نصوص أدبية

بعضاً من صفحات الحرب

وكان قد أنهى للتو إعادة طلاء جدار (الكاليري) المقابل للباب الرئيسي وتعليق لوحات المعرض الذي سيتم إفتتاحه عصر غد ..

قلتُ له وأنا اتصفّح دليل المعرض ..

ـــ نصير .. أين سرحت؟

ـــ في سعيد

ـــ خيراً

ـــ إتصل بي قبل مجيئك بدقائق وسوف يأتي بعد قليل .. المسكين خائف بل مرتعب من إلتحاقه القادم ..

ـــ يكون الله في عونه .. الأمر ليس هيّناً

تأفّف نصير ثم قال ..

ـــ تصوّر قضى أربعة أيام من إجازته بين العيادات النفسية وشراء المهدئات، فشقيقه أقدم على الأنتحار مرتين خلال شهر ويخشى سعيد إذا تركه قد يفعلها مرّة ثالثة ..

وقبل أن يتم نصير حديثه، دخل سعيد وقد بان شعره الكثيف وكأنه قد خالطه شيب أكثر من آخر مرّة رأيناه فيها، وملامح همّ ثقيل تلوح في عينيه، وكانت ملابسه متربه على غير عادته .. سحب كرسيّاً وجلس بقربي ..

ـــ الله بالخير أبو السعود

قلت له بعدما ربتُّ على كتفه بحنو وكأنني أمنحه بعضاً من أمان ..

ـــ الله بالخير

ـــ سمعتُ الآن من نصير عن مشكلة أخيك ..

ـــ  بصراحة أنا الآن أفكّر بالهروب، لأنه في حالة يرثى لها، وقد تركته قبل قليل بعد أن تأكّدتُ من نومه بفعل الأقراص المخدّرة ولا أستطيع أن ألتحق بالواجب وهو على هذا الحال، تصوّر، إضافة الى جنونه الوشيك هو مطارد من الأنضباط العسكري لأنه هارب من الخدمة ..

ـــ أنت تضاعف المشكلة أذا فكّرت بالهروب .. أفضل حل هو أن تعرضه على اللجان الطبيّة لربمّا يتم إعفاءه أو يخرج على أقل تقدير غير مسلّح ..

ضحك سعيد بسخرية وبصوت عال ..

ـــ عزيزي .. ماذا تقول ؟  هل تصدّق أن احد الجنود مصاب بعمى بنسبة 70% وسلّموه سلاحاً ؟!  إنها الحرب .. والحرب تحتاج الى وقود كي تبقى مستعره ...وليس هناك مفاضلة بين حطب وحطب، وكذا الأنسان سليماً او أعرجاً أو أطرشاً أو أعمى أو حتى مجنون ..

تأسيّتُ كثيرا وأنا أسمع كلمات سعيد المأزومة والمنفعلة لكنّها كلمات جريحة .. نازفة .. مستنجدة ..

ـــ لعنة الله على الحرب ومشعليها ..

ـــ أسكت الله يخليّك .. أخشى أن يسمعنا من لا ضمير له...

ثم أشعل سيجارة وسحب نفساً عميقاً ونفثه كمرجل .. ثم أردف ..

ـــ الأخبار التي وصلتني عن فوجي تقول إنه قد انتهى كتشكيل عسكري حيث لم ينجو من المعركة الأخيرة التي خاضها سوى خمسة جرحى ..ترى أين سألتحق ؟

لم يكد سعيد ينهي جملته الأخيرة حتى أرتفع صوت نصير عالياً مدوّياً وهو يغني بطريقة أوبرالية وبكلمات أعجمية مبهمة، هي طريقته حين يريد التخلّص من حالة الشد النفسي أو الهروب من واقعة فيها بعداً درامياً أو بكائياً غير قادر على إحتواءه أو إحتماله ...

إبتسم سعيد وكأن نصير قد نجح فعلاً في سرقة إنتباهنا نحو غناءه الصخّاب المجلجل .. ثم قال ..

