نصوص أدبية

إختيار

... أشرقت أساريره حين عاين ما بعث الغبطة في نفسه... نادى البائع العجوز .. أشار باصبعه إلى كتيب قليل السمك يرقد أسفل عمود طويل من المجلدات العتيقة.

للحظة ما، غشيت ملامح البائع علامة استياء، سرعان ما تبددت قبل ان يقول بلهجة ودودة:

ــ امرك مطاع سيدي... لكنني اقترح عليك طبعة أخرى من نفس الكتاب.

لم ينتظر تعليقا، اتجه مباشرة نحو مكتب عتيق كان يربض في زواية المحلّ، تناول كتابا اصغر حجما ولكن اشد سمكا من الكتاب الذي اختاره الزبون. نفض عنه الغبار... قال وهو يعرضه بزهو على السيد عبّود ناصر:

ــ انظر سيدي... إنه أكثر أناقة

و بلهجة مشجعة :

ــ وأقلّ ثمنا!

قلبّ عبّود ناصر الكتاب، ثم اشار الي الطبعة الأولى والأشد قدما:

ــ شكرا جزيلا.لكنني أريد هذا الكتاب!

قال البائع بما يشبه التوسّل:

ــ لقد فاتتني إفادة سيادتك.

ثم وهو يلوح بالكتاب الذي رفض منذ قليل:

ــ... بأن هذه الطبعة الجديدة نسبيّا

ثم وهو يضحك

ــ بالطبع! بالطبع!

ثم مواصلا:

ـــ قلت ان هذه الطبعة منقحة، بالإضافة الي كونها محلاّة بهوامش كثيرة وتعليقات هامّة لكبار....

قاطعه عبود ناصر بعناد وقد بدا على وجهه الضيق:

ــ سيدي الكريم، سيدي الكريم شكرا على نصائحك التي لا أشك في قيمتها العلميّة، غير انني لا ارغب

ثم وهو يشير الي الكتاب الأول:

ـــ في غير هذا الكتاب.

بدا الإمتعاض على وجه العجوز وهو يتقدم بوجل نحو الخزانة المتآكلة.

قال مشجعا نفسه فيما كان يأخذ وضع الجثو:

ــ كل تعب يهون في سبيل توفير المعرفة النافعة لمن يستحقها.

ثم وهو ينزل دفعة اولى من مجلدات كانت اكثر تعرضا للغبار:

ـــ لا سامح الله الشيخوخة كيف تفعل بأهلها!

همّ البائع العجوز بسؤال السيد عبّود ناصر عما حببه في هاته النسخة الحبيسة، لكن الضجر الذي بدا على وجه زبونه جعله يعدل عن السؤال، همس فيما بينه وبين نفسه وهو يزيح كرسيا بلا رجلين كان يحول بينه وبين عمود الكتب الذي ازيح نصفه ." عشقتها شمطاء شاب وليدها"

ثم بصوت مرتفع:

ـــ وللناس فيما يعشقون مذاهب !

إحتاج البائع العجوزالي جهد كبير لإزاحة كامل العمود قبل أن يحرّر الكتاب المطلوب... نفض عنه االغبار، ثم تأمله للحظات، تناول خرقة مسحه بها بعناية ام بوليدها قدمه اليه فيما كان يلهث من أثر الجهد الذي بذله:

ــ تفضل يا سيدي.

حالما وقع بين يديه صاح عبّود ناصر مبتهجا:

ــ شكرا جزيلا.

ثم وهو يعيد تقليبه:

ــ هذا ما كنت أبحث عنه.

قال العجوز مبتهجا فيما كان ينفض غبارا علق بسرواله :

ــ لشد ما يبهجني معاينة كتاب رائع بين يدي قارئ يقدره حق قدره.

ثم وهو يضيف بلهجة مرحة :

ــ " الكتاب الجيّد عيد حقيقي"، هكذا كتب مكسيم غوركي ذات مرة.

ثم مستدركا :

ــ هذا لن لم تخني ذاكرتي العتيقة!

 

حال وصوله الي البيت، إتجه السيد عبّود ناصر رأسا إلى مخدعه، رفع لحاف سّريره كاشفا عن ساق رفعها قليلا ريثما تمكن بركلة خفيفية من تحرير قطعة خشب في حجم علبة سجائر كانت تستقر تحتها، جثا على ركبتيه ثم دسّ الكتاب في الحيز الذي كانت تحتله... استقلى على فراشه. حمد اختياره كثيرا،حين إفتقد حركة وصوتا كانا يزعجانه أثناء إضطجاعه... لم يلبث إلا قليلا حتى علا شخيره!

أوسلو 3/4/2010

............................

الآراء الواردة في المقال لا تمثل رأي صحيفة المثقف بالضرورة، ويتحمل الكاتب جميع التبعات القانونية المترتبة عليها. (العدد: 1385 الاحد 25/04/2010)

 

في نصوص اليوم