نصوص أدبية

كاريزما الدَّم/ إلى أبناء قابيل وهم ينظرون للعالم شزراً

دعنا من هذا

فمن الممكن أن يقالَ عن وجهك

 إنَّهُ فردوسُ الدم

ومن الممكن كذلك أن يتصوَّرك الناس

كما لو أنَّك جالسٌ في مقهى

تحدِّثُ عن الغابرينَ من أسلافِك

إذ كانوا يستهزئونَ كثيراً بأعراقِ البشر

ويقولون إنهم عرقٌ ناضحٌ من جلودِنا

ولا يُعقلُ أن يكونَ العرقُ

 الناضحُ من جلدِ المرءِ

 كريهاً بالنسبةِ إليهِ

إلا حينما يختلطُ بالغبارِ كثيراً

فيكونُ لا عرقاً فقط

بل عرقاً باعثاً على الكراهة

لأنَّهُ لم يعد من عائلةِ الضوء

بل صارَ من عائلةِ الترابِ محضاً

ليكن هذا الحديثُ عن أسلافِكَ ملفَّقاً

فأنا لستُ في معرضِ أن أقولَ إنَّ التراب

هوَ من سلالةِ النورِ أنقى

 يا صاحبي

لا تبتئس من هذا النداءِ أرجوك

فقد يكونُ صاحبُ المرءِ ذئباً

أو حتى حماراً وحشياً أو أفعى

 قابعةً معهُ في حجرةٍ مظلمةٍ

تلدغُهُ فجأةً

 وهو نائمٌ على فراش الشعور بالفرادة

لو أصغيتَ إلى حواري قليلاً

لعرفتَ أنَّكَ مخطئٌ تماماً

في أن ترمِّمَ الزمن

بأنقاضِ الحديثِ عن وجوهِ آبائِك

إذ كانت باعتقادِك دائمةَ الإنتصارات

على طينِ الناسِ في الأزل

وعلى فرضِ أنَّ أجسادَ أهلِكَ لم تكن طيناً

فمن أخبرَكَ بأنَّ الطينَ

 لا يضيءُ ظلمةَ الجسد

ومن قال لك إنَّ النورَ

لا يفقدُ قدرتَه على إضاءةِ المكان

حين يكونُ المكانُ ممتدّاً

في أعماقِ الطينِ بعيداً

ثمَّ إنَّ الطينَ يا صاحبي

يمتازُ بقوَّةِ الغريزةِ في الكيان

ما يعني أنَّ الحياةَ خاصَّتُهُ الكبرى

أمّا النور

ففي الحديثِ عنهُ ما تعلم

من أنَّ الحياةَ تفتقدُ الكثافة

فلا يعودُ بالإمكانِ القبضُ عليها

إلا من خلالِ البكاء

 

دعكَ من هذا أيضاً

واسرد علينا قصَّةً أخرى

عن جبرئيل

إذ قامَ في الأحجارِ خطيباً

فقالَ لها ارجمي من لا يقول

بأنَّ السماءَ والأرضَ

كانتا مأذونتينِ فقط

بأن توجدا من أجلِ زاويةٍ

قصيَّةٍ من عريِ المعنى

فإذا لم يزل جبرئيلُ إلى الآن

منادياً في الأحجارِ بهذا

فأفصح للأحجارِ بنيَّتِك

في أن تهشمَ رأسَ العالم

وهو بعدُ لم ينافسكَ

على قوَّةِ النبضِ في قلبِ الكلام

وقل لها إنَّكِ أيَّتُها الأحجار

كلُّ ما أورثه لي الأهلُ القدامى

فلماذا لا تشهدينَ بأني

أستطيعُ أن أسحبَ مجرَّةَ دربِ التبّانة

في ثانيةٍ وأقطعَ أُذُنَي القمر

ليبدو أمامَ العاشقينَ في الليلِ مضحكاً

وأن أمسكَ بالشمسِ من مؤخَّرتِها

ليقتلَها الشعورُ بالخزيِ

وهي تسمعُ ضحكاتِ المارَّة

 والباعةِ المتجوِّلينَ عليها

وأن أذبحَ المريخ

بعدَ نزالٍ لا يستغرقُ أكثرَ من دقيقةٍ

بضربتينِ قاضيتينِ

 يدلانِ على كوني معولاً ضخماً

 في ساعدِ الله

 

قل عن الصحراء

 إنَّها قدِّيسةٌ تزوَّجت قدِّيساً

كلُّ صحراءٍ هي كذلك

وليست جبهتُكَ الناصعةُ فحسب

 

