نصوص أدبية

بوب الشامي، الهندي!

رحل والدي عن الحياة مبكرا، كانت أمي وقتها في زهرة الثلاثين، فتحول هذا الصندوق إلى سرا تمنعنا من فتحه، وقد بدأ هذا السر يكبر وأنا أشاهد النساء يتحلَّقن حولها، في محاولة نزع أساور الذهب من يدها الممتلئة بالبياض، والجمال، حتى بكت من الألم، لم تنزلق الأساور بسهولة، مما جعلهم يقصونها بمقص خاص، لحظتها كنت أسترق النظر إليهن من شباك يطل على الحوش الكبير، والذي غص بالنائحات، فرحت أنوح معهن ولكن بأسلوب الأطفال، أصرخ وكأن دودوة انفجرت في بطني!!

 

يومها حملوني إلى بيت خالي كي لا أشاهد أمي التي تتفنن في شق الجيب، ورفع الصوت الذي يذبح الدموع!

 

اليوم، خطر ببالي أن أفتح صندوق أمي، وقبل أن أستأذنها، أخبرتني بأنه جهاز حنوطها، فقد حفظت بداخله السدر، والزعفران، وبقايا العطور الهندية التي لم يمنحها الزمن فرصة التطيب به لوالدي، وبمجرد اقترابـي من الخزانة، جاءني خبر الست وأربعون جثة، فتوقفت أمام الصندوق دون أن أجرأ على فتحه، تخيلت لو كانت أمي منهم، كيف سأتجرأ على حمله إلى مغسلة الأموات! أيعقل أن العطور تتعتَّق أكثر كلما مرَّ عليها الزمان أطول؟ تجاوزت مرحلة التفكير، وبدأت فعلا بمراسم النواح، ولكني هذه المرة أحمل على كتفي ستة وأربعين جثة، فمن يعينني على هذا العذاب؟ ها أنا أمسدها، وأغسل بالسدر شعرها الطويل، أسقي إحداهن الماء ظنا مني في طلبه حين رأيتها فاغرة فاهها، ولكنها كما يبدو كانت تصرخ لحظة خروج الروح: لبيك يا حسين!

 

إحداهن كانت تربط عباءتها بعباءة ابنتها الصغيرة خوفا من الضياع عنها في زحمة المسير، لكنها حللتها عنها حين توقفتا في إحدى الخيم المنصوبة للزوار لاحتساء الشاي ومضغ الخبز الساخن، لكن يبدو أن للموت رحمة أيضا، ولسان حالها يقول:

 خذيني معك (لج من اكول له يمه من بعدج يايمه)

 لأول مرة أشعر بهناءة الموت معا!!

 ولكني سريعا ما عدت إلى نواحي المستميت في نعي الأرواح الطيبة، وشتم الروح الخبيثة، والتي شتت نطف الأجساد ما بين الشام والهند مرورا بعراق الله الذي بكى جرحه المتسع كبحر، فمن يشده؟ ويعصر ملحه الذي تبَّل نائبات مواجعي؟!

 

·  كتبت هذه السطور، إثر التفجير الإجرامي شمال العاصمة بغداد في منطقة- بوب الشامي- و الذي استهدف زوارا متوجهين لتأدية مراسيم زيارة أربعينية الإمام الحسين عليه السلام يوم الاثنين، 01 شباط - فبراير 2010

 

بلقيس الملحم/ شاعرة من السعودية

 

............................

الآراء الواردة في المقال لا تمثل رأي صحيفة المثقف بالضرورة، ويتحمل الكاتب جميع التبعات القانونية المترتبة عليها. (العدد: 1305 الثلاثاء 02/02/2010)

 

 

 

في نصوص اليوم