نصوص أدبية

الشوارع تنتظر المارّة

حتى ذلك اليوم للعناية بآدميته وتلبية طلباته البسيطة هي مصدر سروره هذا .. سعاد التي تنكّرت لعلاقتها بسعيد وتركت كل إلتزاماتها ومشاغلها لتكتفي بأن تلعب دور الراهبة في محراب رشيد، فهي عرفت بعجزه منذ اللحظة الأولى التي رأته فيها، وأيقنت أنه لا يقوى حتى على السير بمفرده دون عكّازته أو من يعينه، رشيد الذي لم يبق منه شيئ سوى أحزانه التي يحوّلها ذهنه الوقّاد الى قصائد فيها من الغنائية بقدر ما فيها من البكائية، رشيد الذي أودى به إلتزامه العقائدي الى أن يكون نزيلاً خفيف الظل على جميع السجون والمعتقلات .

ـــ الله رشّودي .. عهدتك مبدعاً دوماً .. أنا واثق لو أنك تعلّب أحزانك ومكابداتك لأنتجتَ منها ما يكفي لتصديرها الى كل الدنيا ولأكتست كل مدنها وشوارعها وبيوتها وأشجارها باللون الرمادي، ولسمعتَ الحسرات تنفثها الصدور الكاظمة الغيض والحنق .. أنت شاعر الأحزان وسيد الكلمات الجريحة بلا منازع .

قلتُ له هذا بعد أن عثرت على قلمٍ لأسطّر مقطعاً جميلاً ممّا سمعت من قصيدته ..

ـــ وهل كنتَ تنتظر منّي أن أسمعك تهاليل فجرٍ أو أصف لك طلّت شمس على ربوع حياتنا التي أدمنت العتمة والمخابيء السريّة .

ـــ ولماذا كل هذا .. كان بإمكانك أن تحيا كبقية الناس لو لم تذهب بعيداً في حماستك للترويج لأفكارك، والتي جلبت لك المصائب .. كلنّا يجمعنا نفس الفكر ولكننا لا نمتهن النضال المستميت من أجل تحقيقه لأنّ ذلك يعني التشرّد والسجون وحتى الموت .. ورحم الله امرأً عرف قدر نفسه !

سمعتُ صوته وهو يضحك بقهقهة واضحة ..

ـــ أكيد لأنكم جميعكم عبارة عن فقاقيع ثوريّة، تملأون المكان إذا ضمنتم عنصر الآمان فيه ضجيجاً بالثوريات وتنظّرون في الأساليب الأكثر راديكاليةً لأنقاذ العالم من الظلم وتخليصه من الجوع والجهل، ولكن حين تشعرون بالخطر يقترب منكم تنفجرون في الهواء كالفقاقيع تماماً حتى لا تبقوا أثراً وراءكم .

بصراحة أعجبتني توصيفات رشيد المبتكره والحقيقية، ولكنّي أضطررتُ أن أعتذر له وأن أنهي المكالمة بعد أن دخلت فتاة  تضمُّ بعض المجلاّت على صدرها، وراحت تستعرضُ لوحات المعرض، وكنتُ آنذاك قد نسّبتُ للعمل كمدير للكاليري بعد تمتع نصير بإجازته التي أرتأى ان يقضيها في منطقة ( سره رشت ) آعلى قمّة في مصيف صلاح الدين، تدفعه رغبة قديمة لرؤية الثلج الذي يدثّر البيوت والشوارع والأشجار هناك في هذا الوقت من السنة .... لم يكن عمرها قد تجاوز الثلاثين، وحين أستدارت لتعطيني ظهرها فاجأني شعرها الأسود المنسدلُ حتّى حدود زنّارها والذي جمعته بمشد من الاعلى، ولمّا أصبحت على بعد خطوات لم أجد أثراً لمساحيق التجميل على وجهها الذي بدا نضراً شهيّاً كتفاحة حان قطافها الآن .. دنت منّي وحيّتني بخجل بالغ ..

ـــ صباح الخير أستاذ .. أنا أسمي جنان أعمل صحفية في مجلة ( الفن )، وقد كلّفني رئيس التحرير بالكتابة عن هذا المعرض، ولمّا كنتُ حديثة العهد في التعامل مع الفن التشكيلي، فهل بالأمكان مساعدتي في شرح ما يصعب عليّ فهمه، فهو فن نخبوي كما تعلم ليس من السهولة الأحاطه بعوالمه التي أجهلها أنا شخصياً ..

