نصوص أدبية

نيرفانا الشاعر*

توقف أبا (جيكور) عن الترتيل ما عاد يتلو (أنشودة المطر). وقد انحنت قامة تمثاله مفجعة باهتة تحدق مرعوبة في أفاعيل الغدر والمكر، والشر الرهيب بأعنف أشكاله . إذ جثمت غمامة كثيفة السواد، مخيفة التشكل، فوق هدوء ذلك البيت الوديع والمنزوي. الذي اغتيلت برائه جدرانه البيضاء وستائره الذهبية وشرا شف أسرته الوردية . فساكنه الذي غاب عن شؤون عالم الضجيج والمواد، منذ زمن بعيد . وكأنه رحل نحو عوالم (النرفانا) العميقة . بالاستغراق والتأمل فاستحال إلى (عنقاء) ما عاد يدرى شيا عن شكلها أو حالها وشؤونها…

كان شاعرا فريدا وغريبا كما بيئته ومحيطه، له إمكانيات شعرية مذهلة. الا انه وبمنتهى الغرابة عزف عن النشر بدون أسباب واضحة. وان كانت كل أموره غامضة إجمالا . هذا ما كتبه أحد الذين كانوا يراقبون الشاعر بفضول. واكمل ذكرياته عن الشاعر بعد الحادث المأساوي: كنت أراه في اكثر الأحيان، حينما اتبعه دون أن يدري . جالسا في المقبرة التي تبعد عن بلدتنا كثيرا محاطا بهالة من الصمت والسكون المخيف . وكذلك في كل المرات القليلة التي كان يستغل فيها انشغال الناس في لجة شؤونهم ليخرج من اجل التسوق وإزجاء بعض حاجياته الضرورية. ينجز ذلك بسرعة وخفة عجيبة وكأنه مطلوب لجند الظلام، أو ملاحق من أبالسة الشر. ورغم ذلك كان يتوقف على وجل ليسجل بعض الكلمات أو الملاحظات في دفتر صغير يخرجه من جيبه الداخلي ثم ما يلبث أن يعيده بحذر وكأنه درة نادرة . يبدأ لعاب فضولي يتقاطر متعرقا من شفتي لمعرفة ما يكتب. ولم أحظى بهذه الفرصة إلى بعد مدة طويلة من المراقبة، إذ اصبح يكثر من جلوسه في المقبرة في الفترة الأخيرة  . تشجعت في الاقتراب منه مجازفا بانكشاف أمري . لم اكن اعرف ردة فعله لو باغتني انظر أليه ؟ سيعرف باني أراقبه وعندها ماذا علي أن أتوقع منه ؟ انه يرفض التحدث في أي موضوع أو المشاركة بأي جدال . وخصوصا فيما يخص عزلته وعالمه الطلسمي الملغز، فهو أيقونة صوفية مفرطة في التوحد . وربما هذا ما أغاظ  المجرمين لاحقا. فنحن في زمن أما أن تكون فيه مدان، وإما أن تكون مدان . وان كان حظك سيئ فستعد لا مدين ولا مدان وعندها ستكون لغزا يرعب الجهال (ويقشعر**) في جلد حفيظتهم. جازفت أخيرا إذ بلغ سيل الفضول الربى ولم استطع الاصطبار اكثر. اقتربت على أطراف خوفي إلى حد أنى سمعت صياح رأس قلمه في أحضان الدفتر . كان واضحا من انه يكتب شعر لأنه عرف بكونه شاعر أولا، ولأن ما رايته لا يصلح أن يكون قصة أو رواية ثانيا. فطريقة كتابته شبيهة بالشعر من حيث شكل العبارات القصيرة والطويلة بشكل عمودي لا يغطي مساحة السطور كاملة كما هو معتاد في السرد القصصي . لكني لا أستطيع الجزم، فأنا لم أرى في حياتي شعر يشبهه فلا قافية، ولا تفعيلة، ولا أي شيء من الشعر العربي المعروف . لكنه وللأمانة أدهشني بعنف وشعرت بيقظة من المشاعر الغرائبية  تجتاحني وتلفني في زوبعتها. وبقيت منتشيا ومسحورا بتلك الكلمات التي لم افهمها بشكل كلي، لكني أدرك من منطلق ذاتي غامض بأنها كلمات سحرية راقية . حتى أني حفظتها كلها وهي القصيدة الأولى والأخيرة التي حفظتها في حياتي . وتمنيت أن الفضول لم يقدني لقراءتها وصدق من قال: (إن من الفضول ما قتل) حيث أصبت بلعنتها الغامضة وأيقنت بما كنت