شهادات ومذكرات

أميرة عيسى: قصتي مع الانتماء

طفلة، وجدتُ نفسي أحمل شموع الشعانين وأرتل مع المرتلين، ممسكة بفستان أمي المسيحية، بعد أن أكون قد استيقظتُ على صوت الشيخ عبد الباسط عبد الصمد يقرأ ما تيسر له من القرآن الكريم، وهي القراءة التي عودتنا أمي المسيحية أن نبدأ يومنا بها، كلّ يوم تتجادل مع ابي المسلم الشيعي لتغيير محطة صوت العرب من القاهرة وتعليقات احمد سعيد.

هكذا تربيتُ على تعدد الأديان وممارسة طقوسها بمقاييس مختلفة، امي المسيحية تعتنق مذهب الروم الارثودوكس كانت قد قدمت من منطقة وادي النصارى في سوريا، من قرية صغيرة محافظة اسمها الجويخات - جنة الله على الارض- كانت امي المسيحية تضع منديلًا على رأسها، كانت تتحجب حسب التعبير الاسلامي، هكذا جاءت من سوريا من مجتمع مسيحي محافظ، والتقت في طرابلس بوالدي المسلم الشيعي القادم من الجنوب، مع كل ما في شخصيته من عروبة وثورة ونضال. هو لم يطلب من والدتي ان تتحجب ولكن اهله طبعًا كانوا مسرورين لمنظر أمي المسيحية المتحجبة، على فكرة الديانة المسيحية تدعو الى "السترة" ووضع الحجاب على الرأس، هذه التوصية ذابت مع الزمن واصبح الخوري يناضل من اجل وضع الحجاب فقط داخل الكنيسة، هذا الحجاب الذي تحول الى قطعة من الدانتيلا الشفافة الأنيقة المغرية. وهكذا اصبحت هذه الدانتيلا رمزا للمسيحية كما اصبح الحجاب السميك رمزًا للاسلام! لعلنا نسينا ان هذا الزي كان وقاءً لشمس الصحراء المحرقة التي كانت تلسع رأس اليهودي والمسيحي والمسلم، نساءً ورجالًا على حدّ سواء، ولعلّ غطرة الرجل في الخليج شاهد على كلامي؟

مع الأيام دخلتْ الى عائلتي ديانات اخرى، فأختي الوسطى تزوجت علويًا وانا تزوجت مسلمًا سنيّا، وبطبيعة الحال اولادي هم مسلمون سنيون، وابن اختي تزوج مسيحية مارونية وابنتي تزوجت مسيحي انجيلي. فقط الطائفة الدرزية استعصت على عائلتي وعلى فهمي فرحتُ أبحث في الكتب النادرة عن الاصول ما خفي منها وما ظهر.

هذه الحياة التي عشتها بين مسجد وكنيسة، وتعدد الاقارب من مشارب مختلفة جعلتني انظر الى الامور بمنظور مختلف واحيانًا محيير: فعند اعمامي الدين الحق، وعند اخوالي الدين الصحيح، وعند نسيبي الدين الاصح، وهكذا وجدتُ نفسي اجادل وادافع عن كلّ الاديان، كلّ يوم اتقمص  دينًا، البسه ويلبسني، واستبسل بالدفاع عنه، فكيف سيدخل اعمامي الى النار؟ وكيف سيحرق اخوالي بها الى ابد الآبدين؟ واحفادي كيف سيحرمون جنة الخلد؟ اذ أن كل فرد كان يعتقد، بكل ما أعطي من قوة ورجاحة فكر بان الجنة لطائفته فقط، وللطوائف الاخرى "جهنم وبئس المصير".

طفلة ضعتُ، انبهرتُ بالشموع وموسيقى القداديس، صبية ابتعدتُ عن الحجاب الذي سيخفي شعري الجميل، وجدت نفسي الجأ الى الفلسفة وعلم الأديان واخترت موضوع دبلوم الدراسات العليا: الاديان المقارنة، عندها غرقت في طوفان الأديان، فدخلتْ عليّ البوذية ومدارسها المتعددة، والشنتية والبابوية والبهائية والمورمونية والكثير الكثير من الملل والمعتقدات السماوية وغير السماوية.

وبعدَ التعمق والتبحرّ والتبصرّ، وتعلقي بحبال الموضوعية وتحكيم العقل، انتهيتُ الى حقيقة نسفتْ عندي كلّ ما تعلقت به من ستائر المقدّسات: الأديان هي واحدة، مصدرها واحد، تبدأ من أشور وآمون وتنتهي الى ما لا نهاية، مرورًا بالأنبياء بموسى وعيسى وخاتم الانبياء. فالعقل والدين خطان متوازيان لا يلتقيان مهما حاولتَ أن تضعف شطط العقل او أن توقدَ ومضات القلب، الدماغ للعقل والقلب للدين.

وبعد حياة امضيتُها بالجدال والدفاع، والاخذ والردّ والتنازع على الجنان، خلصتُ الى هذه الحكمة - لو سمحتُ لنفسي أن أسميها حكمة - : دعْ كلّ انسان على معتقده، لا تجادل ولا تحاول الاقناع، الاقناع بماذا؟ فكلّ الطرق تؤدي الى إحياء الانسانية في قلب البشرية.

الانتماء للانسانية هو الحلّ.

وما زلتُ حتى اليوم استيقظ على صوت الشيخ عبد الباسط وأذهب الى الكنيسة ايام الشعانين!

***

بقلم د. أميرة عيسى

في المثقف اليوم