نصوص أدبية

مقبرة .. ونزيل

على ألسنتهم فقادتهم إلى غياهب الأذى والعذاب , وإنْ ذُكر _ لِماماً _ صاح أحدُهم : " اذكروا محاسن موتاكم . "  فتستعيذ الأفواه، وتكتفي بالتمتمة .[ كانت المقبرة تعيشُ الصمت الأبدي وتتنفّس هواءً مُحنَّطاً .. الموتى ينعمون برقادٍ سحيق يعمُّه السكون، وخلوة طويلة انتظاراً لليوم الموعود ... لكنًَّ حدثاً _ بمثابة صراخ  وصِدام وقرقعة سيوف خشبية مكتومة تتبارز _ استجدَّ يتكرر في أماكنَ متفاوتة من المقبرة رجرجَ خارطة القبور، مُقضّاً النوم الساري للنزلاء الأزليين .. صاح النائمون : ماذا يجري ؟! .. ولماذا هذا الصخب المريع ؟  .. نحنُ لم نفعل ما يُغيض، لا ولا شأنَ لنا بالآخرين .. صمتوا قليلاً بانتظار مَن يرد أو مَن يلغي مسببّات الحدث عبر التوضيح، ثم الاعتذار ... غير أنّ أسئلتهم امتصها الهواء المُحنّط، وجففّها . ] ..

دفنوه واستراحوا .. أهالوا فوقه مراثي الفقد وأكواماً من النسيان المرغوب .. قالوا سيتولّى الملاكان مَهام استفهامه، وعسى أن يدوّنا في أجندته ما يعينه على الاستغفار فينال عفواً ربّانيّاً [تضرّعَ لهما وهو يتعفَّر بغبار الوحشة، مُعلناً أنها النفس الأمّارة بالخبث قادته إلى مسالك السوء فآثر إغاضة الآخرين، مُبتهجاً لعذاباتهم .. أفصح أنَّ ترياق لذّته كان صديد جراحاتهم،، وفاكهة روحه المُرتجاة لا يقطفها إلاّ من جنان صرخاتهم وأنين نفوسهم، وكمد دواخلهم .... حيال اعترافاته أعلن الشفيعان إنَّ خالقه شفوق رحيم . فاستقرَّ رائقاً مطمئناً .. وزاد من اطمئنانه استقبال الموتى له بحنوٍّ دفيء ومواساة رهيفة، قائلين: هذا حال الأولين ومآل القادمين، فلا تتكدّر . نحنُ أخوّةٌ لك وأخوات .]..

   قطعاً سيصير ذكرى لدى الآخرين، ويوماً بعيداً . والحياة تأخذ مجرى النهر الذي أوّله منبعٌ وآخره مصب . الناس فيها ماءٌ جارٍ، يستأنسون الأرض المنسابة مثلما يجزعون للتعرّجات والانكسارات المبُاغتة / غير المحسوبة ... لكن ضجر النائمين تفاقم، وتعالت شكاواهم . أمسوا _ ليلياً _ يُقتحمون بصراخٍ وضجيج / تصادم سيوف خشبية مكتومة / تكسُّر آجرات جدران ، فيصرخون بأعلى طبقات تذمّرهم: ما هذه الفوضى التي حلَّت لتسرق رقادنا ؟! وكيف حصل هذا التغاضي عن محاسبة الجُّناة ؟ .. من يرتكب هذه الفوضى الهادرة ؟ ولماذا؟! ..

   طفقوا ناهضين .. تركوا أجداثهم وتحركوا صوب رقعة الحدث .. وهناك رابهم المشهد وأفزعهم . رأوا أقرانهم الموتى في حومة صراع يتقاتلون . أسلحتهم عظام يتقاذفونها، وشاهدات القبور دروعاً يتّخذونها .. تتفكك الهياكل، والصراخ يعلو: صرخات غضب / صرخات عنف / صرخات ألم ... ولقد هالهم الأمر لحظة أبصروا النزيل الجديد يتكئ على انهمار قبر يُتابع بانشراحٍ وجذل حيثيات الموقف ثم ينسلُّ متخفّياً، بينما الذين خلّفوه تحتهم ظنّوا بموته أراحَ .. واستراح  .

 

[email protected]

 

............................

الآراء الواردة في المقال لا تمثل رأي صحيفة المثقف بالضرورة، ويتحمل الكاتب جميع التبعات القانونية المترتبة عليها. (العدد: 1305 الثلاثاء 02/02/2010)

 

 

في نصوص اليوم