اسمعه عن سحر الشعر وشعوذة الكلمات . لقد أشعلت القصيدة في حجرات وجودي كل بخوراتها وشمعاتها واستحضرت الجن والشياطين لتجتمع في تكايا نفسي الفارغة . ثم حلت المصيبة إذ باغتنا الشتاء بعواصفه وأمطاره فدخل الشاعر في غيبوبة التفرد النهائي . لم اعد أراه إطلاقا فالذهاب إلى المقبرة في هذا الجو البارد بالنسبة لرجل في طوره السبعيني يكاد يكون مستحيلا . كما وانه قد استعد للسبات بعد أن جهز خزين غذائي يكفيه طوال الشتاء . عطبت خلاياي وتشابكت حبال أعصابي ووصلت لحافة الانهيار أريد أن  أزوج القصيدة قبل أن تعنس في صدري. كيف لي أن التقي بالشاعر ؟ انه أمرا (دونه خرط القتاد) . اشتدت عواصف الشتاء مدوية واشتد معها بلائي لم أتذوق طعم النوم من حينها لعنت الشعر والشعراء والقراءة وكفرت بالفضول. أي جحيم حشرت انفي في حممه؟ وكيف لي الخروج بعد أن وطأت عتبته ؟ أيام وليالي وأنا أصارع أسئلتي واستفز غيرة أجوبتي علها ترحم توسلي . خطرت في بالي فكرة مجنونة لست ادري من أي منحدر سحيق تهاوت على هامة رأسي، فقادتني مكرها نحو المخزن الصغير في ظهر البيت . واندفعت كالمجنون استخرج الأشياء القديمة الخربة من أحشائه . كان يحدوني أمل تكاد احتمالات حدوثه أن تكون معدومة. لكن الغريق يرى القشة الطافية فوق ساحل الحياة كباخرة نجاة . أخرجت الأشياء بوقت استثنائي على الرغم من أنى كنت بحاجة إلى شيء ضروري من هذه الأغراض لكني لم اكن أتصور باني سأقدم على إزعاج نفسي بالفوضى المخزنية المتعبة هذه . وها أنا انتزع كل نخاع الأغراض دون أن اشعر بالتعب . لم أتمالك نفسي حينما اصبح المخزن فارغا تماما وبدت النافذة أمامي وكأنها بوابة تطل من ورائها النجاة من جهة،  أو بنسبة اكثر احتمالا الغرق . تطلعت في ستارها الجرباء وقد ثبتت بمسامير ناعمة حيث تم الاستغناء عن خدماتها من وقت طويل. وحينما اقتربت لأرفع جزا منها، شخت غبرتها الترابية الثقيلة في خياشيمي، فبالت عيوني دامعة بدورها . جذبتها مستاء من الوسط قالعا كمية مسمارية كثيرة ورفعت القماشة لأنظر من وراءها، ا أذهلني ساحل النجاة على حين غرة أخيرا . كان جالسا بكامل وجوده أمام عيني لم اصدق فركت عيني اللواتي نشف البلور الدمعي على وجنتيهما وحدقت في شاخصه الذي أكد لي بما لا يقبل الشك بكونه هو بلحمه وأعضائه الأخرى . كم كنت غبيا كل هذه الفترة ولم أتذكر حجرة المخزن اللعينة هذه وقد كنت اعرف أنها تطل على حديقته الخلفية . وحينما كنت صغيرا كان يسمح لي أن العب مع ولده قريبا منه رغم انه أبتدأ عزلته منذ زمن بعيد. وقد اشترطت علي والدتي أن أدق عليها شباك المخزن بهدوء إذا احتجت لشيء ما حتى لا أزعج الشاعر، وهددتني أن أنا أفسدت الأمور بأنها لن تسمح لي في العب بحديقته مجددا . بدت لي الحديقة شائخة متعبة انطفأ فيها بريق الاخضرار وكأنها تضامنت مع صاحبها الذي حدق على أحد الأغصان الباسقة بشرود مخيف . تسمرت بالنافذة أراقب كل حركاته القليلة . لا ادري لماذا أحس بأنه خارج عن الحياة وراحل عنها كلما نظرت أليه، بل اعتقد أن هذا الانطباع سيمثل بوعي كل من يراه . ندت عنه ارتجافه  يدوية على الرغم من كونه ملتحفا بمعطف صوفي، بدا من خلف زجاج نافذتي المضببة سميكا وغامق اللون وكئيب الطراز . ترك مكانه بعد مدة ودخل حجرته مباشرا إسدال الستار...