ـــ الله يا نصير .. إنك تذكّرني ب (ماريو لانزا) وهو يقف على خشبة الأوبرا وحسناوات روما يمزقّن جيوبهنّ إعجاباً وتهليلاً له ..

تغيّر الحديث تماماً بعد أن فتح نصير مسلكاً جديدا له، واندفعنا للبحث عن أصول الغناء الأوبرالي والى أي فترة يعود .. وفجأة فتح باب (الكاليري) ودخل حسن وهو يتأبّط جريدة عربية ممنوعة التداول، لا نعرف كيف وصلت إليه ..

ـــ طبعاً بعد السلام عليكم .. هل قرأتم الخبر؟ .. مظفّر النواب يترك ليبيا الى جهة غير معلومة .. ربّما يستقر في سوريا..

أثار هذا الخبر إهتمامنا جميعاً لأنّه يخص شخصيّة عامّة أجمع أغلب العراقيون على إحترامها وتبجيلها ..

ـــ إنه خبر متوّقع .. لا يمكن لشخص ثوري تحريضي من طراز مظفّر أن يستقر في بلد عربي خاصة مثل ليبيا، لأنّه في وترياته شمل جميع الحكّام العرب بشتيمته الشهيرة (أولاد ... لا أستثني أحداً) ..

قلتُ هذا وأنا تملأني الغبطة لقراره هذا، إذ لا يمكن للثوري الحقيقي أن يمارس دوره النضالي في بلد تتحكّم فيه إرادة حاكم حتى وإن ألتقت قناعاتهما في فترة ما.. عقبّ سعيد ..

ـــ ترى هل سيمكثُ في سوريا طويلاً هذا الذي ينزف الشعر من مساماته كما ينزف قلبه الحب .؟.. أم سيعتبرها محطّة أيضاً

نهض نصير كي يعيد تعليق لوحة مائلة وأستدار نحونا وقال ..

ـــ من منكم سبق له  أن سمع النوّاب وهو يغني ؟

علا صوت حسن وهو يغني بطريقة مظفّر بالأداء ..

ـــ (عين الذيب عيب تنام من تصوفر الحيّة

       هاي يشامغ الثوّار تبرج نار حربيــــــة)

تفاجأ نصير حين شاركنا حسن غناءه ... ثم عقّب ..

ـــ عجيب أمر هذا الرجل .. فهو رسام مجيد ومطرب من طراز فريد وله الريادة في تأسيس مدرسة الحداثة في الشعر الشعبي العراقي لا تقل عن ريادة السياب للشعر الحر الفصيح ..

قال سعيد ..

ـــ هذه أوّل مرّة أعرف أن نصير له إهتمامات في هذا الموضوع ..

قطع رنين الهاتف حديثنا الشيّق، وبعد أن رفع نصير السمّاعة بدا عليه شيء من القلق والأرتباك، انهى المكالمة بسرعة وجاءنا مذعوراً ..

ـــ الكل عليه الآن أن يجد طريقاً للوصول الى بيته .. فأنا سأنام الليلة هنا في (الكاليري) .. الجيش الشعبي منتشر في عموم بغداد ..

قال سعيد ..

ـــ توقعّتُ ذلك  .. كلّما نخسر معركة ونخسر ضحايا يفكّرون بتعويضهم من الشارع .. على كل حال أنا غير معني بذلك فبعد غد سألتحق ..

ثم صدرت منه آهة حرّى بعد أن تذكّر ظروفه الخاصة، ثم نهضنا أنا وحسن صوب الهاتف ليتصل كلٌّ منا بأهله لمعرفة ظروف الطريق والمنطقة، ثم تسرّبنا واحداً بعد الآخر تاركين (الكاليري) ونصير يغلق أبوابه ليقضي الليل متمعّناً باللوحات المعلّقة ومسامراً حلو المعشر لفوضويته وأحلامه العبثية .

............................

الآراء الواردة في المقال لا تمثل رأي صحيفة المثقف بالضرورة، ويتحمل الكاتب جميع التبعات القانونية المترتبة عليها. (العدد: 1312 الثلاثاء 09/02/2010)

 

 

في نصوص اليوم