لكن لا تقل عني إلا اني

 أعتبرُ زواجَها من القدِّيس بغاءاً

وتبعاً لذلك

فإني أعاملُ أبناءَها

بصفتهم لا يتمتَّعونَ بشرعيَّةِ البقاء

على قيدِ الصلاة

وإذا شئتَ الدليل

على أنَّ صحراءَ جبينِكَ لا تعنيني

إلا بصفتِها تستحقُّ الرجم

فخذ من جسدي هذا

أربعَ قطعٍ من اللحم

وعظمينِ

وضع كلَّ ذلكَ على حافَّةِ قبرٍ

ونادِ بأعلى صوتِكَ تلكَ الأوصال

فإنها ستجيءُ مسرعةً إليك

ليكونَ أوَّل عملٍ لها بعدَ النشر

أن تحلِّقَ فوقَ رأسِكَ سحابةٌ

وتمطرَ الدِّماء

وستشربُ منها

حدَّ أن تصبحَ بطنُك برميلاً

ثمَّ تقيءُ الدم

تقيئهُ وأنتَ تجأرُ مثلَ ثورٍ

 هابطٍ من السماء

ليكونَ خوارُهُ صوتَ القيامة

وليكونَ قرناهُ صورَ الحساب

 

لا أريد أن أنزوي كشاعرٍ في الخيال

فأنا رجلٌ واقعيٌّ للغاية

وأميلُ إلى أن أشاهدَ الأشياء

على حقيقتِها هباءاً وأرقص

لستُ مجنوناً طبعاً كما يشاعُ عني

لكني أرقصُ على إيقاعِ موسيقى

تصغي إليها أذنايَ

كلَّما تلعثمَ صوتي بالدَّم

وكلَّما تغلَّفت عينايَ بخوارِ هذا الثور

قبل أن تتلفَّعَ جثَّتي تماماً بالقيامة

 

قلتَ لنا في ذاتِ يومٍ

ما زلتُ أذكرُ ذلكَ اليومَ جيِّداً

إذ كانَ حرُّ الظهيرةِ وحشياً

 كهرَّةٍ رضعت من أثداء نمرٍ

قلتَ لنا إنَّ لكَ بيتاً

 تسكنه في خلواتك النادرة

وانَّ قلوبَنا ثريّاتٌ مضيئةٌ فيهِ

وقلتَ لنا إنَّكَ غالباً ما تصلِّي

وترانا في لحظاتِ الخشوعِ

 كعبةً مبنيَّةً بأضلاعِ أبيك

فهل ما زلتَ ترانا كذلك

أم أنَّ للخديعةِ طعماً مغرياً

مذ كانَ جدُّك الأوَّلُ

يزاوجُ بين النورِ والتراب

 

سأفتِّتُ الصورةَ المرئيَّةَ

 في مخيَّلتي للعالم

وأستعيضُ عنها بصورةٍٍ أخرى لا تُرى

ربما يراها الجائعُ خبزاً

وربما رآها الظامئُ ماءاً فراتاً بارداً

وربما رآها العاشق

فقالَ تلكَ حبيبتي عاريةً

إلا من رداءٍٍ خفيفٍ أسمِّيهِ الخيال

إلا الأمّ الثكلى

لو رأتها فإنها ستراها تابوتاً

يتوسَّدُ كتفي عزرائيل

ليمضي به إلى جهنَّمَ

متوهِّجةٍٍ بأجساد الخطاة

وبالحجارةِ إذ ليست الحجارةُ في جهنَّمَ

إلا جماجم من يفكِّرون

وهم على أهبةِ الإستعدادِ لنسفِ الحياة

 