 وصل بي الوله والهيام حدا اربك تنظيمي، وإطار نومي، وراحتي . عصفت بي رياح الجنون الصفراء، التي صدمت بصخور مزاجي السوداء فهاجت زوبعة حربهما مطوحة ببقايا سكوني . أدمنت الفضول وأسكرتني طقوس الشاعر . كنت أراقب كل حركاته وسكنا ته بما يشبه القداسة . حفظت كل تفاصيله ألا ما كان يغلق الستار دونها حينما يذهب للنوم أو في بعض أوقات تفرده وكأنه يكاثف من توحده ويبالغ في الاحتجاب والاستتار .  أيام تمضي وأنا على نفس الحال لقد أجبرني على أن ادخل معه في سبات الحياة الشتائية . أنا الذي أفنيت عمري بإزعاج الشارع ودغدغة اسفلته في كل فصول السنة الخمسة . لم اكن أتواجد في البيت ألا في أوقات الطعام، أو حينما يطل القمر مغازلا الكون بضيائه، فتنسحب الشمس لتدع الحبيبين يكملان طقوس الغرام . وكنت أيضا انسحب بخطواتي المثقلة إلى أحضان سريري فانكفئ بوجهي اقبل شفاهه حتى قدوم الشمس في اليوم التالي . أتناول الإفطار واعود إلى شارعي من جديد . لكن هذا "الخيميائي" الغريب غير حياتي وقلب أحوالي . نقلت سريري إلى المخزن الذي اصبح من ذلك الحين بيتي ومأواي وشارعي وكل عوالمي . لقد نقلني الشاعر ألا أجواء أخرى لعله مارس علي سحرا ما لا ادري لكني لا أستطيع التراجع . كان اكثر ما يغيظ فضولي هو أن لا يجلس في حديقته وتحت المظلة التي يحبها حينما يشتد البرد. فأظل أراقبه من وراء زجاجتين، فما بين زجاج نافذتي وزجاج نافذته تضيع أسرار، واشارات، وحكايات العوالم اللا مرئية . كان أحيانا يقترب كثيرا من نافذتي حينما تستعرض شمس الشتاء الضئيلة عضلاتها، ويأخذ بمداعبة بعض غصينات الشجيرات وينفض عنها الماء . وينحني يداعب هامة الثيل الواطئ  بيديه الذابلتين المصبغتين بالحبر .

