بعنوان "تفضيل السيولة ونظرية الفائدة والنقود".

يعترف مودلياني شاكرا بفضل استاذ الاقتصاد المعروف في الكلية الجدية جيكب مرشاك برعايته والاخذ بيده وتشجيعه على التسجيل في السمنار الاقتصادي الدوري والذي التقى من خلاله بزملاء واصدقاء اصبحوا مشاهيرا فيما بعد امثال أوسكار لانگه Oscar Lange القادم من پولندا الذي اصبح داعية للتخطيط الاقتصادي المركزي الذي يستعير بعضا من آليات اقتصاد السوق المحسوبة، وجالي كوبمنز Tjalling Koopmans القادم من هولندا والذي سيفوز فيما بعد بجائزة نوبل لعام 1975.

في عام 1946 اصبح مواطنا أمريكيا، وفي عام 1948 حصل على زمالة من جامعة شيكاغو وعمل استشاري في مؤسسة كاولز. وفي عام 1950 انتدبته جامعة إلينوي في شامبين – إربانا لإدارة مشروع ابحاث اقتصادية وكعضو جديد في الهيئة التدريسية. وهناك عمل معه طالب الدراسات العليا رچرد برومبرگ الذي سيساعده فيما بعچ لانجاز دراسته حول نظرية دورة الحياة في الاستهلاك والادخار. بين 1955 و 1960 عمل في معهد كارنيگي في پتسبرگ بنسلفانيا، فتسنى له اكمال دراسته حول نموذج دورة الحياة. كما التقى في تلك الأيام بزميله مرتن ملر Merton Millerالذي سيشترك معه في تطوير نظرية المؤسسة المالية.

بحلول عام 1960 التحق بجامعة MIT كاستاذ زائر، ثم في 1961 ذهب ايضا كاستاذ زائر في جامعة نورثويسترن في إلينوي. وفي عام 1962 عاد الى MIT كعضو دائم في هيئتها التدريسية، وهو العمل الذي لم يغيره بعدذاك ولغاية وفاته عام 2003. في عام 1970 منحته الجامعة لقب 2Institute Professor وهو اعلى مرتبة اكاديمية تكريمية تمنحها جامعة MIT. بعد عام 1971 سعت الى ضمان خدماته الاستشارية جهات عالية كوزارة الخزانة الامريكية والبنك الاحتياطي الفيدرالي ومعهد بروكنگزBrookings. 2وكذلك بنوك مركزية في ايطاليا واسبانيا وشركات خاصة في أوربا. وترأس ثلاث جمعيات مهنية امريكية هي جمعية الاقتصاديين وجمعية الاقتصاد القياسي وجمعية اقتصاد المالية. كما اصبح عضوا في اكاديمية العلوم الوطنية وفي الاكاديمية الامريكية للعلوم والآداب والفنون. وفي عام 1985 تتوجت منجزاته بنيله جائزة نوبل في الاقتصاد.

كان فوز مودلياني بجائزة نوبل في الاقتصاد تثمينا لمساهمتين اساسيتين في النظرية الاقتصادية ومساهمات اخرى غير مباشرة. المساهمة الاولى كانت في حقل الاستهلاك والادخار وعرفت باسم نظرية دورة الحياة، والمساهمة الثانية كانت في حقل المالية، وخاصة مالية الشركات الكبرى وعرفت بـ نظرية مودلياني - ملر .

نظرية دورة الحياة للاستهلاك والادخارLife Cycle Consumption-Saving Theory

خلال الخمسينات من القرن الماضي قام مودلياني بتوسيع نظرية كينز القاضية بجعل الاستهلاك دالة للدخل ومايتبع ذلك من سلوك للادخار، وذلك بتفصيل مستويات مختلفة من الدخل تتفاوت بتفاوت مراحل دورة الحياة. لقد كانت فكرة واقعية وبسيطة ولكن لم ينتبه الى تأثيرها الحاسم أحد من قبل. يفترض مودلياني ان الناس عموما وبسلوك طبيعي تلقائي يميلون ان يجعلوا مستوى الاستهلاك مستقرا على طول حياتهم. فمثلا اذا انخفض الدخل في موسم معين او سنة معينة سيحاول المرء ان لايقلل من مستوى الاستهلاك جهد الامكان انما بدلا عن ذلك يحاول تعويض النقص في الدخل من مصادر اخرى قد يكون الاستقراض اهمها. واذا ارتفع الدخل في موسم او سنة ما فإن الرغبة في الحفاظ على مستوى الاستهلاك مستقرا ستؤول الى ادخار الزيادة في الدخل او تسديد القروض التي استحصلت في سنوات انخفاض الدخل. والامر يتضح اكثر اذا تأملنا مرحلة الشباب عندما يتطلب بناء الحياة الكثير من الانفاق الذي يفوق الدخل في بداية الحياة المهنية. ولذا فالمرء سيستدين لتأمين تلك النفقات الضرورية. وفي منصف العمر وذروة المهارة والخبرة الوظيفية يزداد الدخل فيسمح بتسديد القروض وربما بالادخار. أما في المرحلة الاخيرة من دورة الحياة وحين يتقاعد المرء من العمل سيقل دخله فيما تزداد نفقات معينة في ميزانيته خاصة نفقات الخدمات الصحية فيحتاج الى تلك المدخرات التي تراكمت في المرحلة الوسطى لسد النقص الحاصل في مرحلة الشيخوخة. فعموما اذاً، يميل الناس الى الادخار في اوقات الدخل العالي والى الاستقراض في اوقات الدخل الواطئ.

