نصوص أدبية

جارية في صومعة الشعر

وأنشغلت شوارعها بإستقبال جثث الجنود القادمة من الجنوب مصحوبة بعويل لا ينتهي ولطم على الصدور العارية لنادبات فقدن ألأعزّة من أبناءهنّ وأزواجهنّ وأخوتهنّ، وساد شعور بالهضيمة على وجوه كل العراقيين الذين غيّبت الحيرة الكثير من حيويتها وأمعنت في رسم أسئلة بليدة في عيونهم المسبلة الكليلة ..

وسط هذا الجو الواجم القاتم الحزين، إستغلّ نصير فترة إسبوع بعد نهاية معرضي، كانت القاعة غير مشغولة فيه، فأقام معرضه الذي أسماه بعجالة (زهور لا رصاص) وفاته إنه ينطوي على تحدٍّ واضح للنهج القتالي للسلطة، الاّ أن حُسن حظّه إنه إنتهى دون أن يثير شبهة ما تودي به الى التهلكة ، وقد توزّعت باقات ورد وازاهير وأوراق خضر ندية وفازات ودوارق ملوّنة على معظم أعمال المعرض، ومروج وحقول ونخيل باسق وشجيرات وجداول تشقّ خدود الأرض اليانعة على المتبقّي منها ..

وفي مساء يوم غير عادي من أيام معرض نصير، وأثناء ما كنّا أنا وهو جالسين وسط القاعة وقد تسربلنا بثوب اليأس بعدما فقدنا الأمل في قدوم زائرين، ومنهمكين في قراءة قصيدة لحسن منشورة ذلك اليوم في إحدى الصحف، محاولين فك ألغازها وربط مفرداتها لمعرفة مقاصده ومراميه .. دخل علينا أحد فنانينا المسرحيين المرموقين، وبعد أن ادّى تحيته بطريقة مسرحية..

ـــ مساء الخير أصدقائي الحلوين ..

بدأ يستعرض اللوحات وقد تسلّح بحقيبة صغيرة معلّقة على كتفه من النوع الذي شاع ذلك الوقت بين الفنانين، إلى أن تسمّر أمام لوحة ورد صغيرة وراح يتأمّلها بشغف وإهتمام كبير، وقد أثارت إنتباهنا الفترة الطويلة التي إستغرقها وقوفه أمامها، إذ لم يبرحها الاّ بعد أن رنّ هاتف القاعة، فأنتبه الى نفسه وأنتقل لأستعراض بقية الأعمال، ممّا دفع فضولنا لقراءة ما سطّره على صفحات سجل الزائرين قبل أن يهمّ بالخروج، فوجدناه قد كتب ..

 (أشكركَ كثيراً لأنّي تنفّستُ قليلاً)

وكانت كلمات موحية بالكثير، ومعبّرة عن حقيقة النفس العراقية المأزومة والمكلومة والطافحة بالقنوط واليأس وبمشاعر الهزيمة والخوف من المجهول ..

قلتُ لنصير ..

ـــ هذا الفرق بين الفنان المثقف عن سواه .. لقد قدّم لنا مسرحيّة كاملة بهذه الخمسة كلمات التي دونّها في السجل ..

ـــ فعلاً .. ولكن لو أتمَّ فضله وأقتنى لوحة لكان قد أسدى لي معروفاً لن أنساه له أبداً !.

ـــ ومتى كان الفنان عندنا له القدرة على شراء لوحة ؟ .. نصير .. الفن التشكيلي نخبوي .. فن إرستقراطي لا يعلّق الاّ على جدران الصالونات الفارهة .. فن العوائل المترفة التي تتوفّر على قدر كبير من الذائقة الجمالية  وتتمتّع بثقافة الشراء.. وهذه غير متوفّرة عندنا في العراق ...

ـــ مع الأسف .. كان المفروض أن أُولد بعد مائة عام لأجد الخصومات قد نشبت بين المقتنين الذين أكتضّت بهم القاعة !!

ـــ عزيزي .. حاول أن تحتفظ بهذه الصورة لأحلامك هذه الليلة !

ضحكنا بعد أن تركنا الصحيفة وقصيدة حسن التي فشلنا في حلّ طلاسمها جانباً ! ..