512-nasim

كان يصغي إلى البلابل بانتباه واضح، ويتطلع إلى الأشياء وكأنه يريد أن يتحد بها ينماث بعلائقها . وكأن الأشياء من جهتها على علاقة قوية وخاصة به إذ تطل عليه وهي تبدو على وشك أن تبتلعه . وما بين الابتلاع والأنمياث والظهور والاختفاء أكون كالمجذوب . أتناسى حتى فعل التنفس وحينما يتراجع الشاعر نحو كرسيه تحت المظلة القريبة من باب حجرته اسقط على الأرض وأبدا جولة حادة من الشهيق والزفير لتنتظم دورتي التنفسية بعد الاختناق اللاشعوري ذاك . وبما يشبه الانتقام أو اخذ الثأر رفض الشارع، الذي أزعجت سكونه مرات ومرات بمشاكساتي ومطارداتي، أن يستقبلني على اسفلته من جديد . وهكذا لم اعد ابرح مكاني أو بل أحرى نافذتي، حتى وجبات الطعام أتناولها وأنا متسمرا في تلك النافذة . أسرني الشاعر وشدني أليه بقيد خفي لا أجيد ولا أقوى التمرد عليه . لقد سيطر حتى على أعماق مشاعري وعواطفي،لم اعد اشعر ألا من خلاله . فإذا أراه هب فجأة واقفا ونظر باتجاه ما، أخذت انظر بذلك الاتجاه أيضا، أن بكى بكيت أو فرح فرحت . وحينما يستتر في حجرته خلف الستار، كنت أتوهمه وهو يكتب كنت متيقن من انه يكتب. ففي اكثر المرات التي يدخل ولا يسدل الستار أراه يجلس على المنضدة الصغيرة القابعة في أقصى ركن من أركان الحجرة . ومع ذلك كان يدير ظهره باتجاه النافذة وكأنه يخشى أن تسرق النافذة سطوره . كان بركان غضبي يستعر في أحشائي من تستره الغامض عما يكتب، لكني لا أستطيع أن اكرهه رغم ذلك. بقيت لشهور طويلة بصحبة أجواء الشاعر، حاكيت خلالها بعض طقوسه . التي بدت أعجبها ألي حينها أن يصغي لصوت الماء حينما ينحني على نافورة الحديقة الكبيرة ويضع أذنه على ماءها وبعد قليل يرفع رأسه،ويحمل الماء بكفه ليطيح به ثانية مأخوذا بنشوة سحرية غريبة . لم تكن ثمة نافورة في منزلنا الصغير، فاضطررت إلى سرقة الطشت من حمامنا خلسة . ملأته بالماء وأنزلت أذني من حافة قاعه الصدئ لأستمع إلى صوت مائه الشائب، كل ما هوى الشاعر يسمع أنغام الماء في نافورته . وارفع رأسي متصنعا الانتشاء كما يفعل هو حتى أني ارتطمت في الجدار في إحدى المرات التي بالغت في التظاهر فيها فانحدر الدم مني بغزارة . لكني نجوت من غضبة أمي التي كانت قد قلبت دنيا البيت بحثا عن الطشت. وعندها احتملت بكوني أخذته لأزجي به إحدى حاجاتي المخبولة . حصلت على طشت بلاستيكي جديد كتعويض الهائي عن عمة الشاش التي لف بها الطبيب رأسي  وعدت لحجرتي بحالة من الغثيان والدوار فاضطررت لملازمة الفراش . ولم ادهش حينما سمعت بأن الشاعر تعرض لنوبة من الصداع الحاد وسقط على الأرض فجأة وهو ألان طريح الفراش...

