نصوص أدبية

أحزان البورتريت

رصيف تتوزّع على أضلاعه ثمرات المعرفة .. معبر الى التأريخ وحكاياه العتيقة .. مفازة تطلُّ على رحاب اللغة .. زقاق يطفح بالشعر تغوص الأبدان به حد الركب .... تمتم حسن وهو يستعرض كتب أوّل الشارع...

ـــ إذن هنا سأعثر لا محالة على (قصائد عارية) .. فليس من المعقول أبداً أن الاف الكتب هذه لا يندسُّ تحت أحّدها هذا الديوان اللعنة !!

تعبت قدماه وهو يشقُّ طريقة بمشقّة بين أكتاف المتبضعين، وشرع اليأسُ يأخذ مساره اليه، إذ لم يبق من نهاية الشارع سوى القليل، وحين سأل أحد ألباعة عن الديوان، سمع شخصاً بجانبه يردد ..

هذا أنا رجلُ الضباب ومن له        في كلِّ موبقة حديث يذكرُ

ثم أشار بيده الى احد الباعة في نهاية الشارع ..

ـــ أظنّكَ ستجد عنده نسخةٌ قديمة

هرع حسن الى هناك وسأل البائع عن مبتغاه ..

ـــ لديّ نسخة واحدة لكنّها للأسف محجوزة

عرف حسن أن البائع أراد بذلك أن يعزّز من قيمة الديوان لندرته، فعرض عليه مبلغاً مغرياً، جعل البائع يخرجه من صندوق خشبي كان يجلس عليه ويضعه في كيس ويناوله الى حسن بعد أن قبض ثمنه .. ثم ضحك قائلاً ..

ـــ آه لو كان يدري حسين مردان إن ديوانه سيكون عليه مثل هذا الأقبال لأجّل موته..

أخذ حسن مكانه في الركن البعيد من مقهى الشابندر وراح يحتسي شايه ويتصفّح الديوان بمتعة بالغة لم يفز بها أمام أي ديوان آخر .. راح يقرأ وهو غارقٌ حتى أذنيه في لجّة حوارات ونقاشات برع بها جلاّس المقهى من عاطلين ومتقاعدين ومتذمّرين وساخطين .. فالحربُ لازال أوارها مستعراً وقد تصدّرت أخبارها مانشيتات الصفحات الأولى من صحف السلطة المتخمة بالأكاذيب وبالأنتصارات الوهمية ..

وحين وقعت عيناه على البيتين ..

          وقع السياط على أردافها نغمٌ      يفجّر الهول في أعراقها السودِ

          تكادُ ترتجفُ الجدران صارخةً    إذا تعرّت أهذا الجسمُ للدودِ

لم يملكُ حسن لحظتها سوى ان ينتفض من مكانه ليصيح بأعلى صوته ..

ـــ الله ..

أدار الجميع عيونهم صوبه  بحركة جماعيّة مباغتة .. فأطرق رأسه خجلاً وقرّر أن يغادر، وقبل أن يهمّ بالخروج، تقدّم منه أحدهم وسأله ..

ـــ أليس حسن أمامي؟

ـــ نعم .. انا حسن ..

ـــ الا تذكرني؟

حاول حسن أن يتمعّن في وجه محدّثه وأن يستجمع كل فراسته علّها تعينه في هذا الحرج ..

ـــ أنا هادي ... رفيقكَ .. كنّا في نفس الخلية أثناء نكسة حزيران، وتطوّع كلانا للألتحاق بالجبهة تلبية لشعار الحزب (كلُّ شيء الى الجبهة)..

قال له ذلك همساً خشية أن تلتقطه أذنٌ مشاغبة من القريبين، وعقّب هامساً أيضاً ..

ـــ أتذكر.. كنتَ الوحيد بيننا غير ملتزم بالأجتماعات، وحين عاتبك المسؤول يوماً، قلتَ له .. انا شاعر عاشق .. فأقبلوني كما أنا .. وثقوا لو أن الرفيق لينين كانت له علاقة بواحدة مثل التي أحُب لترك كل الأجتماعات ولتأجّلت الثورة البروليتارية للبولشفيك حتّى يومنا هذا !!

