شهادات ومذكرات

علي حسين: في ذكرى ميلاده.. العقاد والنساء والحب

لم تكن قصص الحب غريبة عن عباس محمود العقاد، فقد وقع في شباك الحب اكثر من مرة، كانت أولى تجاربه العاطفية مع الاديبة مي زيادة التي رمز لها العقاد في قصته الوحيدة " سارة " وفي شعره بـ " هند " التقى بها المرّة الاولى في صالونها الأدبي الذي كان يعقد كل يوم ثلاثاء، كان حينها أصغر الزوار سنا لم يتجاوز السابعة والعشرين وكانت مي في الحادية والعشرين، وهناك العديد من الرسائل المتبادلة ما بين العقاد وميّ والتي تؤكد حبه لهذه الأديبة المتميزة .‏ويخبرنا العقاد في روايته سارة انه أحب هند قبل سارة وكان حبه لها كما جاء في احدى مقالاته خالصا للروح والوجدان وكان حبه لسارة مستغرقا شاملا للروح والجسد، كان المرأتان على طرفي نقيض، ويصفهما بقوله :" اذا كانت سارة قد خلقت ونبتت في ساحة الطبيعة، فهند قد خلقت راهبة في دير، الاولى مشغولة بتنظيم القيود، وهذه مشغولة بأن تصوغ حولها أكثر مما استطاعت من قيود ثم توشيها بطلاء الذهب وترصعها بفرائد الجواهر "، لم يرتبط مع هند – مي زيادة – بعهد، وانما كان يطوف حولها، المرّة الوحيدة التي اقترب منها كانت قبل أن تسافر، إلى إيطاليا حيث استطاع ان يلمس يدها ويقبلها . وكان يبث من خلال رسائل لها سطور الشوق والوجد والأمل، ويلتقي بها فتزداد حيرته وتساوره الشكوك شأن كل محب عاشق. بعد أن انتهت قصة سارة وفي عام 1940 تعرف العقاد على فتاة سمراء جميلة تدعى "هنومة خليل"، فوقع في حبها، وكان هو في الخمسين من عمره وهي في العشرين، وقد أدرك العقاد من البداية أن هذا الفارق الكبير في العمر لا يتيح لهذا الحب أن يستمر أو يستقر، ومع ذلك فقد عاش في ظل هذا الحب سنوات عديدة ذاق فيها السعادة. لكن ما كان يخشاه العقاد فقد حدث، حين تعرفت هذه الحبيبة إلى النجم السينمائي أحمد سالم، فاختطفها فورا للعمل في السينما وتزوجها بعد ذلك، وسرعان ما أصبحت نجمة مشهورة هي الفنانة مديحة يسري.

كان يخرج كل يوم من بيته وقد أحكم طربوشه فوق رأسه يرتدي (جاكتة) غريبة وطويلة جدا، لم تعرف المكواة، يمشي محنيا الى الأمام وكان بعض الناس يعرفون فيشيرون إليه ويقولون: العقاد، لكنه لايأبه للإشارات ولا لكلمات التحية، ويرى ان المجاملات تأخذ من وقته الكثير، فهو رجل فكر، صحيح إنه لم يتخصص في أي شيء، لكنه يقرأ أي شيء، لأنه يكتب في كل شيء ومن بين الموضوعات التي أثارت اهتمامه موضوعة المرأة، جرب العقاد في حياته التي ناهزت 75عاماً – ولد في الثامن والعشرين من حزيران عام 1889 وتوفي في الثالث عشر من عام 1964 – اكثر من مرة وعبر عن أحاسيسه في تلك التجارب فاصبحت أحاديثه عنها اشبه بنظرية فلسفية متكاملة الأبعاد، فهو يؤمن بان الحب بالنسبة للرجل رياضة لسد الفراغ وسكن من جهاد " والذي يتأمل ماكتبه العقاد في شعره ومقالاته وكتبه  يستطيع أن يحدد تجربتين عاطفيتين ذات ملامح واضحة، والى جوارهما عدة تجارب تختلف قوة وضعفا .

احتلت المرأة عناوين الكثير من كتب ومقالات العقاد، وقد وضّح العقاد رأيه في عمل المرأة معتبراً أن عملها الأساس هو حفاظها على بيتها وأولادها وتربية النشء، فقال ضمن سؤال وجّه إليه - ماذا يحسن أن تستبقي المرأة الشرقية من أخلاقها التقليدية: " يجب أن تظل المرأة الشرقية كما كانت في كل عصر ملكة البيت الحاكمة المحكومة يسكن إليها الرجل من متاعب الحياة ولا يزال عندها - صغيراً كان أو كبيراً- طفلا لاعبا يأوي منها إلى صدر الأمومة الرفيق وأحضانها الناعمة رضيعا ويافعا وفتى وكهلا إلى أن يشيخ ويفنى، ويستدعي ذلك أن تعيش هي في ظله وتعتمد في شؤون العالم الخارجية عليه".