احتجب في حجرته اكثر مما سبق وكانت الستارة مسدلة في اكثر ساعات النهار.عدت لمراقبته بعد أن تماثلت للشفاء، كنت اقضي اكثر الأوقات حينما يستعصي علي ظله بلعبة  التوهمات . وحينما تمرست بها، أصبحت أجيد محاورة الجنيات وخصوصا حينما اصبح الشاعر لا يغادر حجرته لأيام . اشتد مرض فضولي لمعرفة مدونات الشاعر ويأست من قراءة مدونة أخرى . فبقيت أمني نفسي بلقائه على الأقل، اقف قريبا منه في افضل الأحوال. سألت الجنية بعد أن تطورت العلاقة قليلا هل لي برؤيته ؟ أجابتني بعد أن تمنعت عدة مرات ورضخت أخيرا  تحت طائلة إلحاحي: سيحدث هذا بعد أن يغمى عليك سبعة عشر مرة. وكنت قد بدأت أعيش حالات الإغماء هذه منذ وقت طويل، لكني لم افهم أو اعي المغزى من هذا العدد بالذات . تكررت اغماءات الشاعر وإغماءاتي تباعا . وعند الصحو كان يمارس الكتابة في وقت متأخر من الليل، يرفع ا لستار وكأنه يثق في الليل فلا يحتاط لتشديد احتجابه عندما يكتب كما في النهار. وهكذا أدمنت السهر معه أراقب انحناءاته على الأوراق وحينما يشعر بألم الظهر يستلقي على أريكته مستغرقا في مناجاته الباطنية . أدمنت منه لاحقا تحريك شفاهي حينما انغمس في الصمت أناجي نفسي . وصلت إلى خمسة عشر إغمائه، واستقرت حالتي بعدها نسبيا. وكذلك حال الشاعر عاد ألا جلوسه تحت مظلته العزيزة، عاد يمشي في حديقته، يداعب الماء في النافورة ويستمع لتغريد البلابل . بدا لي وجهه في تلك الأيام متشحا بحزن مرير واشتدت سحنة الرحيل في وجهه اكثر من قبل . كما بدا عليه انه ينتظر شخصا ما، شخصا يبدو له لا داعي لحضوره أصلا . لكن ذلك الشخص لا يفهم ويصر على الحضور، وكان هذا ما يأرق الشاعر. لم تبدو عليه علائم الاستعداد لذاك الشخص لأنه ببساطة قد استعد ورحل منذ مدة طويلة جدا ولم يكن مهتم بقدوم ذلك الذي تأخر مجيئه كثيرا ....

 أيقظتني أمي باكرا كما هي العادة لأجلب فطور الصباح، وقبل أن اصل البيت اعتلت صرخة مدوية قطعت نياط قلبي وشعرت بقشعريرة تجتاح كياني، وهاجت غثيانات الشعور الغريب . تجمدت في مكاني وأخذت الصرخة تتوالى حتى تلتها صرخات وأخرى، تناهت لمسامعي كلمات مبعثرة التقفتها بصعوبة شديدة وأنا اقترب من التقيؤ، ق ت ل أل ش ا عر.. 

