نصوص أدبية

ورثة كلكامش

 ومن الصعب أن يترك بغداد مدينته التي يعشق لمجرّد الرغبة في الأصطياف .. وحين هاتفني ليسأل عن ما جرى بغيابه خلال الأسبوع المنصرم الذي قضاه بعيداً عن الكاليري .. المكان الوحيد الذي يوفّر له فرص للعبث والجنون والرسم وإرتكاب الآثام .. سمعتُ صوتا نسائيّاً ناعساً كان يتردّد صداه أثناء ما كان يحدّثني ..

ـــ نصير .. من معك ؟

ـــ لوحدي ..

ـــ هل تريدني أن أصدّق إنك تقضي إجازتك بمفردك ؟

ـــ أكيد لا .. ولكنّي ضمن مجموعة سياحيّة ..

إستطاع أن يوهمني فعلاً .. لكنّه حين دخل علي بعد يومين من تلك المهاتفة .. أباح لي الحقيقة ..

ـــ كنّا معاً ..

ـــ أنت ومن ؟

ـــ مع ساهرة ..

ـــ معقول ؟! .. أيهّا الملعون متى توثّقت العلاقة  ؟ وكيف أقنعتها بالسفر ؟ وكيف تجاوزت محنتها ؟  وهل نسيت خلال أيّام كل تأريخها وذكريات زواجها وأنتمت إليك بهذه السرعة ؟

ـــ كل ذلك تم خلال ألأيّام القليلة التي إلتقينا بها .. وخاصة أثناء ما كنتُ أرسم لها البورتريت .. فقد حدث تواشج روحي عجيب .. لم أجد نفسي الاّ وأنا أسير محبّتها.. ولم تجد نفسها الاّ وقد غدت طوع إرادتي .. لقد نشأت علاقة سريعة لم نكن نتوقّعها نحن الأثنان ..

ـــ الا تشعرُ بالذنب الآن وقد ورّطتها بعلاقة آثمة ؟

ـــ بالعكس .. لقد كنتُ لها المنقذ .. جعلتها تنسى مآساتها تماماً .. وأعدتُ لحياتها رونقها .. لماذا تنظرون الى العلاقات الأنسانية السامية بهذا السوء ؟ والى متى تظل نظرتكم الى الحبّ ومعجزاته قاصرة عن فهم الحقيقة ؟.. الحب هو الشافي لكل العلل .. لو كان هناك حب لما حدثت الحرب المستعرة مع إيران .. لو كان هناك حب لما حصلت الجرائم والمآثم والسرقات والخيانة والأغتصاب .. الحب هو الذي يميّز بين فعل الخير وفعل الشر .. هو نعمة الرب التي يجهلها الكثيرون .. هو المطر المقدّس الذي ينزل على صحارى النفوس القاحلة فتزهر بالخير .. الحب هو الله .. ليتكم تفهمون ذلك ..

ـــ نصير .. لأوّل مرّة أسمعك تتحدّث بهذا البعد الفلسفي .. يبدو ان الحب الجديد  قد زرقك بمصلٍ فيه خلاصة المعرفة ..

ـــ يا أخي ثق .. كل الذي جرى لم يتم التخطيط له مسبقاً .. بل جاء عفوياً .. تلقائيّاً .. لقد أتممنا الرحلة الى ( سره رشت ) وكلانا غير مصدّق كيف تم ذلك .. هذا هو الحب .. يأتي دائماً دون مقدمات ودون إشعار ..

ـــ على كل حال .. ليس أمامي سوى أن أبارك لك هذه التجرية الجديدة عسى أن تنتهي بخير !

ـــ يقتلني سوء ظنّكَ ..