عام 1910 قرأ العقاد كتابات الفيلسوف الالماني شوبنهور، وقد وجدت اراء فيلسوف التشاؤم عن المرأة والزواج صدى في نفس العقاد الشاب، فهو يشعر انه مثل شوبنهور ما من امرأة اهتمت به، واذا كان الزواج كما يقول شوبنهور هو " دَّين في الشباب نسدده في سن الكهولة "، فإن العقاد كان حذراً من أن يقع فريسة ذلك الدَّين، وحسب ما هو معروف عن سيرة حياة شوبنهور، إن علاقته مع النساء اقتصرت على حكايتين، ففي العام 1821 يقع في غرام كارولين ميدون وكانت مطربة في التاسعة عشرة من عمرها، استمرت العلاقة بينهما عشر سنوات متقطعة، رفض أن يتوج هذه العلاقة بالزواج :"ان تتزوج يعني فعل كل ما يمكن ليصبح كل طرف موضع اشمئزاز الآخر"، الحكاية الغرامية الثانية كانت مع خادمة تعمل عنده، لكنه يتركها ذات يوم ويهرب ...ولأنه لم يكن يهتم بما يجري حوله نجده لا يولي اهتماماً للجنس او الرغبة بالنساء، الجنس "لاتدفعني للضحك" . يقول لأحد مقربيه :" الجنس أعظم بلاء، فمع ظهور الغريزة الجنسية، ظهر القلق والسوداوية في الوعي أيضا، ونبتت في الحياة الهموم والمصاعب، ذلك لأن أصل الحياة الجديدة يرتبط باشباع أشد ميولنا سطوة وأكثر رغباتنا عنفا، بتعبير أوضح ان الحياة بكل ما فيها من احتياجات وأعباء وآلام ستبدأ من جديد وستعاش مرة اخرى بسبب هذا الذي يسمى الجنس".

يرى العقاد أن التناقض صفة أصيلة في أي امرأة، فاللذة والألم نقيضان في الكائن الحي عامة، لكن المرأة تجمع بينهما اضطرارًا، فأسعد لحظاتها هي الساعة التي تحقق أنوثتها الخالدة وأمومتها المشتهاة، وهي ساعة الولادة، فهي تفرح لأنها أنجبت ولكنها تكون أشد ساعات الألم والوجع في جسد الأم، الطريح بين الموت والحياة.

قال العقاد الذي وضع نحو 102 كتاب في روايته سارة : " كانت شكوكا مريرة لا تغسل مرارتها كل أنهار الأرض وكل حلاوات الحياة، كانت كأنها جدران سجن مظلم ينطبق رويدا رويدا وما يزال ينطبق وينطبق حتى لا منفس ولا مهرب ولا قرار، وكثيرا ما ينتزع ذلك السجن المظلم طبيعة الهرة اللئيمة في مداعبة الفريسة قبل التهامها فينفرج وينفرج حتى يتسع اتساع الفضاء بين الأرض والسماء ثم ينطبق دفعة واحدة حتى لا يمتد فيه طول ولا عرض ولا مكان للتحول والانحراف" .

 ويستمر العقاد في وصف حال الشك التي اعترته خلال حبه لسارة فيبلغ الشأن في رسم الصورة وتصوير ذلك الإحساس حيث قال: " ألم لا نظير له في آلام النفوس والعقول، وحيرة لا تضارعها حيرة في الإحساس والتخمين، وأقرب ما كان يشبه به هذه الحيرة حال الأب المستريب الذي يشك في وليد منسوب إليه هل هو ابنه أم هو ابن غيره، هل هو رمز الحب والعطف والصدق والوفاء، أم هو رمز الخداع والخيانة والاستغفال والاحتقار، هل هو مخدوع في عطفه عليه أم هو مخدوع في نفوره منه؟ وكيف يفصل في هذين الخداعين؟ وكيف يطيق الصبر على واحد منها وكلاهما لا يطاق؟ "

ويمكن القول إن المرأة التي دخلت قلب العقاد في بداية حياته امرأة مجهولة أو أكثر من امرأة مجهولة رآها في أسوان حيث ولد أو في الزقازيق، حيث تنقل فيهما للعمل وبدأ رحلته في عالم الوظيفة شابا يافعا لم يتجاوز العشرين من عمره. ولهذا نجد لديه  فلسفة خاصة في الحب . فالحب عنده فيه " الاعتياد" وفيه شيء من الأنانية حتى لو أقدم صاحبه على التضحية من أجل من يحب، فالأنانية تبدو واضحة لأن المحب لا يتنازل عن محبوبه ولا يقبل أن يكون لشخص آخر. وفي الحب أيضا شيء من الغرور لاعتقاد المحبوب بأن إنسانا آخر يفضله على غيره من الناس واختاره هو فقط ورضى بألا يرتبط بأحد غيره. وبسبب تعمق العقاد في دراسات علم النفس فإنه يشير إلى أن الحب فيه ما يطلق عليه علماء النفس " التناقض الوجداني" أي الحب والشغف والوجه الآخر هو درجة من درجات الضيق "لأن المحب يعاني من الشعور بأنه أسير ومقيد بقيوده وعاجز عن الإفلات من قيوده وقد تعمى الأبصار في الحب كما تعمى في القضاء والقدر وقد يحاول المرء أن يهرب من هذا الحب فيجد نفسه يقترب بدلاً من أن يبتعد، ومن حالات المحبين الإنكار فينكر الإنسان أنه وقع في الحب كما ينكر السكران أنه سكران والأمر يتلخص عند العقاد في أن الحب يملك الإنسان ولا يملكه الإنسان. وفي تحليل العقاد لعاطفة الحب يرى إن فيه عواطف كثيرة وليس عاطفة واحدة، ففيه من حنان الأبوة ومن مودة الصديق ومن خيال الحالم وفيه من الصدق والوهم ومن الأثرة والإيثار ومن حرية الإرادة والاضطرار ومن الغرور والهوان وفيه كل ما يطرأ على النفوس في مختلف الأوقات والأحوال".

