نصوص أدبية

لحظةٌ كبيسة !

من رفرفةٍ وصداحْ

لا تمكث إلاّ الذكرى في الساحْ

كان البلبل فوق التينةِ

يتعجَّل ميقات الثمرِ

وكان صحابي

يعنيهم ما يخفي وأخفي،

كنا كصديقين .

على ضفةٍ سائرةٍ

كبرَتْ ذكراها

فلثمتُ صداها

وسعيتُ إلى طاولةٍ

مثخنةٍ بالأقداح !

----

                          

كنتُ في رحلة حياتي كمن يحمل حقيبة صغيرة على كتفه ويرتقي جبلاً ناشداً قمته

ومتحمساً تسوقه فكرة أو يلحُّ عليه هاجسٌ وكانت خطواتي وهي تنتقل من صخرة إلى أخرى صعوداً أشبه بدبيب الخمر أو كما تيار من اللذة يتدفق في شرايين الأرض صاعداً إلى قلبها ثم إلى الرأس .

أتنقلُ عبر محطات الحياة الصخرية كي أصل القمة وكم رأيتُ من البشر حولي يتساقطون تباعاً . 

كان بعضهم يتقافزُ تقافزَ القرود فلفظتهُ الصخور

وكان بعضهم الآخر يتقافزُ تقافزَ الوعول

وهؤلاء كانوا نبلاء الروح تحفُّهم العزيمة فأعطوا كل ما في حقيبة حياتهم حتى نفد العمر لا الهمم .

وها أنا على مسافة عدة صخور وأبَلغُ السرَّ فكيف تخذلني الحياة وأنا وقودها؟   

قالت الراعية: لا عليكَ إن قست الأحداثُ أم لم تقسُ ...

قالتْ ذلك وهي تمسح عن جبهته عرقاً كان يتصبب كالدموع وتأسفت قائلة: ترى ماذا كنت ستفعل لو لم أكن أنا معك ؟

أجاب وقد عدَّل من جلسته على الحصير فوق العشب المشمس وهو ينظر إلى قطيعها المتسرب في خلايا المدى كالأنفاس المتلاحقة وربتَ على كتف الراعية بوهنٍٍ شاكراً لها قبولها بصحبته لها وأشار بإصبعه: كما ذلك الجدي كانت أيامي في مرحها ...

لا تظني أني ضحية ندم .

وهنا طلبتْ منه فجأة الصمتَ والنظر إلى حيث تشير بإصبعها ...

كان قطيع حيواناتها توقف عن الرعي مشنفاً آذانه وأبصاره باتجاه الأفق وتوقفَ الثغاء وعواء الكلب فهناك كوكبة من الطيور الصغيرة كانت تقبلُ بألوان شتى من جانبيْ الجبل، وراحت تدور حول المكان البري عدة مرات وكأنها تدور يداً بيد ! ...

ثم أخذت تنكمش على نفسها تدريجياً لتتحول إلى طائر واحد بلون زعفراني ثم لم يلبث هذا الطائر أن حطَّ على غصن شجرة تين تمتد جذورها حتى أصقاع مجهولة من النهر على مقربة من الشاب والراعية وبينما هما يبسمان قلقَين صدرتْ من فم الطائر عبارة تنم عن استقبالٍ وبنبرة واثقة، قال:

مرحباً بكما في ذاكرتي ! 

وأضاف مخاطباً الشاب: إنك تتألم لأنه لا أحد يصغي إليك، وهذا أفهمهُ فحين يبارك جسدك شعاعُ الشمس وتتبارق في أعماقك جواهر البحر فيما كل من حولك تتدلى من روحه عناقيد الظلام فهنا تستأثر بك بشائر الحمّى !...

أنظر إلى ما حولك فستجد بشراً يخربون بينما هم يحسبون أنهم يبنون لذا فميدان الفكر ليس هنا ولكنه ميدان للفعل العاطفي غير العادي والذي يرج نسيج حياتهم كما ترجّ الرعود أطراف الغيوم وكما ترى حيث تتوقف الأفكار تحل محلها الموسيقى ...

هنا سألت الراعية بعد أن عبَّرت عن شكرها له بحضوره: وهل تنتمي الموسيقى لعالم الأفكار!؟ وإلا فكيف تنوب عن الفكر؟

نحن فقراء ولكننا ننهل نغم الطبيعة، نحن لا نُصنَّف على طبقة معينة إلا إذا كانت البراري تُعتَبر طبقة !

ولكني أثق بك لهذا سأعزف لكما .

