نصوص أدبية

الرغبة لأنتاج العزلة

 وأتمّوا سوقه صباح أمس الى معسكر التدريب، حيث تنبّه الى أن بوابة المعسكر خالية من وجود جدارية كبيرة للرئيس، فصاح بأعلى صوته ..

ـــ هل يصدّقُ أحداً .. إن أهم معسكر للتدريب خالي من جدارية للرئيس؟

فتم تكليفه بعملها بعد أن أصبح أمر تجاهلها يخضع للمساءلة، فأعطوه إجازة يومين لجلب مواد الرسم وصفائح الخشب والهيكل الحديدي لتنفيذها في نفس الموقع .. وحين غادر المعسكر وقد إنطوت إرادته على قرار الهروب وعدم العودة، إنتابته مشاعر طافحة بالزهو والكِبر، كمن تفوّق على عدوٍّ يفوقه عدّةً وعدداً .. مشاعر من إحتال على دولة بكل مؤسّساتها القمعية وأدواتها التعسفيّة والقسرية ..

تثائب أكثر من مرّة وكأنّه يتهّيأ لنومٍ طويل كان مؤجّلاً، حتّى دمعت عيناه، فخلع نظّارته فبان أمامه شبح لقامة بشرية لم يتبيّنها واضحةً الاّ بعد أن مسح زجاجها وأعادها الى عينيه ..

ـــ أهلاً ساهرة .. هل أنتِ في إجازة ؟

ـــ إجازة مرضيّة أمدها ساعتين ..

ـــ خيراً .. سلامتك

ـــ لا .. إطمئن .. صحّتي جيدّة .. ولكنّ شعوراً غريباً إنتابني ليلة أمس، جعلني قلقة حتّى الصباح ..

ـــ وما هي طبيعة هذا الشعور ؟

ـــ كأنّك تعرّضتَ الى خطرٍ ما .. فجنّ جنوني ..

ـــ الله .. كم هي الحياة جميلة عندما يكون الأنسان على دراية بأن أنساناً آخر يفكّر ويشعر به بهذه الطريقة ... ساهرة .. أيتّها الرائعة التي أحطتِ حياتي بهالة من قوس قزح، وجعلتي لها معنى .. شكراً لأهتمامكِ بي ..

ـــ نصير .. لقد أصبحتَ كلّ شيء في حياتي ..

قالتها ساهرة بعد أن جلست على كرسي لصيق بمكتب نصير وأخرجت من حقيبتها زجاجة عطر رجالي باهضة الثمن ..

ـــ عيد ميلاد سعيد يا عرّابي الجليل .. أتمنى أن تقضي بقية حياتك مع الأنسانة التي أحبتكَ كما لم تحبّك إمرأة من قبل ..

تفاجىء نصير، فهو يجهلُ تأريخ مولده ويشكُّ حتّى بالسنة التي رأى النور فيها أوّل مرّة ..

ـــ شكراً ..ولكن كيف إخترتِ يوماً وجعلتِ منه اليوم الذي ولدتُ فيه ؟

ـــ قلتُ لنفسي .. لا يمكن لنصير .. هذا الأنسان ذو القلب الطيّب الذي يسع الدّنيا أن يولد الاّ في أحّد أشهر الربيع .. فأخترتُ الأوّل من آذار ليكون يوم ميلادك الذي سنحتفل به مستقبلاً ..

ـــ تصوّري .. يحذّرني الآخرون من مغبّة السقوط في شراك الحب .. وها أنذا أمامكِ صائحاً ... أيّها الناس أنا أحب ساهرة .. هذه المرأة الوقورة الجميلة المحبّة التي إنتشلتني من حالة الضياع .. أنا البغدادي المتشرّد الفوضوي اللامنتمي كما يسمّيني الأقربون .. ساهرة التي منحتني فرصة لأتعلّم بها أبجدية الحب المهذّب بعد أن إستهلكتني العلاقات الطارئة ... ساهرة التي أرشدتني الى مفازات الطريق كي أتجنّب العثرات .. أيّها الرجال .. إتركوا لي ساهرة وخذوا كل نساء الأرض .. فأنا تكفيني إبتسامتها كي تصبح حياتي لها قيمة ... أيّها الأصدقاء .. اعترفُ الآن أمامكم بأنّي أنتمي الى ساهرة !!

كان صوت نصير عالياً كأنّه على منصّة خطابة، ممّا دفع بساهرة أن تستغرق في ضحكِ متواصل ...

 

                           ×         ×          ×

 

مكث حسن في غرفته طيلة يوم كامل، بعد ان إتخذ قراره بتكملة قراءة رواية ماركيز (مائة عام من العزلة) حتى نهايتها .. كان يقرأ وتتداعى أمام ذاكرته مشاهد (أولاد حارتنا) لمحفوظ .. رغم إختلافات النشوء والمراحل والمآل التي تنطوي عليها كلتا الروايتين .. لكنّ الذي قاده الى هذه المقارنة هو البناء التراكبي والصعود على سلالم الزمن في بقعة مكانية واحدة وعملية توريث البطل في كلتاها .. ممّا دعاه أن يتساءل .. هل ممكن أن تأتي فكرة رواية ماركيز في بال كاتب عراقي ؟ أكيد لا .. لأن الوقائع الحياتية العراقية لم تتح للأنسان هنا أن يشهد حالة إسترخاء تأمليّة تسعفه في إلتقاط المشاهد غير المرئية للحياة .. فهو ضحيّة دائمة لحالات التوتّر والشد والجذب التي فرضتها ظروفه الأستثنائية المزمنة، ولكونه فريسة سهلة للهواجس والمخاوف والظنون، بحكم العلاقات السلبية بينه وبين محيطه وبينه وبين السلطات الأستبدادية التي تعاقبت على فرض إرادتها القسرية عليه .. لذا من الصعب أن يخرج لنا كاتب روائي مثل ماركيز أو حتى محفوظ ..