وحين سئل العقاد عن تعريف للحب أجاب بأنه من الصعوبة تعريفه تعريفا جامعا مانعا، ولكن يمكن تعريفه عن طريق النفي فالحب ليس هو الغريزة لأن الغريزة لا تعرف الاختيار والحب ليس الشهوة لأن الإنسان قد يشتهي دون أن يحب وقد يحب وتنتهي الشهوة بالقضاء على الحب.

والحب ليس الصداقة لأن الصداقة تكون أقوى ما تكون بين اثنين من جنس واحد، والحب لا يأتي بالاختيار لأن الإنسان قد يحب قبل أن يشعر بأنه يحب ودون أن يفكر في الاختيار والانتقاء.والحب ليس الرحمة لأن المحب قد يكون قاسيا مع حبيبه عامدا أو غير عامد، وقد يقبل منه العذاب مع الاقتراب ولا يقبل الرحمة مع الفراق.

ويتساءل العقاد كيف يجمع الحب أحيانا بين اثنين لا يخطر على البال أنهما يجتمعان والجواب عنده لأن القلوب أقرب إلى التناسب والتجاوب فإذا تجاوبت القلوب نجد اثنين ينظران إلى الدنيا وإلى الحياة بعين واحدة.

وقد يحدث اختلاف السن لكن ذلك لا يمثل مانعا لحاجة نفس منهما إلى عطف الأبوة وطمأنينة التجربة ويقابلها حاجة النفس الأخرى إلى دفء العاطفة وإلى الرعاية فيقع التبادل في احتياجات اثنين مختلفين ويحد بينهما.

وأخيرا يلخص العقاد فلسفته حين سئل: هل الحب أمنية تشتهيها أم هو حالة تتقيها فأجاب إنه مصيدة فإذا أحببت من لا يحبك فهو أمنية تشتهيها وإذا أحببت من يحبك فهذه هبة سماوية فالحب هبة من الله.

قاصدا بذلك أن القلب الذي لا ينبض بالحب يشبه الصخر الذي لا حياة فيه ولا روح، والقلب الذي لا تحرقه لوعة الحب هو مجرد حجر أملس لا يعرف لغة المشاعر، والتاريخ يؤكد دائما ويؤيد أن الحب لم يفرق يوما بين شاب لاه وشيخ معمم، أو بين قائد عسكري يقود الجيوش وآخر يعيش في أبراج من الخيال والوهم.

ويكتب العقاد " الحب مزرعة ينبت فيها الوهم ومدينة تستوطنها الشكوك " ويؤمن العقاد بان الغيرة وليدة الحب، وان المرأة اكثر شقاء في غيرتها من الرجل لانها أحوج الى الحب، واخوف عليه من الفقد والهجران، ولأنها اميل الى الاستسلام وأسرع الى الادبار، ولان طبيعة احاسيسها تؤكد فاعلية الغيرة في نفسها، ويذهب العقاد الى القول بأن المرأة أقل هياما في الحب من الرجل مستنداً في ذلك الى اراء شوبنهور التي كان يعشقه، والعقاد شديد الحرص على التمييز بين الحب والجنس، فالحب عنده عالم من المعاني التي تطلق من أسر المادة والحب كل ما يملي للنفس في الشعور بالحرية الموزونة وكل ما يجنبها الشعور بالامتناع والتقييد، أما الجنس فانه شديد الالتصاق بالجسد والمادة ومن ثمة لايمكن أن تكون الغريزة الجنسية نفسها تستعين بالحب لتفضيل انثى على انثى، ولايمكن كذلك ان تكون الغريزة الجنسية هي الحب لأن الغريزة واحدة والحب أشكال وألوان ويُعرف الحب بانه اندفاع روح الى روح وخلاصة فلسفته عنه انه قضاء وقدر فهو يرى اننا لانحب حين نختار، ولانختار حين نحب .

***

علي حسين – رئيس تحرير جريدة المدى البغدادية

..............................

* الصورة للعقاد مع الممثلة الشهيرة هند رستم التي اجرت معه حوار صحفي

 

في المثقف اليوم