فأخرجت مزماراً وراحت تنفخ فيه طويلاً وكأنها تقبلهُ قبلة طويلة !

فارتعش الطائر وصفق بجناحيه وهو يرى بسمة حزينة تتحرر من شفتيْ الشاب

وبعدها قال: الفكر والموسيقى ذبذبات تحرر المادة ولا تلغيها أو تهوِّن من دورها، مع فارق هو أن الموسيقى تحبب لكِ استعادة الأحلام غير المتحققة كما لو أنها تحققت وهذا التحقق ليس من الأوهام بل هو السر وراء الغبطة التي تعتمل في وجدان العازف أو المستمع فكل غبطة عميقة لا بد أن وراءها وجوداً حسياً ملموساً، حتى الخيال إذا تسبب لك بغبطة أو نشوة حقيقة فإن له جذراً من واقع فعلي

وإنّ في أعماقك أيتها الراعية جواهر أخرى

دلّليها، إسقيها ماءً ونماءً مرة أخرى !

فشكرته ودنت من موجة ليوشوش لها الماء بشيء ما .

ولما عادت قال لها: عليك الكشف عن مصدر تلك الجواهر، إفتحي المزيد من الكوى لاستقبال زكي روائحها .

فأومأت الراعية بفرحٍ أن نعم،

فسأله الشاب بقلق وحذق وهو مستندٌ إلى وسادته: ولكن ألا يوحي اهتمامكَ بنا أنك تهتم بماضيك أو تعيد ترتيبه !

رد قائلاً: كلا، فأنتما بالنسبة لي من الأحرار منذ أن بدأتَ أنت بمحاولة تسلُّق الجبل ومنذ أن أمسكت صاحبتك بالمزمار وأما أنا فلا أفعل مع أمسي شيئاً سوى أني أحاوره، فهو حيٌّ متجدد، وفي عالمنا العلوي لا كائن مثلي إلا وله ماضٍ في كوكب بعيد .

هنا سألته الراعية: حسناً، وكيف يتجدد الماضي !؟

رد الطائر: بتجدد النظرة إليه .

ثم سألتهُ ثانية بمودة: وكيف نجدد النظرة إليه !؟

أجاب: ألمْ يخبرك مزمارك بعد !؟

قالت: بلى،  مدهشٌ هو، فمعهُ اللحظةُ سنة ومسافات !

ثم التفتَ إلى الشاب فرآه وقد عادت له نوبة الحمى فهو يهذي: 

 

لا شفاءَ للَهِّم المُعتَّقِ،

واقفاً أسير على

غير هدىً،

كجناحٍ معتصمٍ في طيّات مرفأ

وَعِبْرَ هانوفر ما !

هامبورغ ما !

أسير مصطحباً خطاي لا غير ...

ساعتي تشير إليّ وأربعين دقيقةً،

خطاي، خطاي المثابرة على اليأس !

---

 

ذهبت الراعية إلى النهر وعادت فوضعت منديلاً مبتلاً على جبهة الشاب وحدثت الطائر عن الشاب:

إنه يمضي الكثير من وقته في المدينة، يعمل أشياء كثيرة مهمة رغم أنه لا يتحدث عنها ولكني عرفتها عنه من خلال ذهابي إلى هناك على فترات متباعدة وعرفتها من خلال بعض المارين من هنا، أما عني فقد اصطفيتُ البراري ونصحته بالبقاء معي لتصفو روحه وها هو يحاول وقد بدأ البارحة بصنع زورق لنا ...

رد الطائر بنبرةٍ مأخوذة من ألوان ريشه:

إنكِ لا تداوينه هنا فقط وإنما أيضاً تداوين الحكمة، تلك التي تعني لمَن آلمَ هذا الشابَ معنىً آخر لو أنهم عاشوا من دون هذا المعنى لربما كانوا أكثر حكمة!

سأغادر فها هو قطيعكِ يتلفت ...

نعم، قولي لصاحبك ألاّ يهجر نهر الحياة وأن يثابر في صنع زورق ...

زورق ولو من ظلال النخيل !

 

شباط - 2010

برلين

 

..........................

(*) الكتاب بعنوان: ذكرياتي وفقاً لطائر الزُّعفران !

 

............................

الآراء الواردة في المقال لا تمثل رأي صحيفة المثقف بالضرورة، ويتحمل الكاتب جميع التبعات القانونية المترتبة عليها. (العدد: 1310 الاحد 07/02/2010)

 

 

 

في نصوص اليوم