نصوص أدبية

تماثيل الرماد

 راحت تغرفُ من لون السماء الرمادي لتطلي به البيوت والشوارع والأرصفة والأشجار والأبدان وحتى الذكريات، وكانت أطراف بغداد ترتعد فرائصها من موجات برد قارص، إذ لم تجد ما يقيها منه سوى دثاراً من غيوم، يقدحُ بين حين وآخر وسط كُتلها برقٌ شديد السطوع، يعقبه رعدٌ صاعقٌ ترتجّ لهول إنفجاره شواخص بغداد ونخيلها، يثقب شرره خاصرة الغيم فتنسكب مياه الرب سيولاً تغسل وجه الشوارع والأرصفة والواجهات، وتزيح ما تفصّد من عرقٍ على جباهنا التي أثقلها الأثمُ والقلق الممض، وتضرب بشدّة سطوح الأبنية وسقوف السيارات المارقة من أمام (الكاليري) الذي نجح نصير في تدفئته، حيث أشاع جوّاً شاعريّاً حزيناً وحميمياً يفتقده الشعراء والفنانون .

لم يتبيّن نصير أوّل مرّة ملامح الكائن الذي دخل هارباً من لعنة المطر، الاّ إنه أكتشف بعد ان لبس نظّارته، إنها إمرأة قد تجاوزت الأربعين بقليل، ترتدي معطفاً أسوداً طويل، راحت تستعرضُ بصمت اللوحات المعلّقة بعد ان نفضت عن ملابسها ما تعلّق بها من بلل، وبعد ان إستعادت بعضاً من وقارها .. تساءل نصير.. تُرى من هذه المرأة التي إقتحمت خلوته في هذا الجو العاصف والماطر؟ بينما جميع الناس الآن في بيوتهم وقرب مواقدهم والشوارع تكاد تخلو من المارة .. أقترب منها على بعد خطوات ورسم أبتسامة خجولة على محيّاه .. ولمّا رآها بادلته بمثلها بادرها بالقول ..

ـــ أهلاً وسهلاً .. أي خدمة وأي إستفسار .. أنا حاضر

بانت على ملامحها سحابة غم وتكدّرت سحنتها، ثم أخرجت منديلاً ورقيّاً من حقيبتها وراحت تداري دموعاً ألتمعت في عينيها ..

ـــ شكراً جزيلاً

عاجلها بسؤال سريع بعدما رآها على تلك الحالة ..

ـــ سلامتك .. هل بإمكاني أن أقدّم لك شيئاً يخفّف من أحزانك .. فأنا فنان .. والفنان كعادته مرهفاً لا يحتمل مشهداً يعتصر القلب مثل هذا ..

ـــ الله يخلّيك .. دعني أستعرضُ اللوحات والألوان علّها تعيد لي بعضاً من إحساسي بالحياة ..

أنسحب نصير بهدوء لينزوي خلف لوحته التي وضع أوّل لمساته عليها ظهيرة ذلك اليوم، وراح يلهو على سطحها بفرشاته بينما عيناه ترقب بدقّة مسار تلك السيدّة وترصدُ حالتها المأزومة .. وحين أقتربت منه .. سألها ..

ـــ هل ترغبين أن أرسمك ؟

فاجأته حين سحبت كرسيّاً وجلست أمامه دون أن تنبس بكلمة ..

أعتبر نصير إستجابتها بهذا الشكل بداية معرفة قد تتوثّق في قابل الأيّام .. فسارع لأبدال لوحته التي على المسند بلوحة بيضاء جديدة .. وراح يخطّط الملامح الأولى .. وحين كانت عيناه تنتقل بينها وبين اللوحة .. تنبّه الى نزول دمعة تحررّت للتو من آسار رموشها .. وراحت تخط طريقها على خدّها الشاحب ... لم يتوانى نصير لحظة، فقام دون تردّد ومسح دمعتها بيده .. وأحاط وجهها بكلتا راحتيه ..

ـــ لقد أصبحنا أصدقاء .. وبإمكانك الآن أن تتحررّي من ضغط الأحزان وتخبريني ما بك ..

لم تكد تسمع ذلك حتى أنفجرت في نوبة بكاء لم يملك نصير إزائها سوى أن يحتضنها بحنو ويضع رأسها على صدره .. فعل ذلك دون أن يفكّر لحظة بما جرى..

حين ولجتُ (الكاليري) عصراً، سرق إنتباهي جدار فارغ كانت معلّقة عليه لوحة (رحيل الماء) .. ثم سمعتُ صوت نصير يأتيني من وراء مكتبه ..

ـــ اللوحة بيعت لسيدة أشترطت أن تأخذها فوراً ..

ـــ كان المفروض أن تقنعها بأن تنتظر لحين إنتهاء أيام المعرض ..

لم يكترث نصير لرغبتي، بل راح يقصُّ عليّ حكاية هذه السيدة التي تناهبتنا مشاعر الفقد والخسارة، بعد أن رمّلها زوجها وهو ضابط رفيع الرتبة قبل شهرين حين سقط صاروخاً على موضعه في جبهة القتال، فأمعن في تمزيقه ولم يعثروا حتى على بقاياه .. وهي الآن تقضي أيامها وحيدة تأسرها ذكراه بمرارة وخيبة .

ـــ أظنها ستحطُّ راحلتها في الأيام القادمة أمام باب (الكاليري)، فأنت منقذ عثرات الكرام .. وقلبك يتسع لأحتضان كل أرامل الحرب، وستجد في عينيك ظلالاً لملامح زوجها الضحية .. وستشعر بالدفء بين ذرا......

