نصوص أدبية

ركــض وراء الـذاكـرة

تطأ سمعه أصوات مختلطة... أطفال يركضون، يلقون الكرة عاليا فترتطم بجدران بيته، يتعمدون تسريب الصخب عبر الجدران. نسوة الحي يتقصدن الثرثرة قرب نافذة غرفة نومه، يهتكن الحياء ويكدن له، عله يتعرى من هواجسه المغربة في الانطواء. لا يتركن هذا المكان للرجال إلا أيام الآحاد، يرصفون الكراسي ليدخنوا النراجيل. فتتصاعد روائح عبقة مختلطة بالبخور وتتصاعد من الفناجين المرصفة على طاولة صغيرة أنفاس القهوة ويتحول المكان إلى شبه مقهى.

 

الملل مارد ثقيل الوطأة، أصوات تعود على سماعها، خطوات راكضة تخير الانتصاب في شرفة أفكاره المتأججة حيرة. استحال حلمه إلى كوة تطل على الأفق. تحولت الكوة إلى مدخنة تفرز بقايا ذكريات متآكلة فتداعت وتلاشت في الفضاء البعيد، آن الأوان للاغتسال من السخام العالق بأنفاسه. كان في حاجة إلى أن يتخفف من همومه. رمى بثيابه وطفق ينصت إلى زخات الماء تسترسل على جسده. دلك جسده فامتقعت جلدته ببقاع حمراء.. شعر بالنسوة يحدقن فيه وأصبحت حركاته مرتبكة. تخيل أنهن يدققن السمع فيبلغهن صوت الماء المتدفق. هل أدركن ما يجول في ذهنه ؟ في ذهنه صورة لأنثى لا يعرف ملامحها تركته في ملجإ فاقدي السند العائلي يواجه مصيره المبهم، وحولت من غيابها سرا ما زال عاجزا عن كشفه. كل النسوة تمثلن في صورة أمه عندما كانت تحمل في أحشائها ثمرة الخطيئة. ماذا لو اخترق مجمعهن وسرد لهن فصول الحقيقة كاملة ؟ رمت به أمه في مجاهل أرض لا مشاعر فيها.. اندفعت يده صعودا وهبوطا تدلك رقبته وكتفيه وصدره. كان في حاجة لكي يغني بصوت رتيب لا يخلو من حشرجة.

 

 تعالى قرع الباب. لعن الطارق الذي كان يلح في تأكيد حضوره من خلال الطرق المتواصل، أدخل جسده النحيل في الملابس ولم يبق منه غير وجه متجهم الملامح... القرع متواصل، يستفزه، فكر في مقاومة الرغبة في فتح الباب، لكن الطارق عازم على مواصلة الطرق حتى نهاية العالم. صوت أنثى يصر على تكرار إسمه : "عبد المجيد"... "عبد المجيد"... فأي مجد يجنيه من فتح الباب هو الذي طالما حرص على تثبيت المغاليق والأقفال ؟.

 

 بدا الوجه الأنثوي رقيق الملامح، تفيض ابتسامته في ثنايا شعر فاحم، تراءت له القامة هيفاء، يبدو أن الفتاة لم تتجاوز العشرين. وقف في فرجة الباب متجهما، متسائلا، لم يعثر على ما يحل عقدة لسانه : بادرته الفتاة.

 ـ أبي يطلب منك المعول

ـ المعول ؟

ـ نعم المعول، ألا تملك معولا ؟

اخترقت ذهنه حالة من التيه، انتابته كالبرق وجعلت عينيه أكثر لمعانا :

ـ ألا تملك معولا ؟

 

