نصوص أدبية

الغواية بين غمّازتين

أستهلَّ حسن حديثه عن الشاعر بلند الحيدري بهذين المقطعين من قصيدة دوّنها إلقاءً على وجه إسطوانة بمصاحبة عود منير بشير .. ثم عقّب قائلاً ..

ـــ رغم أنّي أختلف معه شعريّاً، فهو ينتمي الى البدايات الأولى للحداثة الشعريّة وأنا أنتمي الى قصيدة النثر، إلاّ أنّ ما يشدّني إليه هي هذه الألفة الحميمية بينه وبين قاريء شعره، فهو ينتقي مفرداته التي تتوفّر على قدر كبير من الدفء والدعة، بتروّي وعناية تلمسها بين صفحات ديوانه .. حتّى إننّي أشبّهه بأبي فراس الحمداني رغم الفارق الزمني الذي يفصلهما ..

أثار كلام حسن هذا رغبتي في الحديث عن شاعر أحببته منذ بواكير وعي وإهتماماتي الأولى بالشعر ...

ـــ لا تنسى حسن أن بلند كثيراً ما يكثّف المعنى  ويختزل المشهد .. فتصوّر الموت .. هذا الحدث الأعظم لدى الأنسان ضغطه بكلمتين وهو يرثي واحدة من المناضلات الجزائريات التي أستشهدت في أقبية التعذيب الفرنسية كما أظنُّ وأتذكّر .. ثم يسترسل بالقصيدة .. فيقول ..

    ( وهوت يدُ !

      فإذا الطريقُ مفازة والموعدُ

      لا كنتَ يا هذا الصباح

      لا كنتَ يا هذا الصباح الأسودُ

     لا كنتَ يا هذا الغدُ ..)

أراد نصير المشاركة في هذه المحاورة الشعريّة وهو لا يمتلك أيّاً من مفاتيحها..

ـــ أتدرون أن بلند شاعر العربية الكبير .. كردي الأصل؟

ـــ وما الضير في ذلك ... حتّى يُقال أن أحمد شوقي شاعر مصر الكبير له نفس الجذور !!

قلتُ هذا وأنا في غاية الأنتشاء .. فموضوعة الشعر تهمّني في أحيان كثيرة أكثر حتّى من موضوعة التشكيل .. الشعرُ يصيبني بكهربة لذيذة ينتفضُ لها بدني .. إنه إستفزاز محبّب .. إستثارة لكوامن النفس .. جرسٌ خفي تطربُ له روحي..

عدّل سعيد من جلسته بعد أن أشعل سيجارة ً وأخذ نفساً عميقاً وكأنه يزيح عن كاهله تعب الشهرين اللذين قضاهما دون إجازة ودون نوم على سواتر الجبهة المستعر أوارها حتى تلك الساعة .. ثم قال ..

ـــ صحيحٌ ان لديّ موقفٌ شخصيٌّ منه، لكن هذا لا يعني أنّي غير معجب بشاعريته .. إنه يمثّل المرحلة الرومانتيكية في الشعر العربي والعراقي على وجه الخصوص.

ـــ الله يا سعيد .. هذا الذي كنتُ أقصده ..

قال حسن ذلك، ثم أدار وجهه نحونا أنا ونصير وأتمَّ بقية حديثه ..

ـــ هذا هو الفرق بين الناقد عن سواه .. صحيح سعيد قاص وناقد قصصي الاّ أن ذائقته في الشعر ذات مجسّات تعينه على إنتقاء الجيد منه ثم على التحليل والمقارنة لذلك انا أطمئنُّ لآرائه كثيراً ..

لم أترك حسن يتحدّث لوحده بمحبّة عن سعيد، فتعمّدتُ أن أضيف ..