أعتبر نصير لجوء ساهرة .. هذه المرأة التي كانت تعاني من وحدتها بعد أن فقدت زوجها في الجبهة قبل أكثر من شهرين، وتعاني الآن من متابعة ورصد عيون الآخرين بعد ان أصبحت أرملة خاصة وهي لازالت تحتفظ بشباب نضر وبفتنة طاغية .. الى الكاليري في ذلك اليوم الممطر العاصف، هدية القدر التي ساقها إليه فكيف يفرّط بها ؟ .. فراح يفلسف طبيعة علاقته بها لكي ينتشلها من تهمة الخطيئة، ويلبسها ثوباً أخلاقياً مهلهلاً لا يحجب ما يشفُّ عنه، ويحاول إيجاد تبريرات سلوكيّة تبرّأ ساحتها بحجة إن الحبّ قدر ولا يمكن الفكاك منه وإنه لا يتجزأ الى مراحل كما يقول دائماً ..

                       ×         ×          ×

 بدت على حسن مشاعر الغبطة بعد أن دعوته لنحتسي قنينتي بيرة في ظهيرة ذلك اليوم الكانوني البارد في بار ( الحكايا ) القريب من الكاليري .. وكان حليقاً .. ترفاً ليس كعادته، وعرفتُ بعد حين أن الليلة الماضية كان يحتفلُ بذكرى زواجه .. حسن شاب ينحدر من محافظة في الفرات الأوسط المعروفة بمنطقة الصيرورة الشعرية، ولذلك ورث عن عائلته  سعة الخيال والأفراط في المغالات، والحرقة الملازمة للواعج القلب، وشحنة الحزن المنغّمة التي لا تفارق أهل هذه المنطقة والمستقاة من المصاب الحسيني والمتوارثة منذ مئات السنين، ولهذا كانت قصائده متوتّرة .. متدفّقة .. حارّة فيها الكثير من التحريض المبطّن، والكثير من النقمة الملغّزة التي من الصعب الأمساك بها وإعتمادها دليل إدانة، فهو كونه كان شيوعيّاً يتقاطع دائماً مع الفكر الشوفيني لحزب السلطة القمعيّة وفي حالة عداء مستمر معها ..

سألته بعد أن تناولنا أوّل قدحي بيرة مثلّجة ..

ـــ هل تدري حسن بأنّنا نستحق أن ترتفع نصبٌ لنا في ساحات بغداد، فأنت صحفي تعمل في صحيفة الحكومة المركزية، وأنا ونصير كلانا مدير في الثقافة، وسعيد عسكري يقاتل في الجبهة، وجميعنا لم ننتم الى حزب السلطة .. فأي شجاعة هذه ؟

ـــ ولهذا أصبحنا أصدقاء .. نحن البقية الباقية التي تتحلّى بأخلاق الفرسان الذين يأبوا  ان يترجّلوا عن صهوات خيولهم المطهّمة .. نحن سلالة كلكامش العظيم ..

ـــ كم أتمنى يا أخي أن تنتهي هذه الحرب وتضع أوزارها ونحن أحياء، ولكنّي أشكّ في ذلك، فهي لا زالت تسحق في سرف دباباتها العشرات يوميّاً .. ولا تميّز ماكنتها الطاحنة بين الأنسان البسيط وبين الشاعر والفنان والعالم والموسيقي، فهي تلتهم الكل ولا حدود لشبعها ..

ـــ لا تكن سوداويّاً الى هذا الحد .. الحرب هي واحدة من خيارات السياسة، والسياسة لا تعرف المستحيل وكل شيء ممكن فيها .. لربمّا في هذه الليلة تسمع بيان يزفُّ بشرى وقف القتال .. من يدريك !

ـــ الله يا حسن .. كم أتمنى ذلك ..

ونحنُ في غمار الحديث عن مخاوفنا وآمالنا دخل نصير .. سحب كرسيّاً وجلس وهو في كامل عنفوانه ..