تذكّر حسن فجأة ذلك التأريخ وتلك المحاوره، ففتح ذراعيه وعانق هادي بحرارة ..

ـــ عزيزي هادي .. الآن تذكّرت تلك الأيام جيداً، والحمد لله إنك لا زلت حيّاً .. لا أظنُّ إن أحداً من تلك الرفقة سوانا بقي على قيد الحياة ..تُرى ماذا تعمل الآن وما هي أخبارك ؟

ـــ لقد تركتُ التنظيم منذ ذلك الوقت، وأنا الان ضابطٌ في الشرطة رفيع الرتبة ومنسّب الى الجوازات، واليوم أنا في إجازة ..

لم يكد يكمل هادي جملته حتى أمتقع وجه حسن وأنتابته صفرة كادت أن تطيح به .. الاّ إنه تماسك في اللحظات الأخيرة .. فقبّل هادي من وجنتيه ..

ـــ هذه فرصة عظيمة ان إلتقيتك، ولكن عليّ أن أغادر الان، فلديّ إلتزام مهم ..

ثم سارع بعد ان دفع ثمن شايه وشاي هادي للخروج من المقهى ليضيع بين الحشود الباحثة عن المعرفة .

                  ×       ×       ×

 

جلست أمام نصير الذي هيّأ منذ الصباح كل شيء .. نظّف صحن الباليت ..غسل الفرشاة .. رتّب عصّارات الزيت حسب تدرجات ألوانها .. ثم طلب منها أن تعدّل وضعية جلستها بإتجاه نور الشمس القادم من الواجهة الزجاجية الأمامية لكي يسقط على شعرها وجسدها وثيابها ممّا ينتج عنه حالة من التضاد، ويسهّل عليه تحديد مساحات الظل والضوء، وقبل الشروع بوضع اللمسة الأولى قال لها ..

ـــ أتدرين ..للآن أنا اجهل إسمكِ

ـــ ساهرة

أجابته دون تردد، ثم طلبت منه برجاء ..

ـــ هل لديك مانع إذا ما دخّنتُ ؟  وهل يعيق ذلك عملية الرسم؟

طفح وجهه بالبشر .. فهو يأسره مشهد المرأة وهي تدخّن ..

ـــ لا أبداً .. خذي كامل حريّتك .. وعلى مكتبي مجموعة من علب التدخين المختلفة

وبإمكانكِ الأختيار ..

ـــ لا .. شكراً .. لديّ سجائري الخاصة

وحين تصاعدت رائحة  عصّارات الزيت وهي تملي بألوانها الفراغات .. أشعلت سيجارتها .. فألتهبت حناياه .. وتأجّجت في ذاكرته نارٌ قديمة ظنّ إنها خمدت وأنطفأت جذوتها منذ سنين حينما كانت روزا حبيبته الأولى التي تركته وهاجرت مولعة حد الأسراف بإحراق أصابع التبغ ونفث دخانه الذي يختلط مع عطرها الباريسي ليشيع برحبة المكان جوّاً مثيراً، لم يكن حينها يقوى على إحتماله متماسكاً....

 حاول نصير أن يستجمع كل قدراته في تجسيد فتنتها الطاغية رغم شحوب سحنتها وفي إستلهام روحها المكلومة والمبثوثة في ملامحها وفي إستعارة حزن عينيها، إذ كان همّه ان يبدو البورتريت أمامها ناطقاً لأنه سيكون السبب الوحيد الذي سيبقيها قريبة منه، وهذا جل ما يبتغي ..

ـــ اليوم تبدين أقل حزناً من يوم أمس .. وهذا مدعاة سعادة بالنسبة لي..

ـــ أشكرك .. وأشكر روحك الجميلة وحسّك الأنساني النبيل ..

أزدرد  نصير ريقه وفتح فمه مبهوراً بما سمع .. وراح يتمتم مع نفسه .. إذن أصبحتُ أعني لها شيئاً..

