نصوص أدبية

غياهب الوهم

هي لا تعرف شيئا عدا الطبيعة حتى احتلت ذاكرتها وحاضرها، فشدو العصافير يبهجها ورقرقة السواقي تنساب في مشاعرها. لم تكبر الطفلة في داخلها على أنها تخطت الرابعة عشر، إذ كانت تحس بأنها نواة لهذا الكون. لكن إحساسها تحنط بغتة حين أخبرها والدها المعلم بأنهم سينتقلون إلى المدينة إثر تعينه مدير مدرسة بالعاصمة.   

 

... دخلت "عربية " الأزقة فدهشت لمنظر الجدران التي تكاد تتهاوى، وقرفت من الروائح الكريهة المنبعثة من المنازل.. تفحصت البنايات العالية، حيطان الديار العتيقة الوسخة، القطط المولودة حديثا والملقاة قرب كوم من الأتربة وهي لا تكف عن المواء، وشعرت بالغبار يؤذي عينيها..

 

وقف والدها أمام حمام قديم وقال :

ـ هذا " حمام الصبايا " الذي ابتلع العديد من الشابات الجميلات.. هنا حيكت حكايات عن الجن وسطوتهم !

ـ إنك أخفتني أبي !

ـ لا تفزعي، يقال إنها مجرد خرافة !

ـ بلى ! لا اصدق هذه الترهات !

 

تاه بها خيالها الخصب لتتخيل "عجوز الستوت" التي تحدث عنها "عبد العزيز العروي" في حكاياه الشعبية العجيبة، وهي تختار أجمل الصبايا اللاتي يأتين للاستحمام، وتتحيل عليهن، فتخرجهن من الباب الخلفي ليدخلن عالما غريبا يلتقين فيه بالأعيان.

 

 توغل والداها في الزقاق، وهي تتبعهما ك "شاة وديعة"، ثم توقفت عن السير وتساءلت :  ـ ألا يمكننا العودة لندخل الحمام، ونبحث عن آثار الباب الخلفي ؟

نظرت لها أمها بغرابة متسائلة :

ـ ومن أدراك بتصاميم بنائه الداخلي ؟ أم تراك تحاولين تفحص مكان قصتك الجديدة ؟

أردف والدها وهو يشير بيده إلى دكان صغير :

ـ هنا يصنع لحاف المرأة الحريري.

 

أطلت برأسها فلمحت العناكب تنسج خيوطها في الأركان، وتسمر نظرها حين رأت بابا صغيرا، فخالته يؤدي إلى غرفة العشق، وتصورت أن صاحب المحل المسن يعيش وحيدا إثر وفاة زوجته وزواج أبناءه، فاهتدى إلى طريقة تبدد وحدته، وهكذا يصطحب عشيقته نحو "المقصورة" ويخلع لحافها الذي نسجه لها. هل هذه المشاهد من وحي خيالها، أو من وحي فيلم "عصفور السطح" للمخرج التونسي " فريد بوغدير" الذي صور لها المدينة العربي كدور ودكاكين للخناء ؟ يا له من عالم غريب لم تستطب معرفة خفاياه !

 

بنات في مثل سنها يضعن المساحيق على وجوههن والأصباغ على شعورهن، اشمأزت منهن وهي ابنة الخامسة عشر التي لا تعاني من مشاكل المتحضرين وتجهل حالات التعفن. شعرت بنفسها تتلوث وتتلطخ بالسخام، وتذكرت نفسها وهي تركض في الحقول والشمس تشع من عينيها الواسعتين. بدا لها أنها مكبلة في عالم مغلق تنبعث منه روائح غريبة، وتمنت لو تجد مرآة لتستنجد بوجهها الساذج، لكن وجهها تراءى لها بصورة أخرى وقد غطته المساحيق وحجبت تقاطيعه. اختلطت رائحة عطرها بالروائح العطنة وغمر الغبار أنفاسها وشعرها ولباسها..