ـــ قبل لحظات أنجزت آخر ضربة فرشاة مباركة في بورتريت ساهره ..ثقوا لم أرسم طيلة حياتي لوحة شخصيّة بمثل هذه الجودة والشبه، حتى هي من شدّة فرحتها بها طلبت أن تأخذها فوراً ولكنّي أخبرتها إنها تتطلّب يومين الى ان تجف ألوانها ..

عدّل حسن من جلسته وقال ..

ـــ أنا لم أسمع من قبل بورتريت إستغرق هذا الوقت .. حتى الموناليزا التي دوخّت العالم منذ القرن الرابع عشر وحتى اليوم، انجزت في وقت أقصر !!

ـــ ومن تكن الموناليزا من ساهره ؟!

أدار حسن وجهه وقرّبه منّي وقال ..

ـــ أعتقد أن الأخ أصبح عاشقاً ..

ضحك نصير عالياً وعقّب ..

ـــ ومتى لم أكن عاشقاً في حياتي .. أنا في حالة عشق دائم أيهّا الشاعر الذي لم يذق طعم الحب يوماً ..

ـــ أوه .. رجعنا الى التنظيرات .. عزيزي نصير أنت إنسان فاسق لاتعرف الحب الاّ فوق الأسرّة التي تعاني قوائمها من فرط إهتزازك فوقها ..

ـــ الحب واحد أيها المغفّل ..

وفجأة سمعنا جلبة قرب الباب الرئيسي وظهر شاب مفتول العضلات في حالة سكر شديد إستلّ سكّيناً وطعن به سطح أقرب مائدة إليه، وصاح بالجميع ..

ـــ أولاد ال... هل يملك أحّد منك الشجاعة الكافية كي يخرج .. أنتم ستبقون هنا حتى صباح الغد ..

ساد صمتٌ مريب وتوقّف الجميع عن الشرب والأكل وظلّوا واجمين ينظر بعضهم الى بعض .. كان الجميع يترقّب أن يقوم أحد الجالسين  في محاولة لإقناعه وتهدئته .. الاّ أن ذلك لم يحصل .. وظلّ يُسمعنا كلمات بذيئة لا تحتملها كرامتنا ..

ـــ شوفوا أولاد ال .... أنا هارب من الجبهة، أي في عداد الموتى ولا يهمنّي إذا متُّ الآن أو غداً .. ولكنّي أريد أن أقتصُّ منكم .. أنتم الذين تنامون في الغرف المكيّفة وتأكلون ما لذ وطاب، وفي الليل تغرقون في ملذّاتكم .. ولا ...

قبل ان يُكمل حديثه المترنّح، قاما شابّين من بعيد مسك احدهم قنينة بيرة زجاجية فارغة وأخفاها خلفه، وتقدّما نحوه وهما يتوسّلان به أن يسمح لهما بالحديث معه، جحظت عيناه المحمرّتان من فرط السكر، فهدّدهما بالسكين الاّ إنه فقد توازنه قليلاً فعاجله الذي يخفي القنية خلفه بضربة على رأسه سمع دويّها كل الجالسين، فخرّ مضرّجاً بدمه وهو يتلوّى على الأرض .. فأنسللنا واحداً بعد الآخر ونحن غير مصدّقين الذي جرى ..

قلتُ لهم وأنا أربت على كتف حسن ..

ـــ الحمد لله على السلامة .. بصراحة كنتُ أظنُّ أن وريث كلكامش سيثب من مكانه ليحسم الأمر ..

ضحك حسن ..

ـــ هل كنتَ تريدني أن أستقوي على سكيّر .. هذه ليست من شيمي ..

كاد نصير أن يهوي وهو يهمُّ بالنزول من الرصيف .. ثم تمتم ..

ـــ هذه هي الحرب !!

............................

الآراء الواردة في المقال لا تمثل رأي صحيفة المثقف بالضرورة، ويتحمل الكاتب جميع التبعات القانونية المترتبة عليها. (العدد: 1364 الاحد 04/04/2010)

 

 

في نصوص اليوم