نصوص أدبية

مناديل مُشرعةٌ للحنين !

فهو أبيضُ كقلبي

وأمضي إليك

لكيلا يُصاب فناركِ بدوار البحر

ولكيلا يدخل الدوارُ رأسك

فيطَّلع على خبايا حبنا !

بالأمس

لوَّحَ لي ركبُ الظلمةُ وهي تنحدر

فأعتصمتُ بنبوءة نخلٍ يصنع النهار

وها هو يعدو على قامات الشجر

ربيعاً من أهدابٍ،

وأصيح بنوارسكِ :

ثَقِّبي قاربي بمناقيرك يا مناجل البحر 

فيغترفُ السَّمَكُ

موجاً يخلَّفهُ قوامك

ونحن وخبز الوطن

مناديل مشرعةٌ للحنين !

وتسترخين مثلي حتى الفجر

ونوتاتُ موسيقاك

تتناثر على خدود الغد كالشامات

وأحاديثنا وهي تحنو

فواختُ تتسلق سُلّماً من هديل

وتهبط فتحضنها ذراعاك النسيميتان

ثم أكتمُ هذا كعلنٍ لا كسِرّ

-----

 

تلا هذا عليها فتأوهت مستعيدة عافيتها !

فهي ظلتْ تنافسهُ بروعةٍ على احتواء الأفق المفتوح بكل ما فيه، بماضيه، بناسه القادمين أو المؤجلين، بينابيعه المتجاورة كأرخبيل ويتذكر وهو بائع الخبز جزءاً من حوار لها مع طائر هبط من سماء خضراء  ثم حطَّ على رأس خيط من الدخان كان يتعالى من مدخنة أحد المعابد ، فهي ما أن نظرت إليه منبهرة بألوان ريشهِ في أحدى العصارى حتى لوحت له بمنديل أبيض ثم بآخر يتمايل كلهب الشموع فراقت له تلك الإيماءات ثم هبطَ أكثر وحط على غصن زيتونة قريبة منها بينما هي كانت عائدة من ضفة النهر تحمل ملابس غسلتها بماء ذلك النهر وكان البائع قد عبرَ من الضفة الأخرى منهكاً وكأنه أتى إليها بزورق من رمادٍ .

قال لها الطائر الماسِّي حين استقرّ: الربة أعرفها وقد كانت ربة مذ كان الأزل بل هي والأزل صنوان أما أنت أيتها الراعية المجدولة الأوتار فأنتِ تتألهين بإرادة أرضية أو كفاح ذاتي وهذا ما يميزك عن الربات عندنا أي أنك تحققين بالوتر أزلاً آخر وبالنبض خلوداً آخر  ...

ردتْ عليه بمسرة ثم سألتْهُ : وأنتَ ما الذي يدعوك للهبوط إلى أرضنا ما دمتَ من أهالي البرزخ؟

أجاب : كنتُ كما أنتِ أرضي الكيان ولكن سرمدي الحلم، ففتشتُ عن إرادة فوجدتها في صميم الحياة وفطرتها، وجدتها بدائية ولكنها مع ذلك طموحة، أما ما هو ذلك الطموح ؟ كنت أجهله ولكني كنتُ أحسِّهُ عميقاً فيَّ وتعاقبت اللحظات قلقة متوثبة وأنا مصغٍ لذاتي عندها وجدتني أقرر عدم النوم من فرط ذهولي بهذا الإكتشاف، نعم لم أكن أنام إلا لبضع دقائق في اليوم وحتى تلك الدقائق من النوم كنت أمضيها وأنا مُحلق ! وها أنت عرفتِ الآن بأن الأرض هي ذاكرتي الحية الأولى أي أنتم ذاكرتي !

 

ثم تلفتُ الطائر نحو بائع الخبز وأشار له فقال كمن يحدثه :

إذا كان رضاك عن نفسك

أساسُهُ رضى الناس عنك

وضيقك بها

أساسُهُ ضيقهم بك

فوصيتك بلا شكٍّ

هم الذين سيكتبونها !

 

فعرفَ بائع الخبز مقصده وكان جالساً على تلة ويدون ما يسمع فهو الذي أوحى للبائع بالسطر الأخير من جملته هذه والتي بدأها على الضفة الأخرى بعد أن أنهكهُ التفكيرُ بثورة ما !

ثم التفت الطائر ثانية إلى الراعية الواقفة أمامه وربابةٌ ترتاح بين ذراعيها

 

فتلا عليها بصوت أخضر النبرة ما كتبهُ بائع الخبز عنها قبل أيام :

الوردةُ قبل أن تتفتح ... شوقٌ

والشمس قبل أن تشرق ... أملٌ

والربيع قبل أن يحلَّ ... لهفةٌ

والكتاب قبل أن يُقرأ ... قلقٌ

والقلبُ قبل أن ينبض بكِ

حملَ كلَّ هذه الأثقال كالذنوب

ولكن يبقى الذنب الأثقل

هو أن لا ينبض القلبُ بكِ !

 

هذا الطائر سيكون مقدراً له من الآن أن يكون رسولاً أرضياً وسرمدياً في ذات الوقت، أما على الأرض فهو سيكون مَعبراً نغمياً بين ضفتيْ نهرٍ سيطلق بائع الخبز عليه نهرَ الحياة وستطلق هي عليه أيضاً نهر الحياة هكذا تمت التسمية دون اتفاق مسبق بينما سيطلق عليه أغلب الناس نهرَ الشقاء وسيتراشقون عِبرَهُ باليأس والحروب وجفاف الذاكرة وأما عن مسعاه السرمدي فسيكون هذا الطائر رسولاً يجمع بمنقاره ما يناثر في الأفق من نبض قلب الراعية ونبض قلب بائع الخبز وهمومهما وأحلامهما ويضعها في سلة منسوجة من عبير الأرض ويطير بها إلى قومه السرمديين ويعود بها منسوجة بعبير أهله ودفئهم وسماحتهم :

 

ما زال يرسمُ لي المعادَ

ويومَ ودعتُ البلادَ

شكرتهُ بمقامةٍ

أو قبلةٍ أرخيتها في كفهِ فتَفَتحتْ

بالرغمِ من أني يئستُ وكنتُ أحسبُهُ طواها !

وأراكَ مسكوناً كما الأحداقِ بالغد والمَدارِ

وها هما التحَما التحاما

والأصلُ أنكَ لا تَني ترتاحُ في نبضي المعنونِ للخُزامى !

يا منهلاً ما زال بالأسماكِ والمِرجانِ يعدو

إيّاكَ أستهدي وأشدو !

وأدورُ ما هطلَ الهديلْ

أو صار للقمر اقتداءٌ بالشموسِ ولَوثةٌ

فَلهُ شروقٌ مثلها وله أصيلْ !

 

- برلين -

كانون الثاني 2010

 

..................................

عليك بودٍّTitle: فروة

(*) الكتاب بعنوان : وصولاً إلى الطائر الماسِّي

 

............................

الآراء الواردة في المقال لا تمثل رأي صحيفة المثقف بالضرورة، ويتحمل الكاتب جميع التبعات القانونية المترتبة عليها. (العدد: 1303 الاحد 31/01/2010)

 

 

في نصوص اليوم