                              ×        ×        ×

تناول رشيد رشفة عرق ثم تابع قراءة قصيدته الجديدة وأنا مسترخي على الكرسي اللصيق بسريره، ومستمتع أيّما إستمتاع بطريقة إلقاءه التي تنمُّ عن خبرة وافرة من التحكّم بمخارج الألفاظ ودراية مسبقة بمواضع الأسترسال ونقاط التوقّف، وكذلك بما أحتوته قصيدته من مضامين تصبُّ في الحنين للرفقة والوطن وكأنه يعيش في غربة منذ عشرين سنة !

ـــ رشوّدي .. صحيح أنت تعيش غربة داخلية  ولكنّك تحنُّ لمن ؟ فالوطن على يديك .. وأصدقائك ومحبّيك لم يبخلوا عليك بزياراتهم اليومية .. ووالدك ووالدتك لا زالا على قيد الحياة ويعيشان معك نتمنى لهم طول العمر .. أنا أخشى إنك تحنُّ الى هذه المعتوهة التي إسمها سعاد التي قررّت أن تتركك فجأة مثلما تركت سعيد فجأة  .. إنها نصف مجنونة  ولا تستحق حتى أن تتذكرها لحظة واحدة .. إنها إمرأة مسخ فلا تجعل من رحيلها موضوعاً لقصيدة، فهي غير جديرة بحرفٍ واحدٍ منك يُكتب لأجلها ..

لقد أمعنتُ في الأساءة إليها متعمّداً خشية من إحتمال حصول حالة من التعلّق بها، وهذا مالا أرتضيه له، فهو من الضعف بمكان بحيث لا يقوى على الصمود أمام رؤية وردة في حالة ذبول .... تأفّف رشيد ولاحت في عينيه إلتماعة خجلى .. ثم أنتفض فجأة وكأنه قد صحى من سُكرةٍ للتو ..

ـــ عجيب أمرها .. قد وصل الحال عندها أن تنام بين أقدامي للصباح .. فهي تولّت مهام العناية بي كاملة وتلبية كل طلباتي .. تصوّر حتى حلاقة ذقني مارستها بكل حذر وعناية .. حتى لملمت قصائدي وأوراقي المبعثرة وتبويبها بتواريخها وحفظها بملفّات ما تعجز عنه أمهر السكرتيرات .. ودام الأمر على هذا الحال شهراً كاملاً  ثم أصحو ذات يوم لأجد ورقة كتبت عليها بحروف كبيرة ..

     (سيّدي ومولاي

          صباح الخير والعافية

              أظن يكفي هذا ..... شهرٌ تحوّلتُ فيه الى جارية مطيعة  بين يديك ورهن إشارتك، وسيكون هذا مدعاة فخر وزهو لي لإنّك شاعر كبير وطيلة عمر وعي كنتُ أتمنّى أن ألتقيك ...سوف أحاول العودة الى سعيد إذا ما زال حيّاً .. .. سعاد)

ثم أخرج ورقتها من تحت وسادته وناولني إيّاها ... وأنا أقرأ ... شعرتُ ولأوّل مرّة بتعاطف غريب مع سعاد .. إنها مسكينة وتائهة في شعاب الحياة .. لا أهل ..لا أشقاء .. إنّها نتاج مجتمع مقهور أرتدى كل شبابه اللون الكاكي وأختفوا عن حياة المدن ليندسّوا في مواضع ترابية أشبه بالكهوف تفوح منها رائحة عفن ورطوبة عطنة وعلى طول خط المواجهة، ولا يملكون خياراً سوى موتهم المؤجّل .

غادرتُ رشيد  بعد أن طلب مني أن أضع تخطيطاً لي خلف زجاج مكتبته المتواضعة، كنتُ قد أهديته إيّاه بعد أن رآه يوماً في غرفتي وأعجبَ به، وبعد أن طبعتُ قبلة على جبينه بدافع شعور غريب إنتابني حينها بقرب نهايته .

حين وصلتُ الكاليري سألني نصير ..

ـــ هل تعرف تلك السيّدة التي في القاعة .. لقد سألت عنك ..

كنتُ متوقّعاً إن جنان ستأتي اليوم .. إذ كان المفروض وحسب الأتفاق أن نلتقي لتكملة حديثنا عن التشكيل وعوالمه السحريّة كما تسميّها، كي تكتب مقالاً الى المجلة عن معرضي الذي سبق معرض نصير هذا .. ولكن هي هكذا مواعيد النساء !