فجأة توقّف عن سرحانه المقارن بسبب (إستكان) الشاي الذي وضعته زوجته أمامه والتي تجيد صناعته إجادة جعلتها معروفة بها في الشارع الذي يقطنون فيه وبين الأصدقاء ... رشف أوّل رشفة ساخنة وراح يمصُّ شفتيه مستلذّاً ومستمتعاً وكأن صحوة مفاجئة حرّكت الراكد من حيويته، ثم أجهز على أوّل (إستكان) ..

ـــ عاشت الأيادي .. ليتك تسعفيني بآخر حتّى تصحو إنتباهاتي تماما .. ثقي لو أن ماركيز إعتاد أن يشرب مثل هذا الشاي لأنتج عشرين رواية في السنة الواحدة بمستوى (مائة عام من العزلة) ..

ثم سحب ورقة صغيرة وكتبَ عليها بحروف كبيرة (أحبك) وطواها مرتين ودسّها تحت صحن (الأستكان) الصغير .. ثم إرتدى ملابسه بسرعة وهمّ بمغادرة البيت بعد أن أنهى آخر صفحة من رواية ماركيز .. ثم سمعها تقول ..

ـــ أين وجهتك ؟

ـــ بإتجاه شلّة الفاشلين !!

 

                       ×          ×           ×

 

نجح صديقنا النّحات هتاف في عمل بورتريه نحتي للشاعر رشيد، وكأنّه إستجاب لدافع ذاتي بضرورة تخليده قبل رحيله المتوقّع، ممّا خلق لدى رشيد شعوراً بالزهو وقد تذكّر نُصب بوشكين ورامبو ولوركا .. التي مابرحت ذاكرته رغم تقادم السنين .. وراح في إسترخاء لذيذ أشبه ما يكون بإغفاءة واعية، يتخيّل كيف سيقام له نصب في أحد ساحات بغداد بعد رحيله بسنوات، وكيف سيحمل الناس أطواق الورد ليضعوها أمام قاعدته كلّما حلّت ذكراه، وهو يطلُّ عليها من غياهب الظلمات عبر فتحة في قماشة السماء .. وحين تصاعدت وتيرة النشوة لديه الى مدياتها القصوى .. أحسّ بحاجته لكأس عرق .. فصاح بهتاف ..

ـــ ناولني أيّها العزيز ما يجعلني أحلّق في فضاءات إبداعك ..

هيّأ له هتاف كأساً وناوله إيّاه رغم علمه بالضرر الذي قد يلحقه به، لكنّه أراد أن لا يفسد عليه فرحته وإنتشاءه وهو يرى تمثاله النصفي قد إكتمل ..

إحمرّت وجنتاه لأوّل مرّة منذ أن كساها شحوب تشوبه صُفرة دائمة عند بداية إعتلاله قبل أشهر، بعد أن عبّ ما في الكأس الأولى .. ثم أردفه بكأس اخرى بعد أن ترجّاه بتوسّل أضعف قدرة هتاف على الممانعة .. فسكبه في جوفه بسرعة خشية من حصول طاريء ما يمنعه من ذلك .. وحين بدأ الخدر يتسلّل كلص حذر الى عقله المستفز، علا صدره وأشرقت عيناه التي أثقلها ذبول يثير الرأفة .. وأثناء ما كان هتاف يحفر إسمه على التمثال، سمع رشيد يصيح من فراشه ..

ـــ ها أنذا أيها الفاشست .. رغم كل سفالتكم بقيتُ أنا الشجرة الوحيدة الوارفة في غابة محروقة ... لقد فشلتم في إذلالي وقهر إرادتي .. أيها الأوغاد، تذكّروني جيداً إذا ما رحلتُ .. وأستعيدوا صورتي وأنا طريح الفراش وقد تآكل جسدي .. لكنّ إرادة الخير تضجُّ في عقلي الوقّاد .. وها هم الخيّرون ينحتون لي نصباً سيجد مكانه يوماً في أحد ساحات بغداد، بعد أن تقهرون وتندحرون .. ستزهر آمال الشغيلة وستعلو الرايات وسينتصر الشعر والحب ..

لم يمتلك هتاف وهو يسمع كلمات رشيد النازفة سوى أن يداري دمعاً أثقل جفنيه .. فسارع ليطبع قبلة على رأسه مودّعاً إياه بعد أن قاربت الساعة الواحدة بعد منتصف الليل ..

أغلق الباب خلفه وراح يفكّر في عدد النصب التي تخلّد الشرفاء الموهوبين من العراقيين، وإتخذ قراراً تلك اللحظة بتنفيذ هذا المشروع سرّاً .. فلعلّ يوماً قادماً سيراها في ساحات بغداد ويسمع الناس وهم يستدلّون عليها .. ساحة رشيد .. ساحة فلان .. شارع فلان ..

 

وائل المرعب

[email protected]

 

 

............................

الآراء الواردة في المقال لا تمثل رأي صحيفة المثقف بالضرورة، ويتحمل الكاتب جميع التبعات القانونية المترتبة عليها. (العدد: 1390 الجمعة 30/04/2010)

 

 

في نصوص اليوم