ـــ لا تنسى ان سعيد رسّامٌ جيد ويفهمُ التشكيل أكثر من العديد من أدعياء النقد الذين ملأوا الأسماع هذراً، وأشبعونا بالفنتازيا والرؤيوية وإستلابات المتون النصيّة للّوحة والهرطقات العويصة التي لا يفهمها حتى هم إذا ما قرأوها بعد حين، بينما سعيد يدلي برأيه الواضح بعيداً عن الغموض لأنّ لديه ما يقوله وما يوصّله للآخرين، صحيح هو أصغرنا عمراً .. لكنّه أستطاع أن يكثّف من زمن المعرفة وأن يجني ثمارها قبل غيره، ولهذا تراه كما يقول أحّد الشعراء (غلامٌ في دهاء كهولِ) ..

إنتشى سعيد وأحمرّت وجنتاه  وهو يسمع توصيفاتنا له .. ثم علّق بإستحياء ..

ـــ أخجلتم تواضعنا ..

إنبرى نصير ليكمل ما بدأناه من منح سعيد شحنة إنسانيّة كان بأمس الحاجة إليها وزرع الثقة في نفسه التي كادت تخور لفرط ما أصابتها الحياة من سهامها الغادرة..

ـــ بالعكس أبو السعود .. نحنُ فخورون بك .. لقد تعاونت كل الأطراف للأيقاع بك .. القدر .. توقيتات الصدف .. نظام العسكرتارية المولع بالحروب .. أخيك الذي ينوي الأنتحار كلّ يوم .. سعاد وما سببّته لك من خيبات .. لكنّك صمدتَ دون أن تنحني..

قال نصير ذلك وتأسّف حين لمح عيني سعيد وقد ألتمعتا بدمع كظيم يأبى النزول...

رنَّ  الهاتف قاطعاً مسلسل الثناء الذي غمرنا به صديقنا الذي أمتصّت جبهات القتال الكثير من رحيق حياته وأكلت جبينه ساعات الترقّب الممض .. فسارع نصير الى رفع السمّاعة ..

ـــ اهلاً رشيد .. كيف أنت ؟

بدت علامات إستغراب على ملامح نصير وهو يحدّث رشيد .. شاعرنا الذي ينتظرُ نهايته دون أي إكتراث أو مبالاة .. تذكّرنا ب (كامو) فيلسوف العبث الفرنسي .. ثم انهى نصير المكالمة بالدعاء له بالشفاء، وقصّ علينا ما دار من حديث ..

ـــ إتصل رئيس تحرير صحيفة الحزب الحاكم برشيد طالباً منه كتابة قصيدة إدانة لعملية إحتلال الفاو مثله مثل بقيّة الشعراء، الاّ أن رشيد رفض بإصرار، وقد بيّن له أسباب رفضه بشجاعة قلّما تتوفّر عند غيره ..

قال حسن متأففّاً ..

ـــ قُل لرشيد .. لا يتقاطع مع هؤلاء بهذا الشكل .. بإمكانهم أن يمحوه من وجه البسيطة ..

ـــ هو يعرف ذلك جيّداً .. ويقول ليس عندي ما أخسره، فهم لن يجدوا لديّ جسداً يقوى على آذاهم، فهو لن يصمد أمام تعذيبهم سوى لحظات وبإمكاني تحمّلها .. عندها سأربح نفسي وكرامتي ومبدأيتّي ..

قال نصير ذلك وترك كرسيّه ليختلي في أحد زوايا القاعة، يداري دموعاً أبت الاّ أن تنزل .. فهو ورشيد يرتبطان بصداقة حميمية عمرها أكثرُ من عشرين سنة .

                   ×         ×         ×

بصراحة لم أكن راغباً في رؤية جنان مجدّداً، رغم انّي أحترمتُ صراحتها معي حين أخبرتني مبكّراً إن زوجها مسؤول في الحمايات الخاصة .. لكنّها حين إتصلت بي يوم امس ألحّت بالقدوم بحجة أن المقال عن معرضي لازال مطلوب منها تكملته من قبل رئيس التحرير .. رضختُ بعد ان علمت أن كل شيء بينها وبين زوجها عاد الى طبيعته ..

