نصوص أدبية

منادمة في زمن الحرب

..عبّ جرعةً من قدح البيرة وسحب نفساً من سيجارته وأومأ لي أن أقترب منه ..

ـــ انا تعيس جدّاً... أمس رجعتُ للبيت مخموراً، فوجدتها مستلقية على الفراش، لم اتبيّن وقتها ماذا حصل و لكنّي في الصباح سمعتها تقول لي بأنتشاء واضح ..حبيبي تأخّرت عن الدوام، فتأكّدتُ بأني قد فعلتها، فلعنتُ في سرّي مصانع الخمور والكؤوس ورفقة الأمس ... انا نادم كثيراً الآن .

عجيب أمر نصير .. لماذا إذن تزوّجها ؟ ولماذا لم ينفصل عنها طيلة العشرين سنة التي قضياها معا ؟  هل هي واحدة من عبثياته ونزواته ومجونه المنفلت من مدارات العقل والرويّة .. كل شيء فيه خارج المألوف وخارج المتوقّع..

طلبتُ من النادل أن يجلب صحناً آخر من (اللبلبي) الذي أحبه بعد أن أجهزتُ على الصحن الأوّل وأنا أستمع الى هذيانات نصير الوجودية .. إنه نسخةٌ بشريّة مطابقة تماماً ل (ماتيو) شخصية  سارترالمحورية في (دروب الحريّة) ...الشخصيّة اللامنتمية التي دائماً  تقف على تماس من دائرة الصراع .. التي تشتهي ما لا يشتهي الأخرون...والتي تمنح أكثر ممّا تأخذ .. الشخصيّة المنتقاة بعناية كي تلعب دور اللامسؤول واللامعني..

ـــ نصير .. أرجوك لا تشغلني بشؤونك المجنونة وأخبرني متى سيكون (الكاليري) مهيأ لأستقبال اعمالي..

أطفأ سيجارته متأسّياً .. وقال بامتعاض بعد أن لمس عدم إكتراثي بنزوته ..

ـــ منتصف كانون الأوّل سيكون تأريخ نهاية آخر معرض، وبأمكانك أن تهيأ نفسك فأمامك اكثر من شهرين.. هذا إذا نجونا من مطحنة الموت التي تترصدنا يومياً ..

ـــ أقذر ما في المسألة أن تساق الى حربٍ أنت غير مقتنع بها .. أنه أشبه ما تكون حكما بالأعدام ...

لم نكن بعد قد أنهينا زجاجة البيرة الأولى حين أطلّ علينا (حسن)، هذا الثوري المتخم بالآيديولوجيات الأنقلابية  والهوس الجيفاري، والذي نجا بأعجوبة من ألأذرع الأخطبوطية لرجالات السلطة في أعقاب إنهيار الجبهة الخديعة، وهو متأبط (مئة عام من العزلة) ومجلة آفاق عربية...

ـــ السلام عليكم أيها الرفاق...باركوا لي طريقة هروبي الغريبة والمبتكرة من فخاخ ومصائد الجيش الشعبي ..

سأله نصير : وكيف تمّ هروبك .. ربمّا نستفاد منه

ـــ قبّلوا كفيّ كي أقصّ عليكم .. كل شيء بثمن وهذا الثمن الذي اطلبه وما عداه سوف لن تسمعوا كلمة واحدة ..

تمتمتُ بشتمه قبل أن أطلب من النادل أن يأتينا ب(ربعية) عرق لحسن ..

ـــ اليوم تشرب على حسابي شرط أن تحكي لنا قصة نجاتك من المخلب أيها البطل الصنديد !!

أستعاد حسن رونقه بعد أن ضمن سكرته الليلة ..

ـــ كنتُ على دراية  بمقدمهم الى بيتي، فتسلقت النخلة الوحيدة في حديقتي الصغيرة بسرعة قرد، وبقيت مختبأً بين أعذاق التمر، وحين جاءوا فتّشوا كل ما يحيط بيتي وحين يأسوا من وجودي ولوّا راجعين .. وهكذا نجوت... بشرفكم ألا تستحق هذه الطريقة الفريدة ربعية عرق ؟

أعاد نصير حالة الصفاء الى روحه بعد أن اطفأ ندم فعلته يوم أمس في قدح البيرة المثلّج وقال ..

ـــ بشرفي فكره تستحق ليس فقط الربعيّة وإنمّا صحن كباب تسترد فيه بعضاً من حيويتك المفقودة أيها الشاعر الصعلوك !!

أنتشى حسن وأنفتحت أساريره بعد أن ضمن عشاءه الليلة ايضا .. رشف أوّل كأس وقرّب رأسه مني ..

ـــ تخطيطاتك اليوم بآفاق عربية جميلة، لماذا لا تحوّلها الى لوحات زيتية .. كنّا نتحدّث انا وسعيد حول ذلك ..

ـــ وأين ألتقيت بسعيد ؟ هل هو في بغداد الان ؟

ـــ جاء قبل يومين متمتعاً بأجازته، وقد أحسن القدر ضربته هذه المرّة، فيوم امس خاض فوجه معركة شرسة في القاطع الجنوبي أظنُّ لا ينجو منها احد..

ـــ ولماذا لم نراه لحد الان ؟

ـــ مشغول بأخيه ومشاكله النفسية

ـــ مسكين هذا الجيل، لم يبق منهم الاّ القليل، أصبحوا حطباً سريع الأشتعال في حرب تافهة وخاسرة وغير مبررّة ...