 

وصلوا إلى دار كبيرة، ودخلوا "السقيفة" فاعترضتها روائح الطعام تنبعث من جنبات الدار التي بدت بتصاميم معمارها القديم تخلد التاريخ وتصمد أمام محن القضاء. في  "البرطال" لمحت بعض النسوة يطرزن قطع القماش بتركيز وقد لونن أنوثتهن بالضفائر. أقبل  صاحب الدار وفتح لهم باب الغرفة التي سيأوون إليها في انتظار  تهيئة سكنهم بالمدرسة. التقطت عينا عربية "وشم" امراة على يده وهو يخبرهم بأنه لم يتسن له بعد إفراغ "المقصورة" من "المونة" نظرا لوفرة الذخيرة. جابهتهم بشرب الماء من الشربية، وتمتمت في قرارة نفسها : " ها هم يستعملون الشربية مثلنا في القرية،  وذلك الرجل إنه كرجال القرية يحمل وشما ظاهرا ، ويتحدث عن بيت"المونة" ، وتلك النسوة  لا يختلفن عن نسوة القرية حين يتجمعن ويطرزن الأقمشة ".

 

سكنهم الجديد غرفة كبيرة منفتحة عبر أقواس مزركشة، تتركب من مقصورتين : "مقصورة" مغلقة بالمزلاج، وأخرى لا تتسع إلا لفراش صغير لها. في "المقصورة" عادت إلى قوقعتها التي نسج خيالها خيوطها العنكبوتية، فأحست أنها باردة كقطعة من الثلج أو كصخرة لا تتفتت، فالغرفة الضيقة تلتف حولها كالدوامة، كالأزقة الملتوية. كل شيء يتحرك حولها دون أن تنجح في تحديد موقع ذاتها، فكيف تقهر الشعور العبثي الذي باغتها؟

 

ما بدد صفاءها حقا ! حالة عدم توافقها مع أجواء أزقة المدينة العتيقة. بدت قلقة كأنها تريد أن تفكك امتعاضها من التصاميم المعمارية التي تثير دهشتها: " أزقة ضيقة، وديار كبيرة وغرف واسعة، ألن يتنفس الإنسان حريته إلا حين يسلك الممرات الضيقة الدامسة؟ أتخبئ هذه التصاميم حكمة خفية ؟ "

 

تمددت على الفراش ولم تفق إلا حين تناهت إلى سمعها جلبة وضجيج وسط الدار. أطلت من شباك الغرفة الحديدي، رأت رجالا  يحملون بناديرا وكانونا جمراته متوهجة تنبعث منه روائح البخور...أخبرتها أمها :

ـ الليلة سيقيمون "المبيتة".

ـ وما معنى "المبيتة" ؟

ـ هي للتبرك، وهي لا تختلف عن عاداتنا في القرية، هي ك"الحضرة" التي نحييها كل سنة في حضرة ضريح الولي الصالح.

 

"المبيتة" الأشبه بتخميرة وثنية، عاينت عبرها حالات الغيبوبة الممتزجة بروائح البخور والتمتمات. في هذه "المبيتة" شاهدت صورا لم تبصرها من قبل : نساء وشابات يرقصن بشعورهن، يتخمرن، ويفقدن الوعي. رجال تلسع النار صدورهم العارية دون أن تحرقهم، يمررون النار على ألسنتهم دون أن تبقي آثار احتراق ودون أن تنبعث روائح الشواء. استحالت ضربات الدفوف  إلى ايقاعات تقرع رأسها..

 

العجوز رمادية الشعر التي لا تلفه بقرطة كنساء القرية المسنات تمسك صبية متخمرة من الخلف، فترمقها "عربية" بحذر وهي تتخيلها في صورة ساحرة يهودية، تأمر الواحدة منهن بحضور "المبيتة"، أين تطفأ الأنوار وتقرع البنادير ويتخمر الحاضرون لتخلصها من السحر وتحررها من الجان وهي تتمتم بكلمات غامضة.

 

قرع البنادير يزيد من ايلام رأسها، و"عجعجة" البخور تزيد في خنق أنفاسها، أحد الدراويش يمرر سكينا على رقبته دون أن تصيبه بالأذى.. هل ما تشاهده حقيقي أو من وحي خيالها. هل من تشاهدهم بشرا أم كائنات خارقة ؟

 

هي قلقة الآن. ترى الدرويش خروفا بل رجلا ذبحوه وحرقوه، وترى صورته تطل من الدماء، وتبصر امراة بدون ملامح تولول، تمزق ملابسها وتنهار إلى أن يحملها ذوي المناديل البيضاء.

 

أفاقت تحت تأثير ايحاء ما، فغادرت الدار دون وعي منها، ولم يلحظ أحد خروجها. سارت في الأزقة المظلمة مغمضة العينين تشاهد أحلاما ملغزة، وحين عادت إلى الدار  سألها والدها أسئلة كثيرة وكل عيون سكان تلك الدار موجهة نحوها، وخاصة تلك العجوز الأشبه بساحرة يهودية، كانت تتفحصها وكأنها تستجلي سرا وتقول : " لقد رآك زوجي وأنت تسلكين طريق العودة للدار وكأنك خبيرة بالأزقة، فقد عدت عبر نهج "سيدي بن نعيم" وانحرفت عبر نهج "سيدي الحافي" وكنت شبه نائمة ".