دخلت كعادتها وهي تضمُّ مجلة ومجموعة من الأوراق الى صدرها، بينما تركت شعرها الطويل ينزل بثقله ليغطّي مساحة ظهرها حتى الحزام .. وهي تضع نظّارتها الملوّنة  على عينيها خافية آثار كدمات لا زالت بقاياها واضحة والتي خلعتها حين إستراحت على كرسي قبالتي، فلمحت لأوّل مرّة إنها أعتنت بشكل عينيها، وطلت شفتيها بلون قرمزي فاتح، وبانت وجنتاها وغمّازتاها محمرّتين، ممّا تركت لدي إنطباع إنها تعمّدت ان تظهر بملامح أفضل من المرّتين السابقتين .. ولكنّي لم أولي هذا الأمر إهتماماً لا يستحقه .. ورحتُ تدفعني رغبة في الحديث معها مستمتعاً بإنوثتها التي بانت واضحة هذه المرّة ... تحدّثتُ عن طبيعة أعمالي الفنية وعن مرجعيتها الأسلوبية وبعضاً من فلسفتي في الرسم، وتطرّقتُ الى تأثير الشعر على مجمل خطابي الأبداعي، وأعطيتها أمثلة على ذلك، ممّا جعلها تبتسم بين حين وآخر، وكأنّها تشعر إنها أستوعبت تماماً كل ما سمعته، فبان وجهها أكثر إشراقاً وإنتشاءاً .. وقبل أن أنهي كلامي فاجأتني بالقول من حيث لا أحتسب ..

ـــ أستاذ .. أنا منحدرة من أصول بدويّة .. وعادة أهل البدو إنهم صريحون ولا يخشون شيئاً .. بعكس الحضر أهل المدينة الذين يغلب عليهم النفاق الأجتماعي والخوف من الصراحة !

ـــ طيب .. وما علاقة موضوعة الفن التشكيلي والرسم بقولك هذا ؟

ـــ أستاذ .. لستُ ادري لماذا رغبتُ بك إنساناً ورجلاً !!

أصبتُ بالدهشة والحيرة معاً وبدوار لم أكن أشعر به قبل مجيئها، فسألتها وكأنّي لم أسمعها جيّداً ...

ـــ نعم ... ماذا قلتِ؟

ـــ أرأيت كيف لم تتحمّل صراحتي؟ هكذا أنتم أبناء المدينة تتقنون جميعكم إخفاء الحقائق، لأنّكم ترتعبون منها .. إنك سمعتني جيّداً لكنّك صُدمتَ لأنّك لم تتعود مثل هذه الصراحة ..

ـــ طيّب .. ماذا عليّ أن أفعله؟  وأنت قبل أيّام نجوتِ من موت أكيد تحت قبضة زوجك التي لا ترحم .. هل تريدين منّي أن ألعب دور العاشق معك مثلاً؟!

ـــ أنا لا أريد منك أي شيء سوى أن ألتقيك كلّما توفّرت فرصة لذلك ..

ـــ وكيف ألتقيكِ وظلّكِ مرصود بألف عين، وإحساساً بدنو أجلي يداهمني كلّما رأيتكِ من بعيد .. أرجوكِ لملمي أوراقك بسرعة وأرحلي الآن .. اللقاء إنتهى ..

سيلٌ من اللعنات الخرساء ودّعتها بها وهي تهم بمغادرة المكان بعد أن رمقتني بنظرة إزدراء ظلّت عالقة بذاكرتي لليوم .

 

............................

الآراء الواردة في المقال لا تمثل رأي صحيفة المثقف بالضرورة، ويتحمل الكاتب جميع التبعات القانونية المترتبة عليها. (العدد: 1379 الاثنين 19/04/2010)

 

 

في نصوص اليوم