ـــ أنا لا أستحق منكِ هذا الثناء .. بل بالعكس .. انا المدين لك .. فقبلك كانت أرضي يباباً والفرشاة بيدي حجارة وكل ألواني باهته ومطفئة وخيالي مقفر..

ـــ الله .. أنت رسّام وشاعر أيضاً..

وأثناء ما كان نصير منشغلاً بمتعة إفتقدها منذ زمن بموديله الحزين الماثل أمامه، دخل حسن وفي يده (قصائد عارية) وحالة من الذعر والوجوم كست سحنته، فثمّة شكوك لم تكن متوقّعة بدأت تأخذ مساحتها على مجمل تفكيره بعد ان إلتقى قبل نصف ساعة بهذا الهادي الذي داهمه فجأة وكأنه قد خرج من قمقمٍ مسحور ليجعل حياته عائمة على بركة من قلق لا يعرف متى تبتلعه .. .. ادّى تحية الصباح رغم ان الساعة قد تجاوزت الواحدة بعد الظهر، ثم أسترخى على كرسي بجانب مكتب نصير وراح يدخّن بنهم ..

لم يكترث نصير لمجيء حسن غير المتوقع ولم يبالي بوجوده لوحده في مكتبه ..إذ كانت رغبته في إبقاء ساهرة أمامه أطول فترة ممكنة أهم الرغبات، فراح يتلو كلمات خرساء على شفتيه .... ما الذي جاء بك الآن أيها الشاعر الصعلوك في هذا الوقت الذهبي الذي أعيشه .. إن سيجارة ساهرة المطفأة في صحن الرماد أهم منك ومن كل قصائدك التي لا يفهمها أحّدٌ حتى أنت .. ما الذي حذفك علي في هذه الظهيرة المقدّسة .. أيّها المتطفّل على الموهوبين من أمثالي .. ثق لن تفلح في بناء مجد حتى ولو عشتَ على فتات إبداعي ..

فجأة سمع ساهرة وهي تقول له ..

ـــ لم أسألك عن إسمك

ـــ نصير .. الفنان نصير

ـــ انا أعرف إنك فنان .. وإلاّ ما معنى وجودي ساكنة كتمثال أمامك منذ قرابة الساعة .. لا أدري لماذا أحسستُ إنك محرج من وجود زائرك الذي يدخّن هناك..

ـــ لا أبداً .. إنه مجرد زائر لا يعنيني بشيء..

ـــ على كل حال .. أوشك وقت زيارتي على النفاذ .. سأغادر الآن وسأتصل بك لتحديد موعد جديد لأكمال مشروعنا الفني .. طبعا هذا بعد ان تعطيني رقم هاتفك ..

حاول نصير أن يقنعها بالعدول عن قرارها بالذهاب .. إلاّ إنها أصرّت على ذلك ..كتب لها رقم الهاتف على قصاصة ورق وأوصلها الى الباب وعاد حانقاً الى مكتبه حيث رمى نفسه على كرسيه وكأنّه فرغ للتو من عملٍ بذل فيه جهداً عضليّاً لا يتناسب ورهافته .. وحين تمعّن بحسن الذي لا زالت عيناه شاردتان لا تستقرّان على شيء .. بادره بالقول ..

ـــ حسن حبيبي .. انت تعلم جيّداً أنّي لا احمل حقداً وكراهيّة لأحد، ولا بإمكاني إخفاء امر على ألآخرين وخاصة أصدقائي الأقربين .. وأحب أن أصارحك بأنّي قد شتمتك في سري قبل قليل وأمعنتُ في ذلك .. والسبب أظنّك تعرفه ..

ـــ لأنّي أفسدتُ عليك خلوتك ..

ـــ إنك تفهمني يا ملعون .. قل لي ما بك ؟ أراك شارد البال، فهل حصل شيء؟

قصّ عليه حسن لقاءه بضابط الشرطة هادي الذي كان قبل عشرين سنة ضمن خليّته الحزبية، وأبدى له مخاوفه من عاقبة هذا اللقاء، وأطلعه على شكوكه التي شرعت تثقب صدغيه بلولبها الحلزوني الذي لا يرحم ..