لم يمهلني أن أُكمل فبادرني بالقول...

ـــ أرجوك لا تظن بها سوءاً ... اتدري لماذا أقتنت لوحتك هذه ؟ قالت إنها تمثّلني تماماً، فرحيل الماء يعني رحيل الحياة، وهذا ما حصل لي .. حين رحل عنّي .. تركني أذوي ...

ـــ وهل اتفقتما على موعد جديد ؟

ـــ غداً .. ستأتي لأكمل لها ( البورتريت ) .

 

  × × ×

لقد نجا سعيد بإعجوبة من موت أكيد لمرتين .. مرّة عندما تمكّن من أن ينسحبُ هو ومن تبقّى من فوجه إثر معركة غير متكافئة .. والأخرى حين أخطأته رصاصات إنطلقت من بنادق آثمة بأيدي فرق الأعدام المنتشرة خلف خطوط المواجهة، لأصطياد كلُّ من يهرب او ينسحب من المعركة .. إستطاع أن يجد له ظلاًّ طي مرتفعٍ تشكّل حتى بدا كمغارة في جوف صخر، وظلّ قابعاً وحابساً أنفاسه هناك الى أن أرخى الليل ستائره .. وحين إلتحق بقيادة فوجه فجراً نجح في إبتداع قصّة مشرّفة لنجاته ..

وبعد أن روى لي ذلك .. أشعل سيجارةً وسحب نفساً عميقاً .. وقال ..

ـــ لقد إتخذتُ قراري في الزواج بسعاد !!

فاجأني بقراره الغريب .. لكنّي غفرت له هلوسته هذه، فحاولت ان أعاتبه بمحبّة دون إنفعال ..

ـــ أبو السعود حبيبي .. وضعك الآن لا يسمح لك بإتخاذ قرار مصيري مثل هذا .. فانت خارج للتو من رماد معركة لازالت نارها متّقدة للآن .. فأي سعاد التي قرّرت الزواج بها ؟ .. هذه الأسيوية الأصل التي تجهل منبتها .. هذه النحيلة كقصبة ذات البشرة الطاعنة في سمرة داكنة، والتي باعتك بلحظة حين ألتقت بالشاعر رشيد !!!

ـــ ماذا أفعل ؟ .. قل لي ... علّها تنجب لي ولداً يحمل إسمي، فأنا اعتبر نفسي من الخسائر، فإن نجوت اليوم فغداً لن أفلت من مخالب الموت !

أدمى سعيد قلبي وأنا أراه بهذا اليأس والقنوط .. إنه واحد من ملايين الشباب الذين دفعت بهم الأرادة الشريّرة لعاتٍ الى المحرقة، والذين طحنتهم ماكنة الحرب الصدئة .. مسكين سعيد .. ماضٍ تعيس فتك به العوز .. وحاضر مهدّد يوميّاً بالفناء.. ومستقبل مجهول ...كيف سيكمل مشواره بالحياة .. لستُ ادري ..

سألته محاولاً إخراجه من دائرة سعاد ..

ـــ قل لي .. ماهي أخبار أخيك .. هل أقدم على الأنتحار مرّة ثالثة ؟

فتح عينيه على سعتهما وكأنمّا وخزته في خاصرته، وهذا ما كنت أبغيه ..

ـــ مخدّر بفعل الأقراص المنوّمة، ومختبيء بحجرته مثل فأر يدري أن هرّاً يسيل لعابه يقف على باب جحره .. فهو لا زال مطارداً من الأنضباط العسكري .. وأنا لا أستطيع إقناعه بالألتحاق خشية إعدامه، فهو قد هرب للمرّة الثالثة، وانت أدرى بمصير من يفعل ذلك ..

تغيّرت سحنته تماماً حينما تذكّر محنة أخيه .. وكأنّها طغت على كل ذاكرته وتصدّرت أرشيفها .. فراح يعيد عليّ ما قد سمعته منه اكثر من مرّة حول حيرته إزاء علّة اخيه النفسيّة وحراجة موقفه من الخدمة العسكريّة ...

  × × ×

قدحٌ من الشاي، أثار شهيّة نصير لأشعال سيجارة بعد أن تناول غداءه في أعقاب قنيّنتي بيرة باردة نزلت الى جوفه فأطفأت وهج حناياه وأججّت خدراً مشى على صدغيه ..فأسترخى على كرسيّه وراء مكتبه ..

لاح له فجأة أن تشقّقاً يجري الآن وسط أرضيّة (الكاليري) .. وهاله إن شيئاً رماديّاً ينطُّ من الشق ليرتفع ويتفرّع حتى أكتمل .. شجرة من الرماد غطّت معظم السقف وشغلت فضاء (الكاليري) ولاح لعينيه سعيد وحسن وأنا وسعاد وسيدة المطر مصلوبين على جذعها وقد اكتسوا بلون الرماد .. وحين همّ بالنهوض وقد أرعبه المشهد .. صرخ باعلى صوته متأوّهاً ... لقد لسعته جمرة سيجارته بعد ان أخذته إغفاءة قصيرة ..تلاشي المشهد أمامه تماماً .. صمّ على كفّه وضرب سطح مكتبه بقوّة، وجاءت على لسانه مقولة لأحد الفلاسفة .. (الحرب ... يا للغباء) .

 

وائل المرعب

[email protected]

 

............................

الآراء الواردة في المقال لا تمثل رأي صحيفة المثقف بالضرورة، ويتحمل الكاتب جميع التبعات القانونية المترتبة عليها. (العدد: 1346 الثلاثاء 16/03/2010)

 

 

 

في نصوص اليوم