رشقت كلماتها كالسهام، بقي صوتها وراءها بعد أن اختفت بسرعة، أغلق الباب بآلية واستلقى على الأريكة يتساءل : " هل كانت تتكلم بسخرية ؟ لماذا لم يسألها عن حاجتها للمعول ؟... هل جاءت تتذرع بطلب المعول لمجرد أن تقتحم عالمه ؟ ".. بحث في ذاكرته عن هذه الفتاة التي مازالت كلماتها تطرق أفكاره... نبش في أعماق ذاكرته، ترنح طويلا... في النهاية بدت له صورة جسده يتراقص يمينا وشمالا ليهوى في أحضان مربيته في الملجإ.. كانت مربيته امرأة طيبة عطوفا، صرفت رصيدها من المال والطيبة على أطفال الآخرين لكي يشبوا بين أصابعها ثم يعبرون الملجأ وتبقى هي تستقبل غيرهم. وذات يوم شيعوها بين بين بكاء الصبية وآهات المربيات المتقطعة، تشبث هو بطرف اللحاف الذي لفوها فيه. عندما هموا بحملها واسته إحدى المربيات بكلمات بدت خالية من المعنى: " دعها لتنام تحت التراب هانئة مطمئنة !...".

 

التراب، هكذا اقترن التراب بالمعول، غادر الغرفة وقد صمم أن يطرق أبواب منازل الحي حتى يجد الفتاة، التفت يمنة ويسرة وتحرك في اتجاه المنزل المجاور عندما اعترضته جارته ذات الوجه الذي كان في حاجة إلى إعادة ترميم. كثيرا ما سمع صوتها الصاخب قرب نافذة غرفته وهي تحدث الأخريات عن الرجال الذين يعيشون أمواتا ويمضون إلى التراب مجرد غذاء للدود، تلقت نظراته المتسائلة ببعض الاهتمام المشوب بالحذر وبقيت تتطلع إلى كلماته وتقاسيم وجهها تتبدل من الدهشة إلى المكر. أفهمها أنه يبحث عن فتاة طلبت منه معولا.. بدا أنها فهمت أكثر مما أراد أن يقول. بإجابة حاضرة ومقتضبة أشارت إلى ذلك المنزل في نهاية الزقاق.. بعد برهة وقد تأكدت أنه واجد المنزل الذي أشارت إليه، وقفت تنظر في بلاهة غير مصدقة وكان جسدها المتكور ينز عرقا وهي تجاهد حرارة الشمس الخانقة.

 

انتابه مزيج من الحنق والضيق وهويسحب جسده النحيل سحبا بطيئا، كما لو كان ذاهبا لطلب يد تلك الفتاة، التفت وراءه باحثا عن صاحبة الوجه المتفسخ وقد تذكر أن به شبه مع غسالة الموتى التي جلبوها لتجهيز مربيته... كانت تتابع حركاته من بعيد بكثير من الدهشة على ملامحها، تسمرت قدماه عند عتبة منزل الفتاة، لاحظ وجود كوم من الأتربة والحجارة، بدت له الفتاة في فناء الدار تكنس وتجمع المزيد من التراب. باغتها مجيئه. تفحصت يديه الخاويتين. تظاهرت بمواصلة الكنس بلا مبالاة.

قال لها :" لم تفسري لي حاجتك للمعول ؟ ".

جابهته بنظرة كلها ضيق وتأفف. تجاوزها بنظرة إلى داخل الحديقة ليرى عمالا يحفرون حفرا صغيرة. تطلعت إليه قائلة :

ـ هلا عجلت بالمعول لمساعدة هؤلاء ؟

 

بقي يتأمل وجهها في بلاهة، عيناها دعجوان، حاجبان مقوسان.. كانت مزمومة الشفتين ويداها قابضتان على المكنسة كما لو كانت عازمة على تنظيف كامل الأرض من ترابها. ورغم اللوم الذي ترشح به كلماتها، وجد في نظراتها دعوة لدخول الحديقة، تقدم، ولج الباب دون أن يفهم كيف واتته الشجاعة، تراءت الحديقة مستطيلة بديعة التقسيم في أحواض تتخللها سواقي. فجأة لمح كهلا ينظف ساقية بهمة وتركيز.. لا بد أنه والدها.. كان يشتغل كما لو كان قد خبر الأرض سنوات طويلة... تفرس في ملامحه وبدا أنه يعرفه جيدا. ذلك هو الموظف الذي يقاسم رجال الحي الجلوس قرب نافذته. لم يكن يتحدث كثيرا كالآخرين ولكنه عندما ينطق ينصت له الجميع. يبدو أن الرجل لم يتفطن بعد إلى وجوده... هل يبادره بالتحية ؟.. تصببت جبهته عرقا، لم يفهم لماذا بقي واقفا يرصد زرع الأشجار الصغيرة وتثبيتها وغمرها بالتراب، رأى نفسه طفلا يرتع في حديقة الميتم تتخلله الأسئلة المتراكمة دون أن يجد لمن يوجهها... ومع الزمن ترسبت في ذاكرته وهي تزداد إلحاحا. كان غضا كتلك الزهور الاصطناعية، غمر بالمودة التي بدت له مصطنعة وتعهد بالصون كما تتطلب ذلك تراتيب العناية بالملجإ، وأمكنه بذلك أن يشب وينمو... وهكذا اكتشف حنقه على من تسبب في انبتاته وزرعه في بيئة لا حنان فيها. شعر أنه كان يطارد وهما وازداد الوهم حضورا بعد موت المربية العطوف وازدادت الأسئلة تراكما عندما لم يجد أبا ينسب إليه.. وهكذا بدا الجدار الذي بينه والآخرين يعلو ليزرع الصقيع في مشاعره.