قالها نصير وبجرأة لم نعتادها فيه بعد أن أفرغ زجاجتين باردتين في جوفه الحار وبعد أن بدأ الخدر يزحف على صدغيه ككتيبة نمل .. وفجأة علا صوته ..

ـــ أسمعوا ماذا يقول حساني :

               بلا جدوى

               بلا جدوى

               كلابٌ منذ أن كنّا

                       ذبابٌ ينقل العدوى

صاح حسن ..

ـــ الله اكبر .. يا أخي عجيب أمر هؤلاء الناس ..تصوّر مسؤول قديم لمطابع حزب كيف تحوّل الى شاعر وبهذا الحس الأنساني وهذه السخرية اللاذعة؟!

أجبته بعد أنهيت تصفح ( آفاق عربية) ..

ـــ لا توجد أرض ينبت وينمو فيها الشعر كأرض العراق ..الشعر قدر العراقيين الذي لا مهرب ولا فكاك منه .. إنه جزء من الخلية العراقية الحية ..فلماذا تستغرب يا حسن، فملحمة كلكامش هي أوّل ملحمة شعرية بالتأريخ الأنساني ..فلا تستكثر على حساني أن يقول شعراً جميلاً كهذا..

ألتمعت عينا حسن وأحمرّت وجنتاه وكأنه أكتسب للتو شحنة وطنية عزّزت لديه مشاعر الأنتماء وحفزت عنده أحساسه بعظمة ونقاء جذره التأريخي، فأنتفخ صدره وقد رفع ذراعيه الى الأعلى بحركة مسرحية وصاح ..

ـــ هو الذي رآى كل شيء

       فغنّي بأسمه يا بلادي

ثم تابع بحماسة ..

ـــ تصورّوا .. قبل سبعة ألاف سنة هكذا أستهلت ملحمة كلكامش ...فأي حداثة التي يدّعيها أدونيس وأنسي الحاج والماغوط وكل فرسانها الآخرين ...أتحدّاهم أن يأتوا بنص معاصر مثل هذا النص !

ـــ ولا تنسى أن الثور المجنح هو أول منحوته سوريالية قبل (دالي) ورهطه بأربعة الآف سنة .. وكتاب (الف ليلة وليلة) هو بداية النصوص القصصيّة ومنها تعلّم الاخرون السرديات الحكائية .. فمن هو أفضل منك ياحسن ؟ انت نتاج أفضل خميرة للعبقريّة البشرية ..

قلتُ هذا ثم سمعتُ نصير يتمتم بصوت خفيض ..

ـــ هذا شعور إستعلائي ويذكّرني بالذين يتفاخرون بأفضلية العنصر .. فلماذا إذن تتحاملون على النازية الألمانية ؟

ـــ تلك عنصرية للهدم ومحق الآخر وعنصريتنا للبناء وإسعاد الآخر، نحن علّمنا البشرية الخير والمعرفة، هذا هو الفرق أستاذ نصير ..

ـــ حسن .. العنصرية واحدة ..

ـــ حبيبي نصير أكمل قراءة روايتك المفضلة (انا وهو) لصديقك (مورافيا) والتي مضى عليها عشر سنوات وهي بين يديك ولا زلت في منتصفها، قبل أن تتحدث بالعنصرية !!

ـــ حسن .. تتحدّث وكأنك محمود درويش .. عليك ان تصحو ..أنت مجرّد شاعر جوّال تختبيء خلف قصيدة النثر لأنك لا تجيد أيقاع التفعيلة ولا تعرف شيئاً عن العروض !! .. أليس كذلك يا صديقي الرسّام ؟

ربت على كتفي بمحبة وأضاف ..

ـــ دعونا من كل ذلك، ولنتدبّر أمر هذه الحرب .. هل ستستمر الى الأبد ؟ وهل سنظل مطاردين ومهدّدين بالسوق اليها كخراف الأضاحي ؟!!

أفرغت ما بقي من الكأس الأخير في جوفي، وأشعلت سيجارة بعد أن تلبّد المكان بسحب الغم ...

ـــ يبدو إنها نهايتنا جميعاً .. لذا علينا أن نستغلّ كل اللحظات التي تمنحها الحياة لنا.. أن نعبث بالوجود كله .. ونعيد ترتيب اولوياتنا في الشهوات واللذائذ والمتع...لأنّها فرصتنا الأخيرة التي قد لا تطول أكثر من أسابيع أو أيام أو ربّما ساعات ..

أضاف حسن...

ـــ أتفق معك يافناننا المولع بالنساء ولعبة المنضدة .. فالحرب لا أمل في نهايتها ونحن نأخذ دورنا في الأصطفاف الذي وجهته الجبهات الشرقية، وعواء الذئاب نسمعه في كل مكان ووحشة أيامنا لا تطاق .. فلماذا لا نسرق من حدقات القدر رؤاه كي نضيء لحظاتنا الهاربة ..

ـــ الله يا حسن .. هذه من قصائدك الجميلة وليقل نصير فيك ما يشاء .. انت شاعر مبدع ..

لم أكد انهي جملتي هذه حتى أبلغنا النادل أن المكان سوف يغلق بعد ربع ساعة ..

غادرنا المكان بعد أن تركنا على كؤوس الشراب بصمات ناسٍ ضيّعتهم حماقات إعادة الأمجاد العتيقة ..!!

 

............................

الآراء الواردة في المقال لا تمثل رأي صحيفة المثقف بالضرورة، ويتحمل الكاتب جميع التبعات القانونية المترتبة عليها. (العدد: 1302 السبت 30/01/2010)

 

 

في نصوص اليوم