أيقنتُ من خلال طلبها والطريقة التي حدثّتني بها بأنها تتوفّرعلى قسط ثقافي واضح.

ـــ أهلاً بالصحافة ومن يمثّلها .

إستغرق الحديث عن فن الرسم ومدارسه ومذاهبه بشكل عام أكثر من نصف ساعة، كانت خلالها تستمعُ دون أن تنظر إلي، وقد أوحت لي بانّها فتاة خجولة جداً ينتابها الحياء كلمّا حدّثها رجل .. ثم عرجتُ على لوحات المعرض حيث وجدتُ صعوبة بالغة في إقناعها بقبول الأساليب الحديثة في هذا الفن وكيفية النظر الى العمل المجرّد من الشكل، وأثناء إنشغالي بالشرح أنقطع زرٌّ من عروة قميصها فتلقّفته بيدي قبل سقوطه، فبان بعض بياضها ممّا حفّز لديّ شعوراً حرصتُ على كتمانه طيلة حديثتنا، حاولت بيدها أن تشدّ فتحة قميصها حتى لا يندفع صدرها الحبيس للأعلى ... ثم قالت وهي تداري حرجها ..

ـــ أستاذ .. أنا أعتذر، فقد أخذتُ من وقتك الكثير .

ـــ لا .. أبداً .. أتمنى قد نجحتُ في ايصال المعلومات الكافية لتكون مفتاحاً لفهم ألغاز وطلاسم هذا العالم السحري ..

ـــ أكذب عليك إذا قلتُ لك بأنّي فهمت كل شيء .. ولكنّي مضطرة الآن الى المغادرة فقد حان وقت ذهابي .

ـــ على كل حال .. في أيّة فرصة أخرى سأكون حاضراً .

ـــ غداً ممكن ؟

ـــ وليكن .

                 ×         ×          ×

 

سحب حسن صحيفة الجمهوريّة من على مكتبي وراح يقرأ بنهم غريب وكأنه يبحثُ عن واحدة من قصائده التي ربّما قد نشرت .. ثم سمعته يقول بدهشة ..

ـــ تصوّر ( ديكويلار ) في بغداد .. ترى مالذي يستطيع فعله لأسترجاع جزيرة الفاو !؟

ـــ ومن هو هذا ؟

ـــ عجيب أمركَ .. أين تعيش أنت ؟ .. في القمر ؟ .. ألم تسمع بهذا الأسم من قبل ؟

 إنه الأمين العام للأمم المتحدة يافناننا الذي يجهل كلّ شيء سوى الرسم والنساء ولعبة المنضدة والنزر القليل من الماركسية !

ـــ وهل تتصوّر إن زيارته لها علاقة بقضية الفاو ؟

ـــ أكيد .. لا يوجد سبب آخر

ـــ حسن .. ألم تلاحظ حالة الوجوم تطغى على كل شيء .. تصوّر حتّى سماءنا ملبّدة كئيبة .. وشوارعنا خلت من المارّة والمتبضّعين .. حتى زملائنا الفنانين ما عادوا يأتون الى الكاليري .. الكل في حيرة .. فلأوّل مرّة تحتل مدينة عراقية .. الله يكون في عون الجنود القابعين خلف السواتر بإنتظار أوامر الموت .. ترى هل ينجو سعيد هذه المرّة ؟ رغم ان فوجه ليس على خطوط التماس مع مدينة الفاو .. او ربّما تحرّك الى هناك .. من يدري ! ... إذا عاد سعيد هذه المرّة سالماً فسوف أقيم له إحتفالية على حسابي الخاص ..

لم أكد أكمل حديثي حتى قال حسن بصوت عال ..

ـــ هل قرأتَ قصيدة رزاق عن الفاو .. شوف ماذا يقول في هذا المقطع ..

     ( إنّي لأعجبُ كيف لا يحمّر لونه السعفُ )  ثم راح يصفق بكلتا راحتيه ..

ـــ إنها صورة خطيرة ومؤلمة في ذات الوقت وكأنّها لوحة سوريالية !