 

قالت الفتاة منبهة أبيها وقد تفطنت أنه لم يكتشف وجوده بعد :

ـ أبي لقد قدم عبد المجيد المعلم ! 

الأكيد أنها لا تعرف لقبه فأسندته إلى وظيفته، لقد كانت بارعة في انتقاء العبارة، رفع الرجل نظراته إليه وهز رأسه مرحبا وانبسطت على وجهه ابتسامة الذين لا يحتاجون لإخفاء مشاعرهم : " تفضل.. تفضل! "

قاده إلى الشرفة ليشاركه الجلوس على الكراسي الخشبية. وضع الكانون قربهما فانبعثت منه بقايا البخور والشاي العالق بالجمر، شعر بالحرج وحرارة الهواء والاختناق، حاول أن يبرر وجوده هناك :

 ـ عفوا لقد اتيت للاعتذار

ـ لا وجود لدافع للاعتذار ؟!..

ـ المعول ليس لدي معول !

ربت الكهل على كتفه وانفرجت قسماته : ـ لا، لا داعي للاعتذار!

 

بارح المنزل مسرع الخطى بعد أن جلس قليلا وتناول كأس الشاي السخن الذي لدغ لسانه دون التفاتة أو رغبة في البقاء.

 

تبدد القلق إذ سار في الطريق المكتظ. قصد عمارة قديمة وتوقف عند الطابق الثالث . دق باب صديقه "علي" الذي تربى معه في "قرية الأطفال" ثم درسا سويا وتخرجا من مدرسة المعلمين، سمع صوت كعب عال يقترب من الباب ثم فتح برفق. كاد يتراجع للوراء ويعتذر عن خطئه غير أن بسمة المرأة العريضة طمأنته.أسرعت يدها نحو يده لتقبض عليها بإحكام. بحث بنظراته عن صديقه ولكن المرأة كانت ملتصقة به توصله إلى قاعة الجلوس. طوقت المرأة رقبته بيدها وطفقت تداعب شعره. انتفض صارخا فيها : "كفى قرفا"  لكنها صممت على مراودته. دفعها واتجه إلى بيت الاستحمام ليغمر وجهه بالماء البارد. لحقت به، فلم يجد من سبيل لتنحيتها عنه. صفق الباب بعنف وانصرف ولسانه يتلفظ بما كان يفكر فيه.

 

لفح الوهج وجهه، بصق تقززا من رائحة الشوارع الزنخة. هرول الخطى فكادت خطواته تخطئ في تثبيت قدميه، أحدث فيه جسد المرأة حالة من التوتر لم يعرفها من قبل. كان يفكر أن العراء طريق إلى القبر. فالثوب كفن والعراء إيذان بالنزول إلى الظلمة. وكان ذلك يبعث فيه الرعب، تبين أنه في حاجة إلى لقاء جارته صاحبة الوجه المتفسخ. ليطيل الحوار معها حول الرجال الذين يموتون وتنتهي أجسادهم طعاما لديدان القبر. كان في حاجة لكي يمعن في التنقيب عن" رأس الخيط " الذي يقود الإنسان في الحياة.