نظرية مودلياني – ملر Modigliani – Miller Theorem

المساهمة الأساسية الثانية في النظرية الاقتصادية تمخضت عن الدراستين المشتركتين اللتين نشرهما مودلياني مع زميله الاقتصادي مرتن ملر Merton Miller حول هيكل التمويل الرأسمالي للمؤسسات والشركات الكبرى واللتين استنتجا من خلالهما بأن القيمة المالية للشركات في السوق لا تتأثر بالمعيار التقليدي المتمثل بنسبة الديون الى القيمة الاستثمارية المستحصلة Debt/Equity Ratio. وقد اثبتت دراساتهما ودراسات تطبيقية لاحقة بأن ماتساويه اي شركة من قيمة مالية مقدرة بسعر السوق تتحدد بشكل مستقل عما يبوح به ذلك المعيار التقليدي.

لقد أثبتت دراسات مودلياني – ملر ان قيمة أي شركة تتعلق قبل كل شئ بكفاءة السوق المالية. فلو كانت السوق كفوءة Efficient market لما تسبب هيكل رأس المال التمويلي بأي فرق في قيمة الشركة في السوق. وقد آل هذا الاستنتاج الى تحليلات اعمق في طبيعة رأس المال التمويلي Capital Structure خاصة فيما اذا كان رأس المال يتكون من قروض واستثمارات او يعتمد على ما تراكم من ارباح وتخصيصات للنمو واعادة الانتاج. وفي اغلب الحالات يتكون الهيكل التمويلي من خليط من هذين الموردين الرئيسيين اضافة الى موارد ثانوية اخرى. وقد بانت اهمية هذه النظرية فيما بعد حين ترتبت على اساسها بقية عناصر النظرية الحديثة لمالية المؤسسات Modern Corporate Finance.

هناك مساهمات اخرى لمودلياني استمدت اهميتها من كونها البادرة الاولى لدراسات وحقول جاءت بعدها. أي انها كانت الشرارة الاولى لاطلاق نظريات اخرى. في عام 1954 نشر مودلياني بالاشتراك مع زميله أميل كرمبرك دراسة بعنوان "تنبؤ الاحداث الاجتماعية" في مجلة الاقتصاد السياسي، عدد ديسمبر. في هذه الدراسة لاحظ الباحثان ان المستهلك عموما يميل الى تغيير سلوكه الاقتصادي بموجب ما يتوقع من تغييرات في السياسة الاقتصادية التي تتبعها الدولة. اعتبرت هذه الدراسة باكورة العمل على تطوير حقل جديد في التطبيقات الاقتصادية سمي فيما بعد "التوقعات العقلانية" Rational Expectations وهو الحقل الذي تطور فيما بعد باستقلال عن مودلياني. في الحقيقة ان الطريف بالامر هو التقاء النظرية الاساسية في هذا الحقل الجديد مع طروحات مودلياني الكينزي، علما ان الحقل عُرف بانتقاداته العميقة للنظرية الكينزية.

في عام 1976 نشر مودلياني بحثا دعا فيه راسمي السياسة النقدية الى وضع اهداف محددة للانتاج والعمالة بحيث لايتجاوز معدل البطالة غير التضخمي حد الـ 5.5%، وبهذا سيكون البديل لمفهوم فريدمن المعروف بالمعدل الطبيعي للبطالة. ومفهوم مودلياني بالطبع ناجم عن اجراء يعتبر كينزي في جوهره ومخالف لمبادئ النظرية النقدية، لكنه قاد دون قصد الى تطوير ما سمي بمعدل البطالة غير المقترن بالتضخم المتسارع Non-accelerating inflation rate of Unemployment. الذي يعني الحد الادنى للبطالة الممكن استمراره دون التسبيب في ارتفاع الاجور والاسعار. وهو بذلك يشير الى مدى الطاقة الاستيعابية التي يتمتع بها الاقتصاد.

في عام 1949 نشر الاقتصادي جيمس دووزنبري مقالة بعنوان "الدخل، الادخار، ونظرية سلوك المستهلك" أشار فيها الى ان الاستهلاك فعالية اجتماعية اضافة الى كونها عملية اشباع فردية، ولذلك فان ما يروم استهلاكه الفرد او العائلة يتأثر بمتوسط ما تستهلكه الوحدة الاجتماعية المحيطة بذلك الفرد. اي ان المرء يتأثر الى حد كبير مايستهلكه اقرانه وزملائه واصدقائه ومن هو في الدائرة الاجتماعية التي يتواجد فيها. سميت هذه النظرية بـ نظرية الدخل-الاستهلاك النسبي. ولأن نظرية مودلياني حول دورة الحياة التي جاءت بعدها واصبحت اكثر قبولا وشعبية، ولعدم تعارضها، بل لقربها منها، أخذ بعض الاقتصاديين يصوغون خليطا من النظريتين أسموه Duesenberry – Modigliani Model

قبل وفاته بسنتين، أي في عام 2001، نشر مودلياني مذكراته، وهي آخر ما كتب وكانت بعنوان دال وطريف هو Adventures of an Economist. توفى مودلياني خلال نومه في ليلة 25 ديسمبر من عام 2003 في بيته في كمبرج – ماسچيوستس.

***

ا. د. مصدق الحبيب

 

 

في المثقف اليوم