ـــ حسن .. هل تعتقد إنه كان مدسوساً في خليّتكم؟

ـــ لا أظنُّ ذلك .. فعام 67 لم يكن هذا النظام في السلطة ..

ـــ إذن لماذا كل هذا الخوف .. المنطق يقول إن هادي عليه ان يخاف لا أنت، لأن أيّة وشاية منك يذهب رأسه الى المقصلة !

شعر حسن بطمأنينة باردة تسرّبت الى مفاصله وترسّبت بنعومة على قلبه، حين سمع كلمات نصير الذي نادراً ما يكون مقنعاً وهادئاً ومنطقيّاً بهذا الشكل .. فهو غالباً ما تطغى على سلوكه الفوضويّة واللامعقول ..

ـــ نصير .. لأوّل مرّة تعتمد المنطق في معالجة القضايا .. شكراً لك ..وشكراً لشتائمك .. وشكراً لصراحتك، والآن لنترك موضوعتي على جانب .. وأحكي لي عن مشوارك العشقي هذا، فقد وصلتني بعض التفاصيل عن هذه السيدة الجميلة وكيف تمّ التعارف ..

ـــ اللعنة عليه ..

وراح يكيل عليّ الشتائم ظنّاً منه بأنّي أنا الذي أبحتُ سر تعارفه لحسن، بينما الصدف الغريبة التي جعلت ساهرة تُسرُّ صديقتها الحميمة وزميلتها في الدائرة  عن مجريات ما حصل في الكاليري ذلك اليوم الممطر، والمفارقة الأغرب إن هذه الصديقة هي زوجة حسن ..

ـــ ثق يا نصير .. ليس صديقنا الرسّام هو مصدر معرفتي .. يبدو إنكما تتماحكان دائماً بسبب كونكما فرسا رهان فكلاكما رسام .. ولكن الصراحة هو رسّامٌ مجيد يعرف ماذا يريد أن يطرح للآخرين .. أمّا أنت فلا تستقرُّ على نهج واضح في خطابك المعرفي والفني ..

ـــ أنا إبن اللحظة الأنفعالية .. وهو إبن الزمن المدروس بعناية .. هذا هو الفرق بيننا ..

ـــ الله يا نصير .. لم أسمعك من قبل تتحدّث برؤية ثقافية بهذا الشكل ..

قطع التلفزيون بث أغانيه فجأة .. وعلت الأناشيد الحماسية والتعبوية التي لم تدع مجالاً لنصير وحسن أن يظنّا خلافاً لما يتوقّعه كل عراقي لدى سماعه هذه الأناشيد وهذه المارشات العسكرية فخمّنا أن أمراً طارئاً حصل في أحد قواطع الجبهة ...لم يمر طويل وقت حتى ظهر المذيع مقطّب الحاجبين ومرتبكاً وراح يتلو الخبر الفاجعة....

ـــ إذن الفاو قد أحُتلّت، ووصل اللهب الى داخل بيتنا ..

قال حسن ذلك بعد ان أشعل سيجارة وضرب سطح المكتب بكفّه ونهض بسرعة وبحركة لا إراديّة يجهلُ ماذا عليه أن يفعل إزاء أمرٍ جلل كالذي حصل .. بينما أبتعد نصير وراح يشغل نفسه بتعديل اللوحات المعلّقة دون أن ينبس ببنت شفه ... ثم سمع حسن صوت نصير وهو يغنّي في وسط الصالة بطريقته الأوبرالية المعروفة التي يلجأ إليها دائماً حينما لا يقوى على فعل شيء أمام حدث درامي وبكائي مثل هذا .

 

                                   ـــــــــــــــــــــــــت

 

............................

الآراء الواردة في المقال لا تمثل رأي صحيفة المثقف بالضرورة، ويتحمل الكاتب جميع التبعات القانونية المترتبة عليها. (العدد: 1351 الاحد 21/03/2010)

 

 

في نصوص اليوم