 

اكتشف أن حياته نبتة في أرض موات لا تنبت إلا الجدب... تساءل : " هل أنهت الفتاة كنس التراب واغتسلت من التراب العالق بثوبها ؟ "، واكتشف أن الحياة تبدأ من النقطة التي ينتهي إليها التفكير. انصبت أشعة الشمس على رأسه قوية حارقة فنكس نظره ليحمي عينيه، وتقوس ظهره وهو يطوي المسافات هاربا من الحنق المتصاعد من أعماقه... اكتشف أن ظله كان يتبعه، تمنى لو صار أطول ليمتد على امتداد أفكاره، شعر بجسده يتمطط إلى أن تقاطع ظله مع ظل آخر لإمرأة، التفتت إلى الوراء ثم غابت. التفت فلم يعثر إلا على شبح أوهامه. عاد الظل يتقاطع مع ظله وحاول أن يسترق النظر إلى صاحبته... غزت ذاكرته صورة مربيته ولكنه كان يدرك أنه في حاجة إلى شخص آخر يفكر له الأجوبة عن تلك الأسئلة المختزنة في ذاكرته..

 

خمن أن حرارة الشمس قد لعبت بنظراته وقدرته على تمييز الأشياء من حوله، شعر بالعطش ولكن تعطشه إلى صورة أمه كان أكبر. لا يهم إن كانت قبيحة أو سيئة السيرة، ما يهمه ان يعثر على المرأة التي زرعته نبتة برية لا تنسجم مع أي بيئة.. كان على استعداد لكي يغفر لها كل شيء لمجرد أن تحتضنه وتناديه : " يا بني!...".

 

كانت حاجته كبيرة لكي يحفر طويلا عن مقومات وجوده ولكن المعول اللازم لذلك يعوزه... كم جميله هي حياة الإنسان عندما تكون في شكل حديقة متناسقة الأحواض والسواقي... امتدت به الطريق... وتابع ظله وهو يطول ويقصر.. أمسكته يد من خلف فانتفض  ـ " أما زلت تخاف الظلال أيها الطفل الشقي ؟".

لم يجد الكلمات التي يبرر بها تصرفاته... لم يكن قادرا على أن يقول لصديقه علي  أن تلك المرأة كانت تعبق برائحة الجثة المتعفنة وأنه يعاف اللحم النتن.

تساءل صديقه : ـ أما زلت تجتر أحلا م طفولتك ؟

ـ لم يبق من الذاكرة غير خيالات باهتة !

 

أحس بالأشياء من حوله جحيما زادته حرارة الشمس الممتزجة بالتراب عفونة.. كان يتصبب عرقا وأحس بالاختناق. أدرك أن الإفلات من لحظة الازدراء أشبه بالهروب إلى الموت، تراءى له جسده مصلوبا على فراش متحرك، تقوده الممرضة إلى غرفة العمليات. حصل ذلك منذ سنتين. أخبروه أن العملية لن تكلفه حياته... تكور جسده. خفق قلبه ولم يستطع التقاط أنفاسه. ضاقت الأمكنة. انكشفت اللحظات. احترقت الذاكرة وتعفن الماضي حين انمحى الحلم.. انكسر حلم متهرئ وهوى عمود صلب كان يسنده. كل الأعمدة المتهاوية أحالته إلى فراغ مفزع. تحسس هول اللحظة. تجمد الزمن وصار من غير معنى، إنه من هؤلاء الناس الذين يعيشون أمواتا ويحملون على الاكتف إلى القبر جثة عفنة.. ربما ستكون جنازته الحفل الوحيد الذي يجعل منه شخصا جديرا بالاهتمام... أفاق من حالة الخدر ليشعر أنه ما زال يمشي مسنودا إلى حركته، يقاوم الجموع، ويمضي... مخلفا وراء كلمات الطبيب المحذرة من الزواج والمواسية في الآن نفسه بأن "الحياة متواصلة".

............................

الآراء الواردة في المقال لا تمثل رأي صحيفة المثقف بالضرورة، ويتحمل الكاتب جميع التبعات القانونية المترتبة عليها. (العدد: 1301 الجمعة 29/01/2010)

 

 

 

في نصوص اليوم