ـــ مساء الخير ..

قلت لها بعد ان تجاوزت الساعة الواحدة والنصف بعد الظهر، فاجأتني حين إستدارت لنكون وجهاً لوجه .. فقد وضعت نظّارة سوداء على عينيها، ووجود كدمة قرب صدغها، وشحوب واضح يعلو سحنتها ..

ـــ سلامات .. هل تعرّضتي لحادثٍ لا سامح الله؟

لم تجبني .. ثم تمتمت مع نفسها شيئاً لم اتبيّنه .. وقالت ..

ـــ أنا آسفة .. لم أتمكّن من المجيء حسب الأتفاق لحصول ظرف طاريء حال دون ذلك ..

ـــ خيراً .. هل بإمكاني مساعدتك بشيء؟!

ـــ أشكرك .. المشكلة خاصّة بي ..

قدّرتُ أن خصاماً قد حصل بينها وبين زوجها على أغلب الظن، وتفادياً للأحراج لم أستمر بطرح أسئلتي ودعوتها لشرب فنجان قهوة في صالة الجلوس ... وحين شرعنا بتكملة الحديث عن أساليب تجريد العمل الفني من الشكل وتأثير التجاوريات اللونية فيه، خلعت نظّارتها بسرعة وقالت ..

ـــ أظن شكلي الآن أفضل مثل للتجريد !

آلمني كثيراً ما حصل لعينيها الجميلتين اللتين أحاطت بهما هالتين غامقتين وآثار نزف شديد وسط عينها اليسرى، أيقنت فوراً إنّها تعرّضت الى ضرب مبرح، وبدا عليّ شعورٌ طافحٌ بالتعاطف معها ..

ـــ أيُّ إنسانٍ هذا الذي فعل كلّ ذلك ؟  لا أظنّه إنسانٌ سوي ؟..

ـــ هذه ليست المرّة الأولى .. كلّما أتأخّر ساعة أو أكثر عن موعد رجوعي الى البيت يحصل مثل هذا  .. إنه مسكون بالشك والظن .. ومريض بالهواجس والغيرة .. وكلّما أحاول أن أقنعه بالأسباب التي دعتني للتأخير وهي أسباب لها علاقة بعملي، لا يقتنع أبداً ..

ـــ ولماذا لا تطلبي الأنفصال عنه .. إنه أشبه بوحش !

ـــ أفكّر بأولادي أولا وأخاف منه ثانياً ..

ـــ إلجأي الى أهلك كي يضعوا حدّاً لجنونه هذا ..

ـــ لا يستطيع أحد فعل شيء .. إنه مسؤول في الحمايات الخاصّة ومهمّته إيذاء الآخرين !!

عندها عرفتُ إزمتها الحقيقية .. فشرعتُ في محاورة صامتة وخائفة مع نفسي  ... لو كنتُ أدري إن زوجها مسؤول في هذه المؤسسّة المرعبة  لما صرفتُ إهتمامي لها وتركتها تتجوّل في القاعة دون أن تفهم شيئاً .. ما لي وما للصحافة .. أنا لستُ أباً لكل الجاهلين .. لأدعهم يجتهدون للحصول على المعرفة .. ثم لما أختارتني أنا بالذات دون غيري .؟ .. وهل أنا بحاجة الى مشاكل ومخاوف إضافية كانت تنقصني ؟! .. ثمّ ما قوتي أنا كي أكون خصماً لمثل هذا لو تطوّرت العلاقة فيما بيننا ؟ .. ربمّا حصل لها ما حصل حين تأخرّت في لقاءنا الأوّل قبل أقل من إسبوع ..

قطعت عليّ أسئلتي الخائفة  بعد أن أحسّت بحرجي وأنا أعلم حقيقة زوجها ..

ـــ يبد إنك متعبٌ الآن .. ما رأيك أن نؤجّل تكملة حديثنا الى لقاء قادم ..

كانت إجابتي سريعة ورغبتي في أن تغادر المكان الآن لا تعادلها رغبة أخرى .

ـــ إقتراحٌ جيّد .

 

............................

الآراء الواردة في المقال لا تمثل رأي صحيفة المثقف بالضرورة، ويتحمل الكاتب جميع التبعات القانونية المترتبة عليها. (العدد: 1371 الاحد 11/04/2010)

 

 

في نصوص اليوم