كنت قد سقطت على حجرا مشؤوم فشق رأسي بشكل اعمق من نفس المكان السابق، الذي كنت قد سقطت عليه. فعممت بشاش اكبر وأجبرت على أن الزم الفراش مع حراسة أمي المشددة. التي أحبطت لي محاولتين مجنونتين للهرب، إذ حاولت أن اذهب إلى قبر الشاعر وأنا في تلك الحالة المزرية. سمعت انه طعن سبعة عشر طعنة مزقت جسده البريء الذي تشحط بدمائه فوق سريره الوردي. واصطبغت جدرانه البيضاء مع لوحاتها السريالية بالدماء التي ظلت تراودني في الحلم واليقظة . أراها تتدفق مع ماء النافورة وتنثال فوق تلك الحشائش التي أطاحت بهاماتها وأطفأت خضرتها التي انتحرت بالاصفرار، فاجعة الغدر الشنيع قبل أعقاب أهل العزاء الحديدية. لم تفارقني هذه الرؤى المجنونة حتى وقت طويل.  في لاحق الأيام بدأت أتحسس بوادر الشفاء وكانت أمي وعدتني بأنها ستسمح لي بزيارة المقبرة لوحدي إذا ما شفيت. كانت الجنية قد انقطعت عن المجيء من يوم الحادث المفجع لعلها علمت بغضبي ونيتي المبيتة لقتلها خنقا لأنها ضللتني . إذ قالت باني سأقف قريبا منه حينما يغمى علي سبعة عشر مرة، بينما نقص الواقع مرة، وكأنه يصر على التذكير بتكذيب عوالم الجن والتنجيم . شفيت أخيرا وتوجهت وحيدا إلى المقبرة، كنت متأكدا من أن قبره محاطا بعشرات الزائرين من أقربائه وبعض معارفه وأصدقائه الذين كان في أحد الأيام يدر سهم الأدب والشعر.  لذلك حرصت على أن ارتدي افضل ثيابي، فقد يسألني أحدهم عن علاقتي بالمرحوم؟ وعندها سأجيبهم وبكل فخر باني جاره . أخذت أسير على وجل حينما صرت قريبا من المقبرة، إذ عصفت برأسي الذكريات لا أستطيع أن اعي ما حصل. لماذا تغتال البراءة؟ لماذا يطعن الهدوء ؟ لماذا تمزق الوحوش جلد السكون؟، لماذا..؟ لا املك جواب لهذه الماذات التي قد تبلغ العشرات . وصلت أخيرا إلى المقبرة تلفت إلى يميني والى يساري لأتأكد من كوني لم اخطأ فتأكدت كل شي يشير ألا كونها هي، نفس المقبرة، نفس الصمت. توجهت من فوري إلى قبره لقد كنت متأكد انه أوصى بان يدفن في البقعة التي كان يجلس فيها . تعسا أيتها الأقدار انهمرت دموعي وأنا اقترب من قبره، أي جحيم يدير مطحنة الأقدار هنا قرأت أول قصيدة للشاعر خلسة دون أن يدري. وها أنا آتي أليه، نفس السكون وكأنما لم يحدث أي فرق. حفنة أياما لعينة ولت، غصة بالحلق ومرارة بالبلعوم وعاد البغل يجر المحراث من جديد . أنا والشاعر وغموض القصيدة بيننا، بلا أوجاع بلا آلام. يا لرعب الإنسان وبشاعته، تحدث الكوارث والزلات والمصائب واغرب ما في الأمر إننا نتابع شئنا أم أبينا . اشد ما في الأمر هو حتمية أن نتابع،لا أحد يوقف مصير المتابعة .  انحدر الدمع متسارعا من مقلتي وأنا أقابل ذلك القبر الساكن بموت صاحبة، كما كان صاحبه ساكنا في قبر حياته. شعرت بألم حاد يفوق ألم النبأ الرهيب . أحزنني أن يهمل الشاعر وكأنه حكم عليه بقدر منحوس أن يعيش غريبا وحيدا بحياته وموته . كنت أظن أن قبره سيظل مرتعا للزوار حتى عام واحد في اقل الأحوال . ظننت بغفلتي أني سأرى قبرا كبير فيه حشد من الناس الأدباء والمثقفون وهم يدرسون ويناقشون ارثة الشاعر ومسوداته التي أهمل كتابتها لأسباب غامضة . لكني فوجئت بإهمال مرير لم احتمل أخيرا وباغتتني إغمائه أطاحت بي فوق القبر. شعرت أن يدي الشاعر تتلقفاني، وهكذا اقتربت منه بعد أن اسند رأسي على ركبته و تحاورنا لوقت قصير. لم استطع أن أعاتبه لاحتجابه عن النشر فضاعت ارثة قصائده بأيد لا مسؤولة، منعني من الكلام ذلك الحنان الفياض في عينه الممتلئتين بالأسرار والمطوقتين بحزن عميق.  فتحت عيني أخيرا  على سرير المستشفى محاطا ببعض الأصدقاء ودموع أمي التي أخذت تعاتبني بصوت عال، خصوصا وان الطبيب اخبرها بان حالتي خطرة جدا بعد أن فطرت جمجمتي. وحذرني من أن أي سقطة أخرى ستؤدي بحياتي..

 

‏2009‏‏

(سخرافن ديل) منتصف الليل.

 

........................

* القصة من مجموعة: (من طقوس الفنان).

** يجعلها تقشعر.

                      

 

 

 

 

في نصوص اليوم