جلدُ العالمِ أجرب

وأنا فيه قلبٌ حسّاسٌ للغاية

أعلمُ هذا

وبما أنَّ القلب

يباعُ في سوق القصابين

 بصفته أرقى ما أبدعه

نظامُ الموتِ والحياة

لا في جسدِ الذبيحةِ فقط

بل في جسدِ القصّابِ كذلك

بداهةَ أنَّ القصّابَ وذبيحتَه

ليسا منفصلينِ عن بعضِهما

لحظةَ تصطدمُ عيناهُ بعينيها

وهي تنظر إلى السكِّين

في زهوِ من يشعرُ

أنَّه ذاهبٌ إلى القيامة

وعلى رأسه إكليلُ غارٍ

 من بريقِ السيف

بما أنَّ القلبَ على هذه الصفة

والعالمُ أجربُ مثل القصّابِ تماماً

فسأتخلى عن جسدي هذا

أقصدُ جسدَ الذبيحةِ بالضبط

لأكونَ قلباً نابضاً بالعالم

إذ هو قصّابٌ يضحِّي بقلبِه مراراً

ليكونَ قادراً أكثرَ

 على شربِ أجرانِ الدماء

ليس طعم الدم ما أوحاهُ

معنى الجريمة بالضرورة

ولا بالضرورةِ

 أن يكونَ لونُ الدمِ هذا الخراب

فأحياناً يتخذُ الدمُ شكلَ الحديقة

ويتعانقُ عشراتُ العاشقينَ

تحتَ شجرِ السنديانِ فيها

بالنسبةِ لي لم أرَ دماً

تعانقَ تحت سنديانِهِ

عاشقانِ على الإطلاق

غير أني قرأتُ هذا المعنى

في كتبِ السماءِ مراراً

ولهذا رسمتُ على جدارِ غرفتي الخاصَّة

سنديانةً وشمسَ ربيعٍ وورداً

ودعوتُ عاشقينِ من مخلوقاتِ الخيال

وقلتُ لهما تعانقا ها هنا

وليكن رأساكما مقطوعينِ تماماً

ومعلَّقينِ على غصنينِ من هذهِ السنديانة

لأبرهنَ للعالم

أنَّ كلَّ قصائدِ شعراءِ الغزل

وكلَّ ثمراتِ العشاقِ من أبناءِ آدم

كان الدمُ نقطةَ البدءِ فيها

بكلمةٍ أوضح

إنَّ العالمَ كلَّهُ في حقيقتِهِ رأسٌ مقطوع

 

 

قابيلُ أخي

كان يحبُّني جِدّاً

خلافاً لما قيلَ لكم

 من أنَّهُ كانَ خصمي

أمّا حكايةُ الغرابِ والدفن

فلم تكن واضحةً بما يكفي

ليتاحَ لكم أن تعرفوا ما جرى حقيقةً

فلقد كنتُ وقابيل على رهانٍ

من يقدرُ منا أن يجعلَ ظلَّ شخصِهِ امرأةً

ومن منا يستطيعُ أن يخوضَ المغامرةَ الأولى

ليمرَّ العالمُ بكلِّ ما فيهِ من الحمولاتِ الثقيلة

حيث الأفلاكُ والمجرّاتُ والسدم

وحيثُ الكائناتُ التي حدَّثنا آدمُ عنها

وكان عهدُهُ بها ما زالَ قريباً

على الصراطِ الدقيقِ مثلَ شعرةٍ للندم

لم يكن أبونا يعلمُ بكلِّ هذا

لأنَّهُ كانَ آنذاكَ منهمكاً

بالتعرُّفِ على ما تبقّى

من أجزاءِ الشهوةِ في كيانِ الطين

 

نظر قابيلُ إلى ظلِّ نفسِهِ نظرةً

فإذا بالتفاصيلِ كلِّها تتحوَّل

إلى ما يقابلها

من هندسةِ جمال النساءِ

أغراهُ المشهدُ كثيراً

وأرادَ أن يعانقَ المرأةَ التي

انبثقت حديثاً من خيالِ الضوء

أرادَ أن يفعلَ هذا بنشوةِ الخمر

فأبت عليهِ وقالت ليسَ معقولاً

بأن ينتشي الخمرُ بنفسِهِ

بل لا بدَّ من أن يحلَّ في جمجمةٍ أخرى

ليكونَ المشهدُ باعثاً على الشعورِ بالندم

وهكذا كانت القصَّة

إذ تحوَّلت المرأةُ مرَّةً أخرى إلى بخارٍ

ودخلت من منخريَّ إلى فضاءِ رأسي

لتبني هناكَ من الطين

أوَّلَ مأذنةٍ للسكارى في الجحيم

 

أما حديثُ الغراب

فلم تكن الصدفةُ

هي التي أوحت بهِ إلى الفضاء

فالغرابُ كان شرارةً من مخِّ المرأة

اخترقت رأسَ القتيل

بعد أن شوتهُ نارُ النشوةِ في الجحيم

أما قابيلُ فلم يعد يذكرُ المرأةَ إطلاقاً

لكن أعجبتهُ فكرةُ الغراب

بسببِ أنَّ هيأتهُ كانت تشبهُ الظلّ

ومن الظلِّ كانت المرأة

وبما أنَّ الظلَّ

من اختصاصِ قابيلَ بالذات

فإنَّهُ حنَّ إلى فرعِهِ الأوَّل

واستجابَ بلا تردُّدٍ لفكرةِ القبر

ليخوضَ بعدها مغامرةَ الندم

وليكونَ الغراب

أقصدُ شرارةَ مخِّ المرأةِ

التي طارت من جمجمةِ هابيل

شاهداً على أنَّ قابيل

هو الفائزُ الأكبرُ في الرِّهان.

 

[email protected]

 

 ............................

الآراء الواردة في المقال لا تمثل رأي صحيفة المثقف بالضرورة، ويتحمل الكاتب جميع التبعات القانونية المترتبة عليها. (العدد: 1395 الخميس 06/05/2010)

 

 

 

في نصوص اليوم