 

              ×         ×          ×

 

قرّر سعيد أن يمكثَ ويتشبّث بموضعه الذي يصفه دائماً بجحر رطب لفئران مذعورة، حتى لو صدرت أوامر صارمة تجبره على الخروج والقتال .. فلا يمكن لأنسان عاقل أن يخرج رأسه او حتى إصبعه من هذا الموضع وعشرات القذائف تتساقط كالمطر من حوله .. إنه الجحيم بعينه .. ثم راح وهو يرتجف ويختبيء خلف نفسه يفكّر في لا جدوى الموت حتى إذا كان الثمن هو الدفاع عن الأرض .. فالأنسان أثمن من الأرض، وكذب من قال ان الموت حق والحياة فانية، فهذا ضربٌ من الهذيان وضحك على الذقون  .. وإذا كان هناك مغفلاً يعتقد بذلك فأكيد ليس أنا .. أنا إنسانٌ واقعي يحب الحياة ومتعها ولذائذها وليس لي نصيب في حياة أخرى كما يظنّ البعض ! ..

وظلّ سعيد يلوك كلماته الخائفة، لكنّ كيانه قد أمتلأ تلك اللحظة بقراره الشجاع بعصيان الأوامر إذا ما صدرت إليه بالتحرّك وترك الموضع حتّى إذا أدّى ذلك الى إعدامه .. في هذا الحال فقط يكون الموت أرحم من البقاء ويكون بذلك قد ربح نفسه.

ثم شيئاً فشيء بدأت أصوات الأنفجارات تخف تدريجيّاً بعد أن إلتمع أوّل خيط لفجر باهت في سماء واسعة المدى .. وحين هدأ كل شيء وساد صمت كالأبد .. مدّ سعيد يده المرتجفة يبحث عن علبة سجائره وسط ظلام شديد العتمة، فمسّ رأس محمّد رفيق سلاحه وموضعه، فظنّه نائماً إلاّ أن أنامله تحسسّت عينيه فوجدتهما مفتوحتين .. وحين لكزه بيده علّه يوقظه، لم تبد منه اي إستجابة .. صاح بأسمه بقوّة وخضّ جسده، إلاّ أن محمّد كان بلا حراك .. أشعل عود ثقاب وقرّبه الى مكانه، فوجده مبتسماً وبقعة دم متخثّر تحيط بجسد النحيل .. وصمتاً أبديّاً يلوح في عينيه، إزدرد سعيد رعبه وطفق يعيد الثقة بعينيه ويفركهما .. وقرّر فجأة أن يتماسك رغم قساوة الفاجعة .. وراح يتسائل والمرارة تملأ فمه .. لماذا الشظية أخطأته وأختارت محمّد ؟.. أي لعبة إحتمالات حقيرة تجري دون إرادتنا تعبث بمصائرنا ؟ .. لماذا رصد القدر التافه مكان محمّد هذا الريفي الطيب ليرسل سهمه القاتل الى صدره بينما تركني أنا المتخم بالخطايا الناقعة أقدامي في وحل الموبقات والرذائل على قيد الحياة .. وهل ساهم محمّد في إختيار لحظة موته حينما جلس في مكانه هذا بينما الموضع فيه فسحة أخرى للجلوس .. ثم هل للموت عقلٌ فيختار ضحاياه، وهل للشظيّة عينان تبصران مواضع اختراقها، فأشّرت على صدره لتمزّق أحشائه وترسل روحه المفعمة بالأيمان لتلتحق بأرواح الآلاف التي تجهل مصيرها ..

ظلّت عينا سعيد مفتوحتان على سعتهما بينما بقعٌ من نور الفجر بدأت تتساقط داخل  الموضع لتتوزّع على جسد محمّد وعلى جبينه وخوذته، وساد في المكان صمتٌ لم تعكّره  سوى صوت تساقط دموع سعيد المدرارة الحارقة على جسد محمّد الذي ذوى بسرعة كزهرة يانعة مضى بعض حين على قطافها ..

وفي الصباح وقف سعيد بكامل قيافته على هيئة إستعداد وأخذ تحيّة الوداع حينما شرعت عربة نقل الموتى بالحركة  والتي حُشر بها جثمان محمّد، وعيناه تبصران الغد المتوّقع الآتي الذي سيؤدّون فيه الآخرون تحية الوداع لجثمانه .

............................

الآراء الواردة في المقال لا تمثل رأي صحيفة المثقف بالضرورة، ويتحمل الكاتب جميع التبعات القانونية المترتبة عليها. (العدد: 1360 الاربعاء 31/03/2010)

 

 

 

في نصوص اليوم