 

أخبرتهم "عربية" أنها لاتذكر إلا الحلم، بل لا تذكر إلا جزءا منه : " رأت ساحرا، كان يسألها عن مكان الكنز وهي تجيبه بعدم معرفتها بالأمر".. وحين روت لهم ما شاهدت صرخت تلك العجوز :" الأكيد أن كنزا يوجد في هذا المنزل ، لكنك لم تخبري الساحر عن مكان الكنز، أنت لم تتخمري بعد، ربما لو تخمرت لكشفت عن السر".

*****

أضحت "المدينة العربي" مجرد قضبان تسجن أحلامها البكر، فلم تعد تتراءى لها غير الكوابيس ولم تخط كلماتها غير معاني الازدراء والكآبة. كانت مشاهد المدينة تولد لديها أعنف المشاعر لذات تزدري القذارة.. فقد كانت تشاهد ليلا بعض النسوة اللاتي يمتطين الأزقة ليعنفن من قبل الرجال. بعض الديار المنتشرة يتحدث عنها أترابها بانها مآوي للشعوذة والسحر.. الحمامات التي حيكت عنها حكايات الجان.. تعطل ذهن "عربية" عن فهم الأشياء لتتوه في خضم خرافات انبثقت عن عصور خلت.

 

 نصح الطبيب والدها بأن يرسلها إلى مكان آمن ترتاح فيه، فاختارت الذهاب إلى منزل جدها الريفي. رتبت ملابسها في حقيبة كبيرة، وأخفت بين طياتها دفتر مذكراتها الشاهد على قرفها من كوابيس المدينة. لكن والدتها صممت على إعادة تفحص لوازمها لتتأكد من عدم نسيانها لبعض الأغراض ، و" كاد قلبها يغوص بين أضلعها " وهي تتخيل عثورها على الدفتر، لكن رنين الهاتف أنقذ تخميناتها، فأغلقت الحقيبة بالمفتاح... لم تدم المكالمة طويلا وعادت أمها مقطبة الوجه :

 

 ـ لقد طلب منك والدك ترقبه ريثما يعود بعد قليل من الاجتماع ليوصلك إلى منزل جدك.

ـ سأمتطي القطار.

ـ إن والدك لن يهنأ له بال إلا إذا أوصلك إلى مكان آمن.

ـ طبعا ما زال يعاملني كطفلة.

 

لم تكلف أمها نفسها مشقة التحاور معها كي لا تدخل في تفاصيل كثيرة. وكانت تدرك بأن أمها لا تريد أن تشعرها بالصداع العنيف الذي انتابها...

ـ ستسافرين بعد قليل ومن الأجدى الكف عن الثرثرة.

حملت أمها حقيبة الملابس بيدها اليمنى وقارورة الماء بيدها اليسرى، واتجهتا نحو بطحاء "الحلفاوين". هناك وجدت والدها في الانتظار. وضع الحقيبة في السيارة وودعتها والدتها بحرقة، وما إن انطلقت السيارة حتى صبت الماء وراءها.

 

ظل والدها صامتا طيلة الطريق، تاركا إياها تقطع مسافة طويلة للتخييل، لكتابة قصص حول تلك الفترة التي قضتها بين أزقة العاصمة، أين جردت من كل إحساس جميل، علها تستعيد المعنى بعد الضياع، ولن يتم ذلك إلا في فضاء رحب.

 

شعرت بالانطلاق، وكأنها مزقت خيوط العنكبوت التي كانت تلف أنفاسها. انطلقت فتاة مجهولة من أعماقها طلقت مرافئ السواد وسارت في درب مضيء، تحاول النظر إلى الشمس المنعكسة من بلور السيارة فتطرف عيناها، تبحث عن غيمة تحجبها وترمق بفتنة  طيور اللقلق وهي تتجه نحو الشمال ..

  

............................

الآراء الواردة في المقال لا تمثل رأي صحيفة المثقف بالضرورة، ويتحمل الكاتب جميع التبعات القانونية المترتبة عليها. (العدد: 1298 الثلاثاء 26/01/2010)

 

 

 

في نصوص اليوم